فتور الشريعة

264

اسم الكتاب: فتور الشريعة

اسم الكاتب: أحمد عاطف أحمد

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث (2016)

عدد الصفحات: 270

فتور الشريعة

من أبرز الشخصيات التراثية التي أمدت التراث بنصوص قديرة ومؤثرة في أصول الفقه والفقه السياسي هي شخصية الإمام الجويني. وبالإضافة لما كتبه الجويني من نصوص في العلوم الشرعية، فإنه يعتبر شخصية مهمة لواقعنا المعاصر، لأنه تعرَّض لأحد أكثر أسئلتنا إلحاحاً اليوم، وهو سؤال: ما موقع الشريعة في عالم اليوم.

وقد أجاد الدكتور أحمد عاطف في وصف هذا الوقع المعاصر من خلال تسمية عنوان كتابه بـ”فتور الشريعة”، وكأنه يشير إلى فتور أدوات الشريعة وضعفها في عالم اليوم وعدم اتساقها مع العالم المعاصر، وحتى يلج المؤلف إلى هذا الموضوع، حاول أن يقدِّم قراءة تاريخية لسؤال “فتور الشريعة” في التراث، لينتقل للإجابة عن هذا السؤال في السياق المعاصر.

عودة للجويني، وحتى لا نستغرق كثيراً في الاستعرض التاريخي للسؤال، واجه الجويني قضية حرجة في عصره، وهي أن ممثلي الشريعة في المجتمع الإسلامي؛ أي العلماء، لم يعودوا قادرين على أداء دورهم كما يجب، فقد ضعفت أدواتهم التشريعية، ولم يعودوا قادرين على الاجتهاد وتوليد المعرفة الدينية والشرعية اللازمة.

ومن جهة أخرى، وجد أيضاً حالةً من الانحطاط السياسي والمجتمعي نتجت عن ضعف الدولة وهشاشة ثغورها وأنانية ولاة أمرها، أي أن الأزمة التي شهدها هي أزمة سياسية ودينية في الوقت نفسه، وقد دعاه هذا الأمر للتفكير بمخرج عن هذا الواقع والذي سماه “بشغور الزمان”، أي شغور موقع السلطة السياسية والسلطة العلمية الشرعية.

وفي لحظة “فتور الشريعة” التي شهدها في عصره، قام الجويني بتقديم حل لهذه الأزمة، وتتلخص في العودة لمبدأ الأمة، وأنها مستودع الشريعة والدين والمجتمع، والتأصيل لرؤية مقاصدية للشريعة قادرة على أن تحمل الأمة في لحظة وَهَن العلماء.

وقد واجه الغزالي أزمة مشابهة لذلك، ففي كتابه “إحياء علوم الدين”، يتوجه الغزالي لنقد علماء عصره، لما أصابهم من رياء وحب للجاه وتودد للسلاطين، وهو يقدم في الإحياء حلاً مبنياً على التزكية ورياضة النفس ومعالجتها من أمراض القلوب، وتثبيت أصول الشريعة والعلم. وقد برزت في ثنايا كتابه ملامح لرؤية مقاصدية للشريعة.

ونجد لدى كل من الجويني والغزالي تأكيداً على مركزية المقاصد، أو المرتكزات الدينية، باعتبارها الطريق لتجاوز الأزمة. وبمعنى آخر، أكدا على أولوية الإصلاح الديني والاجتهاد في إعادة ترميم ما هُدِم.

وقد ظهرت أزمة فتور الشريعة على نحو أشد في السياق المعاصر، مع ظهور التحديث والاستعمار وتغير موقع الشريعة في المجتمع، وهنا يقترب المؤلف من طرح وائل حلاق في كتابه “الدولة المستحيلة”، وتحديداً في الجزء الذي تحدث فيه حلاق عن أزمة الشريعة في الحالة المعاصرة.

تعود أزمة الشريعة اليوم إلى عاملين أساسيين؛ خارجي وداخلي، يتمثل الأول في الاستعمار الأوروبي، بينما يُعبر الثاني عن تكلس أدوات الشريعة وفتورها.

بالنسبة للعالم الخارجي، فقد أدى دخول الاستعمار الأوروبي على العالم العربي والإسلامي، مع إحلال مؤسسات ونُظُم الحداثة في المجتمع، أدى ذلك إلى تفكيك النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت تصوغها منظومة الشريعة، مما أفقدها فاعليتها واستقلاليتها.

