دور إسماعيل الفاروقي في دراسة علم الأديان

1٬526

تمهيد

لقد وضع الله سبحانه أخبارًا عن الديانات السماوية والوثنية في مختلف مواضع الآيات القرآنية؛ إذ إنه تحدث عن اليهودية والمسيحية والصابئة، وقد اهتم علماء المسلمون كذلك بالأديان استنادًا إلى القرآن ولغايات معرفية.

ويلاحظ أن علماء الفلك قد كانوا من أوائل من اشتغلوا بعلم الأديان؛ إذ كانوا بحاجة إلى مقارنة الأرصاد الفلكية المختلفة فتعلموا اللغات الأخرى واطلعوا على تاريخ حضارات قديمة وحديثة.

كما اعتنى المتكلمون بدراسته لرد الشبه التي كانت تثار من جانب اليهودية والمسيحية وغيرهم من الأديان تجاه معتقدات الإسلام.

ومن أهم الكتب المستقلة في علم الأديان كتاب “الملل والنحل” للشهرستاني، وقد كان منهجه في الدراسة هو الرجوع إلى المصادر الأصلية للديانة، فيقول: “وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم.”(1)

ويعد البيروني الممثل العلمي الأكبر للنزعة العلمية في دراسة علم الأديان؛ وقد كان منهجه وصفيًا، كما وشدد على الرجوع إلى مصادر الأديان الأصلية عند دراستها، فقد تعلم السنسكريتية ولبث في الهند وكتب كتابه المشهور “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”.

ويسمى المنهج الذي تتبعه البيروني في كتابه بالمنهج الظاهراتي/ الفينومينولوجي، والذي يتطلب من الباحث أن “يترك الظواهر تتحدث عن نفسها، دون أن يقحهما في إطار فكري مقرر سابقًا، كما يدع صورة الجوهر الذهنية تنسق المعلومات أمام الفهم فتعزز مصداقيتها بها.”(2)

وقد كان ممن انتهج هذا المنهج في العصر الحديث الدكتور إسماعيل الفاروقي، والذي يمكن القول بأنه مؤسس لعلم تاريخ الأديان الحديث عند المسلمين، وقد أتت إسهامات الفاروقي في هذا المجال على مستويين؛ “المستوى الأول هو المساهمة في التأسيس المنهجي لعلم تاريخ الأديان على المستوى العلمي الدولي، أما المستوى الثاني فهو يتمثل في إحياء علم تاريخ الأديان عند المسلمين على مستوى المنهج والمضمون.”(3)

وتبلور هذا البحث للكشف عن جهود إسماعيل الفاروقي ودوره الكبير في علم الأديان، وقد أظهر الفاروقي في مؤلفاته عن الموسوعية التي يحظى بها وتعمقه في الفلسفة والأديان، وكذلك التواضع وتتبع الحقيقة من مظانها.

إسماعيل الفاروقي بين الشرق والغرب:

في مدينة يافا الفلسطينية من عام 1921م ولد الدكتور إسماعي راجي الفاروقي من أسرة عريقة وثرية، وقد أنهى دراسة الثانوية في مدرسة الفرير الدومينيكان الفرنسية 1936م، ثم حصل على البكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأمريكية ببيروت.

وبعد تخرجه عمل الفاروقي كمحافظ في منطقة الجليل، وعلى إثر اندلاع القتال وظهور الدولة الصهيونية اشترك الفاروقي في بعض العمليات الجهادية، ثم قرر الهجرة إلى أميركا، وحصل على شهادتين في الماجستير في فلسفة الأديان، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة إنديانا وقد كانت أطروحته بعنوان “نظرية الخير: الجوانب الميتافيزيقية الأبستمولوجية للقيم”.

وبذلك فقد حظي الفاروقي بمعرفة معمقة بالفلسفة وبتاريخ الأديان، وحين باشر العمل بالتدريس في الجامعات الأمريكية شعر بالحاجة إلى تكوين معرفة علمية إسلامية أكثر متانة، فغادر إلى الأزهر لدراسة العلوم الإسلامية.

