عالمية الدعوة و قضية اللغة

209

تعتبر قضية اللغة من القضايا المهمة التي مازالت تحتمل المزيد من التأمل والتحرير والضبط، إذ تتكرر الإشارات والتنبيهات على أهمية معرفة العربية وأهمية إتقانها لفهم الشريعة ومصادرها، واعتبارها عاملاً أساسياً جامعاً عند الحديث عن أيّ محاولة جادة للوحدة الثقافية بين المسلمين. وفي هذا السياق تبرز مسألةٌ خطيرة لابد من معالجتها بجرأة وأناة لما يترتب عليها من واجبات ومسؤوليات مضيّعة في حياتنا الفكرية والعملية. وتتمثل هذا المسألة في أنه لابد من التنبيه على قضية الدعوة والبيان وإقامة الحجة على الناس تحقيقاً للعدل الذي كتبه الله سبحانه على نفسه: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15].

فمن الحقائق الدينية المعلومة لدى الخاصة والعامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل للناس كافة، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، وأنه أرسل رحمةً للعالمين. ومن الحقائق الدينية المعلومة بالضرورة أن القرآن الكريم عربي، وأنه نزل بلسان عربي مبين، فلا بد لمعرفة معاني القرآن ولمعرفة مراد الله سبحانه من آياته وأحكامه، لابد من معرفة لسان العرب ومعرفة تصاريف استعمالاتهم للعبارات والتراكيب، حتى أن الإمام الشاطبي يقرر أن كل ما لا تفهمه العرب من القرآن فليس من الشريعة، ويفوت المرء من معرفة القرآن بقدر ما فاته من معرفة كلام العرب.

ومن الحقائق الدينية المعلومة كذلك أن الله تعالى أراد أن تقع الحجة على الناس ببيان يفهمونه وهديٍ يدركون معانيه {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة} [الأنفال: 42]، {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4]. وقد امتنّ الله سبحانه على العرب أنه أرسل إليهم رسولاً {من أنفسهم} يعرف طباعهم ويفهم طبيعتهم ومواضع حساسياتهم فوصفه الله تعالى بأنه: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128].

ومن جهةٍ أُخرى، فإن من الحقائق المعلومة أن نسبة من يفهمون العربية من سكان الأرض وهم {الناس كافة} لا تعدو واحداً في المائة على أحسن تقدير. وهنا لابد من سؤال: ما هي الوسائل التي يجب على المسلمين في كل جيل وفي كل عصر اتباعها ليؤدوا مهمة البلاغ المبين؟                                        

إن طرح هذا السؤال لا يأتي من قبيل الترف والسفسطة وإنما يأتي في إطار الاستجابة الواعية للمسؤولية التي حمّلها الله سبحانه لأمة القرآن بقوله تعالى: {وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تسألون} [الزخرف: 44]. ولعل من البداهة أن ننظر في الوسائل التي اتبعها المسلمون لتحقيق البلاغ المبين بين الأمم والشعوب التي أُرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم ومنهم من لا يفهم لغته ولا يدرك من معاني قرآنه شيئاً؟

والجواب على هذا السؤال على بساطته لابد له من تحرير وضبط، رغم أن المرء يحسبُ أن الأمر كان على درجةٍ من البداهة بحيث لم يجد من رواة الأخبار اهتماماً كافياً. فرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بكتبه ورسله إلى أربعة من ملوك عصره ممن لا يتكلمون العربية وهم هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي، إلا أنه لم ترد تفاصيل الحديث عن الترجمة والترجمان إلا في حديث هرقل مع أبي سفيان. والمهم في الموضوع أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هذه الكتب بالعربية إلى من يتحدث بغير لسانها ثقةً ومعرفةً بوجود الترجمة والمترجمين. فكتبه ورسائله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك عصره تشهد أن الحجة تُقام برسالةٍ مترجمةٍ وبيانٍ مترجم.   

روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركبٍ من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاهد فيها أبا سفيان وكفار قريش. فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه (إلى آخر الحديث)… وأفرد البخاري في صحيحه باباً لما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها، لقوله تعالى: {فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين}. وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا بترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم…} الآية. وذكر البخاري في كتاب الأحكام عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود “حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه”. وروى البخاري في كتاب الجزية والموادعة عن جبير بن حية قال: ندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال ليكلمني رجل منكم، فقال المغيرة سل عما شئت الحديث.

ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى لا يمتن على عباده في كتابه وعلى لسان أنبيائه بما يطالبون بإلغائه والبعد عنه والتحرج منه، فإذا اعتبر الله سبحانه اختلاف الألسنة والألوان من آياته الدالة على تمام الحكمة وتمام القدرة  كان في ذلك دلالة واضحة على أنه لابد من التعامل مع ظاهرة التعددية اللغوية وقبولها والتعايش معها في إطار ثقافي يعترف بهذه التعددية ويبني عليها ليؤصل التعارف وينفي الحرج والعنت عن الناس وهو يدعوهم إلى شريعة الرحمة. ولقد كان الجيل الأول من المجاهدين الذين ضربوا في الأرض لنشر الهدى والعلم مثالاً لابد من دراسته وكشف آليات الاتصال عنده؛ إذ لما اتسع سلطان المسلمين ومكّن الله لهم في الأرض واختلط المسلمون بشعوب وأمم مختلفة، كانت الترجمة والمعايشة هي وسيلة الدعوة لفتح العقول والقلوب لحقائق الإيمان وقيم الإسلام ولم تكن قضية جواز الترجمة مطروحة أصلاً إلا من جهة خصوصية بيان القرآن الكريم، أما أداء بعض الشعائر كالأذان والصلاة والخطبة بغير العربية لمن لا يستطيعها فتحدث فيه الأئمة لينفوا الحرج.  ولقد كانت العربية هي لغة الثقافة ولغة الحضارة، ولم يجد المسلمون حرجاً ولم يضيقوا بوجود اللغات الأُخرى من فارسية وتركية وهندية وغيرها تعايشت في ظل التسامح والتعارف ونقلت معاني أساسيات العقيدة والقيم والأحكام إلى كل لغات الشعوب الإسلامية.

