كيف نعالج الفردية

234

من الخطوط المزدوجة في كيان الإنسان، هذان الخطان المرتبطان المتناقضان: إحساس الإنسان بفرديته، وإحساسه بالميل إلى الاجتماع بالآخرين والحياة معهم كواحد منهم، وهذه الظاهرة ذات أثر بالغ في الحياة البشرية، لأن كيان المجتمع كله قائم على محاولة التوفيق بين هذين المتناقضين في الظاهر. وتتجلى ثقافة أي مجتمع في مدى النجاح في عملية التوفيق. ومن الملاحظ أن مجتمعات المسلمين تعاني من فردية مترسخة، وبعدٍ عن امتلاك المهارات والمقدمات التي تؤهل الناس للمشاركة والتعاون في إنجاز المهمات الجماعية على المستويات كافة. وتتجلى هذه الفردية بغياب الإحساس بالمسؤولية عن الفضاء الاجتماعي وكأن الناس لا ينتسبون إلى دين جعل الاهتمام والمبادرة لإزالة ما يزعج الناس في طرقاتهم يرتقي في أهميته ليكون من شُعب الإيمان.

وإذا كانت المؤسسات الرسمية والحكومية والتجارية تفرض نوعاً من معايير التعاون والأداء الجماعي بالمحفزات أو العقوبات، فإن المجال الذي تتجلى فيه أخلاق الفردية وضمور مهارات العمل الجماعي هو الأعمال التطوعية التي لا يضبطها القانون وتتجلى فيها الثقافة والأخلاق، والتي يشترك فيها المؤمنون بقضية أو نشاط ليحققوا أهداف جمعياتهم أو مؤسساتهم. حيث تتجلى في هذا المجال التطوعي عقلية الإنسان وعاداته في التفكير وقدرته على التعاون والتوكيل أو التفويض والاستشارة وغيرها من فعاليات الإنجاز.

وسنذكر فيما يلي طرفاً من المتطلبات النفسية والفكرية والعملية، التي تجعل الفرد واعياً لآفات الفردية وممتلكاً لمؤهلات وأخلاق العمل الجماعي، عسى أن يكون تنبيهاً وتذكيراً بجزءٍ مهملٍ من فهم الدين والتدين على مستوى الإعداد الحضاري، بما يجعل المرء أقرب إلى الصورة التي رسمها القرآن الكريم لمجتمعات المسلمين، صورة “البنيان المرصوص”.

1 – إن أول متطلبات المشاركة الإيجابية في العمل الجماعي، الشعور بالانتماء للأمة والغيرة على سمعتها ومظهرها والفخر بقيمها وتراثها والاهتمام بمصالحها. وعندما يضمر هذا الشعور بالانتماء يضمر معه الإحساس بالبعد الجماعي للكيان الإنساني ويتركز الاهتمام بما يخص الفرد ومحيطه الضيق من المشاغل والاهتمامات. وقد يتسع مجال الانتماء للأمة حتى يشمل الامتداد التاريخي والجغرافي لأمة الإسلام، وقد يضيق مجال الانتماء لينحصر في مجموعة بشرية في حيز من المكان أو الظروف أو المصالح والاهتمامات. ويبقى الحماس لأهداف التجمع والانتماء لهذه الأهداف وما يمثلها شرطاً أساسياً لأية مشاركة واعدة تحمل بذور النجاح وإمكانية الإنجاز.

2 – الاعتياد والتكيف مع مفهوم النظام والقانون الضابط لعلاقات العاملين، لما في ذلك من توحيد الكلمة وتسديد التوجه لتنفيذ وإنجاز ما اُتفق عليه من أهداف. فالفرد في أية مجموعة لا ينطلق لتطبيق وتنفيذ ما يخطر بباله من أفكار أو آراء قبل التأكد من موقع ما يقوم به من الخطة المتفق عليها، وأن العمل الذي يقوم به هو مما لا يتعارض مع توزيع الأدوار بين العاملين والتنسيق بين هذه الأدوار. ويشرف القائد أو الأمير على عملية التنسيق والتوزيع للأدوار والمهمات حتى تتوحد الجهود. فالقائد هو الذي يضمن بإشرافه وتنسيقه أن جهد أي فرد من المشاركين لن يكون صوتاً ناشزاً يفسد التناغم والانسجام. إن أية مجموعة دون نظام أو قانون هي مجموعة فاشلة لا تستطيع أن تنجز عملاً من الأعمال، وبخاصة إذا كانت هذه المجموعة مؤلفة من عناصر ممتازة ذات مواهب فردية عالية.