وبناء على ذلك فيمكن الاستنتاج أن الفاروقي يدعو إلى أن لا تكون معرفة طالب العلم الشرعي محصورة في العلوم الشرعية فحسب، إنما عليه الاطلاع على العلوم الاجتماعية والإنسانية، فالحصر يولد ضيق التفكير والجمود وصنع كليات بعيدة عن الواقع، في حين أن الاطلاع على الآخر وتعلم المناهج وتتبع آخر ما تتوصل له العلوم والأبحاث يجعل من معرفة طالب العلم كونية وشاملة ولصيقة بالواقع.

ومن جانب آخر فهي دعوة للمسلمين ككل في التزود بعلوم الملة كي تكون مرجعية للباحث، ومعيارًا يستطيع من خلاله صنع أقيسة ليعرف ما فيه الصلاح والخير وبما فيه الفساد.

وقد كان يقول الفاروقي: “علينا نحن المسلمين أن نتحلى -إلى جانب إسلامنا- بالفهم العميق للأفكار والأديان الأخرى، بحيث يُعلم منا التلميذ أستاذه!”(4)

وقد عُرف عن الفاروقي أنه مؤسس لمشروع “إسلامية المعرفة”، والتي تعني أسلمة الإحالات الفلسفية للنظريات العلمية بحيث تنفي عنها البعد الوضعي وتعيد صياغتها ضمن بعدها الكوني، الذي يتضمن الغائية الإلهية في الوجود والحركة.”(5)

بحيث يعمل المشتغلون بهذا المشروع على تفكيك التراث الإسلامي وإعادة صياغته بشكل يستجيب لروح العصر، إضافة إلى تحليل ونقد للفلسفة الغربية، ووضعها داخل رؤية كونية شاملة.

وقد أسس الفاروقي المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1981م مع الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، لأجل أن تكون حاضنه لمشروعه التركيبي في أسلمة المعرفة.

استشهد إسماعيل الفاروقي مع زوجته لمياء الفاروقي طعنًا بالسكاكين في ليلة 18 رمضان 1406/1986، بيد من يدّعي أنه مسلم، ومن المرجّح أن جمعه بين مشروع جذري للتجديد الفكري ومواقفه الملتزمة سياسياً هي التي كانت وراء اغتياله.(6)

دور الفاروقي في علم الأديان:

كان يُعد علم الأديان عند المسلمين أحد فروع علم الكلام فاهتموا به لمناصرة العقيدة الإسلامية وتفنيد شبه الديانات الأخرى، كذلك فقد شكل مبدأ التسامح دورًا في ظهور هذا العلم، يقول آدم متز: “وكان تسامح المسلمين في حياتهم مع اليهود والنصارى، وهو التسامح الذي لم يسمع به في العصور الوسطى سببًا في أن لحق بمباحث علم الكلام شيء لم يكن من مظاهر العصور الوسطى، وهو علم مقارنة الملل.”(7)

ومن أبرز العلماء في العصر القديم الذين اعتنوا بهذا العلم؛ الشهرستاني في كتابه “الملل والنحل”، وابن حزم الذي وضع كتابًا باسم “الفصل في الملل والأهواء والنحل”، والبيروني في كتاب “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”، وكذلك الفيلسوف العامري في كتاب “الإعلام بمناقب الإسلام.

وقد تطور علم الأديان في العصر الحديث بشكل كبير، ووضعت مناهج مختلفة ومدارس علمية لفهم النص وتحليله، والبحث التاريخي، والنقد المقارن، وفحص الأشكال الأدبية.(8)

ومن العلماء المسلمين المحدثين بتاريخ علم الأديان؛ محمد عبد الله دراز، وأحمد أمين، والشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور إسماعيل الفاروقي.

وما يتميز به مشروع الفاروقي في علم الأديان بأنه اهتم به بوصفه تخصصه، ورفد معرفته الواسعة في سبيل التجديد في هذا العلم، والاشتغال به على مستوى تأسيس لعلم تاريخ الأديان الإسلامي الحديث.

