دلالات ختم النبوة

17٬227

{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].

عند استعراض ما كتبه علماء التفسير عن دلالات ختم الرسالة نجد أن أكثر ما توقف عنده المفسرون هو تقرير مقتضى ختم النبوة من انقطاع الوحي وانتفاء بعث نبي أو رسول فيما يأتي من الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولا يكاد اهتمام المفسرين يتجاوز الإشادة باكتمال الرسالة وتمام الهداية وبيان الفضل والمزية للرسالة الخاتمة. كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فُضلت على الأنبياء بستٍ: أُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت للناس كافة، وخُتم بي النبيون”. ورغم أهمية استشعار الفضل والمزية للرسالة الخاتمة في الاعتزاز بالانتماء إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يجد الدارس في كتب التراث ما يشفي الغليل من بيان مقتضيات ودلالات ختم النبوة على مستوى التصور وعلى مستوى الفهم لما يترتب على ختم النبوة من واجبات ومسؤوليات.

وسأحاول في هذا المقال أن أسجل بعض الملاحظات التي أرجو أن تكون محفزاً للمقتدرين من الكُتّاب والدارسين لاستكمال الموضوع ويأخذ ما يستحق من الدراسة والاهتمام ليصبح جزءاً من الخطاب الديني لرسالة عالمية شاملة.

أولاً: من أولى دلالات ختم النبوة انقطاع الوحي وامتناع صدق من يدعي النبوة والتلقي المباشر عن الله سبحانه. فدعاوى العصمة أو الإلهام الرباني والعطاء اللدني ساقطة لا وزن لها ولا اعتبار إلا ما كان علماً مستنداً إلى فهم سائغ لما أنزل الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا نبوّة بعدي إلا ما شاء الله”.وقد فسّر العلماء الاستثناء بالرؤيا الصالحة التي هي جزء من النبوة كما قال عليه السلام: “ليس يبقى بعدي من النبوّة إلا الرؤيا الصالحة”. ومن المعلوم أن الرؤيا الصالحة كرامة وبشارة خاصة ولا تعتبر دليلاً شرعياً ملزماً لغير صاحبها.

ثـانــيــاً: ومن مقتضيات ختم النبوة على مستوى التصور، الإيمان بضرورة النبوة للجنس البشري، وأن إرسال الرسل بالهدى ليقوم الناس بالقسط كانت سنة إلهية مستمرة في البشر. فالنبوة سلسلة مستمرة مباركة مضمونها رؤية كونية توحيدية واحدة. فختم النبوة يقتضي الاعتراف بالبداية وبالانتماء إلى موكب هداية إلهية مباركة، تعترف بفضل السابقين وتبني على ما تقدم من الخير. ومن هذا المعنى قوله عليه السلام:”بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثلي ومثلُ الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إلا موضع لَبِنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبّون منها ويقولون لولا موضع اللَّبِنة! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنا موضع اللّبِنة جئت فختمتُ الأنبياء”. ونحوه عن أبي هريرة، “غير أنه قال: فأنا اللّبِنة وأنا خاتَم النبيين”. فمدلول ختم النبوة كما تفصح عنه أمثال هذه النصوص هو البناء على المشترك الإنساني مما تأصل من تراث النبوات في ثقافات الأمم والشعوب من الخير ومكارم الأخلاق وخبرات التسخير والارتفاق أو ممارسات الحق والعدل وما يحقق السلم الأهلي. وقد أقرت الشريعة الكثير من أعراف وعقود وترتيبات الجاهلية ولم تنقض أو تغير إلا ما تمحض في الفساد والخروج على مقتضى العدل والإنصاف. وقد عقد الشيخ ابن عاشور فصلاً خاصاً في كتابـــه “مقاصد الشريعة الإسلامية” بعنوان ‑مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير‑ وذكر فيه جملة مما أقره التشريع من أوضاع الجاهلية بما يؤكد ما ذكرناه من مقتضيات ختم النبوة في التعامل مع المشترك الإنساني وإقرار الصالح من أعراف وثقافات الأمم والشعوب.

