وعد الأمة في ميزان العمران الإنساني
إن كان يفوتنا أننا ماضون في منعطفٍ تاريخيٍ فريدٍ فلأن امتداده يعطي شعور المشيِ على خطٍ مستقيمٍ نحسبه على سكّته إلا بعض التعرّجات هنا وهناك. ويغشى البصرُ عمّا في الأفق ويصمّ السمعُ عن الهدير غفلةً واعتياداً. ومن علٍ يَلمح ذو البصيرة براعمَ الحقّ تتفتّح ولو بين شقوق الصخور، توارت عن الرياح العاتية أن تجتثّها وأفلَتت عن السيول الجارفة أن تقتلعها وأعجزت الوحوش الضارية أن تُجهز عليها، كلماتٌ طيبةٌ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، تنتظر لحظة اكتمالِ الشروطِ ليثبُتَ الشطءُ ويستويَ على سوقه.
تخيُّل المستقبل كثيراً ما يقع في التمنّي، ويرتكس أحياناً إلى التعامي. فلكي لا نقع أسير عواطفنا الفكرية وقناعاتنا الشعورية، دعنا نفكّر فيما يقوم عليه النموذج الحضاري الغالب الذي ينظر إلى نفسه أنه هو المرجع والمعيار. المنظومات العالمية تلفّها فكرةٌ وفلسفةٌ ودين، وتَنْظُمها أطرٌ سياسية، وتقوم بها مسالكُ اقتصادية، وتحتضنها أنساقٌ اجتماعية. ولو أمعنّا النظر في كلٍّ من هذه الأوجه لتبيّن لنا ضخامة التأزّم الذي يعتلج المنظومة المعاصرة وانفتاح فرصة التغيير لمن يمتلك البديل أو كمون البدائل. الدنيوية الحداثية نشأت على أنقاض دينيةٍ فسدتْ وتفسّخت. الحداثة العَلمانية بفلسفتها النفعية واجتماعها الليبرالي واقتصاداتها التكاثرية وسياساتها الديمقراطية تصدّأت وأعجزت الراقع. هذا التزامن في العجز والتآكل هو الجدير بالملاحظة. وليس هذا التزامن مستغرباً، إذ يتبع العجزَ الفكري ترهّلٌ سياسي فضعفٌ اقتصادي، ويترافق مع الخواء الأخلاقي تفسّخٌ اجتماعي. وثمة تزامنٌ آخر، ألا وهو تواقت الشيخوخة الحضارية مع الانحباس الجيوسياسي، وهو مما تمّت معالجته في مقالاتٍ سابقة.
فضاء الفكر
في رحاب التجريد يمكننا القول إننا نعيش عصر تجليات ما-بعد-الحداثة وذبول المبادئ والأخلاق واكتشاف لاعقلانية العقلانية وفرط سيولة التأويل وطفو اللامعنى.
ما-بعد-الحداثة كانت إعلاناً صارخاً لاعتلال الحداثة، وليس تجاه ذلك كثير اختلاف. غير أنّ الذي يفوت بعض الناظرين أن ما-بعد-الحداثة رفضت التوبة وأصرّت على الحِنث العظيم. صحيحٌ أن ما-بعد-الحداثة كفرت بيقينيات الحداثة لكنّها تابعت مسيرة الشرود. وُعود التنويرِ بالحرية والمساوة والأخوة قادت البشرية إلى أعتى سجون التاريخ وأكثر فتراته تفرِقةً وأشدّ أزمانه بُغضاً. ربما تنبّه العقل المعاصر فلَفَظ الحداثة، ولكن القلب بقي معلّقاً بوعود شهوات الحداثة في أملٍ كاذبٍ يرجو أن تُحقّق لاأدريةُ ما-بعد-الحداثة أحلامَ الحداثة. ولذا أرى بأن الانتقال من الحداثة إلى ما-بعد-الحداثة لم يكن أكثر من الانتقال من حال المغضوبِ عليهم إلى حال الضالّين.
يمكننا التوقّف هنا، إذ أن تهدّم الإطار الفلسفي وفساد الرؤية الكلّية هو أعمق تعبير عن موجبات التغيير التاريخي، وإن كانت تمظهراته البرّانية تنتظر استهلاك منتجاته المادية وما راكمه من ثرواتٍ وأصولٍ منقولة وغير منقولة. ولا يهمّ أن بعض الناس لم يسمع بالانقلاب وظنّ أنه يستطيع أن يأوي إلى ما يعصمه من الفيضان.