وقد تولى الفاروقي رئاسة المحور الخاص في الإسلام في جمعية تاريخ الأديان بجامعة شيكاغو، الذي كان يرأسها المؤرخ مرسيا إلياده، وكذلك في أكاديمية الدراسة العلمية للدين، وكانت مشاركاته جادة وتمثلت بالأبحاث المنهجية، والإشراف على محور الإسلام في الندوات والدوريات والمؤتمرات.(9)

وكان يعتقد أن دراسة الديانات ليست بالمهمة السهلة، وهي عملية معقدة تحتاج من الباحث أن يكون على عمق بما تمثله الديانات من أفكار وأفعال وتجليات، وكان منهجه ترك الظاهرة لتتحدث عن ذاتها من غير إدخالها في قوالب فكرية مسبقة، وقد استعمل مقولة هوسريل القائلة: “اترك النظرة الماهوية لتنظم المعطيات، لتكون قابلة للفهم.”(10)

وبذلك فقد انتهج الفاروقي المنهج الظاهراتي في علم تاريخ الأديان، ويعد “إدموند هوسريل أول من أدخل الطريقة الظاهراتية في الفلسفة الغربية، كما كان ماكس شيلر أول من أدخلها في دراسة الأخلاق والدين، ومنذ وقت قريب عادت هذه الطريقة إلى الرواج مع ظهور مجلة تاريخ الأديان، ومع تعيين مرسيا إلياده في كرسي الديانة المقارنة.”(11)

وقد نشأ المذهب الظاهراتي كرد فعل للمناهج السائدة التي قبله والتي كانت تعتمد على الفصل بين الذات والموضوع، أو المناهج الأخرى التفسيرية التي تقحم الظاهرة الدينية في قوالب فكرية وفلسفية مسبقة، تعمل على إضافة تأويلات لماهية الحقيقة الواقعية للظاهرة الدينية.(12)

ويعد كتاب الفاروقي “أطلس الحضارة الإسلامية” أول كتاب اتخذ المنهج الظاهراتي/ الفينومينولوجي لدراسة الإسلام وحضارته، يقول الفاروقي في مقدمة الكتاب: “هذه دراسة تنظر إلى جوهر الإسلام من حيث علاقته المطلقة بالقرآن والسنة، وتهدف إلى تقديم المكونات الحضارية بوصفها تجسيدًا لذلك الجوهر في الزمان والمكان، وقد يصح القول إن هذا الكتاب أول تطبيق للدراسة الظاهراتية في دراسة الإسلام.”(13)

وقد كان يعيب الفاروقي على علماء الأديان الغربيين عدم تطبيق هذا المنهج على الإسلام، واستطاع كذلك تطبيقه على اليهودية والمسيحية وديانة مكة قبل الإسلام، وديانة الشرق الإسلامية، وقد تأثر بمنهج فان درليو في الجوهر والمظهر، وبـ يواكيم فاخ عن الفكر والفعل والتعبير.

ويذكر الفاروقي عن منهج التسامح والذي يُعد مبدأ منهجيًا جوهريًا للإسلام، ويتعلق بفلسفة الأخلاق، والذي يتطلب قبول الحاضر حتى يثبت بطلانه، وفي ذلك دعوة للمسلم للإقبال على الحياة، والتجربة الجديدة، ثم اليقين بأن الله ابتعث أنبياء للناس وقد حالت الظروف التاريخية وما فيها من عوامل عديدة إلى اختلاف الأديان، إلا أنه وراء تنوع الأديان يوجد الدين الحنيف، وعلى المسلم دراسة تاريخ الأديان ليتبين جوهر الرسالات، كما ويعمل التسامح على إحالة “المواجهة والإدانات المتبادلة بين الأديان إلى دراسة علمية متعاضدة تتناول نشوء الأديان وتطورها لغرض فصل التراكمات التاريخية عن معطيات الوحي الأصلية.”(14)

ويسعى الفاروقي إلى تطوير لاهوت عالمي ناقد، وقد وضع نظرية في ذلك سماها “فيما وراء الدين”؛ ويلخص الفاروقي خصائص الدين الماورائي بحسب الإسلام أنه لا يرفض أي دين من الأديان، فكل دين مبني على أسس من وحي إلهي، ويربط بين أديان التاريخ بالمصدر الإلهي، فما من قوم إلا وأرسل الله لهم نبيًا.