ثـالــثــاً: ومن مقتضيات ختم النبوة عالمية الرسالة. فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافةً، فالقرآن يخاطب النبي بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]. ويأمره أن يخاطب الناس ويقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. فختم النبوة يعني ولادة أمة إنسانية واحدة هي أمة الدعوة وهي مناط التكليف بالرسالة على اختلاف وتنوع ألسنتها وأعرافها وثقافاتها. ولم يحظ هذا الجانب من دلالات ختم النبوة في كتب التفسير بما يستحق من الاهتمام لمعرفة مقتضياته ولوازمه، إلا إشارات إلى عموم وشمول المصالح التي تضمنتها الشريعة، مثل ما جاء في تعليق الشيخ القاسمي في تفسيره بقوله: “وإنما ختمت النبوة به، لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان وكل مكان. لأن القرآن الكريم لم يدع أُمّاً من أمهات المصالح إلا جلاها، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين”.

رابــعــاً: ومن مقتضيات ختم النبوة أن يستمر وجود الدليل على صدق الرسالة وصدق الرسول إلى آماد وأزمان تتجاوز الجيل من الناس الذين عايشوا بركات الوحي ومعجزات التأييد بخوارق العادات. وقد أجمع العلماء أن المعجزة الخالدة الدائمة التي نصبها الله سبحانه علامة على صدق الرسالة الخاتمة وصدق الرسول هي القرآن الكريم الذي تحدى البشر أن يأتوا بمثله أو أن يأتوا بسورة من مثله، وجعل هذا التحدي قائماً دائماً يخاطب البشرية في مختلف عصورها وأزمانها ولغاتها وثقافاتها. وينقل العلماء في هذا الشأن ما رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي ما مثله آمن عليه البشر. وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة. وقد سجل الدكتور عدنان زرزور ملاحظة قيّمة حين ربط بين تنزيل القرآن منجماً على فترة تمتد ثلاثة وعشرين سنة وبين كون القرآن الكريم الرسالة الخاتمة. لقد كان نزول القرآن منجماً هو السبيل لضم سيرة خاتم النبيين ومعالم حياته وجهاده إلى سير وقصص الأنبياء الذين ذكرهم القرآن ليكون القرآن هو سفر الهداية الذي يحوي سيرة جميع الأنبياء مع أقوامهم من آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد عليه وعلى إخوانه الأنبياء أفضل الصلاة والتسليم. ومما يتصل بموضوع القرآن الكريم وأنه يمثل الرسالة الخاتمة مع الدليل على صدقها في آن واحد، ما وصف الله سبحانه القرآن من أنه مصدّقٌ لما أنزل من الكتب السابقة ومهيمنٌ عليها بالتصحيح والتصويب لما أدخل أتباع الرسالات على كتبهم من إضافات وزيادات وتأويلات خرجت عن مقتضى التوحيد والبراءة عن الشرك وصورت أنبياء الله بما لا يليق بعصمة الرسل ودورهم في الهداية والإرشاد. وستظل الرواية القرآنية لسيرة الرسل الكرام تحدياً يواجه من يدرس التاريخ ويدقق في الوثائق ويراجع الآثار والأحافير، ليجد الدارسون أن الرواية القرآنية تؤكد ما أثبته البحث والتقصي وتنفي ما ثبت بطلانه وخروجه عن مقتضى النظر الموضوعي السليم.

خـامســاً: ومن مقتضيات ختم النبوة أن تستمر جهود انتشار الدعوة وتبليغ الهدى للناس على اختلاف أزمانهم وأوطانهم بعد غياب النبي الخاتم. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا أن يستشعر المؤمنون مسؤوليتهم عن نشر الرسالة وتبليغ الهدى بكل الوسائل الممكنة ابتداءً من تقديم النموذج الذي يغري بالاقتداء إلى نقل معاني الرسالة بلغة ترقى في الإتقان والتعبير عن حقيقة المعاني بما يجعلها تنطبق على معيار البلاغ المبين الذي يقيم الحجة ويقطع الشغب والتلبيس. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “نضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلَّغه غيره فرُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقَه منه ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيهٍ”.  ويقول: “بلِّغُوا عني ولو آيةً… ومن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار”.