3 – وبالإضافة إلى الشعور بالانتماء والتفاعل مع مفهوم النظام والتنسيق، لا بد لأيّ عامل في عمل جماعي من التعامل مع كل من يرتبط به في العمل من حيث ما يمثله في مهمته ووظيفته ودوره في العمل دون النظر إلى صفاته الشخصية التي قد تروق له أو لا تروق، أو قد ينسجم معها أو لا ينسجم، إذ لا معنى لأي عمل جماعي لا يكون معيار التقييم فيه مستنداً إلى الكفاءة والمهارات المتعلقة بدور الفرد في العمل وقدرته على الإنجاز. ومن هنا كان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تهيئة أصحابه رضوان الله عليهم وإعدادهم لتقبل فكرة التنسيق والتوافق والتعاون عندما وجههم بقوله: “إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم”، وعندما كان يأمرهم بالسمع والطاعة فيما أحبوا أو كرهوا، ويقول: “ولو تأمر عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة”، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يدرب أمته على امتلاك الصفات النفسية الضرورية لحفظ وحدتها وجمع كلمتها.

4 – وإن من أهم متطلبات العمل الجماعي، امتلاك المقدرات النفسية التي تعين الفرد على مخالفة آرائه الشخصية ورغباته وما يفضل من طرق العمل، دون أن يسبب له ذلك شعوراً بخيبة الأمل أو انزعاجاً ينأى به عن القيام بدوره ومسؤولياته بفعالية وإيجابية.

إن كثيرين ممن تستهويهم بعض الأفكار الجزئية في الإصلاح أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر يغالون في الاندفاع وراء أفكارهم الجزئية، والتي تشغل حيزاً من نفوسهم ومطالعاتهم واهتماماتهم، حتى يخرجهم ذلك من دائرة القدرة على التعاون والتنسيق والالتزام. فتراهم يتحدثون في أي مجال يكونون فيه عن ما يرونه مخالفاً لأفكارهم ونظراتهم ولا يتحرجون من اتهام من لا يشاركهم في تقييمهم لأفكارهم وما يفضلون من طرق العمل وأساليب الإنجاز بما يوحي بالانتقاص وعدم الكفاءة.

إن أمثال هؤلاء يجب أن يعلموا أن من واجبهم عندما يرون بعداً عن الصواب أو قصوراً عن الاهتمام ببعض الأمور التي يرون أهميتها، أن يصدعوا بالحق كما عرفوه، ويؤدوا واجبهم في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‑كل ذلك بآدابه وشروطه وما يسمح به نظام الجمعية‑ حتى إذا انطلقوا للعمل كانت تصرفاتهم دليلاً واضحاً على أن كلامهم ونصحهم ما كان ليؤثر في شدة إيمانهم بالتعاون، وبالحرص الشديد على القيام بمهماتهم وتقديم متطلبات العمل على أي اعتبار آخر.

5 – سعة الصدر وسعة الأفق لتقبل الآراء والمواقف الاجتهادية المخالفة:

ومن أهم ما يميز الفرد الصالح للعمل المشترك مع الآخرين سعة الصدر وسعة الأفق لتقبل الآراء والمواقف الاجتهادية المخالفة. إن المرء الذي يضيق صدره عن أن يتسع لما يخالف آراءه في المسائل الاجتهادية لا يصلح للعمل الجماعي مهما كان مستواه. وإن المرء الذي ينكر على الآخرين حق النظر المستقل هو شخص يحمل نفسه صفات تسلطية تحرمه من فهم معنى التسامح الواجب في العمل مع الآخرين.

وفي الأعمال الجماعية التي تهتم بتلبية الحاجات الدينية للجاليات المسلمة في غربة بلاد الشتات، لا بد أن يتذكر العاملون في المساجد والمراكز الإسلامية أن المسائل التي أجمع عليها علماء الأمة ‑سواء منها ما يتعلق بالعقائد، أو الأمور العملية‑ تعتبر الحد الأدنى لما يجب أن يلتزم به ويقف عنده كل مسلم حتى لا يخرج من “جماعة المسلمين” ‑ذلك المصطلح الذي يعني في هذا المقام موقفاً فكرياً وعقيدياً يوافق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‑ وأما ما وراء ذلك من المسائل ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة فإن الاختلاف فيها أمر طبيعي نابع من تفاوت عقول البشر في الفهم للأدلة، وفي تقدير الأمور والمصالح.

والمسلم الذي يريد أن يدرب نفسه ليكون أهلاً للمشاركة في العمل الجماعي يجب أن يحرص على أن يعي هذه النقطة بعمق، فينكر عندما يرى خروجاً على الإجماع، ويسلِّم عندما يرى اجتهاداً في الأمور الظنية، ولو كان هذا الاجتهاد يخالف ما تعلمه، ويخالف تصوره عن هذه الأمور.