 وهي نظرية تدعو ليُخضع علماء الدين تراثهم الديني للفحص العقلي والنقدي ليتم التخلص من أي إضافات إنسانية للجوهر الديني، ويقدر الدين الماورائي العقل، فهو صنو الوحي ولا تناقض بينهما، كما أنه دين إنساني، يفترض أن البشر أبرياء وليسوا مخطئين بالفطرة.

ويعترف الدين الماورائي بالحياة الدنيا، وأن الخلق لم يوجدوا عبثًا، وبأن الإسلام دين مؤسسي وليس نظرية فحسب، وقد اتسم بالتعددية والتسامح، ودفع من الغير إلى استخدام عقولهم، واتباع الحجة، والتوحد تحت إمرة دين واحد.

ويرى الفاروقي -كما يبين أستاذ التاريخ في جامعة الموصل الدكتور ناصر عبدالرزاق الملا- بأنه لا يمكن العزلة بين الإسلام والغرب، ولذلك يجب التعاون وفق شروط، وهي: الاحترام، والتعاون الفعال، والاتفاق على الأهداف والمعايير، وعلى أرضية مشتركة في مجال الإيمان الديني.(15)

 ويؤكد الفاروقي على محورية الحوار بين الأديان “فالإسلام والمسيحية كذلك، ما لم تخدعني قراءتي ‑والقول للفاروقي‑ يجعلان الحوار جوهر اعتقادهما، ومجال توحدهما الإلهي، بوصفهما دين الله، دين الحقيقة.”(16)

ويضع الفاروقي شروطًا للحوار، وتتمثل هذه الشروط بـ: أن يكون الحوار متكافئًا، وأن يكون الهدف من الحوار هو الوصول إلى نتيجة نهائية بحيث لا يمضي إلى طريق لا نهائية من الأحجيات، وأن يستند هذا الحوار لبحث تاريخي نقدي، والأولوية للحوار في الجانب الأخلاقي وليس للأسئلة اللاهوتية.

والحوار الذي دعا إليه الفاروقي ليس (إسلامي – مسيحي) فقط؛ إنما الإسلام يقبل الآخر ويحث على التواصل والتفاهم معه، وعلى هذا الحوار أن ينعقد بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك استنادًا لمنهجه فيما وراء الدين، الذي بيّن الفاروقي فيه بأن جميع الأديان مبدؤها وجوهرها من الله.

وقد اهتم الفاروقي بالدراسات اليهودية، وكتب عن الظاهرة الصهيونية، فألف “الإسلام ومشكلة إسرائيل”، و”أصول الصهيونية في الدين المسيحي”، و”الملل المعاصرة في الدين اليهودي”. 

واتسم طرح الفاروقي بالعمق والدراية، فقد كان “متضلعًا بتاريخ الديانة اليهودية، وبتطور الحضارة الغربية، وقد وضع الصهيونية في ذلك السياق التاريخي.”(17) ووضع ميلاد إسرائيل في سياق ثلاث أفكار وهي: عقيدة الانتقال الوجودي للخطيئة في المسيحية، وتراجع وعود عصر الأنوار الأوروبية عن تحقيق المساواة لليهود، ثم المركزية العرقية في الديانة اليهودية.(18)

وينظر إلى الصهيونية كحركة دينية- فكرية تعمل على تمكين العنصر اليهودي لأداء رسالته، و”تركيز لسلطة العالم الروحية والحضارية والفكرية في صهيون.”(19)

ويُفند الادعاء اليهودي بأنهم شعب الله المختار، وأنهم اُختيروا وفُضلوا على العالمين، بل إن هذا الاختيار ليس له علة، إنما عقد ملزم للإله، ويقول الفاروقي معلقًا على اعتقادهم: “فهذا الادعاء اليهودي غير خلقي ومناف للعقل السليم.”(20)

في حين أن من المبادئ الأساسية للمنهجية الإسلامية هي “وحدة الإنسانية”؛ فما دام الله يتصف بالوحدانية “فلا بد أن تحكم صفة التوحيد الإلهي علاقة الله بكل البشر لأنهم جميعًا خلقه. ومن الطرف الآخر لا بد للبشر أن يرتبطوا جميعًا كمخلوقين بخالقهم.”(21)

