خماسيّة جامعة لمفهوم الأُنثى تمكين مكانة ومكان

172

لماذا الأنثى؟

بقصد إزاحة النماذج المحرَّفة والمشوّهة التي وقفت على سواحل مفهوم الأنثى (والأنوثة) دون الولوج إلى أعماق عوالمها وخصائصها ومحاولة إظهار البديل وتمثله وتعميمه.

لأن الأنثى والأنوثة مختطفة من المنظومة الغربية الكولونيالية (بصورها الحداثية، العلمانية، اللاأدرية..) التي احتكرت نماذجها المعرفية وصدّرت السلوكات وعُدت الأنموذج الأمثل للأنثى، مع أن تلك المنظومة أعلنت موت الأنثى كينونةً ودوراً وخصائصاً. فالظاهر على الوجود الإنساني اليوم أن الرجل والأنثى يستعمران الأرض، بيد أنه استعمارٌ دون استخلاف. الاستخلاف ذلك التكليف الرباني المنوط بالأنثى والرجل على حدٍّ سواء، وشرطه ثلاثية الفعل الأخلاقي: الأمانة والمسؤولية والحرية.

 ولأن الحدّ الفلسفيّ -المحدود- “الإنسان حيوان ناطق” الغالب على عقلية الغربي، قاصرٌ في تعريف الأنثى والرجل معاً، ويُظهر الأخذ ببعدٍ أحادي مادي أراد حمله على الأنثى والرجل معاً. ذلك أن الحيوانية والعاقلية مختلفة فيما بينهما، فكيف لو أردنا فهم سلوكهما وردود أفعالهما.

ولأن الأنثى وُضعت في دائرة الفتنة في الخطاب التقليدي الباطني، ونُمطت في قوالب وظيفية وحُدّ عقلها في مساحات ضيقة مسيّرة، تارة تجذبها الأطروحات العلمانيّة وتارة تلوذ إلى التدين الشعبي بصورته السلبية الانسحابية الهزلية.

ولأن الأنثى وعالم الأنوثة هو النسق المجاور، القُطب الثاني من الزوجية الأصيلة المذكورة في نصوص الوحي. ويكفي أن القرآن الكريم يخاطبها بعلامة جنسها؛ الأنثى. ولأنها في معاجم اللغة هي: “خلافُ الذكر من كل شيء”. “من” للتبيان، والخلاف المقصود هنا واضح أنه فيما يتعلق بالخصائص الفطرية الخاصة التي خصّ الله تعالى الأنثى بها.

ولأننا ونحن تحت وطأة نمط الحياة الهزلي المعنيّ بالشكل أكثر من المضمون، نادراً ما نقف على المفاهيم ونبحث في دلالاتها وما يتصل بكل منها من معانٍ تفتح لنا آفاقاً واسعة لفهم عميق ومستقيم. ومن بين تلك المفاهيم لفظة “الأنثى”. ولكل مسمى من اسمه نصيب. فأَرضٌ أَنيثةٌ سَهْلة مُنْبِتة خَلِيقةٌ بالنَّبات، ومكانٌ أَنِيثٌ إِذا أَسْرَع نباتُه وكَثُر، وليست بغليظة. وبلدٌ أَنِيثٌ: لَيِّنٌ سَهْل (حكاه ابن الأَعرابي)‏. والمرأة سميت أُنثى من البلد الأنيث، قال: لأَن المرأَة أَلْيَنُ من الرجل، فالأَنيثُ هو اللَّيِّنُ (‏قال ابن سيده).

ويقال: “هذه امرأَة أُنثى” إِذا مُدِحَتْ بأَنها كاملةٌ من النساء، والمقصود من الكمال: بلوغ الغاية الممكنة في التقوى والفضائل والأخلاق والقيام بدورها الموكل إليها بما هي أنثى.

