أزمة المجتمع المحافظ: الجذور السوسيولوجية

352

يُلاحظ في الساحة العربية الإسلامية بروز عدة أزمات اجتماعية وثقافية على مستويات مختلفة، تخلف وراءها تحولات في نمط حياة الأفراد وطريقة تصورهم للأشياء وتعاملهم معها.

تتجلى هذه الأزمات في دخول أنماط ثقافية جديدة وتغير نمط حياة الشباب ورؤيتهم للأشياء وتفاعلهم مع الماضي والحاضر، وهو ما يتجلى في أشكال متعددة، على مستوى التدين أو السلوك الشخصي.

تفصح هذه التحولات عن وجود أزمة مجتمعية؛ حيث تهدد هذه الأزمة واقع المجتمع المحافظ وأسسه الاجتماعية والدينية. ولما تحظى به هذه الأزمة من أثر على حياة الأفراد، يحاول هذا المقال مناقشة هذه الأزمة من ناحية سوسيولوجية، مبيناً جذور هذه الأزمة وتجلياتها.

تغير الأنماط الاجتماعية:

لفهم أزمة المجتمع المحافظ المعاصرة، والتي تتجلى في رفض وانتقاد فئة من الشباب لممارسات المجتمع المحافظ والتمرد على البيئات المحافظة ومحاولة سلوك نمط أكثر فردانية، يمكن الاستفادة من نظرية عالمة الأنثروبولوجيا الاجتماعية ماري دوغلاس.

تدور نظرياتها حول تحليل الأنماط الاجتماعية الموجودة في المجتمعات بشكل عام، ثم كيف تنعكس هذه الأنماط على حياة الفرد وأفكاره، وكيف ينتقل الفرد من نمط إلى نمط. والنظرية تتأسس على أن الأفكار والمعتقدات تتشكل بناءً على النمط الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد، وعلى شكل التضامن الناشئ بين الأفراد.

فمثلاً يمكن أن تؤثر السياقات الاجتماعية المنفتحة على بروز نمط حياة ووعي منفتح؛ أي أنها تفتح إمكانية نشوء ذلك، أما السياق المنغلق فيعزز نشوء نمط حياة ووعي منغلق.

تُدعى هذه النظرية بـ الجماعة/ الشبكة، والتي ركزت فيها دوغلاس على أبعاد الأنماط الاجتماعي حيث تفرِّق هذه النظرية بين بعدين يؤثران على البنى الاجتماعية؛ الأول هو “الجماعة”، والثاني هو “الشبكة”.

    هذان البعدان تصورهما دوغلاس على أنهما محوران تترتب عليهما الأنماط الاجتماعية، بحسب موقعهما من محور الجماعة، ومحور الشبكة. (انظر الشكل رقم 1).

     بالنسبة لمحور الجماعة، فهو يعبر عن درجة التضامن الاجتماعي والطريقة التي يُعرِّف بها الأفراد أنفسهم، والحدود التي يصنعونها حولهم، ويشير هذا المحور إلى درجة قوة الجماعة ومتانة روابطها الاجتماعية، وعدد النشاطات التي تقوم بها الجماعة بشكل مشترك في مقابل النشاطات الفردية المستقلة.

ويأخذ هذا المحور الخط الأفقي، حيث تعبر الدرجة العالية من محور الجماعة عن حالة يكون فيها الفرد منخرطًا في مختلف مناحي حياته مع هذه الجماعة، ابتداءً من العمل والقرابة والزواج والفكر وغيرها، وعندما ينقص هذا المحور تصبح الروابط الاجتماعية أكثر هشاشة.

     بينما يشير محور الشبكة إلى الأدوار الاجتماعية والضغوطات الموجهة إلى الفرد، فهو يعبر عن القواعد والمعايير التي يلتزم بها الأفراد خلال تفاعلاتهم الاجتماعية وحجم المساحة المتروكة لخياراتهم الشخصية.