ومع مزاحمة نظم الحداثة ومؤسساتها لمنظومة الشريعة، أدى ذلك لحصول فجوة بين الواقع الذي يعيشه المجتمع والمنظومة الفكرية التي تقدمها الشريعة؛ فالواقع الجديد يعود في أصوله الفكرية للتراث الفكري الحديث العقلاني الغربي، والذي تم إحلاله بطريقة غير ملائمة مع الواقع العربي والإسلامي، وهو ما زاد الأمور تعقداً وجعل الواقع أكثر إبهاماً، وهذا الواقع الجديد لا يتسق مع الشريعة لاختلاف أصوله عنها.

ومن جهة أخرى، وفيما يخص العامل الداخلي، لم تستطع الشريعة التكيف مع هذا الواقع الجديد وتقديم نفسها كبديل في الواقع، وذلك لضعف أدواتها وتكلسها، فلم تحصل عملية تجديد حقيقية تجابه تمدد المشروع الحديث لتتمكن من التواؤم معه وإثبات وجودها في هذا السياق الجديد.

وقد ازداد الأمر سوءاً مع انحسار دور السلفية الإصلاحية التي لاحظت “فتور الشريعة” المعاصر وحاولت تقديم إجابات جديدة قادرة على الاتساق مع هذا الواقع الجديد، وهو ما أدى إلى بروز المقاربات التوفيقية لدى محمد عبده، والاجتهادات الجديدة عند محمد رشيد رضا، ولكن لم تتكلل هذه الاجتهادات بالنجاح خاصة مع صعود السلفية المحافظة وخفوت نجم السلفية الإصلاحية. ويعد المؤلف أن نخب السلفية الإصلاحية هي من النخب التي واجهت سؤال “فتور الشريعة”، وأن الطريق الذي سارت عليه هو ما ينبغي استكماله.

فالمؤلف ينتصر لفكرة أن الشريعة قابلة للتجديد ولإعادة التأويل، وأنها يمكن أن تحقق وجودها في المجتمعات الإسلامية اليوم إذا تمت عملية الإصلاح هذه، وهذا الأمر هو الذي سيؤدي إلى استمرارية حضور الشريعة في المجتمعات التي دخلت في الحداثة.

هذه النتيجة بطبيعة الحال لا تعتبر إسهاماً جديداً في الفكر الإسلامي المعاصر، فهناك العديد من الكتّاب والمفكرين قد تناولوها وفق طروحات مختلفة فيها، ولكن تكمن قيمة هذا الكتاب في التحليل الذي قدمه لفتور الشريعة والجدل التاريخي بين المعتزلة والحنابلة وغيرهم في السياق التراثي، ثم تحول هذا النقاش مع صدمة الحداثة في العالم العربي والتي تمثلت لدى السلفية الإصلاحية.

في اعتقادنا أن إضافة مهمة في كتاب “فتور الشريعة” متمثلة في عنوان الكتاب ذاته، فمحاولة التفكير بالشريعة باعتبارها تمر بمراحل من الفتور والنشاط هو أمر جدير بالانتباه، بمعنى أن الأمر لا يتم بتحقق كامل للشريعة أو بقطيعة شاملة معها، بل المسار التاريخي الذي تمر به الشريعة هو مسار من الفتور والنشاط، بين الحضور الكثيف والضمور، أو بين تجليها في تفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية والثقافية وبين غيابها وانحصارها في دوائر محددة.

إن التفكير بالشريعة من هذا المنظور هو أمر أكثر مرونة من التعميمات المطلقة أو التفكير المبني على القطيعة بين المراحل التاريخية، وهي التي تتجلى كثيراً عند المفتونين بفكرة القطيعة الغربية مع الدين في أوروبا، وكأن الدين قد ذهب بلا عودة في الغرب، وبالتالي تجاهل حضور الدين هناك في بعض المساحات، فالأمر ليس قطيعة كاملة بل تغير في شكل الحضور.

وهذا الأمر يمكن البناء فيه وذلك من خلال الدخول أكثر في تفاصيل هذا النقاش، والبحث في مواضع غياب الشريعة في المساحات المختلفة في المجتمع، والدخول في سبل فتح المجالات أمام الشريعة للدخول فيها، من خلال النقاش التفصيلي والمتخصص في الموضوع، فالبقاء في دائرة النقاش النظري العام جيد في تحديد طبيعة المشكلة في البداية، لكن المكوث فيه من الصعب أن يؤدي إلى نتائج عملية ملموسة.