ولأن النسق الوجودي الماهوي الغالب على وجودنا مستقى من التقسيم الميتافيزيقي للأنوثة والذكورة كما عند أرسطو (ت 323 ق.م)، الذي نظر إلى الوجود وفق مستويين: وجود بالقوة/المادة، ووجود بالفعل/الصورة. وبما أن المادة تناظر الأنثى، والصورة تناظر الذكر، فإن الأنثى هي الوجود بالقوة، والذكر هو الوجود بالفعل. هذا الوجود بالقوة يصير إلى الفعل إذا ما اتحدت الصورة/الذكر بالمادة/الأنثى لتكوّن موجوداً حقيقياً متحققاً ماهوياً وانطولوجياً. ذلك أن الصورة/الذكر تمثل الجانب الماهوي لدى الموجود إذا ما اتحد لأنها تعطي المادة/الأنثى شكلها النهائي، أو قيمتها الوجودية الذاتية. فانطبعت الأنثى -في منظور أرسطو- بالسلبية والانفعالية والضعف والجسد والجنس الثاني…، وعُدت كائناً ناقصاً، بينما مثّل الذكر الإيجابية والفاعلية والقوة والعقل والجنس الأول والأصل. أن تجعل الذكر نصف كائن والأنثى نصف كائن، وهذه المقابلة الفلسفية لا وزن لها في فلسفة التوحيد القرآنية.

هذا النموذج المعرفي خلق عبر الزمن مسلمة تقول بدونية وتبعية الأنثى وإذلالها، وأن الذكر هو الأصل (بما هو مختص من صفات) وأن على الأنثى بلوغ هذا الأصل، ما جعل العلاقة بينهما علاقة نديّة صراعيّة نشدت تحقيق التطابق مع الذكوريّة لتصويب هذا التقسيم وتحقيق المساواة المزعومة. وهو ما أدى إلى مزاحمة الأنثى الغربية للذكر في المجال العام وما يُسمى بسوق العمل وتكررت الأدوار الوظيفية بين الرجل والأنثى أو رضيا بالتبادل الوظيفي.

علاقة الصدام هذه كانت لها ردود فعل وأصداء مع نشوء حركات حقوق المرأة ولجنة مركز المرأة التابعة لهيئة الأمم المتحدة (عام 1946) التي هدفت إلى عولمة الأنموذج الأنثوي الجديد وفرض أعراف وقيم بله دين جديد. رفعت من الأنثى حدّ التمجيد واعتبرتها إما أنها الأصل والذكر مكمل لها، أو أنها كائنٌ قائمٌ بذاته مستقلٌ ومنعزل. وهو ما أطلق عليه المسيري رحمه الله “التمركز حول الأنثى”. وتفككت الأنثى وجودياً وقيمياً.

ناهيك عن النسق القيمي-الجمالي حيث تم تشييء الأنثى، وغَدَت مادةً للبصر والفرجة والمتعة وتبرجت تبرج الجاهلية، بل زادت وتفننت في الفجور. وتم سلعنة كل شيء حتى الأبدان والأنفس واغتربت الفطرة. ولشرعنة التشييء أَوْلى الغرب (وتبعناهم في جحورهم) العناية بمؤسسات خاصة لصناعة المتعة والإغراء والتعريّ فاُختزلت الأنثى إلى جسد وشهوات. وخير مثال على هذه المؤسسات مؤسسات الموضة التي عملت على إعادة تشكيل الأنثى من كونها موجود بيوثقافي طبيعي إلى موجود صناعي أُعيد صياغته وفق شروط ثقافة الاستهلاك واللهاث على اللذات والمتع. والحال هذه سرعان ما أن أعلنت الحضارة الغربية موت الأنثى والأنوثة والأم والأمومة بخصائصها وأدوارها المختلفة عقلياً ووجدانياً وجمالياً وفطرياً وروحياً. 

مَوْتَ الأمومة إن رامت حضارتُهم ** فالموتُ عاقبة الإنسان في الغربِ

                  إنْ يجعلِ المرأةَ التعليمَ لا امرأةً ** فالعلمُ مَوتٌ يراه صاحبُ القلب (محمد إقبال)

نتائج الخلل الذي أصاب تلك الأنساق المعرفيّة والوجوديّة والجماليّة انعكس أسوأها على النسَق الأسريّ. فالفلسفات والأيديولوجيات التي حلّت محلّ فلسفة التوحيد، حاولت التقليل من أهمية وجود الأُسرة كأول كيان اجتماعيّ وجدانيّ حاضن وحافظ للإنسان واستبدلته بمؤسسات الدولة ومنظماتها، وهي بذلك استهدفت الإنسان نفسه وهدمت كيانه وسلمته للعدمية والتشتت والاندثار في ظل ما بات يُعرف بفلسفة النهايات؛ نهاية الإنسان ونهاية الأسرة! أصبحت الأسرة مشروعاً فردياً خاصاً، وأصابها الكثير من الخرق والاختراق.