    ويأخذ محور الشبكة الخط العمودي في نموذج الجماعة/ الشبكة. وفي الطرف الأقصى من محور الشبكة، لا يتحلى الفرد بحرية التفاعل مع الآخرين، فهناك مجموعة من المحددات والتصنيفات المؤسسية التي تفصل الأفراد عن بعضهم وتنظم تفاعلاتهم، وتمنعهم من التعبير عن آرائهم بحرية، وينعكس ذلك على العلاقة بين الجنسين، فلا يجوز للذكور الانخراط في المساحات الخاصة بالإناث، ولا يقوم الأولاد بتحديد علاقتهم بآبائهم مثلما يريدون، ولكن بحسب القواعد والمعايير.

    ولكن مع الانزياح للأسفل في محور الشبكة، تبدأ هذه الحدود بالتراجع، حيث يتمكن الأفراد من التفاعل بحرية مع الآخرين، وتضعف عمليات التصنيف والتقسيم، وتنخفض درجة التحكم وتتغير طبيعتها.

     ومع الانخفاض في محور الشبكة يصبح النمط الاجتماعي أقرب للسوق الحرة، حيث العلاقات قابلة للتفاوض وجميع أشكال التفاعل تصبح متاحة بحرية، وهو ما يغير البنى الاجتماعية. وعليه، بحسب درجة محوريّ الجماعة والشبكة، ، تبرز مجموعة من الأنماط الاجتماعية يعبِّر كلٌ منها عن نمط حياة ما، حيث يعبر كل نمط عن طبيعة معينة للعلاقات بين الأفراد، وعن مجموعة من التصورات عن طبيعة التنظيم والعلاقة مع الأشياء.

الشكل رقم (1)

الشكل الأول

وما يتعلق بموضوع المقال هنا هما النمطين التراتبي والفرداني، وهذا توصيف مختصر لكلا النمطين:

النمط التراتبي: شعور جماعي قوي، تشبيك قوي.

     ترتبط الممارسة الاجتماعية في هذا النمط بالجماعة التي يعيش ضمنها الأفراد، وتبقى محدودة بها، ويكتسب الأفراد وجودهم ومعنى حياتهم من خلال وجودهم في الجماعة، وكلما ازدادت علاقة الفرد بالجماعات الأخرى أو بأفراد من خارج الجماعة ضعفت درجة ضبط الجماعة.

    وفي هذا النمط لا ينقسم الأفراد إلى محليين وأجانب وحسب، بل يتعدى ذلك إلى تقسيم المراتب بين الناس بناءً على وجودهم ضمن الجماعة أو خارجها، وتتحدد قيمة الفرد بناءً على وجوده ضمن الجماعة أو خارجها.

ويتسم النمط التراتبي بدرجة عالية من التنظيم والتقسيم؛ نظرًا لقوة التشبيك فيه، فهناك أدوار اجتماعية محددة وتوزيع مضبوط للموارد والأدوار على الأفراد. ويقوم هذا النمط بإدارة نمط العلاقة بين الجنسين ويضبطها بناءً على معاييره الاجتماعية وقواعده التنظيمية.

    ويمتلك هذا النمط قدرة عالية على حل المشاكل الداخلية التي تحدث في الداخل، ويتضمن ذلك عمليات التطوير وتغيير الأدوار وتقليص دور الأفراد وإعادة التعيين والتعريف.

   ويعمل هذا النمط على فرض واجبات وضرائب على الأفراد بحكم وجودهم فيه، وذلك لضمان التزامهم، ويتحدد مجال حركتهم أيضًا، وهو ما يتم عبر التنشئة الاجتماعية.

   كما يعمل على تطبيق وفرض عقوبات على الأفراد في حال عدم الالتزام، وكلما ازدادت قوة الجماعة ازدادت ثقتها في تطبيق العقوبات على أفرادها مهما كانت قاسية، وقد تشكل هذه العقوبات -أحيانًا- سببًا في انسحاب الفرد منها لعدم تحمله لقوانينها وعقوباتها.

     إن استقرار هذا النمط والمحافظة على ثبات علاقاته الداخلية يعتمد على مدى قدرة الجماعة في جذب المعارف والحفاظ عليها، وفي إغلاق المنافذ أمام المجتمع الخارجي، من ناحية عدم دخول أفكار أخرى أو أشخاص من الخارج، وإلا سيهتز بناء الجماعة ويضعف أمام المؤثرات، ويصبح الأفراد منفتحين على أفكار ومعارف من خارج إطارها.

النمط الفرداني: جماعة ضعيفة، تشبيك ضعيف.