سادساً: كان نزول القرآن بلغة العرب مهمة ومسؤولية جسيمة كان على العرب أن يقوموا بأعبائها لنقل معاني الهداية إلى لغات الأمم والشعوب. فمن الحقائق الدينية المعلومة أن الله تعالى أراد أن تقع الحجة على الناس ببيان يفهمونه وهديٍ يدركون معانيه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].  وقد امتنّ الله سبحانه على العرب أنه أرسل إليهم رسولاً (من أنفسهم) يعرف طباعهم ويفهم طبيعتهم ومواضع حساسياتهم فوصفه الله تعالى بأنه {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]. ومن جهةٍ أُخرى، فإن من الحقائق المعلومة أن نسبة من يفهمون العربية من سكان الأرض وهم (الناس كافة) لا تعدو واحداً في المائة على أحسن تقدير. وهنا لا بد من سؤال: ما هي الوسائل التي يجب على المسلمين في كل جيل وفي كل عصر اتباعها ليؤدوا مهمة البلاغ المبين؟                                      

إنه لا بد أن يأتي الجواب في إطار الاستجابة الواعية للمسؤولية التي حمّلها الله سبحانه لأمة القرآن بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]. و لعل من البداهة أن ننظر في الوسائل التي اتبعها المسلمون لتحقيق البلاغ المبين بين الأمم والشعوب التي أُرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم ومنهم من لا يفهم لغته ولا يدرك من معاني قرآنه شيئاً.

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بكتبه ورسله إلى أربعة من ملوك عصره ممن لا يتكلمون العربية وهم هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي، إلا أنه لم ترد تفاصيل الحديث عن الترجمة والترجمان إلا في حديث هرقل مع أبي سفيان. والمهم في الموضوع أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هذه الكتب بالعربية إلى من يتحدث بغير لسانها ثقةً ومعرفةً بوجود الترجمة والمترجمين. فكتبه ورسائله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك عصره تشهد أن الحجة تُقام برسالةٍ مترجمةٍ وبيانٍ مترجم.  

روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركبٍ من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاهد فيها أبا سفيان وكفار قريش. فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه (إلى آخر الحديث)… وأفرد البخاري في صحيحه باباً لما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها، لقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]. وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا بترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم…{ الآية. وذكر البخاري في كتاب الأحكام عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود “حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه”. وروى البخاري في كتاب الجزية و لموادعة عن جبير بن حية قال: ندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال ليكلمني رجل منكم، فقال المغيرة سل عما شئت… الحديث .

ويلاحظ الدارس أن كتب علوم القرآن لم تلتفت إلى قضية ترجمة معاني القرآن ولم تفصّل في بيان شروط الترجمة والمترجمين لمعاني القرآن الكريم. وقد أفرد الدكتور عدنان زرزور في كتابه عن علوم القرآن فصلاً مستقلاً عن ترجمة القرآن جاء فيه بالكثير النافع. وذكر أن سبيل المسلمين لنشر الإسلام والدعوة إليه كان في تفسير القرآن وشرح السنة والسيرة بلغات البلاد التي وصل إليها الإسلام. فقد جاء في ترجمة موسى ابن يسار الأسواري ‑على سبيل المثال‑ أنه فسّر القرآن في المسجد ثلاثين سنة وأنه كان في مجلسه العرب والفرس ‑كما قال الجاحظ‑ فجعل العرب في ناحية والفرس في ناحية ويفسر القرآن لكل بلغته فما يُدرى بأي لسان كان أفصح أو أبين. ومعنى ذلك أن القرآن الكريم لم يقرأ في عصر من العصور الإسلامية بغير اللسان العربي الذي نزل فيه ولكنه كان يفسر وتشرح معانيه ومقاصده بالعربية وسواها من سائر لغات المسلمين. اه

ومن المعلوم أن الله سبحانه و تعالى لا يمتن على عباده في كتابه وعلى لسان أنبيائه بما يطالبون بإلغائه والبعد عنه والتحرج منه. فإذا اعتبر الله سبحانه اختلاف الألسنة والألوان من آياته الدالة على تمام الحكمة و تمام القدرة، كان في ذلك دلالة واضحة على أنه لا بد من التعامل مع ظاهرة التعددية اللغوية وقبولها والتعايش معها في إطار ثقافي يعترف بهذه التعددية و يبني عليها ليؤصل التعارف وينفي الحرج والعنت عن الناس وهو يدعوهم إلى شريعة الرحمة.

لقد كان الجيل الاول من المجاهدين الذين ضربوا في الأرض لنشر الهدى والعلم مثالاً لا بد من دراسته، فقد كانت الترجمة والمعايشة هي وسيلة الدعوة لفتح العقول والقلوب لحقائق الإيمان وقيم الإسلام ولم تكن قضية جواز الترجمة مطروحة أصلاً إلا من جهة خصوصية بيان القرآن ‑وما سماه الإمام الشاطبي الدلالة التبعية تمييزاً لها عن الدلالة الأصلية التي يمكن ترجمتها إلى أية لغة‑ لقد كانت العربية هي لغة الثقافة ولغة الحضارة، ولم يجد المسلمون حرجاً ولم يضيقوا بوجود اللغات الأُخرى من فارسية وتركية و هندية وغيرها  تعايشت في ظل التسامح والتعارف ونقلت معاني أساسيات العقيدة والقيم والأحكام إلى كل لغات الشعوب الإسلامية.