ويُدين الإسلام التعصب العنصري، فهو لا يلتقي أبدًا ‑بحسب الفاروق‑ مع التعصب؛ إذ إن الأخير “يعتبر التمييز العنصري والقومية من صوره السائدة. إن الصراع بينهما لا حد له نظرًا لأن ما ينزله التعصب العنصري من دمار في الروح الإنسانية لا يُمكن جبره.”(22)

وقد تتبع الفاروقي الدين المسيحي من المهاد والتطورات التي حدثت عليه في سيرورة التفاعل مع التاريخ، وأظهر في كتابه “الأخلاق المسيحية” التصورات المسيحية للأخلاق وانتقد فيه معتقداتها التي رآها تتنافى مع الجوهر المسيحاني؛ إذ سعى إلى “إثبات حدوث تغيير في تلك التصورات، أدى بها إلى الانحراف عن تعاليم المسيح.”(23)

وكان الفاروقي قد أخرج هذا الكتاب بناءً على طلب مؤسسة مسيحية استشراقية، واشتمل الكتاب على مقدمة وقسمين؛ والقسم الأول تحت عنوان: ما هي أخلاق المسيح؟ والقسم الثاني: إعادة التقويم المسيحي.

انطلق في الكتاب من مقدمة أساسية وهي أن الثورة المسيحية لا يمكن فهمها من غير التعرض للعنصرية والأخلاق اليهودية. فقد جاءت المسيحية لتصحيح قيم اليهود العرقية، التي تعتقد بأن الله هو رب اليهود فقط، وأنه فضلهم عن العالمين، دون تبرير وعلة لهذا التفضيل الإلهي!

وتحدث الفاروقي عن الإنسانية الشاملة التي اهتم بها المسيح، وحدد ثلاث سمات للأخلاق الإنسانية عند المسيح وهي؛ أن أخلاق المسيح ترتكز حول الذات الخاصة وشخصية الفرد، وأنها تحقق القيم السامية، وتحقّق الإنسانية الشاملة (ذات نطاق إنساني).(24)

كما وعالج مقولة القديس أوغسطين: “أحبب الله وافعل ما تشاء”، وهذا تحول جوهري للأخلاق؛ إذ إن هذه المقولة تفترض أن النفس إذا تحصلت على الكمال فإنها قادرة على طلب الشر وفعله، وتعطي الإنسان أفقًا أوسع لحرية الحركة.

ويرى الفاروقي أن الثورة الصناعية أظهرت حاجة إلى فكر اجتماعي في المسيحية، في حين أنها في الأساس لا تشكل نظامًا اجتماعيًا، فـ “مملكة الله” تشير إلى الكنيسة وليس المجتمع، وحتى لو ذهب اللاهوت الجديد إلى القول بأن مملكة الله تشير إلى الكنيسة والمجتمع، فإن المشكلة الكبرى تبقى في المسيحية نفسها التي عدت “الإثمية” و”الخلاصية” المضمون الجوهري للأخلاق المسيحية، وهذا ما يتعارض مع المجتمعية.

رؤية الفاروقي لجوهر الخبرة الدينية:

لقد سبقت الإشارة إلى أن الفاروقي استخدم المنهج الظاهراتي/ الفينومينولوجي في دراسة الإسلام والأديان الأخرى، وقد قام هذا المنهج (الظاهراتي المعدل) “الذي أخضعه للمنظور التوحيدي، جعله يهدم التصورات الأيديولوجية التي ألفوها -أي الغرب- حول طبيعة المنهج والمحددات التعسفية والسلطوية التي فرضوها وفقًا لما تقتضيه مصالحهم ومصالح المنظومات الفكرية والسياسية والثقافية التي ينتمون إليها.”(25)

وقد أوضح الفاروقي بعد تطبيق المنهج الظاهراتي/ الفينومينولوجي على الإسلام أن جوهره هو التوحيد؛ الذي يعني: الشهادة بأن الله تعالى هو الواحد الأحد، المطلق الخالق المتعالي، رب كل ما في الوجود ومالكه.