إن الحق في المسائل الخلافية لا يتعدد، فلا بد أن يكون أحد المجتهدين مصيباً، ولكن الله تعالى ضمن الأجر والقبول لكل مؤمن تحرى الصدق وبذل جهده ووسعه ليتعرف على الحق، حتى إذا غلب على ظنه جواباً أو رأياً أو موقفاً، فهو الرأي والموقف الذي يتقبله الله تعالى منه طالما أنه لم يخرج في فهمه عن قواعد الاستنباط ومناهج الفهم المقررة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان هذا الأمر مما تدرب عليه الصحابة رضي الله عنهم، وأبدوا فيه نموذجاً رائعاً للفهم وسعة الصدر، فقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يتوجه إلى بني قريظة ليستأصل الغدر والخيانة نادى في المسلمين: “ألا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة” فسار الناس. فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يرد منا ذلك. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف أحداً منهم. وفي مثل هذا الإقرار تأكيد على أهم متطلبات العمل الجماعي في سعة الصدر للآراء والمواقف الاجتهادية المخالفة. وإن مما يجب أن نشير إليه في هذه الحادثة أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستوقفهم مثل هذا الخلاف للجدال والخصام، فقد كان هدفهم الكبير في القضاء على بني قريظة يغلب على إحساسهم فلم تشغلهم الجزئيات، لأن الحفاظ على وحدة الجماعة في مثل هذه الظروف أخطر من الحرص على أداء الصلاة على وقتها.

إن توجس بعض الناس وتأذيهم من الخلاف في الأمور الاجتهادية، ومحاولتهم القضاء على هذه الظاهرة عبثٌ لا يستقيم مع الفهم العميق لطبيعة الأدلة الشرعية في الأحكام العملية. ولو أمكن أن تتوحد الأفهام عندما تتصدى لتحليل النصوص ذات الدلالة الظنية لكان الصحابة هم أولى الناس بهذا الفهم الموحد، ولكنها حكمة الله تعالى التي تريد توسيعاً على العباد وبُعداً بهم عن الحرج في الدين؛ أرادت أن تسبغ عليهم هذه المنّة الكبرى، وما عليهم إلا أن يهذبوا نفوسهم بالتربية والتأديب حتى لا يجنح بهم هذا الاختلاف الطبيعي إلى الحزبية والتعصب والتحامل على المخالفين.

6 – القدرة على التعاون مع المستويات المختلفة في الفهم والوعي والتنفيذ:

ومما يجب أن يتحلى به المرء في مجال العمل الجماعي القدرة على التعاون مع المستويات المختلفة في الفهم والوعي والتنفيذ والأخذ بالعزائم. إن المرء الذي يدرك حقيقة اختلاف الناس في طاقاتهم ومستوياتهم لا يضيق صدراً بما يراه منهم من مواقف قد لا ترتقي إلى المستوى الذي يرتضيه هو لنفسه، أو إلى المستوى الذي يراه ضرورياً في جميع الأفراد تبعاً لقوة إيمانه ومدى همته وتمثله لفكرته وعقيدته.

إن كثيراً من الأفراد ‑وبخاصة أولئك المتميزين الذين حباهم الله من المواهب ما يجعلهم يتفوقون على أقرانهم في أي ناحية من النواحي‑ قد يسودهم شعور من السخط والاستياء عندما لا يجدون فيمن حولهم من يشاركهم اهتماماتهم أو مستوياتهم في الفهم والإدراك، أو الحماسة والاندفاع، أو لا يجدون من يشاركهم في الأخذ بالعزائم، فتراهم لا يستطيعون التعاون مع الناس، وقد ينتهي بهم الأمر إلى شعور من التعالي يصل بهم إلى الكبر والغرور، ويبتعد بهم عن خلق التواضع للمؤمنين والذلة لهم.

إن على المرء في مجال العمل الجماعي ألا يضيق صدره بعدم مشاركة الناس له فيما ارتضاه لنفسه من مستوى عالٍ من الأخذ بالعزائم والشدة على النفس والصلابة في التمسك، إن عليه أن يتذكر أن العمل الجماعي هو وسيلة لتجميع ما توفر من الجهود ليعمل كل فرد حسب طاقته باتجاه هدف واحد. وأن معيار التقييم يجب أن يتحدد بأداء كل فرد لما التزم به من واجبات ضمن المجموعة. وتبقى النصيحة وشدّ العزائم والتشجيع للتطلع إلى الإتقان ومعالي الأمور، واجباً في عنق كل من حباه الله الإمكانيات والمواهب يؤديه بتلطف ورفق وتواضع.

وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في “العواصم” تعليقاً جديراً بالتأمل العميق فقال: “وأما نفيه ‑أي سيدنا عثمان‑ أبا ذر إلى الربذة، فلم يعقل. كان أبو ذر زاهداً، وكان يقرِّع عمال عثمان ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا، فينكر عليهم ذلك، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم ‑وهو غير لازم. قال ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من الصحابة إن ما أُديت زكاته فليس بكنز‑ فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: لو اعتزلت، معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها. ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة. فخرج أبو ذر إلى الربذة زاهداً فاضلاً. وترك جلة فضلاء. وكل على خير وبركة وفضل. وحال أبي ذر أفضل. ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كان عليها لهلكوا، فسبحان مرتب المنازل”.