وإذا كانت الرؤية الكلّية هي الناظمة للنماذج داخلها، فإن النماذج السياسية والاقتصادية والاجتماعية سوف تعتلّ بقدر اعتلال الرؤية الكلية، وهذا ما سنناقشه باختصار.
فضاء السياسة
المنظومة السياسية المعاصرة كانت وعداً لحُكمٍ ينفكّ عن تنكيل الأباطرة وحرب الجبابرة. ونلاحظ أن امتناع تحقّق وعدها ارتكز إلى شروط ولادتها. فلقد وُلدت من صراع خسيس، واقتاتت على الاستخراب والاستعباد، وارتكزت على عقلانيةٍ مبتورة. قصّة الاستخراب العالمي والعدوان معروفةٌ لا حاجة إلى التفصيل فيها. غير أنّ ما ينبغي استحضاره هو أن استقرار النظم الديمقراطية لا يُمكن أن يُعزى فقط إلى ما يُفترض من عقلانية فكرتها الداخلية، لأن الشرط الموضوعي لقيامها استند أصلاً إلى الانتهاك الفظيع، وكأنه أعاد توليد عنصرية أثينا بعضلات إسبرطة. العقلانية القانونية التي جعلتها الديمقراطيةُ مبرر وجودها هي: (1) صلدةٌ لا تحيط بتلافيف حياة البشر وليست قادرة على التجدّد؛ (2) عمياءُ عن العدل في انتهاجها المساواة التماثلية؛ (3) محدودة العقلانية بطردها العوالم الجوّانية. وهكذا تمأسس ظلمٌ مؤسسيّ غير فردي، ظاهرُه فيه القسط وحالُه الواقع قيدٌ في رقاب الجميع. إنه الظلم الذي لا يريده أحدٌ وإن كان الجميع يشارك فيه، وهكذا أصبحت الدولة الحديثة هي طغيان اللاأحد، يتلظّى بناره الجميع ولا يرى لهبه أحد.
ثم إنه يصعب تخيّل الديمقراطية من غير رأسمالية. إنّ التناقض الداخلي للديمقراطية ليس ديالكتيك التفسير المادي للتاريخ ولكنه إخضاعُ صيروراتِ التحاورِ والتعايشِ وتوزيعِ الثروة إلى محدودية المنطق الكامن في البيروقراطية، ورفضُ العفوي البدهي في حياة البشر. عند إدراك ذلك يزول العجب من تزاوج مقتضيات هوبز مع مقتضيات لوك برغم ما بينهما من تناقضٍ مفترض. وإذ يصعب تخيّل الديمقراطية من غير رأسمالية، فيصعب أيضاً تخيّل نجاح الرأسمالية من غير الاسترقاق والاستعباد، والترحيل القسري ومحاولة الإفناء وسرقة الثروات، وكل ذلك تمّ بقرارٍ ديمقراطي. هذا التجريف للجمعيّ والجماعي في حياة البشر ‑وبغض النظر عن ضمانات الفرديّ‑ هو لبّ الإشكال فيما ظاهره المساواةُ ومن باطنه العذاب الممنهج، تُسلِم له الأجسادُ انحباساً في لعنة القفص الفولاذي للبيروقراطية التي ليس لها وجه إنسان.
التشاور عرفه البشر منذ أقدم الأزمان، وبعث النقباء عرفه البشر منذ أقدم العصور، فلم تأتِ الديمقراطية بجديد في هذا. أما تمايز السلطات فقد اختلفت فيه التجارب البشرية اختلافاً كبيراً. وربما كانت أبشع تجارب الطغيان في التاريخ البشري اجتماع الطغيان السياسي مع الديني الكنسيّ، فولّد الارتكاس العنيف الذي حُرم من التوازن. المعقوليات الإجرائية لا جدال فيها، ولكنها تتحرّك على حساب العرفيّ فتُورث شعور الغربة. والتفتيقُ في هذه الإجرائياتِ جعلها مكلفةً لا تتحمّلها معظم الاقتصادات، وفرضها في الواقع احتاج إلى تضخيم أجهزة إنفاذ القانون الخشنة. فالحميد الذي يُرتجى منه في الديمقراطية وقع في الثالوث المذكور أعلاه (طرد العرفيّ + الكلفة + الأَسر)، فأصبح الرتقُ أغلى من الفتقِ، وأصبحت الحماية تسري عبر قساوة الأدوات، وأصبح الـمُخلِّص عديم الهوية يصعب الارتياح إليه.