وإذ لا خلاف على جواز الترجمة التفسيرية أو ترجمة معاني القرآن، فإنه لا بد للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم أن يتناولوا هذه القضية بما تستحقه من جهد وتحليل وبحث لوضع وتأصيل خطة ومعيار للترجمة وكيفيّتها وما يكتنفها من أمور لتكون البيان المبين الذي يبين ويوضح معالم التزكية لحياة الناس ورفع الفساد والظلم عنها فيقيم الحجة ويقطع الأعذار. وقد لفت الدكتور مازن هاشم النظر في كتابه “مسلمو أمريكة” إلى قضية مهمة تتعلق بترجمة معاني القرآن. إنه لا بد للمترجم عند استعمال المصطلحات من الوعي إلى ما تحمله المصطلحات في اللغات غير العربية من حمولات ثقافية كثيراً ما تفسد المعنى الأصلي وتخلطه بما ليس من دلالاته في لغة العرب، ولذا فقد يكون من الأنسب استعمال المصطلحات العربية كما هي ومحاولة شرحها في الهامش بما يزيل سوء الفهم بالاحترازات والبيان لمواضع الإيهام والالتباس في دلالات المصطلحات في غير العربية.

سـابـعــاً: ومما يتصل بموضوع ترجمة معاني القرآن أداء بعض الشعائر كالأذان وقراءة معاني سورة الفاتحة في الصلاة وخطبة الجمعة بغير العربية لمن لا يستطيعها. وينقل المصنفون رواية عن الإمام أبي حنيفة النعمان أنه أجاز للمصلي أن يقرأ معاني سورة الفاتحة باللغة الفارسية لمن لا يحسن قراءة العربية ولا يقدر على النطق الصحيح بها. ولا تلقى هذه الفتوى من أبي حنيفة أي استحسان أو قبول من الفقهاء وحملة المذاهب وكأنهم ما زالوا يعيشون عصر الفتح المبارك الذي كانت العربية تنتشر فيه مع انتشار الإسلام. لقد اختلف الزمان وتخلفت حركة التعريب عن انتشار الإسلام في العصور اللاحقة. وقد عاينت في نيجيريا التي يتبع المسلمون فيها المذهب المالكي خطبة الجمعة تتلى بالعربية ولا يفهم الناس منها شيئاً ويحرمون فرصة الانتفاع والتعلم لأمور دينهم من هذه الشعيرة المهمة. وإذا كانت الشريعة في أصولها وفروعها تعتبر التيسير ورفع الحرج، فلا أدري لماذا لا تؤخذ فتوى الإمام أبي حنيفة نبراساً لرفع الحرج عن المقبلين على الإسلام من كل شعوب الأرض. إن الحرج الذي يواجه غير العرب في هذا الزمان للنطق بآيات القرآن على وجه صحيح مفهوم، لا يدركه إلا من عايش قوماً من غير العرب سنوات طوال وهم مع ذلك لا يستطيعون حفظ اسمه أو نطقه بطريقة صحيحة، فكيف  بكتاب الله المعجز؟ إنه لا بد من الدعوة إلى طرح هذا السؤال على أهل العلم والفتوى لإيجاد ما يرفع الحرج على المقبلين على الإسلام وإيجاد وسائل التدريب على النطق الصحيح بلغة القرآن.

ثـامــنــاً: ومن مقتضيات ختم النبوة وعموم الرسالة أن تنتهي مرحلة الهلاك الجماعي للأقوام المكذبين. فقد كان الأنبياء يبعثون إلى أقوامهم خاصة فينذرونهم ويبلغون الرسالة ويجتهدون في النصح والإرشاد، حتى إذا استحكم العناد والجحود نجّى الله سبحانه النبي ومن آمن معه وأهلك الظالمين الجاحدين. وفي القرآن الكريم بيان هذه السنة في إهلاك الظالمين. ولكن الرسالة الخاتمة لا تنحصر بقوم أو شعب بل تمتد ليكون في كل قوم وشعب وبلد وقطر مؤمنون وكافرون ومصدقون ومكذبون. ومن مقتضيات هذا الوضع الجديد لنشوء أمة إنسانية عالمية أن ينتهي هذا الإهلاك الجماعي وتتحكم في مصير البشرية سنن التدافع والاستبدال. ومما يشهد لهذا الفهم لمقتضيات ختم النبوة ما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها. وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو حي ينظر فأقر عينه بهلاكها حين كذبوه وعصوا أمره. وقد يكون هذا المعنى هو أحد تجليات قول الله سبحانه لنبيه الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

