في حاجتنا للبحث الاجتماعي

147

يعاني العالم العربي والإسلامي من ضعف البحوث الاجتماعية والمؤسسات الراعية لها، وبالتأكيد هذه المشكلة تعود لأسباب مختلفة سياسية واجتماعية وثقافية، ولكن لا بد من الوعي بأهميتها وضرورتها للواقع.

بل يجد المتأمل في الفكر العربي والإسلامي غياباً أو محدودية في البحث والإنتاج المعرفي في مجال علم الاجتماع والبحث الاجتماعي، حيث يغلب على الكثير من الكتابات طابع الكتابة الانطباعية، أي المبنية على انطباعات معينة عن الواقع ومشاكله، ويتم تقديم حلول لها مبنية على أسس مجردة تبعد عن الواقع.

وهو الأمر الذي جعل من هذه الطروحات تميل نحو “الثقافوية” كما يعبر البعض، أي تحليل الواقع تحليلاً مبنياً على طبيعة الأفكار والثقافة، وتقديم حلول مبنية على أسس ثقافية وفكرية نظرية فقط، مع إغفال السياق الاجتماعي والسياسي الذي ترتكز عليها هذه الأفكار. لا يعني هذا الكلام إغفال أهمية العامل الثقافي، ولكن الإشارة هنا إلى مسألة إغفال السياق الاجتماعي في التحليل.

فمثلاً تجد بعض الكتاب الحداثيين يطلق سلسلة من التوصيفات على واقع المجتمعات العربية والإسلامية، ويصفها بالمجمعات الشرقية، والهيمنة “البطريركية” الأبوية، وعقدة الرجل الشرقي، وكيف أن كل ذلك هو نتاج تراثنا وثقافتنا التاريخية التي ينبغي القطيعة معها. ولكن لا تنبني هذه التصورات على بحث اجتماعي يستقي ملاحظاته من البحث الميداني في الواقع، فيدرس الواقع ميدانياً، ويبين طبيعة البنى المتصارعة في المجتمع، واختلاف المجتمعات العربية فيما بينها بناء على اختلاف تجاربها وأزماتها، وغيرها من الأمور التي ينبني عليها البحث الاجتماعي؛ بل نراه يقفز إلى سلسلة من الانطباعات التي يعممها على الواقع المركب، ويستريح بالأحكام والنتائج التي وصل لها (يمكن ملاحظة ذلك عند هشام الشرابي في كتابه “المجتمع العربي المعاصر” على سبيل المثال).

وعلى صعيد الشرعيين، فهناك غياب أيضاً للبحوث الاجتماعية، بل ربما يوجد نوع من التنافر بين هذه النخب وبين العلوم الاجتماعية، كما يصف ذلك الدكتور مازن هاشم بـ”إشكالية التدابر بين الشرعيين والاجتماعيين”.

وقد يكون جانباً من هذا التدابر مفهوماً، فالعديد من النصوص المتعلقة في علم الاجتماع التي تمت ترجمتها تعود لمفكرين اجتماعيين قد تبنوا مواقف تعتبر الدين من زاويته الوظيفية فحسب، كما في طرح أوغست كونت أو دوركهايم، أو مواقف معادية منه كما في المدرسة الماركسية، أو ينظرون إليه من الزاوية الضيقة للمدرسة النفعية، وهو ما يجعل ارتباطاً نفسياً سلبياً حيال سماع كلمة “علم الاجتماع”، وسرعان ما يتبادر للذهن طروحات هؤلاء المفكرين ليتم التنكر لهذا المجال.

ولكن الكثير من هذا الكلام لا ينطبق على نصوص علم الاجتماع المعاصر التي تأخذ موقفاً إيجابياً من الدين وتجاوز الكثير من غلواء المفكرين الأوائل الذين انشغلوا بحماسة مشروع التنوير عن إدراك أهمية الدين وواقعه في المجتمع.