فضاء الاقتصاد
تحكّم المال في حياة البشر شرٌّ معروف، لكنه تمأسس بشكل ممنهجٍ عدائيٍ في التجربة الرأسمالية، وتضافر مع مسلّماتٍ نظريةٍ نحو الكون والإنسان. وامتلكت هذه التجربة فجأة قارةً جديدة بعد أن حازت على آلةٍ جديدة تُضاعف الإنتاج وبعد أن توافر الفحم الحجري لتسييرها. اجتماع هذه الثلاثة على مستوى الأدوات، والتقاؤها في عالم التصوّر مع قرني الشيطان (الداروينية والفرويدية) هو الذي طبع الرأسمالية بطابعها، فنطق آدم سميث بأنانيةٍ مبرِّرةً للجشع متسائلاً عمّن هو مستعدٌ للتضحية بأصبعه الصغير مقابل نجاة أهل الصين كلّهم.
فاعليات السوق عرفتها البشرية منذ أقدم العصور، جلبتْ الخيراتِ وعمّرت البلدان. ولكن الرأسمالية أمرٌ آخر آمنت بثالوثٍ مدنّس: (1) المادّية على مستوى التصوّر؛ (2) وهتك الحدود الأخلاقية على مستوى الضوابط؛ (3) والفسق الفرديّ على صعيد الاجتماع. فأضحت المادّة ربّاً مطاعاً تُبرّر الطغيان بعقلانيةٍ مبتورة، وصارت الأخلاق موضع تهكّمٍ باعتبارها متحدّرة من الأديان، فاعتُبرت خرافةً أو مثاليّاتٍ فارغة لا تصلح للحياة. وأصبح التلذّذُ وتمجيد الهوى عقيدةً، والانفلاتُ الفردي والمجموعاتيّ قرين التمتّع.
وفي نظرية الاقتصاد، تمّ افتراض ثنائية فاسدة: محدودية الموارد ولا-محدودية رغبة الإنسان. والأول محدودٌ عند السرف والترف فحسب، والثاني لا محدود عند الشَرَه والبَطَر فحسب.
العقلانية الضيّقة في معاظمة الإنتاج والتنافس الشرس في حرب الأسعار والحاجة اللانهائية للتمويل الربوي، ثلاثيةٌ جعلت الحياة خبطاً من المسّ. الغِنى الفاحش لقلّة القلّة والثلة المتحكّمة تأتي على حساب كدح الجموع الهادرة داخل الديمقراطيات الفارهة، تُسلم النفوسُ لمنظومتها طاعةً لسامريّ الإعلام، وتأتي على حساب أرواح الشعوب الأخرى تخادناً مع الديكتاتوريين في عالمٍ اعتُبر ثالثٍ متخلّفٍ لا أمل له إلا قبول الاستعباد الشهيّ.
ولما سكتت العقولُ التي عطّل خوارُ العجلِ الذهبي داراتِها الاستشعارية وتكلّمت شهواتُ الاستمتاع والتفاخر، أنّت البيئةُ الجماد صادحةً إني مخلوقةٌ مُسبِّحة، أُلقّنُ من يستبيحني دورسَ التلوّثِ والاحتباس الحراري والأعاصير والفيضانات.
وممّا عزّز إشكالية الرأسمالية المحضة هو أن الحركة التصحيحية للرأسمالية (الشيوعية) التي أدركت بعض شرور الأولى وتتطلّعت إلى الهروب من تناقضاتها ودورات تضخّمها وانهيار أسواقها… هذا الجهد الترقيعيّ للشيوعية أخفق في منهجه الاقتصادي حيث أنّ هدفه كان أيضاً معاظمة الإنتاج، فوقعت الثانية في شرورٍ تضاهي شرور الأولى، حيث تمّ احتكار الشرَهِ المفتوح للإنتاج والسيطرة في جحور تخطيطٍ مركزيةٍ اعتلتها بروليتاريا انتقاميةٌ تمادت في العقلنة المبتورة وفي رفض ما انبنى عليه تاريخُ البشرية من سوقٍ وعائلةٍ ودين.