    وهو نمط اجتماعي يتسم بالتنافسية وباستقلالية الفرد، وبحكم تعريفه، تكون الممارسة الاجتماعية للفرد فيه غير مقيدة بأيّة حدود خارجية، وجميع المعايير قابلة للتفاوض والمناقشة والتبدل بحسب الفرد.

    وفي هذا النمط تتسم العلاقة بين الأفراد بعدم الوضوح، ولكن يستطيع الأفراد التفاعل مع بعضهم بحرية، ويمكن تشبيه هذا النمط بالسوق الحرة متنوعة الموارد. فالوصول إلى المعارف سهل جدًّا، عدا عن تنوع تلك الموارد، والكاسب الأكبر في هذا النمط هو الفرد الذي يستطيع الاستفادة بشكل كبير من الموارد والمعارف القائمة والفوز على منافسيه، ويعتمد معنى الحياة فيه على مبدأ تحقيق الذات.

      وبحكم ضعف التشبيك في هذا النمط، يُمنح الأفراد مساحة حرة وتنافسية ينفتحون فيها على العديد من الخيارات، ولكن تبقى هذه المساحة التنافسية الحرة معرضة إلى إمكانية احتكار أحد الأفراد لإمكانياتها أو وضع حدود على ما يملك.

    وعلى عكس النمط التراتبي، يمتلك الأفراد في هذا النمط حرية في التفكير والاطلاع على المعارف والاتصال مع الآخرين.

    ويتسم النمط الفرداني بعدم تدخل الناس في شؤون بعضهم بعضًا، إضافة إلى أنه يتسم بعدم اليقين وازدياد نزعة التأكيد على مبدأ تحقيق الذات، فعندما تضعف الشبكة، تصبح جميع الخيارات مفتوحة مما يقلل من درجة اليقينية ويعزز التشكيك في المبادئ الأساسية التي قد يستند إليها البعض في الأنماط عالية التشبيك، ومع عدم وجود مركز محدد في هذا النمط الثقافي، يصبح كل فرد مركَزًا في العالم.

    وبعد هذا التفصيل عن أنماط الحياة التي تحدثت عنها دوغلاس لا بد من الإشارة إلى أن هذه الأنماط الاجتماعية لا توجد منعزلة عن بعضها بعضًا في مجتمعات متفرقة، بل إن المجتمع الواحد قد يتحقق فيه عدة أنماط اجتماعية، كأن يكون المجتمع أقرب للنمط الاجتماعي التراتبي، ثم تظهر فيه أوساط وطبقات ذات نزعة فردانية، وهو ما يعمل على خلق نوع من الصراع الاجتماعي بين هذه الأنماط، وحدوث تغيرات على مستوى الفرد بسبب حدوث تغيرات وجدليات ضمن الأنماط الاجتماعية.

وترى دوغلاس أنه لا يمكن النظر للفرد باعتبار أنه يتحرك ويقرر بشكل حرّ بمعزل عن واقعه الاجتماعي، وأنّ إكراهات الواقع الاجتماعي على الفرد لا يتبناها قهرًا، وإنما تكون متلائمة مع حاجاته، والواقع الاجتماعي يكون جزءًا من اجتهادات الأفراد.

    وتسهم الجماعة باعتبارها مؤسسة في تنظيم المعرفة لأفرادها، كما تسهم في صياغة التفريقات والتصنيفات والرتب داخل الجماعة أيضًا؛ مثل الاختلاف بين القيادة والأتباع، الرجال والنساء، وبالتالي تصيغ شكل العلاقة فيما بينهم.

    والمؤسسات الجماعية هي جماعة بشرية تحظى بشرعية ما لوجودها، ولا بد من أن تصيغ المؤسسة شرعيتها من أهداف ومصالح تحققها، ولا بد من أن يوجد سبب لوجودها، وإلا تآكلت شرعيتها. فلكي تقدم المؤسسة أفكارًا يراها أفرادها صحيحة، ينبغي أن تكون ذات فائدة لهم وللمجتمع.

     لذا ينزع الفرد للخروج من الجماعة عندما تزداد التكلفة والتضحيات التي يقدمها في أثناء وجوده في الجماعة في مقابل المنافع والمصالح التي يحققها معها؛ أي عندما يصبح وجوده فيها مكلفًا له ومن دون مقابل.