يطول الحديث من ناحية الموقف من النصوص المختلفة في علم الاجتماع، لذا سأحاول التركيز في الجزئية المتعلقة بالبحث الاجتماعي والاستفادة من أدواته لفهم واقع التدين في مجتمعاتنا، هذا الفهم الذي سيفيد في ردم الفجوة التي تحصل بين النخب الشرعية والواقع والشباب، وتؤهل لإمكانية التفاعل الحي مع الواقع باستمرار.

ومن هذه الجزئية يمكن أن نتحدث عن النموذج الذي تقدمه بعض المراكز البحثية في الغرب، والتي يشرف عليها أشخاص متدينون يوجهون اهتمامهم لدراسة واقع تدين الناس والشباب مع المستجدات الحياتية المختلفة.

وتباين هذه المراكز بين مراكز تعد أبحاثاً حول القضايا المتغيرة في الواقع، ومراكز أخرى تُعد تقارير إحصاءات مستجدة لرصد ظاهرة معينة، لتستفيد بها المراكز الأولى المعنية بإعداد البحوث.

فعلى صعيد الإحصاءات تجد تقارير تتحدث عن التنوع الديني في دولة معينة ونسبة كل مذهب بالنسبة للمجتمع، كما ترصد الأنماط الجديدة المتشكلة من رحم هذه الأنماط كالروحانيات الجديدة أو المذاهب المنبثقة عن المذاهب المسيحية والتي عادة ما يكونوا روادها من الشباب. كما تصدر تقارير عن معدلات استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً لدى رواد كنيسة معينة أو أبناء وسط ديني ما، وهكذا بحيث تهيأ للباحثين سنداً ميدانياً لما يمكن أن يعدوه من أبحاث.

أما المراكز والباحثين الذي يستفيدون من هذه الإحصاءات فيمكن الإشارة إلى العديد من المواضيع التي مررت عليها، فتجد عدة دراسات عن علاقة الشباب بمواقع التواصل الاجتماعي وأثر تفاعلهم معها على إيمانهم الديني وتفاعلهم مع الدين، كما يوجد دراسات عن أثر مشاهدة الإباحيات على تدين الشباب، كما بحث البعض الآخر في علاقة الشباب بالمؤسسات الدينية القائمة، ومدى توتر هذه العلاقة مع زيادة الانفتاح وتغير نمط الحياة.

بل ترى بعض الأبحاث تغوص إلى مواضيع وقضايا شائكة وعميقة، مثل العلاقة مع الله عند جيل الألفية والمراهقين، وأثر متغيرات الحياة على هذه العلاقة.

تزدهر هذه المراكز البحثية بشكل أساس في أميركا، بحكم وجود أوساط متدينة ومحافظة، وذلك على عكس ما يتصوره البعض عن أميركا التي توصف بهيمنة نمط الحياة الاستهلاكي أو بالانحلال الأخلاقي، ما أقصده أن هناك أوساط في أميركا تحاول أن تحصن أفرادها من هيمنة هذه الأنماط، وتحاول أن تلم بمتغيرات الواقع حتى تقدم الحلول والاستجابات والخطابات الملائمة، وإن كنا لا ننكر أن بعض التوجهات الدينية المسيحية في أميركا قد تماهت مع النزعة التجارية التسويقية، والطريف أن هذا التوجه يظهر خاصة بين المجموعات التي توصف بأنها أصولية متشددة.

وفي المجتمعات الإسلامية نجد في تركيا وماليزيا تجارب لطيفة من هذا النوع من العمل البحثي، ولكن لا تصل إلى مستوى النشاط البحثي في أميركا، بسبب الطابع المؤسسي والنظم الذي يتسم به هذا العمل، ولكن ما تفيد به البحوث المقدمة في دول مثل تركيا وماليزيا هو إدراكها لطبيعة التدين الإسلامي واختلافه عن التدين المسيحي بشكل عام، وهو ما ينبغي الانتباه إليه أيضاً عند الاطلاع على الأبحاث الغربية التي تميل –بطبيعة الحال – لدراسة مجتمعاتها التي يوجد فيها التدين المسيحي.