فضاء الاجتماع
عاشت البشرية شعوباً وقبائل وأسراً، محاضن ثلاث تتدرّج من العالمي إلى الفردي. وفي نسق الحداثة وما بعدها تمّت الاستعاضة عن المحضن الأول بالقومية، وتمّت الاستعاضة عن المحضن الثاني بالمجموعة المصلحية، وتمّت الاستعاضة بالمحضن الثالث بالفردية. هذه هي معضلة النسق اللبرالي.
حلِمت اللبرالية بحريةٍ مطلقة وتتطلّعت نحو فرديةٍ طافحة، تتصيّد سعادةً موهومةً لمجتمعٍ استبدّت به مؤسسةٌ دينية شاركت المتحكّمَ السياسي والمتجبّرَ الإقطاعي. فات اللبراليةُ أنّ في القيد حريةً من العبث وأن في الحرية قيداً عبثياً، وكلاهما يفتقر إلى الانتظام بشرعةٍ أخلاقية.
اهتمت اللبراليةُ في بداياتها بما قسا عنه قلب النصرانية المفطورة على التراحم، حيث قصّرت في مخاطبة آلام العمال والمستضعفين الذين أنتجتهم المنظومةُ الرأسمالية بعد الثورة الصناعية وما رافق ذلك من نشوء المدن الكبيرة وفي محيطها حلقات البؤس والجريمة. غفلت النصرانية عن هذا بشكل عام وقصّرت تقصيراً كبيراً، برغم أن الحركات الإحيائية كان لها مساهماتٍ إنسانية، ولكنها في النهاية قاصرة في التعامل مع المنظومة التي تولّد الخلل حيث تطبّعت المنظومة الرأسمالية من جهة، ومن جهة أخرى جرت عملية حلولٍ بين العرق الأبيض والنصرانية والرأسمالية. وأضف إلى ذلك أن الكاثوليكية كانت شريكةً في خطايا السيطرة على العالم الجديد، كما كانت الأرثوذكسية شريكةً في آثام القياصرة الروس، ومن جهة أخرى كان التبشير رديف حملات الاستخراب العالمي.
وحيث أصبحت اللبرالية هي الضامن الأخلاقي للديمقراطية، فإنها اكتوت بلظى مؤسساتها التي التجأت إليها، وأصابت الديمقراطيةَ بمرضها من جهة ثانية. فالمفارقة أن التفتيق الليبرالي في طلب الحقوق الفردية (هذا هو مرضها) يتطلّب مزيداً من البيروقراطيات التي هي في النهاية خانقة (هذا هو الاكتواء). وخطاب المطلبية التي يُغفل القيام بالواجب يساهم في إنشاء أنانيةٍ ثقافيةٍ تزيد في التعقيد المؤسساتي الإجرائي والقانوني. ثم ما لبثت اللبرالية أن تخلّت عن اهتماماتها الجمعية وتمحورت حول خصوصياتٍ شخصية في غاية السخف. وفي سعيها وراء سعادةٍ موهومةٍ انغمست هي الأخرى في لذّة الاستهلاك، وإن كان وفق نمط بدائيٍ وليس وفق نمطٍ برجوازي. وفي غياب أفقٍ أخلاقيٍ متعالٍ، انكفأت اهتماماتُ اللبرالية إلى النفس، وتخيّلت الجسد بلا روح (وحين بحثت عن الروح اختزلتها) وأصبحت (الذات) هي محور اهتماماتها ومواطن نضالها ينهشها عضال تلذّذٍ فَقَدَ طعمه.
وبعيداً عن مسيرة اللبرالية في فضاء الأفراد والقانون، اللبراليةُ كمنظومةٍ اجتماعية قامت عملياً على أنقاض المعمار الإنساني المجذّر في مؤسساته التاريخية: الأسرة والعشيرة والجيرة وأماكن التبتّل والعبادة.