    هناك عدة أسباب تدعو الأفراد للانسحاب من الجماعة، مثل ضعف الجماعة في مواجهة الخارجين عنها، وفي تعاملها مع الصعوبات والمشاكل المختلفة بطريقة متشابهة، أو بسبب ضعف القيادة.

     لكن هذا الانسحاب من النمط التراتبي هو في حقيقة الأمر انتقال، أي انتقال الفرد من النمط التراتبي إلى النمط الفرداني، وهو على صراع معه لأنه يفتح فرصًا جديدة أمام الأفراد الخارجين عن الأنماط الجماعية.

    والصيرورة التي تسير فيها الفردانية تتشكل عادة في غفلة عن أصحابها، فتنشأ عنها كيانات بشرية فردية وجماعية، وتنسج فيما بينها روابط اجتماعية ذات طبيعة جديدة، تقوم على مركزية الفرد وأولويته في مقابل الجماعة.

    وتبرز النزعة الفردانية عندما يحصل توتر عند الفرد بين ما ينتظره الآخرون منه، وبين ما ينتظره هو من نفسه، وأين الأولوية بين كلا الأمرين. وتعبر الفردانية عن صيرورة تحرر الأفراد من هيمنة الكيانات الجماعية ومرجعية الموروث الاجتماعي، وعن رفض التعامل مع القيم الاجتماعية باعتبارها قيمًا آتية من أعلى؛ بل هي نتاج التفاعل المشترك بين الأفراد بما يلائم رغباتهم، وهي تنتج بشكل أساس مع تآكل المؤسسات الاجتماعية والكيانات الجماعية القائمة وضعف شرعيتها، وبروز الفرد ككيان مستقل.

    وتعدل النزعة الفردانية من نفسها، وتسعى إلى التوافق مع البيئة المحلية والواقع الاجتماعي القائم، فهي تعبر عن إمكانية قيامها في واقع اجتماعي محدد، وبالتالي هي لا تفرض نفسها فرضًا، بل تتكيف مع هذا الواقع وتحاول تحقيق أكبر قدر من المكاسب.

  وهناك عدة تجليات للنزوع الفرداني، فقد تتجلى من خلال اعتبار الفرد أن حياته هي مسار شخصي فردي يخصه وحده بالدرجة الأولى وليست أمرًا مرهونًا بالمجتمع، أو قد تظهر في الحياة العائلية عند تحول تصورات الفرد عنها ونزوعه نحو التنصل من الأدوار الاجتماعية المتوقعة منه، وتتجلى في التدين من خلال بروز تدين شبابي يتجه نحو تشكيل خياراته وتصوراته الدينية الخاصة بمعزل عن التقاليد والموروثات.

*** *** ***

بعد هذا التقديم النظري الضروري لفهم ما يحدث، سنغوص أكثر في أزمة المجتمع المحافظ (والتي تتطابق هنا مع النمط التراتبي)، منطلقين من تحليل فكرة المحافظة الاجتماعية ذاتها.

الفكرة الأساسية التي تقوم عليها المحافظة الاجتماعية هي فكرة الأمان؛ أي تحقيق الأمان النفسي والاجتماعي للفرد، وكي يتحقق ذلك ينبغي على الفرد أن يمتثل للمعايير الموضوعة كي يتحقق هذا الأمان، وفي المقابل يُنظر إلى ما هو خارج معايير المجتمع المحافظ بوصفه ممارسات تؤثر سلباً على الأمان النفسي والاجتماعي للفرد.

لذلك يعتبر البعض أن القيود التي يفرضها المجتمع المحافظ على الفرد هي محض قيود اعتباطية وغير منطقية، ولا تعمل إلا على تضييق حرية الفرد والحدّ من إمكاناته، ولكن الأمر يحتاج إلى منظور مركب لفهمه.