إنه لابد للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم أن يبحثوا هذه القضية بما تستحقه من جهد وتحليل وبحث لوضع وتأصيل خطة ومعيار للترجمة وكيفيّتها وما يكتنفها من أمور لتكون البيان المبين الذي يقيم الحجة على الناس ويقطع أعذارهم. ولا يغنيهم في هذا أن يشيدوا بفصاحة القرآن وإعجاز القرآن وجمال تعابيره وصوره وتشبيهاته واستعاراته وإشراق بيانه ليعلنوا في نشوة الاستمتاع بلغة القرآن شعار “أن الترجمات لا تغني شيئاً”. وراجع إن شئت في هذا الباب كتاب “كيف نتعامل مع القرآن” للشيخ الغزالي رحمه الله.

إنه لابد من الإشارة إلى وجود هذه الثغرة في حياتنا الثقافية ومن ثم لابد من فتح ملف هذه القضية الكبيرة التي تتصل بصلب عقيدة المسلم وتصوره عن مهمته ودوره في المجتمع الذي يعيش فيه. وعلى سبيل المثال يشتكي بعض إخوتنا من المسلمين الأمريكيين أن الكتب التي تتحدث عن الإسلام بالإنكليزية لا تستحضر ثقافة وروح أساليب ومصطلحات المخاطب ولا تستعمل لغته التي يفهمها أو النموذج العقلي الذي يألفه ويرتاح إليه، فتغدو هذه الكتب غير مفهومة ومحدثة لبعض التشويش والاضطراب، بالإضافة إلى أن هذه الكتب تتحدث عن أمور ومشكلات مستوردة لا تتعلق بحقيقة ما يعانيه أو يهتم به إخوتنا الأمريكيون. ويؤرق هؤلاء الأخوة أن الأمر يُعرض عليهم بصورة أن الفهم للإسلام لا يمكن إلا بتعلم العربية وإتقانها، بكل ما يحمله هذا الاقتراح من عبء وجهد ووقت لا يملكونه.

وما يزيد المشكلة تعقيداً أنه ليس هناك جهد على مستوى خطورة المهمة لتطوير تعليم اللغة العربية، وليس هناك كتب مناسبة أو أدوات متخصصة لأداء هذه الأمانة. ويكاد المرء يذهل من غياب هذا الأمر ومحدودية الجهود المبذولة فيه لدعوةٍ عالميةٍ حمَل الله أتباعها مهمة القيام بالبلاغ المبين والشهادة على العالمين.

كما يزيد الأمر خطورةً زهد العاملين ومن يُصنّفون في زمرة الدعاة بقضية اللغة، فيكاد الواحد منهم يمضي السنوات الطويلة في بعض البلاد غير العربية دون جهد حقيقي لتطوير لغته وفهم منطق وثقافة القوم الذين يعيش بينهم ليتمكن من تحرير معاني الإسلام ورسالته العالمية الخالدة بلُغةٍ سهلة قريبة بعيداً عن العبء الثقيل لخصوصيات التاريخ والثقافة العربية والشرقية على وجه العموم.

وفيما يأتي نطرح بعض الاقتراحات في هذا الباب عسى أن تكون على الأقل فاتحةً ومقدمةً للحوار الجدّي التفصيلي في هذا الأمر الحسّاس:

  • لابد من فتح ملف هذا الموضوع الخطير ليتم البيان المبين وتقوم الحجة على العالمين.
  • لابد من البدء بإعادة صياغة حقائق العقيدة الإسلامية بشكل بسيط مباشر يربط حقائق العقيدة بالتغيير المطلوب على مستوى النفس البشرية والعلاقات الاجتماعية والتفاعلات مع الكون والحياة. وقد يكون في ما ذكره الإمام الشاطبي بعض العون على تحرير هذه القضية وخدمتها. فقد ذكر الشاطبي في كتاب المقاصد من “الموافقات” أن في اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالّة على معان نظران أحدهما: من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة دالّة على معان مطلقة وهي الدلالة الأصلية. والثاني: من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مقيدة دالة على معانٍ خادمة وهي الدلالة التابعة. فالجهة الأولى هي التي تشترك فيها جميع الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ولا تختص بأمة دون أُخرى. ويقرر الإمام أن أهل الإسلام اتفقوا على جواز ترجمة وتفسير معاني القرآن على جهة الدلالة الأصلية، أما الوجه الثاني من الدلالة فهو كالتكملة والتتميم ولا يمكن ترجمة الكلام باعتبار هذا الوجه.
  • لابد من تحرير حقائق العقيدة وتخليصها من العبء التاريخي لواقع المسلمين والمعارك الكلامية والخلافيات والجدل بين الفرق عبر العصور.
  • لابد من تحرير قيم الشريعة وتخليصها من مؤثرات الواقع المعاصر للمسلمين ومشكلاتهم الداخلية والخارجية.
  • لابد من استيعاب الدراسات اللغوية ومنهجية تعليم اللغات وارتباطها بالثقافات وعادات التفكير عند مختلف الأمم.
  • لابد من تطوير طرائق تعليم العربية وإخراج المحاولات المتقدمة في مخاطبة جميع شرائح المجتمع يشكل يتناسب مع طبيعة كلٍّ منها.