من الخماسية الجامعة الرفق بالقوارير واعوجاج الضلع والقرار والإيناس والشهود، حدد الإسلام مفهوم الأنثى المتناغم مع دورها الاستخلافي تأسيساً لتمكينها مكانةً ومكاناً؛ أنثى مكرمةٌ مكانتُها في أنها شاهدةٌ على الأمة، وأن مكانَها قارةٌ مستقرة مطمئنة في مجالات الإعمار مساحة تكليفها، والتكريم يأتي من تمكينها من فطرتها الأنثوية الطبيعية ومقتضياتها، ووعيها بدورها الاستخلافي، وعونها ودعمها لأخيها المسلم الشقيق لتحقيق مهام الاستخلاف لها وله.

“رفقاً بالقوارير” القوارير على صعيد كينونة الأنثى وماهيتها، سميت بالقارورة لاستقرار الماء فيها، وهي آنيةٌ من الزجاج الرقيق الصافي يستقر فيها الماء ويسكن، فإن كُسرت صار من الصعب جبْرها لدقةِ صنعتها ورقتها، والكسر: تغيير فطرتها. وفي أثرٍ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه “ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا اُلتمس ما عنده وُجد رجلاً”، أيّ أنْ يعاملها برقة وحنو وعطف، أما إذا طُلب منه الرأي أو العمل أو الكلام وُجد رجلاً يعمل عمل الرجال ويتكلم كلام الرجال.

وارتباط كينونة الأنثى بالرقة مسلمٌ به في الحضارات والثقافات كلها، والدليل ما جاء في القرآن الكريم من قصص عن نساء من مختلف الحضارات.

قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] تأمل الوصف التزيني للصرح الممرد بالقوارير (القصر أو البناء العالي المحكم البناء الأملس من الزجاج) ووصف الأنثى بالقارورة، جامعهما الزينة المرتبطة بالزينة الحضارية تلك التي كانت بغرض بيان آلاء الله تعالى العظيمة في الكون، ودعوة بلقيس للتوحيد، وقد فهم سليمان الحكيم طبيعتها فأدخلها إلى هذا الصرح الملائم لفطرتها وكينونتها الميّالة إلى الزينة، وزينة الصرح كانت على قدر مكانتها: ملكة سبأ، وعلى قدر إتيانها بالبرهان العلمي على أنها ظلمت نفسها وقومها في عبادة الشمس لأن هناك عالم الغيب الذي لا تدركه العين المجردة مثل الزجاج الصافي الذي كان تحته الماء.

ثم آية {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ(18)} [الزخرف] همزة استنكار، “أويكره” من يُنشّأ في الحلية استنكار لـ : كيف تكرهوها! وهو في الخصام غير مبين. هنا مسألتان متعلقة بالشخصية: إما أنها محببة أو مكروهة؛ أما المحببة فهي التي تتزين وتتحلى بزينة وفيها اللطافة وهي في حدّ ذاتها محببة. أما ما يُكره من هذه الشخصية فهي ليست كالرجال في الخصام، والخصام هنا ليس الجدل وحسب بل هو عداوة وقتال يمتد حتى في اللعب. ففي كلا الحالتين، الأنثى محبوبة؛ في حال النشأة في الحلية، وفي حال أنها ليست في موقع ما يُبغض من الشخص في الخصومة. والنشأة هنا تشير إلى أنه وجود وتطور وتجدد واستمرار، وفيها تربية تتلاءم مع الخصائص العمرية أيّ أنّ الأنثى في كل الأعمار تحب الزينة والتزين، وهي فطرة، والأصل تعزيز هذه الفطرة عند الإناث على عكس الذكور.  

وعلى صعيد دورها الوجوديّ هي ضلعٌ أعوج يجمع بين مكانتها عند الرجل ومكانتها في الأمة، إن رُمتَ تقويمَه كسرته، أي إن أردت رفع الاعوجاج عنه وتشكيله من جديد كستره لنعومته ورقته في أصل الفطرة والطبيعة، وأخرجته عن وظيفته ودوره. “استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج…” “ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن” هو في سياق تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من غلبة النساء على الرجال (وليس أي رجال) مع ضعفهنّ، لا في تقرير قاعدة أو حكم عام.