وعلى صعيد آخر، هناك تجارب أخرى من البحث تقوم على دراسة مجتمعات من خارج الموطن الأصلي للأبحاث، وهو ما يسمى بالإثنوغرافيا، وقد ارتبط هذا النمط في السابق بالدراسات الاستشراقية ذات الأغراض الاستعمارية، والتي كانت تتضمن نظرة دونية إلى المجتمع المبحوث (كما هو الحال في الدراسات الاستشراقية الأولى للمجتمعات الإسلامية).

ولكن نجد اليوم نماذج من هذه الدراسات التي تحافظ على قدر من الأخلاقية في دراستها وتحاول أن تتفهم المجتمعات التي تدرسها ولا تحكم عليها من الخارج، وتنبني هذه الدراسات على معايشة المجتمع المبحوث.

فمثلاً نجد الباحثة الألمانية أنابيلا بوتشر، وهي مهتمة بالأكراد والطرق الصوفية في سوريا، وقد قامت لإنجاز دراساتها المهمة بالاستقرار لبضعة سنوات في سوريا والاطلاع عن قرب على المجتمع حتى تستطيع فهمه من الداخل.

ويمكن أن نتحدث عن باولو بينتو، الذي استقر في الزوايا الصوفية في حلب لمدة عامين لينتج مجموعة من الأبحاث عن الواقع الاجتماعي للطرق الصوفية في سوريا، والمفارقة أن ما توصل إليه من نتائج كان أكثر تركيباً من العديد من الباحثين العرب الذين يكتفون بأحكام صلبة عن واقع التصوف في المجتمع العربي، ويسمونه بمهادنة الاستبداد وغير ذلك، ولكن ما وصل إليه بينتو في البحث هو توضيح أنماط تفاعل الطرق الصوفية مع المجتمع والدولة واختلاف هذه الأنماط بعضها عن بعض.

وهناك الكثير من النماذج عن ذلك، ولكن الغرض من ذكرها هو الإشارة إلى قيمة هذه البحوث في تشكيل تصور أوضح عن واقعنا الاجتماعي، وحاجتنا إلى مثل هذا العمل.

*** *** ***

كان الهدف من هذا المقال هو عرض نمط من البحوث الاجتماعية لواقع التدين، هذا النمط الذي نفتقده عندنا في المجتمعات العربية والإسلامية، وقد كانت ضريبة ذلك هو زيادة الهوَّة التي تفصل بين النخب المتدينة والواقع المتغير، خاصة التغيرات التي يمر بها التدين الشبابي بعد الربيع العربي وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي.

إن العمل على مأسسة العمل البحثي ستكون له فائدة نوعية في تجديد الوعي بالواقع، وبالتالي تقديم الخطاب الملائم والمشاريع المناسبة للاستجابة لأزمته. فعلى صعيد الشباب، لم يعودوا قادرين على إيجاد الحواضن الاجتماعية والفكرية التي تلبي طموحاتهم وبحثهم، بل تصبح التغيرات التي يمر بها موضع نكران ونقد من قِبَل النخب القديمة، وذلك بدلاً من تفهُّم هذه التغيرات.

والنتيجة التي نريد الوصول إليها هي أن البحث الاجتماعي المتجدد يساهم في “تفهُّم” الواقع بدلاً من الانفصال عنه أو الحكم عليه ونقده بشكل مجرد، هذا التفهم الذي يدرك الاحتياجات الجديدة، ويحاول أن يكيف النماذج القائمة لتلبي هذه الاحتياجات ولا تقطع معها. ولا نقصد أن مثل هذه الدراسات تنطق بالحقيقة، فحتى الدراسات الوصفية تتأثر بزاوية اهتمامها الخاصة ودرجة التركيز على العوامل المختلفة. لكن لا مراء في أن هذه الدراسات منظّمة ومصمّمة وفق المعرفة العلمية. أما خيارها النظري الذي يتصف بالذاتية فهو محلّ المراجعة والاستدراك أو الرفض. وبغض النظر عن كل هذا، من المفيد جداً أن نطّلع على كيف يفهمنا الآخر لأنه يمكن أن يكون مصدر إغناء يساعد على تجنّب التفكير المنغلق على نفسه.