≈ ≈ ≈
فهذه هي الفضاءات الثلاثة؛ السياسة والاقتصاد والاجتماع، التي تقوم عليها حضارة اليوم تعلن اعتلالها في كلّ لحظةٍ وفي كل حركةٍ وفتور. وهذا هو التزامن المشار إليه في مقدّمة المقال، وهو تعاقبٌ طبيعيٌ للخلل الفكري فالخلل الاجتماعي فالخلل السياسي فالخلل الاقتصادي.
ولكن كيف ذا والمعجبون المغرمون بها ما زالوا كثُر؟ حقاً، النمط الحضاري القائم ماهرٌ في تحريك الشهوات. ولكن في حين أنه كان الإعجاب بهذه الحضارة مبرراً عقلياً، أصبح اليوم مرغوباً غريزياً فحسب، فالناس مفتونةٌ بالمنتوجات أكثر من كونها تحترم المُنتِجَ وتُقدّره.
البديل بين الغياب والحضور
أول سؤال يتبادر للقارئ هو البديل الحضاري المأمول ونحن نرى ما عليه من تردٍّ في واقع المسلمين. غير أنّ لحظة تأمّلٍ تتجاوز الظاهر وتنفُذ إلى الأعماق يتبيّن لها أن ما كان يموج في الأعماق في القرن الماضي انتفض من سهوته بشكل عفوي وبدأ في مسيرةٍ محفوفة بالعقبات والصعوبات، لا هو محيطٌ بخطورتها ولا هو مستكملٌ للعدد التي تتطلّبها؛ غير أنه اقتنع أن استفراغ الوقت في الإعداد هو هدرٌ للأوقات والإمكانات، فكمال الإعداد ممتنعٌ مع عدم التحرّك، والمطلوب في التحرّك هو تقدير الـمُطاق من صيرورات الجهاد التي تكفل استمراريته.
ونعود خطواتٍ إلى الوراء لنتفحّص الأسباب الكامنة وراء الظهور المسلم وإرادته، والتي نرى انعكاساتها في كل مكان فيه مسلمين وفي كل بقعة يعيشون فيها.
الجمود الفقهي والفكري تتعرّض له أي أمة، وكان لنا نصيب من ذلك. وحيث أنه كان لنا كيان حضاري متكامل فيه سياسية واقتصاد واجتماع وفق النسق الإسلامي صبغةً وشاكلةً (بغض النظر عن الدُخَن فيه)، التقصير في ناحيةٍ كان يَجبُره النشاط في ناحية أخرى، وما دام المسلمون ينعمون بحماية حرزهم، تكفّل الزمانُ بإخراج من يجدّد عليهم تديّنهم ويعيدهم إلى المحجّة البيضاء.
الوهدة الحضارية التي نحن فيها دمّرت كل شيءٍ مرّة واحدة، أو كادت، وربما كانت الأسرة هي المعقل الأخير الصامد رغم كل الزلزلة. التتار أحالوا النهر سواداً لكن لم يُنظر إليهم إلا أنهم همج الهضاب، والفرنجة استلّوا بيت المقدس ولكن لم ينبهر بهم أحد. وهدتنا الحضارية تظهر تحديداً في التبنّي الآني للثقافة الوافدة ولمؤسساتها. ويكمن الوعد الآمل تحديداً في الرفض الآني لكلٍ من هذين الوجهين.
كانت عهدة الجهاد في يد الجماعات الإسلامية التي حملت لواء المقارعة على الصعيد الثقافي والمؤسساتي، برغم كل الهنات وسوء التقدير الذي وقعت فيه. وأتى ذلك على إثر جهود العلماء، تلك الجهود التي جمدت بعد أن ضمر الحاضن الاجتماعي الطبيعي لخطابهم، وبعد المأسسة والتقنين وتحوّل العالِم إلى موظفٍ مكبّلٍ أو إلى معتزلٍ ومعزولٍ.
ونرى تزامناً في التغيّرات عندما نتفحّص الواقع المسلم. الانحباس الفقهي عند مجموعةٍ من المشايخ انفتح على صعيدٍ واسعٍ من المتخصّصين في التراث في الجامعات. الحركات الإسلامية التي لم يتجاوز همّها يوماً الأُسر التنظيمية أصبحت على مشارف البرلمانات، بغض النظر عن الكيد الذي تربّص بها. ضياع ما-بعد-الحداثة قابله رشادٌ متوازنٌ في نخبة المسلمين في العلوم الاجتماعية والإنسانية. لا يهمّ هنا النضوج الكامل لأي من هذه التوجهات، وإنما التعويل على حركة الأمة التي تجاوزت حدّ الخمول وخاضت ألويتُها ساحاتِ الجهاد الحضاري، أخطأت ما أخطأت وأصابت ما أصابت.