ومن حكمة خلق الله تعالى للمسلمة الشاهدة المستخلفة في الأمة، بوصفها أخت المسلم الذي استخلفه الله في هذه الأرض تحقيقاً للشهود على الناس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أن الضلع في اعوجاجه تمام وظيفته مع ما فيه من رقة ونشأة في الحليّة، وظيفتها حماية القلب (والأسرة قلب الأمة) وبقية الأعضاء ضمنه، فيكون كمال الرجل والمرأة في استكمال كل واحدٍ منهما لأدوار الآخر في انسجام وتوازن وتناسق، سعياً لإقامة الدين وحماية الأمة.

قرنّ في بيوتكن وأطعن الله ورسوله، من القرار والاستقرار والقرار ما استقر من الأرض، والقرّ التمكن. والله تعالى لما نفى آدم وزوجه من الجنة كفل لهما استقرارهما ومقتضيات ذلك الاستقرار {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [الأعراف: 24]. ولاحظ قوارير وضلع وقرار مفاهيم كلها تصب في استقرارها وتمكينها على الصعيد العمراني، مكانها ومساحات العمل ومجالات الإعمار المشروط بالطهارة بمعناها الظاهري والباطني، لتبلغ الشهادة على العالمين الكائن في طاعة الله ورسوله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: 71] {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] فالنبي شهيدٌ على أمته والرسل والأنبياء شهداء على أممهم، ونحن معهم شهداء على الأمم السابقة واللاحقة في أخذنا لأمانة الموقف الوجودي الذي سماه القرآن “الشهادة على العالمين” بشرط الأمة الوسط. وأهلية الشهود شرطه قيمة السؤال والعلم، أي في مقدار وعي الذات لنفسها ولسلوكها ولرسالتها، في محاولة دؤوبة لمراجعة السلوك القيمي وتعديله عبر الرجوع إلى الوازع الأسمى “الغيب” والتعالي على الإخلاد إلى الأرض وهو تقويمٌ مستمرٌ بكل معانيه: تقويم وجودي يتحرك بين متناهٍ ولامتناه، تقويم أخلاقي (الخير والشر)، تقويم معرفي (الصدق والكذب) تقويم ذوقي (الجميل والذميم من الفعل والقول).

وأجمل صورة للأنثى بكيانها العضويّ والنفسيّ يتمثل في أنها أول حاضن لتصوير الله كل كائن حيّ، عضوياً ونفسياً، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6]. هي حضنٌ لأطفالها وسكنٌ لزوجها، بهدف صنع نظام اجتماع إنساني مصغر قائم على أخلاق التكليف الربانيّ، (والصنع هنا كما في القرآن “صنع الله الذي أتقن” “واصطنعتك لنفسي” الحامل لإجادة العمل والإتقان) فصنع الأسرة عبادة بالمفهوم الجماعي والفردي. والقرار تجذّر في الحاضن الأساس للتنشئة الحضارية؛ والتي يحقق فيها الزوجان تكامل الأدوار الاستخلافية ناظمها مشاعر التواد والتراحم والسكن، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].

والأنثى الإنسان، يُقَال للإنسانِ أَيضاً “أُنْسان” أُنْسٌ بالحَقّ “وأُنْسٌ بالخَلْق”، ومن هذا السياق ومن هذا القرار والاستقرار والتمكين يأتي الحديث عن الأسرة وهو حديث عن الإنسان نفسه؛ فالإنسان (ذكر وأنثى) في المعجم اللغوي من الأنْس وأَنَسَ يَأْنَسَ ويَأْنِسُ وأَنُس أُنْساً وأَنَسَةً وتَأَنَّسَ واسْتَأَنَس. آنسه وصحبه ليزيل وحشته[1]. كذلك آنَسَ الشيءَ: عَلِمَه، قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6]. هذه المعاني تقتضي الاجتماع والاستقرار والسكن والاطمئنان. فكأن الإنسان في أصل فطرته لا يأنس إلا في اجتماعه وائتلافه وتعارفه. في الحديث “.. والأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ”[2].