تـاسـعــاً: وقد ذكر الشيخ ابن عاشور في “مقاصد الشريعة الإسلامية” جملاً من مقتضيات ختم النبوة ونبّه إلى كثير من لوازم عموم الشريعة ما يفتح آفاقاً غير مسبوقة من النظر والفهم. وفيما يلي تلخيص أهم ما قدّمه في هذا الموضوع.

 قال رحمه الله: “معلوم بالضرورة من الدين أن شريعة الإسلام جاءت شريعة عامة داعية جميع البشر إلى اتباعها، لأنها لما كانت خاتمة الشرائع استلزم ذلك عمومها ‑لا محالة ‑ سائر أقطار المعمورة في سائر أزمنة هذا العالم. فعموم الشريعة معلوم للمسلمين بالضرورة فلا حاجة إلى الإطالة به وإنما غرضنا الإفــضاء إلى ما يترتب عليه. وإذ قد أراد الله بحكمته أن يكون الإسلام آخر الأديان التي خاطب الله بها عباده، تعين أن يكون أصله الذي يبنى عليه وصفاً مشتركاً بين سائر البشر ومستقراً في نفوسهم ألا وهو وصف الفطرة، حتى تكون أحكام الشريعة مقبولة عند أهل الآراء الراجحة من الناس الذين يستطيعون فهم مغزاها فيتقبلوا ما يأتيهم منها بنفوس مطمئنة وصدور مثلجة فيتبعوها دون تردد ولا انقطاع. . . وحتى يكون تلقي بقية طبقات الأمة إياها تلقياً عن طيب نفس ويسهل امتثالهم لما يؤمرون به منها. . .  واختار الله تعالى للإرسال بهذه الشريعة رسولاً من الأمة العربية إذ هو واحد من البشر. . . ولله تعالى حكم جمّة في أن اختار لهذه الرسالة رجلاً عربياً، وليس هذا موضع بيان ما بلغ إليه العلم من تلك الحكم، وقد قال تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته). بيد أنا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان عربياً كان بحكم الضرورة يتكلم بلسان العرب، فلزم أن يكون المتلقون منه الشريعة بادئ ذي بدء عرباً. فالعرب هم حملة شريعة الإسلام إلى سائر المخاطبين بها، وهم من جملتهم، واختارهم الله لهذه الأمانة لأنهم يومئذ قد امتازوا بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم، وتلك هي: جودة الأذهان وقوة الحافظة وبساطة الحضارة والتشريع والبعد عن الاختلاط ببقية الأمم.

 ومن أعظم ما يقتضيه عموم الشريعة أن تكون أحكامها سواء لسائر الأمم المتبعين لها بقدر الاستطاعة. لأن التماثل في إجراء الأحكام والقوانين عون على حصول الوحدة الاجتماعية في الأمة. ولهذه الحكمة والخصوصية جعل الله هذه الشريعة مبنية على اعتبار الحكم والعلل التي هي من مدركات العقول، لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد. وقد أجمع علماء الإسلام في سائر العصور على أن علماء الأمة مأمورون بالاعتبار في أحكام الشريعة والاستنباط منها، وجعلوا من أدلة ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. ومما يتصل بموضوع بناء الشريعة على الحِكَم والعلل، ما تحدث عنه محمد إقبال عن تجديد الفكر الديني في الإسلام حيث اعتبر أن ختم النبوة هو دلالة على ميلاد العقل الاستدلالي الذي يسترشد بقيم الوحي لتنزيلها على الواقع الإنساني وتزكيته.

ويتابع الشيخ ابن عاشور قائلاً: فمراعاة عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي، وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم. ولكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة، لزم أن يُراعى ذلك في العوائد. فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها، لزم أن يصار بتلك العوائد إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم. ولهذا نرى التشريع لم يتعرض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب . . .  لذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال العجل والعربات والأرتال. وكذلك أصناف المطاعم التي لا تشتمل على شيء محرم الأكل، بحيث لا يسأل عن ذلك إلا جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع. فنحن نوقن أن عادات قوم ليست يحق لها ‑بما هي عادات‑ أن يحمل عليها قوم آخرون في التشريع، ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك. نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها منزّلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها في معاملتهم ‑وتلك هي القاعدة الأصولية: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً -. فلا بد من النظر إلى الأعراف والعادات في بيئة العرب في عهد النبوة ليتم فهم ما بني من الأحكام والتشريع على خصوصية تلك الأعراف، وتجنب تعميمها بما يلزم عنه الحرج.   

