نظرية التقريب والتغليب

1٬350

نظرية التقريب والتغليب هي نسق علمي منهجي يقوم على فكرة أساسية وهي أننا حين نفتقد اليقين والكمال نتمسك بما هو قريب من درجة اليقين والكمال، وإذا لم تتأت درجة التقريب هذه صرنا إلى التغليب وهو الأخذ بما غلب صوابه واحتمال صدقه وصحته وبما غلب من المقادير والأحوال والأوصاف. وهذه الفكرة تسري في العلوم كافة وفي مجالات الحياة النظري منها والعملي وخاصة نطاق العلوم الإسلامية (الشرعية).

ويجد الباحث معالم هذه النظرية وآثارها في مختلف جوانب العلوم الشرعية وقضاياها وذلك بشكل إشارات وتنبيهات أو طرائق استدلال أو تطبيقات متنوعة متباعدة. ولكن النظر فيها مجتمعة وربط تطبيقاتها بعضها ببعض والنظر في الأساس العلمي الذي تستند إليه يكشف عن وجود نظرية شاملة كاملة.

وقد استعمل العلماء قديماً مصطلحات الظن وغلبة الظن والترجيح للدلالة على معان تحوم حول معان مشابهة لمعاني مصطلح التقريب والتغليب ولكنها لا تصل في مزايا محتوياتها ودلالاتها ودقتها وتطبيقاتها إلى أفق الوضوح الذي يتمتع به المصطلحان (التقريب والتغليب) بالإضافة إلى رفع بعض التشويش الحاصل من اشتراك معنى الظن؛ فالقرآن يذم الظن وينهى عنه وقولنا إن الأحكام العملية مبنية على الظن والعمل بالظن واجب هو مظنة الالتباس.

تطبيقات التقريب والتغليب في العلوم الإسلامية

علوم الحديث طافحة بتطبيقات التقريب والتغليب، فعلم الجرح والتعديل الذي يمثل الميزان في قبول الروايات وردّها مبنيٌّ على النظر فيما غلب على أحوال الرواة من الحفظ والضبط أو موافقة آرائهم ومروياتهم لروايات الثقات أو غلبة صلاح عصرهم وزمانهم إذا كانوا من المستورين. 

وأما مسألة تصحيح الحديث وتضعيفه فهي أحكام يطلقها العلماء مبنية على قواعد وضوابط اعتمدوها وهي في جملتها أحكام تغليب وتقريب كما قال الحافظ بن حجر: “إصابة الظن بخبر الصدوق غالبة ووقوع الخطأ فيه نادر، فلا تُترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة”.

فدرجة صحة الحديث تتبع مرتبة الرواة في العدالة ومنـزلتهم في العلم والحفظ والضبط، وكذلك تتعلق درجة الحديث بعد الرواة فإذا بلغوا حداً من الكثرة وقع اليقين بخبرهم. وقد رتب العلماء درجات الحديث بشكل روعيت فيه اعتبارات مختلفة ولكنها جميعاً تقوم على مبدأ التغليب في النظر إلى أحوال الروايات والرواة.

وقد أكثر المصنفون من خبر الآحاد وطال كلامهم فيه وقد استعرض المؤلف جملة من الأقوال والردود وخلص إلى تحرير المسألة بشكل واضح ومنصف بعيد عن غلو التعصب والحمية للمذاهب والرجال فقولهم: خبر الواحد يفيد العلم لا بد فيه من معرفة المقصود بالعلم؛ فالعلم في آيات كثيرة من القرآن الكريم يدخل فيه كل ما كان عن تقريب وتغليب وتحرٍّ واحتياط يُقلل احتمال الخطأ.  وأما العلم بمعنى اليقين التام فالعلماء أوضحوا أن خبر الواحد قد يفيد العلم بهذا المعنى إذا احتفت به القرائن. والكثير من أخبار الآحاد يفيد العلم والقطع على وجه التقريب والتغليب، وإن أكثر ما صححه العلماء إن لم يكن مفيداً لليقين فهو مفيد للتغليب القوي ومفيد لدرجة التقريب.