بل لقد كانت الأخطاء ضروريةً لذهاب الزبد وبقاء ما ينفع الناس. وها نحن نرى تمحيص العلماء على منصة الواقع، تمحيصاً ثنائياً: أخلاقياً في الاصطفاف مع الحق، وعلمياً في الاستجابة لروح الإسلام في التشريعات. والفُرقان في ذلك هو ضمير من لا تجتمع على ضلالة، أمةٌ مسترشدةٌ بكتابها المحفوظ وسنّتها المدوّنة وأصول تراثها المجيد مما يُشكّل مراسي تحُولُ دون الانحراف وإن كانت لا تعصم من الزلل. وها نحن نرى تمحيص مناهج الجماعات الحركية، فما كانت للحرفية السكونية إلا أن تُفسد الحركة لتعارض طبيعتهما، وما كان للبراغماتية التبريرية إلا أن تُطيحها طهارةُ المبدأ وسنّةُ الابتلاء. وها نحن نرى تمحيص الطروحات الفكرية.
والجديد في الأمر أنّ حركة الأمة تجاوزت حدود النخب. فلما عجزت النخب عن القيادة تكاثرت التجارب المحلية يرتادها وسطي المسلمين، وما كان لها إلا أن تُجرّب وتتعلّم من أخطائها. فأثارت رعبَ قوى الشرِّ التي ظنّت أنها ودّعت زمان عزِّ المسلمين وأنها أجهزت على ثقافتهم وعلى حياتهم. أوليس أمراً داعياً للعجب أن في زمن وهدتنا الحضارية أصبح عندنا مجتمعات واعية بهويتها في ثلاث قارات جديدة، أوربة وأمريكة الشمالية وأسترالية، وأصبحنا جزءاً لا يتجزأ من تلك المجتمعات، وما بقي من وبرٍ ولا مدرٍ لم تُزرع فيه بذرة للإسلام (إلا في أمريكة الجنوبية، وهي ذات تربةٍ صالحةٍ لبذورنا). أفلا يبعث شعور الاعتزاز أننا في لحظات الضعف الحضاري صار عندنا علماء في كل حقلٍ علمي أكثر بمراتٍ ممّا كنا عليه في مئة أو مئتي سنة قبل السقوط.
لكن القيام لا يتمّ عبر الأفراد. ولذا حُرِّمت علينا السياسةُ التي تجمع متفرّق قوانا. ولذا أيضاً كان استهداف مَواطن الحضارة الإسلامية. وما كانت سياسة الأمة لأن تُستأنف بلا نظريةٍ وبلا عصبية التماسك. ولقد أصابت العطوبُ كلاً من النظرية السنّية والشيعية تنتظران التجديد، وعجزنا عبر التاريخ عن ردم الفجوة فتعزّز التباعد.
التشيّع قبل الصفويين كان جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الأمة يعلو ويهبط ويعترك مع ما داخَلَه من باطنية، أما بعد الصفويين فقد تأسّست فيه الباطنية والقومية معاً. ثم جرت حديثاً محاولات التجديد الجدّي للتشيّع في ظلّ التحدّي الحضاري الغربي لكنها أخفقت في امتلاك زمام الأمر. الثورة الإيرانية استغلّت عصبيّة التشيّع وباغتت العالم ونجحت. وكان ثمة فرصة للتخلّص من ظلام التشيّع بعد أن ظهر على السطح، ولكن قوى التقليد المغروزة في تراثه غلبت على عقلائه. لقد امتلك الخميني لحظةً تاريخيةً للتجديد الداخلي وللّقاء الخارجي مع السنّة على منصة التوحيد وختم الرسالة وحفظ القرآن وهيمنة مفاهيمه، ولكنه لم يفعل. ومضى المشروع السياسي للتشيّع في نشوة انتصاره يحلم بإزالة التسنّن وإخضاعه، موازياً لجهودٍ تلبس أثواب التسنّن غارقةٌ في الحرفيّة موظّفةٌ سياسياً.