إن بؤرة الخبرة الدينية الإسلامية هي الإله الصمد، ويبين الفاروقي أن معنى الركن الأول من أركان الإسلام وهو(الشهادة) مفهوم الله بالنسبة للمسلم في كل مكان وفي كل فعل، وفي كل فكرة وفي كل زمان. وقد ناقش تصور الفلاسفة عن الإله الذي هو أشبه إلى كينونة بلا وظيفة، خلق الكون ووضع فيه القوانين ثم تركه، وبيّن أن رجال الدين خيفة الوقوع في هذا المنزلق الفلسفي قد أسسوا لمفهوم “الإحداث”، وهو المبدأ الذي جوهره قائم على أن الله يجدد العالم في كل لحظة، وبإرادته تحدث الحوادث.

 وجوهر الحضارة الإسلامية هو الإسلام بالطبع، الذي يعمل على صبغ الحضارة بأفكاره، ويُعطيها الهوية المميزة لها، ويعمل التوحيد كجوهر للإسلام على ربط عناصر الحضارة، كما “يحوّل ذلك الجوهر تلك العناصر دون أن يغير طبيعتها بالضرورة.”(26)

ثم يُبين الفاروقي أن الجوهر التوحيدي في علاقته مع العناصر ومدى التحوّلات التي يُحدثها فيها على مستويين؛ درجة يسيرة وأخرى جذرية، والمراد بكل منهما كما يقول: “التحويل اليسير هو التأثير على شكل العنصر. أما التحويل الجذري فهو المتعلق بالتأثير على وظيفته، لأن وظيفة العنصر هي التي تشكل العلاقة بينه وبين ذلك الجوهر.” ثم يوضح الفاروقي ذلك بمثال: “إنشاء المسلمين علم التوحيد، واعتبار علوم المنطق وعلم المعرفة وعلوم ما وراء الطبيعة والأخلاق فروعًا له.”(27)

إن جوهر التوحيد وهو تنزيه الله تعالى وإدراك الطابع المفارقاتي للذات الإلهية، فيذكر الفاروقي أن الإسلام واليهودية والنصرانية أديان سماوية عالية، انبثقت من المشكاة السامية ذاتها، وأن كل من اليهودية والمسيحية قد انحرفتا عن المسار الصحيح.

ولقد وجه الإسلام نقده لليهودية في هذا الصدد تحريفهم لـ”صفة التسامي المفارق المطلق للذات الإلهية. ومن شواهد ذلك أنهم تحدثوا عن الرب بصيغة الجمع في ثنايا التوراة كلها، وادّعوا أن أبناء الله تزوجوا من بنات البشر.”(28)

ويُتبع الفاروقي ذلك بأمثلة أخرى؛ كتصوير الله شبحًا يصارعه يعقوب ويكاد يصرعه، وأن الله هو أب ملك اليهود. وأصبح الإله بعد ذلك في عهد موسى وداود إلهًا ناريًا يسكن في قمة الجبل، ثم تحول إلى إله لا يعمل إلا الخير لليهود، والشر للأمم الأخرى، لقد كان الإله عند اليهود بعبارة الفاروقي دائمًا أحدًا، لكنه لم يكن توحيدًا.

أما المسيحية فقد تجنت على الصفة المتعالية المفارقة للذات الإلهية؛ فقد عملت على التماهي الجوهري بين الله وعيسى، واستقت هذا التصور عن إلهها المعذب من تأثير الطقوس السرية على وعيها السامي.

ويصف الفاروقي المسيحية بأنها أكثر مانوية وزرادشتية في مقابلة الشر؛ حيث أن الشر قد هزم من قبل الله من خلال يسوع، إلا أن الوضع لم يتغير، واستمر بكونه حقيقة قوية في العالم، لأن المسيحية جعلت الخطيئة أو الشر أمرًا أزليًا يعود على الله ومنضوٍ في صورته.