التقريب والتغليب في المجال الفقهي

يرتبط الفقه بالحياة العملية ارتباطاً وثيقاً، ونظراً لتنوّع وتقلّب وتعقيد أمور الناس فإن أكثر قضاياهم لا تحتمل المبالغة في التشدد والاحتياط بقدر ما هي بحاجة إلى التسديد والمقاربة، حتى أصبح من المسلَّم به أن أكثر أحكام الفقه ظنّية وأن الحكم بغلبة الظن أصل الأحكام؛ فعندما يتعذر على الفقيه أن يجد لمسألته دليلاً مباشراً صريحاً أو أن المسألة يتجاذبها أكثر من دليل فإنه لا يلجأ -إن كان من أهل التحقيق- إلى إصدار الأحكام القاطعة وإنما يصوغ اجتهاده صياغة تقريبية كقوله هذا أقرب إلى الصواب أو الأشبه بالحق أو الأشبه بالسنة. ويتجلى استعمال الفقهاء للتقريب في الأوصاف حين يتعذر توفر الأوصاف المطلوبة لمنصب الخليفة أو القاضي أو المفتي أو الشهود، فليس هناك أحد يقوم بتعطيل هذه الوظائف والولايات حتى يتوافر الجامعون للشروط والأوصاف بل يعمد الفقهاء إلى التقريب ويأخذون أو يطلبون الأقرب فالأقرب من أصحاب هذه الأوصاف، وهذا المعنى هو الذي يعبرون عنه بقولهم “ما قارب الشيء يُعطى حكمه” أو “حكم الفرع القريب من معنى الأصل حكم الأصل”.

وكذلك استعمل الفقهاء التقريب في المقادير وقرروا أن التشديد والتدقيق في بعض الحالات هو تنطع وتكلف فأجازوا الخرص وأجازوا المقادير الضئيلة مما أصله حرام إذا كان في التنـزه عنه حرج، وقرروا أن المتعين في استقبال القبلة هو جهة الكعبة على وجه التقريب قدر الإمكان، وكذلك الأمر في تحديد المواقيت للإحرام فيما بين المواقيت المخصوصة حيث لا بد من اعتماد التقريب في معرفة المحاذاة ومكان الإحرام، وقد استعمل الفقهاء مبدأ التغليب حين تختلط الأمور وتتداخل الأشكال والنسب والمقادير، فقرروا أن الحكم للغالب من الأوصاف والأحوال وأن العبرة للغالب الشائع لا للنادر، وشاع قولهم النادر لا حكم له وحتى مسائل النية اعتبر فيها الفقهاء ما غلب من الباعث والقصد واعتبر الغالب في وصف السائمة لوجوب الزكاة إذا كانت ترعى أكثر السنة إذ “للأكثر حكم الكل” واعتُبر الغالب في وصف الحلال والحرام. ومن القواعد الفقهية المبنية على التغليب قولهم “العادة محكمة” وقولهم “إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت”.

وقد استعمل الفقهاء أيضا التغليب في مجال القواعد الفقهية المبنية على الاستقراء وقرروا أن القواعد الفقهية هي قواعد أغلبية بمعنى أنها تنطبق على غالب ما يشمله لفظها وصيغتها.

التقريب والتغليب في المجال الأصولي

إذا تجاوزنا الكليات التشريعية والقواعد الأصولية الكبرى ودخلنا في المباحث الأصولية التفصيلية والتطبيقية وجدنا مجالاً واسعاً للتقريب والتغليب.

ففي مجال دلالات النصوص وفيما وراء النص (الذي يحتمل معنى واحداً) فالدلالات ظنية وهي مبنية على التقريب والتغليب ورجحان بعض الدلالات على بعض بقرائن الإشارات والشواهد والأحوال وتتبع استعمالات العرب واستقراء المعاني. فالتقريب هو حمل الكلام على أقرب المعاني وأنسبها عندما يتعذر فهم الكلام على ظاهره وحقيقته.

 واستعمل الأصوليون التقريب والتغليب في القياس وخاصة في إثبات العلة ومسالك إثبات العلل وإثبات وجود العلة في الفروع بطرق غلبة الظن والمناسبة والشبه.