لم نستطع كأمّةٍ ردم الفجوة السنية الشيعة بصيغة تنوّعٍ لا صيغة إزالة. فقضى التاريخ أن ينقض التشيّعُ نفسه بفعله وبفعل نخبه. وتزامن سقوط التشيّع مع سقوط التسنّن المحرَّف لعلماء الطغاة… هذا السقوط المتزامن للحواجز الشيعية والسنّية ‑وإن كان يترافق مع انتشار الشكوك عند من افتقد العدّة والتربية القويمة‑ يُحرّر الطاقاتِ ويُجلي النظرة ويمهّد لظهور التجلّيات الأصيلة للحق.
تركيا من الجانب الآخر كانت قد تسلّلت تحت موجات الرادار العالمي حتى وصلت نخبةٌ حكيمةٌ إلى مصافّ الحكم. والحدّية التي تميّزت بها الثورة الإيرانية لم تكن لتمتلكها التجربة السنّية التي تفتقد عصبيةَ عقدةِ الأقلية. وسلامة الطويّة التركية كان لا بدّ لها أن تستيقظ عند مساومة الذئاب، فقد ظلّ المخيال التركي يوهم نفسه أنه أوربيّ أو يمكن أن يُقبل أوربياً حتى أيقظته الثورةُ العربية. تاريخياً، التوجّه العثماني نحو بلاد العرب أمدّ العثمانية بعمقٍ إسلامي، والتوجه ثانية نحوها اليوم هو الذي يعطيها العمق الاستراتيجي، وإن حال دونه ما حال. الساحة اليوروآسيوية هي ساحة النزال والمساومة، والساحة الجنوبية هي ساحة التأسيس والارتكاز.
بلاد اللسان العربي أسيرة حكوماتٍ مرتهنةٍ باعت الشعوب والأوطان وألجمت الطاقات والإبداع. لا بديل عن سقوط هذه الهياكل المتصادمة مع تاريخ المنطقة وجغرافيتها. ولا بدّ أن نعود في منطقتنا العربية شعوباً وقبائل نتعارف، عربيّنا وكرديّنا وأمازيغنا تحت مظلّة غير قومية وضمن ترتيبة ملّية جديدة. وإن مركزية بلاد اللسان العربي تأتي بسبب أنّ الحفاظ على لغة القرآن هو حفاظٌ على الدين نفسه وشرطٌ للتجديد الفكري المتزّن.
على الصعيد الهيكلي، لا مناص أمامنا إلا استثمار التفتّت من أجل الدفع نحو تكاملٍ اقتصادي-سياسي والمشي باتجاه فدراليةٍ في بلاد الجزيرة العربية وفدراليةٍ في بلاد الشام وفدراليةٍ في حوض النيل وفدراليةٍ في المغرب العربي. وخلال هذه العملية تذوب الحدود الصلدة وتتحول إلى تخوم مرنة، ويتمّ التركيز على المصالح الاستراتيجية الكبرى برغم اختصاص كل كيانٍ مكوّن بالإدارة الذاتية لأموره المباشرة، ثم ربما تجتمع هذه الفدراليات في كنفدرالية خِلافة. هذا عن التشكيلة السياسية التي توازيها نشاطات اقتصادية تكاملية عابرة للحدود الاصطناعية. أما المجتمعات فتعيش وفق ثقافاتها المتلوّنة التي تستصحب حُكماً الخلفية الحضارية للمسلمين بعيداً عن التحكّمات الإيديولوجية.
حقاً إننا في منعطفٍ تاريخي فاصل.
إنه منعطف تحرّر المسلمين ربعِ العالم، والأمة هي الكتلة التي تمتلك العنصر الفاعل من ناحية والتي لها قبلةٌ للتوجّه الراشد من ناحية أخرى، وهي العنصر الحرج لإزالة القيود من أمام الإنسانية جمعاء فتدخل في السلم كافّة.
نسألك ربنا قوةً وإيواءً إلى ركنٍ شديد.
مازن موفق هاشم
إستانبول
09-02-1439هـ/ 29-10-2017م
أصبحت لنا مجتمعات واعية بهويتها في