إن هذه الوقفة عند ذلك العرض الذي أشار به سيدنا عثمان على سيدنا أبي ذر رضي الله عنهما، تعني أن من شروط أهلية الفرد للتعامل مع الناس والاشتراك معهم في أي عمل، أن يسلم لهم أحوالهم، وأوضاعهم التي لا نص على حرمتها، ولا نص على وجوب الابتعاد عنها، وليحتفظ لنفسه بعد ذلك بما يرتضيه لها من الأخذ بالعزائم والشدة والحزم في التمسك والاقتداء بأحوال السلف الصالح، وإن لم يعِ الفرد مثل هذه المتطلبات للعمل الجماعي، فما عليه إلا أن يدرك أنه ليس أهلاً للعمل والاشتراك مع الناس في أي عمل، وليسمع كلمة سيدنا عثمان رضي الله عنه في هذا الصدد “لو اعتزلت”، تلك الكلمة التي تضع المرء على مفرق الطريق بين العزلة والانفراد، وبين التعامل الصائب المنتج البعيد عن الاعتراض والإنكار.

7 – الإسلام يعلم الفرد لغة الواجب والأداء والعطاء. وإن من أهم ما يجب أن يدركه المرء بعمق عندما يكون في أي عمل جماعي إسلامي: أن مما يميز الفكرة الإسلامية والخلق الإسلامي عن الفلسفات البشرية أنها جميعاً تعلم الفرد لغة المطالبة بالحقوق والنضال من أجل الأخذ، بينما يسمو الإسلام بالفرد حين يعلمه لغة الواجب والأداء والإيثار والعطاء.

إن لغة المطالبة بالحقوق عندما تكون هي لغة التفاهم الأولى بين الناس في أي تجمع، تعني أن علاقات الناس تنتهي بهم إلى الصراع والتوتر، لأن حق كل فرد يمثل واجب فرد أو أفراد آخرين، ولغة المطالبة الملحة تنتهي بالطرفين إلى علاقات متوترة بعيدة عن المودة والتسامح والصفاء.

أما لغة الأداء والعطاء والواجب فإنها تنتهي بالجميع إلى الوئام والحب، وتكون النتيجة الطبيعية لمثل هذه اللغة في التفاهم أن يصل الجميع إلى حقوقهم بصورة غير مباشرة بعيداً عن الإلزام المحرج أو المواجهة العنيفة بعد أن يقدم كل فرد مثالاً وقدوة لكل من حوله بالعمل الصامت الدائب مع احتساب الأجر والمثوبة عند الله تعالى.

8 – وبعد أن يدرك الفرد المتطلبات النفسية التي تؤهله للعمل مع الآخرين بنجاح، لا بد أن يتذكر بعض الآداب الإسلامية والتي تمثل البناء الأخلاقي للفرد. وإن أول أدب يجب أن يلتفت إليه الفرد في تعامله مع الناس الرفق والمداراة. ففي الحديث الذي رواه مسلم: “الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع عن شيء إلا شانه”، المداراة الواجبة ‑كما يقرر الإمام الغزالي‑ هي التلطف بالخلق لاستخراج الحق منهم أو ردهم عن الباطل، وهي غير المداهنة التي هي التلطف بالخلق لإقرارهم على الباطل. إن الرفق والمداراة من أخلاق المؤمنين والمداهنة من أخلاق المنافقين، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

ومن آداب المؤمنين التواضع وخفض الجناح. ويجب أن يُراعى هذا الأدب بخاصة عند الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو عند النصيحة، حتى لا تتخذ مثل هذه الأعمال طابع التعالي والفوقية، والقدرة على فهم دوافع التصرف عند الناس، مع قبوله الأعذار.

وأخيراً، فإن فاعلية التعاون على الخير تتجلى في روح التفاؤل التي ينبغي أن تشيع في نفوس المشاركين وتطبع مواقفهم ونشاطهم. ونعني بالتفاؤل هنا القدرة على العمل والحركة والاستمرار رغم الصعوبات. وبعث الأمل والبعد عن اليأس والقنوط رغم ما يدعو إلى التثبيط والإحباط.

إن المؤمن كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم هيّن ليّن يألف ويُؤلف. ولا يصل الإنسان إلى مرتبة يألفه فيها الناس إلا عندما يكونون في مأمن مما يزعجهم ويثير مشاعرهم، فهم يأنسون بصحبته في لين ورفق وهدوء. كما قال عليه الصلاة والسلام: “إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً. وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون”.