ولقد يعد مما يناسب عموم الشريعة أنها أوكلت أموراً كثيرة لاجتهاد علمائها مما لم يقم دليل على تعيين حكمه الجزئي فيندرج تحت عموم المصالح المرسلة. وفي الحديث: إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها.

فعموم الشريعة سائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون. وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان، ولم يبينوا كيفية هذه الصلوحية، وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين:

الكيفية الأولى: أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال، أو الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكل وفق أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود وأهل الصين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا عسراً في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة، ومن دون أن يلجؤوا إلى الإنسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة. وهاتان الكيفيتان متآيلتان وقد جمعهما معاً مغزى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فلا يجدر بحال أن يكون معنى صلوحية الشريعة للبشر أن الناس يحملون على اتباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان التشريع، ولا على اتباع تفريعات الأحكام وجزئيات الأقضية المراعى فيها صلاح خاص لمن كان التشريع بين ظهرانيهم، سواء لاءم ذلك أحوال بقية الأمم والعصور أم لم يلائم، فتكون صلوحيتها مشوبة بحرج ومخالفة ما لا يستطيع الناس الانقطاع عنه. . .  فتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد. ولذلك كانت أصول التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد. وورد في القرآن والسنة النهي عن كثرة السؤال عن الأحكام. . . غير أن القرآن لما أنزل في أحوال مختلفة الصور وكان القصد منه إرشاد الأمة إلى طرق من الإرشاد كثيرة وكان القصد من لفظه الإعجاز، نجده قد اشتمل على أنواع من أساليب التشريع. ففيه التشريع العام الكلي، وفيه التشريعات الجزئية النازلة في صورة أحكام لنوازل حلت وهي أيضاً بمنزلة الأمثلة والنظائر لفهم الكليات. وأما السنة فقد كانت في معظمها تشريعات جزئية لأنها قضايا عينية، وكانت فيها تشريعات كلية واضحة صالحة لأن تكون أساس التشريع. فمن أجل ذلك لم يكن للمجتهدين غنية عن تقسيم التشريع إلى قسميه وعن صرف جميع الوسع من النظر العقلي في تمييز ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من موارد التشريع وإلحاق كل نص بنوعه وقد بذل فيه علماؤنا غاية المقدور وحصلوا من البصيرة فية شيء غير منزور.

وفي الفصل الذي عقده ابن عاشور لبيان أن المساواة هي أول ما يترتب على عموم الشريعة، يقرر أن المسلمين مستوون في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية بحكم قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}. وبناءً على الأصل الأصيل وهو أن الإسلام دين الفطرة، فكل ما شهدت به الفطرة بالتساوي فيه بين المسلمين فالتشريع يفرض فيه التساوي بينهم. وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه ويكون ذلك موكولاً إلى النظم المدنية التي تتعلق بها السياسة لا التشريع. فالمساواة في التشريع للأمة ناظرة إلى تساويهم في الخلقة وفروعها مما لا يؤثر التمايز فيه أثراً في صلاح العالم. اه

وبــعــد هذه الجولة السريعة في بعض دلالات ختم النبوة أرجو أن تكون هذه الجولة حافزاً لمتابعة التفكير والحوار في هذا الموضوع الخطير الذي يمثل أحد المعاني الغائبة في الخطاب الديني الذي غلب عليه التورط في ما تورط فيه أتباع الرسالات السابقة الذين قالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} فانحصرت دلالات ختم النبوة عند كثير من المسلمين في ذكر الفضائل والمناقب للرسول والرسالة مع الغفلة عن الواجبات والمسؤوليات التي تستدعيها صفة الخاتمية من طرح الإسلام رسالة عالمية تتجاوز خصوصيات الزمان والمكان في عصر التنزيل، وتخاطب الفطرة الإنسانية وما ينبني عليها أو يتصل بها من مقومات المشترك الإنساني. وتخاطب العقل البرهاني الاستدلالي الذي يسترشد بقيم الوحي ونموذج سيرة خاتم الرسل.