إن التوحيد كما بين الفاروقي وأثره على مضامين الحياة، يعكس حالة من السواسية الإنسانية، فجميع الخلق أمام الله على سواء مهما اختلفت أعراقهم وأنسابهم، فالمفاضلة لا لعرق ميزه إنما للتقوى بين الناس، كما أن الأصل في البشرية أنهم مخيرون وبكامل إرادتهم، وبيدهم خلاص أنفسهم، ولا يفترض التوحيد أن الخطيئة متأصلة بالإنسان وأن الإله قد تجاوز السنن الموضوعة لينزل ابنه الوحيد يعاني من الصلب وسكرة الموت.

النموذج النقدي للأديان عند الفاروقي:

النموذج المعرفي أداة تحليلية “تُيسر عملية الرؤية للظواهر والأفكار والربط بين العديد من التفاصيل والموضوعات التي تبدو وكأنها لا علاقة للواحد منها بالآخر والربط بين مستويات الواقع المختلفة.”(29)

ويرى الباحث بلال التليدي أن النموذج المعرفي عند الفاروقي لا يفترق عن المشترطات المنهجية للنمط المثالي عند ماكس فيبر، حيث يقوم منهج الفاروقي على دراسة الاختلافات بين الأديان، محاولاً تفسيرها ونقدها من قاعدة النمط المثالي التي تنطلق من أن مصدر الأديان واحد، وأنها تبقى صحيحة ما لم يثبت انزياحها عن المصدر الأول.(30)

ويذهب الفاروقي إلى أن الظاهرة الدينية ذات طبيعة تركيبية تجمع ما بين الحقائق المجردة والقيم المعيارية في نظام معقد، وعليه فلا يمكن الالتزام بمعيار دين وثقافة معينة وفرضها على الثقافات الأخرى، ومن أجل الخروج من هذا الإشكال وضع الفاروقي مطلبين أساسيين:

1-     مطلب فك الارتباط: حيث يضع الباحث معاييره بعيدًا، وينخرط من داخل الظاهرة الدينية محاولاً كشف منطقها الداخلي، وهذا يبعد الباحث عن الأحكام المسبقة ويتيح للباحث العيش في حقيقة الظاهرة.(31)

وهذا يُذكر بمنهج الشهرستاني الذي قال: “وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم”. وبمنهج البيروني الذي شدد على الرجوع إلى مصادر الأديان الأصلية عند دراستها، فقد تعلم السنسكريتية ولبث في الهند وكتب كتابه المشهور “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”.

2-     وضع مبادئ لفهم الدين وتقويمه: حتى تكون الأحكام موضوعية، فعليها أن تكون مؤطرة بمبادئ وقواعد عقلانية وموضوعية، ويقترح الفاروقي من هذه المبادئ: المبادئ النظرية التي عدها بمثابة الأساس الموصل إلى المعرفة، أو أساس المعرفة البشرية بشكل عام، ثم المبادئ التقويمية.

الخاتمة

يعد الفاروقي مؤسس علم تاريخ الأديان الحديث عند المسلمين، وقد أتت إسهاماته في هذا المجال على مستويين؛ في التأسيس المنهجي لعلم تاريخ الأديان على المستوى العلمي الدولي، وإحياء علم تاريخ الأديان عند المسلمين على مستوى المنهج والمضمون.

وقد انتهج الفاروقي المنهج الظاهراتي/ الفينومينولوجي في علم تاريخ الأديان، وهو أول من طبق هذا المنهج لفهم الإسلام.

وسعى إلى تطوير لاهوت عالمي ناقد، وقد وضع نظرية في ذلك سماها “فيما وراء الدين”؛ ويلخص الفاروقي خصائص الدين الماورائي:

1-     لا يرفض أي دين من الأديان، فكل دين مبني على أسس من وحي إلهي.

2-      ويربط بين أديان التاريخ بالمصدر الإلهي، فما من قوم إلا وأرسل الله لهم نبيًا.

3-     هي نظرية تدعو ليخضع علماء الدين تراثهم الديني للفحص العقلي والنقدي ليتم التخلص من أي إضافات إنسانية للجوهر الديني.

4-      يقدر الدين الماورائي العقل، فهو صنو الوحي ولا تناقض بينهما، كما أنه دين إنساني، يفترض أن البشر أبرياء وليسوا مخطئين بالفطرة.

