الهويّة الإنسانيّة الكونيّة

712

عندما سُئل الفيلسوف اليوناني سقراط “من أين أنت يا سقراط؟” لم تكن إجابته أنا من أثينا وأنا من اليونان أو الإغريق بل كانت إجابته حاسمة منسجمة مع تفكيره ومبادئه الفلسفية والأخلاقية، “أنا لست أثينيّاً ولا يونانيّاً، أنا مواطن عالميّ”.

 إن التفكير في ضرورة العمل بمبدأ العيش معاً ممكناً كي تضمن البشرية تعايشاً سلمياً قائماً على مبدأ الكلي الكوني. وأن يكون الإنسان من العالم يعني أن ينتمي إلى العالم كجزءٍ من الكل وواحدٍ من الكثير. ولعلّ ما يطلبه الفرد في مسيرته الوجودية ليس سوى أن يكون جزءاً لا ينفصل عن هذا العالم وأن يجمعه بالآخر العالَم نفسه والكون نفسه لتكون الأرض وطناً للجميع في إطار مبدأ العيش المشترك والوجود “البينذاتي”.

فمهمة الإنسان الوجودية في هذا العالم أن يقيم فيه ويحفظ هذا الانتماء الكوني الكليّ ويحافظ عليه. ومن هنا تكون الكونية هي المبدأ المؤسس لمبدأ وحدة البشرية، وحدة المصير ووحدة المآل. الكل يوجد والكل يفنى، ولعلّ مبدأ الكلي هنا هو الذي ينبعث منه مبدأ الوجود في الكون حيث يكون الواحد هو المتكثر والمتكثر هو الواحد، وحدة مزدوجة متناقضة في الآن نفسه، وحدة الكثرة وكثرة الوحدة.

أنا أنتمي أو أنا في الانتماء

“أنا مواطن عالميّ” عبارة تجسد معنى الانتماء إلى الـ”نحن” ثم إلى الهُم ثم إلى الآخر. بالتالي إلى الأنا، فأنا أنتمي إلى العالم بفضل الهُم والآخر والنحن، وبفضل قوة أخرى مفارقة خلقتني وقدرت لي وضعي في هذا الإطار الذي يسمى العالم أو الكون. إن قانون الانتماء هذا يؤسس مبدأ الهوية الإنسانية الكونية؛ فأن أنتمي يعني أن أكون من… من العالم، من المجموعة، من الأرض، من الكون، من الأمة، من الحضارة، من الثقافة، من القارة، من الوطن، من العشيرة، من القبيلة، من العائلة…. كل هذه الأطر والمواقع الهووية هي ما يمثل الإنسان ككل. فأن أكون إنساناً هو أن أخضع لقانون كوني هو قانون العيش معاً في سلام وأمان دون عدوانية أو حرب، أن نعيش معاً دون عوائق أو حواجز أو صراع أو عنف. انتماء يكون فيه كل البشر إخوة.

هذا هو معنى الانتماء حين يكون الفرد ممتثلاً لقانون الإنسانية؛ فالانتماء هو انتماء للإنسانية والهوية هي هوية إنسانية والكون هو الكوني الإنساني. الكونية مشروعٌ إيتيقي بامتياز، وكونية الانتماء هي كونية القيم وكونية الوجود البشري القائم على نشر قيم التسامح والتواصل بين الذوات والاعتراف “البينثقافي” من أجل العيش معاً. ولعل الغاية الأساسية هنا هي تحقيق السلم الكوني الدائم بعيداً عن منطق الصراع والتنافس وذئبوية الإنسان ضد أخيه الإنسان، فالسلم مشروع قابل للتحقق يشترط تحققه إقامة دستور سياسيّ كونيّ.

دستور سياسي كوني: إيتيقا الضيافة

“أنا من العالم” تحمل في طياتها رسالة كونية نبيلة تسمو نحو أفق إنساني كوني، أفق تتوحد فيه البشرية في إطار كونية العقل وكونية التفكير في الحق والقانون الكوني، ما يقتضي الأمر إلى ضرورة التفكير في بلورة حق سياسي كونيّ يوحد بين البشر ويمثل قاسماً مشتركاً بين الجميع مهما اختلفت صفاتهم ومواضعهم وهو “حق الضيافة”، بعبارة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط التي تعني حق الأجنبي في ألا يعامل وكأنه عدو حينما يحل في إقليم آخر أيّ حق كل أجنبي في ألا يعامل في البلدان التي حلّ بها بوصفه غريباً.

إذ تشترط الضيافة وحدة القيم الإنسانية والحق في الزيارة والائتلاف المتبادل مع الآخر وحسن معاملته. ذلك أنّ حسن الضيافة القائم على ثبات الحق وكونيته بين الجميع من حيث أنّ الجميع مواطنون في عالم واحد ما، يؤسس دستوراً كونياً تندمج من خلاله الخصوصيات في أفق الكونية. هذا الدستور يسمح بتأسيس علاقات إنسانية تعترف بالإنسان، هي كونية قائمة على إيتيقا الانفتاح والتنوع والتعارف لا التنافر والتصارع، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقٰكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

كان ولا يزال حلم البشرية بدولة الحق الكونية والعدل والسلم الأبدي والتي تضع حداً لكل التكتلات والعرقيات الضيقة القائمة على مبدأ العداوة والعنف والحروب المدمرة للنوع الإنساني. ولئن كان الحل في وضع معاهدة تقضي على كل الأسباب المحتملة للحروب فإنّ الحل الأنسب هو في وضع دستور سياسي كونيّ هدفه تحقيق الأمن والسلم العالميين. وهل أرقى من أن تكون مرجعية هذه المعاهدة قوله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

السلم أضحى غايةً ومطلباً مشروعاً، خاصةً إذا كان الدافع ضمان الحق في حياة سويّة خالية من كل تضييقات عدوانية، والسلم الأبدي مشروع أخلاقيّ يسعى إلى نبذ كل خصوصية أنانية وانتماء ضيق من أجل إرساء واقع إنساني يعترف بالتعدد والتنوع والاختلاف يقول فيه الإنسان “أنا مواطن عالمي”، ويقيم في كل مكان فيه.


كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي -رضي الله عنهما- أن هَلُمَّ إلى الأرض المُقَدَّسة [يعني الشام]، فكتب إليه سلمان: “إن الأرضَ المُقدّسة لا تُقَدِّسُ أحداً، وإنما يُقدِّسُ الإنسانَ عملُه”. (الموطأ (2/ 235)، المجالسة وجواهر العلم وجواهر العلم (4|69)).