فلنأخذ الزواج مثالاً على ذلك، عندما يدخل أحدهم في علاقة عاطفية فردية مع طرف آخر، أي خارج نطاق الزواج عن طريق العائلات (وهي ليست على نمط واحد) فإنه يحقق جانباً من حريته وفرديته، ولا يكون الأهل/ المجتمع حاكماً بالنسبة له في هذه الخطوة. لكن مثل هذه الخطوة قد تتضمن الكثير من المشاكل، كأن يكون أحد الطرفين غير مؤهل عاطفياً أو مادياً للعلاقة، أو أن لا يكون جاداً فيها، أو أن يخادع أحدهما الآخر أو أن تفشل العلاقة لأي سببٍ كان. وهذا سيؤدي في المقابل إلى أذى نفسي فظيع على أحد طرفي العلاقة.

بمعنى أن من يدخل في تلك المساحة فهو يطلق العنان لفرديته ولكن يبدي استعداداً للتضحية بشيء من أمانه النفسي.

أما الزواج عن طريق الأهل فيمنع هذا الشيء، نعم هو لا يحتوي على المغامرات التي يتضمنها النمط الأول، لكنه يستطيع أن يضمن لك قدراً من الأمان النفسي، فأنت لا تدخل للعلاقة باسمك فقط، بل باسم عائلتك وعائلة الطرف الآخر، وهو ما يضمن الكثير من الجدية ويقلل من احتمالية الخداع والنزوة، وتستطيع أن تكون واضحاً في خياراتك وبما تريد وما لا تريد، وفي حال لم يرق لك الأمر بإمكانك الانسحاب بكل بساطة من دون أن يتأذى أحد الطرفين.

ولهذا يفضل المجتمع المحافظ الخيار الثاني لأنه يضمن تحقيق الأمان النفسي والاجتماعي للفرد، ولكن هذا لا يتحقق دائماً، ففي بعض الأحيان تتحول المعايير المفروضة إلى معايير مطلوبة لذاتها، لا بد أن يؤديها الأفراد حتى لو لم تعد تتلائم مع الظروف الحالية، وهذا يعود إلى سمةٍ أخرى في المحافظة الاجتماعية، وهو الحفاظ على النمط.

فالمجتمع المحافظ يميل إلى الحفاظ على نفسه كما هو، ويدعِّم استقراره وثباته، لأن الاستقرار والثبات هما عماد الأمان النفسي والاجتماعي، ولكن عندما تصبح المعايير اعتباطية فإن ذلك يضر هذا الأساس الذي يسعى لتحقيقه المجتمع المحافظ.

وتتعاظم الأزمة مع بروز أنماط اجتماعية تتسم بالفردانية وتعمل على جذب الشباب نحوها، وهي مختلف البيئات التي لا تحظى على سيطرة العائلة وتتسم بدرجة عالية من تحقيق الفردية والرغبة، مثل مواقع التواصل الاجتماعية والبيئات الاجتماعية المفتوحة مثل الجامعة أيضاً.

وعند حدوث ذلك، أي عند بروز الاعتباطية وشعور الأفراد بالظلم تجاهها، وتوجه فئة نحو التمرد على هذه المعايير، وفئة أخرى نحو إصلاحها، يقف المجتمع المحافظ على ثلاثة خيارات هي:

1-     تغيير الخطاب وأساليب التربية (وهذا يحتاج إلى طرح إصلاحي قلما نجده اليوم)؛

2-     احتواء الحالة وتقبلها (وعندما يحصل ذلك يخسر المجتمع جزءاً من سماته الأساسية)؛

3-     إقصاء الفرد (وهو ما يحدث عادةً، والذي يعزز من المشكلة ولا يحلها).

*** *** ***

ملخص الأمر هو أن البيئات المحافظة اليوم لم تعد تدرك متطلبات الشباب الذي بات مفتوحاً على بيئات أكثر فردانية وانفتاحاً، بحيث أصبح أكثر قدرة على الاطلاع بل وممارسة أنماط حياة أخرى جديدة بعيداً عن متطلبات المجتمع المحافظ.

ومن دون فهم ما يحدث، واتخاذ الخطوات المناسبة للتعامل مع ذلك، ستستمر حالة انسحاب الشباب من البيئات المحافظة. بالطبع لا يمكن القول بوجود إمكانية انتهاء المجتمع المحافظ، فهو في النهاية ينبع من حاجة إنسانية عميقة، وهي الشعور بالأمان والحميمية العائلية. لكن ما يمكن أن يحصل هو تنازل المجتمع المحافظ عن مجموعة من خصائصه الأساسية، كما هو الحال في البيئات الغربية المحافظة.