وفي أسطورة خلق زوج آدم، أنه استيقظ فوجدها بجانبه. فسألها: من أنتِ؟ أجابت أنا سكنك. خلق الله حواء لتعين آدم المكرم والمشرف على القيام بأعظم مهمة وهي الاستخلاف. وهذه مهمة استخلافها. فالسَّكَنُ: كل ما تسكن نفس الإنسان إِليه وتأنس وتطمئن، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}. وقوله تعالى: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}. قال ابن عباس: أي قربة لهم. وقال ابن قتيبة: أيّ تثبيت لهم. فما أجمل دلالات هذه اللفظة التي وصف بها الله الودود علاقة الأنثى مع زوجها؛ القربة والتثبيت والاطمئنان والراحة. وهو ما وجدناه في نموذج أمنا خديجة رضي الله عنها في فهم وقبول وتثبيت وطمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما عاد من غار حراء وشهد أول نزول للوحي.

ومن اللطيف الإشارة هنا، في سياق الأنثى السكن والصلاة السكن، إلى جعل النبي صلى الله عليه وسلم النساء مع جمالين جمال دنيويّ، الطيب الذي يُجمل الرجل ظاهراً، وجمال أخرويّ، الصلاة التي تُجمله روحاً فهيّ قرة عين المسلم تستقر روحه وتطيب “يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها”[3]. إشارةٌ لطيفة في جمعهن للتناغم بين هذين الجمالين الظاهري والباطني “حُبب إليَّ من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة”[4]. الطيب التجمل والظهور في أجمل صورة وأحسنها، ولما نصل إلى حُسن الصورة فإن شعاع جمالها ينتشر في الأنفس المتلقية لهذا الجمال فتستشعر بدورها الجمال وتسعى لتقليدها. أما المرأة فلأنها سكن الرجل ولفطرة الله التي جبل الرجل عليها في ميل الأليف لإلفه وفق قانون التناسب والتشاكل، والتوافق، وفي الحاجة الفطرية إلى الحب والزينة والحسن وإلى السكن والود والمتاع المشترك.

حفظُ الأنوثة في يدي رجلٍ ** لا العلم يحفظها ولا الحُجُبُ

إذا غاب هذا الحق عن أممٍ ** فكسوفُ شمسٍ فيهمُ كَثَبُ (محمد إقبال)

الأنثى فاعلة منفعلة في الحضارة، هي المحرك الأول والأخير للذوق الحيوي والحب والإبداع في كل حضارة. وهذا مخالف تماماً للنظرة الرهبانية التي تحتقر الجسد أو اللذة، أو لتلك النظرة التي تُعلي من المتعة وتحصر الأنثى في هذه المساحة. إنها الأمة الوسط.


[1] الرازي، مختار الصحاح. كذلك الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة. ابن سيده الأندلس، المحكم والمحيط الأعظم. مادة أنس. {ولقدْ عَهِدْنا إِلَى آدَمَ من قَبْلُ فنَسِيَ} لكن لاحظوا إضافات مفسرينا وَقَالَ الشَّاعِر: وسُمِّيتَ إنْساناً لأنّكَ ناسي وَقَالَ الآخَر: فاغْفِرْ فأوَّلُ ناسٍ أوَّلُ النّاسِ. وَقيل: عَجَبَاً للإنْسانِ كيفَ يُفلِحُ وَهُوَ بَيْنَ النِّسْيان والنِّسْوان.

[2]  رواه أبو هريرة. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب باب الأرواح جنود مجندة. حديث رقم: 6706. موقع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ولاحظوا أن مصطلح الإنسان في الغرب MAN ليس مصطلحاً محايداً أو يشمل النساء والرجال، بل في استخدامات اللفظة ودلالتها كانت تعزز فكرة أن الرجال كما هم القاعدة للوجود الإنساني كما الذكورة هي الأصل، كما تفصح دراسات فلسفة اللغة.

[3]سنن أبي داود، كتاب: الأدب، باب: في صلاة العتمة، ج5، حديث رقم 4985، ص165.

[4] النسائي، أحمد بن شعيب بن علي. السنن، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط1، 1408ه/1988م، كتاب: عشرة النساء، باب: حب النساء، حديث رقم 3940 من رواية أنس بن مالك، ص609.