5-     ويعترف الدين الماورائي بالحياة الدنيا، وأن الخلق لم يوجدوا عبثًا.

6-      وبأن الإسلام دين مؤسسي وليس نظرية فحسب، وقد اتسم بالتعددية والتسامح، ودفع من الغير إلى استخدام عقولهم، واتباع الحجة، والتوحد تحت إمرة دين واحد.

وقد وضع الفاروقي مؤلفات في فهم جوهر الخبرة الدينية للمسيحية واليهودية، وبين علاقة الصهيونية باليهودية، كما قدم رؤية للتوحيد كجوهر للإسلام وله متعلقات بمختلف جوانب الحياة.

وهذا مما تيسر لنا من قراءات لإظهار دور الفاروقي في علم الأديان، والدراسات التي اشتغل عليها وفق تتبع المنهج العلمي والنقدي، إضافة للمنهج الذي صاغه لفهم الظاهرة الدينية مستمدًا من جوهر التوحيد مرجعية له بحيث اتسم منهجه بالوحدة، والأمانة في النقل، وأشد الحياد والموضوعية، وفهم البعد الكامن الذي تتضمنه الأفكار والمعلومات التي تراكمت عليها الدلالات المختلفة.

المراجع

(1) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، ص22.

(2) إسماعيل راجي الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ص25.

(3) مجموعة من المؤلفين، إسماعيل الفاروقي وإسهاماته في الإصلاح الفكري المعاصر، ورقة الدكتور محمد خليفة حسن، ص55.

(4) الفاروقي، إسماعيل راجي، أطلس الحضارة الإسلامية، مقدمة الطبعة الأولى للدكتور هشام الطالب، ص16.

(5) الفاروقي، إسماعيل راجي، إسلامية المعرفة، ص6.

(6) محمد مختار الشنقيطي، خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين، ص 43،44.

(7) خالد السيوطي، المدخل إلى علم مقارنة الأديان، ص8.

 (8) المرجع نفسه، ص6.

(9) مجموعة من المؤلفين، إسماعيل الفاروقي وإسهاماته في الإصلاح الفكري المعاصر، ورقة الدكتور محمد خليفة، ص55.

(10) صالح مشوش “قراءة في محاولة الفاروقي لتأصيل المنهج الظاهراتي في مقارنة الأديان”، مجلة نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، العدد 4، 5، ص124.

(11) إسماعيل راجي الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ص25.

(12) صالح مشوش، “قراءة في محاولة الفاروقي لتأصيل المنهج الظاهراتي في مقارنة الأديان”، مجلة نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، ص155.

(13) إسماعيل راجي الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ص27.

(14) المصدر نفسه، ص139.

(15) مجموعة من المؤلفين، إسماعيل الفاروقي وإسهاماته في الإصلاح الفكري المعاصر، ورقة الدكتور ناصر عبد الرزاق الملا، ص117.
(16) المرجع نفسه، ص118.

(17) محمد بن المختار الشنقيطي، خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين، ص49.

(18) المرجع نفسه، ص 50

(19) إسماعيل راجي الفاروقي، الصهيونية والدين اليهودي، ص1.

(20) المرجع نفسه، ص15.

(21) إسماعيل راجي الفاروقي، إسلامية المعرفة، ص114.

(22) المرجع نفسه، ص117.

(23) مجموعة من المؤلفين، إسماعيل الفاروقي وإسهاماته في الإصلاح الفكري المعاصر، ورقة الدكتور عامر عدنان الحافي، ص544.

(24) المرجع نفسه، ص548.

(25) صالح مشوش، “قراءة في محاولة الفاروقي لتأصيل المنهج الظاهراتي في مقارنة الأديان”، مجلة نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، ص129.

(26) إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد مضامينه على الفكر والحياة، ص63.

(27) المرجع نفسه، ص63.

(28) المرجع نفسه، ص67.

(29) عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، ص364.

(30) مجموعة من المؤلفين، إسماعيل الفاروقي وإسهاماته في الإصلاح الفكري المعاصر/ ورقة بلال التليدي، ص 698.

(31) المرجع نفسه، ص70.