واستعمل الأصوليون التقريب والتغليب في الترجيح حيث بحثوا في مزايا الأوجه المتعارضة والحكم لمن غلبت مزايا دلالته أو تحقيقه للشروط وذلك بغلبة الظن، فجوهر العمل بالترجيح هو تقريب وتغليب ونظر في أوجه الترجيح والحكم لمن غلب منها.

أدلة النظرية وضوابطها

تدلّ آيات القرآن الكريم على وجوب العمل بما غلب على المكلف فهمه ومعرفته وبما رجح عنده أنه الأحسن والأقرب للتقوى والرشد والإصلاح، وكثير من الأحاديث تدل على معنى التقريب والتسديد والأخذ بظاهر الأمر وما غلب على الظن أنه يحقق العدل ويستوفي المطلوب.

يضاف إلى نصوص الكتاب والسنة التي تتناول قضية التقريب مباشرة كثير من الأحكام التي كان مبناها على الظن الغالب والقرائن والأمارات، مثل العقل الذي يوجب التكليف والنصاب الذي يستوجب دفع الزكاة والشهادات وأخبار الآحاد والأقيسة الظنية.

ويضاف إلى هذه الأدلة الإجماع المنعقد على العمل بخبر الواحد، والإجماع المنعقد على العمل بالترجيح والإجماع على صحة الاجتهاد الظني هذا بالإضافة إلى دليل البداهة والضرورة إذ لا يمكن الوصول إلى اليقين الذي ترتفع معه الاحتمالات كلها، فلا يمكن تعطيل النصوص ولاتعطيل المصالح والأعمال ولا بد من التقريب والتغليب والترجيح.

ضوابط العمل بالتقريب والتغليب

1- أن تكون المسألة مما يصحّ فيها ويقبل فيها التقريب والتغليب من المسائل العملية والفرعيات، فالأمور الشرعية التي لا يجوز فيها إلا القطع هي ثلاثة أمور؛ أصول العقائد والقرآن الكريم وأصول الشريعة ومقاصدها العامة. وفيما عدا الأصول القطعية فليس هناك مندوحة عن التقريب والتجويز في فهم آيات الله سبحانه وصفاته وأفعاله مع استحضار العجز {ولا يحيطون به علماً}. وكلّ ما ثبت فيه خلاف معتبر واستوت فيه أدلّة النظر فليس من الأصول التي لا يجوز الخلاف فيها ومن الغلط والتجاوز ادعاء القطع ولا قطع، وأكبر من هذا اعتبار المخالف لهذا القطع المزعوم ضالاً وآثماً.

2- أن يتعذر اليقين والضبط التام، فإذا أمكن اليقين والكمال والقطع فلا نتجاوزه إلى رخصة الظن، فإن الأصل لا يُلغى ويبقى مطلوباً على قدر الاستطاعة سواء ذلك في المقادير أو الشروط والأوصاف والشهادات.

3- الاستناد إلى دليل معتبر يناسب المسألة وينسجم معها فلا يعتبر التأويل البعيد والمتعسف أو ما يقع في النفس بدون دليل ويبقى القسم المعتبر أن لا ترجيح ولا تغليب ولا ظن إلا بدليل.

4- أن يكون الدليل مكافئاً للمسألة، فكلما كان الأمر أشد خطراً وأهمية لزم أن يكون الدليل مناسباً في القوة والصحة والرجحان، فالكلام في الحرام والموبقات غير الكلام عن اللمم والصغائر والكلام عن الواجبات يختلف عن المندوبات وفضائل الآداب، وقد جرى العلماء على التشدد أو التساهل في مدى قوة الظن للترجيح والتقريب تبعاً لنوع المسألة وخطورتها.

5 – ألا يعارض التقريب والتغليب ما هو أقوى منه، فإذا حصل العلم واليقين بطل الظن والتخمين، مثل حصول اليقين بالحسابات الفلكية التي تعارض الظن الحاصل بشهادة الآحاد، وكذلك القول بأقصى مدة الحمل فإن شهادة المختصين في الموضوع يقوم به من القطع وما يقرب من اليقين بما لا يقف له الظن الحاصل بالأقوال الظنية المخالفة.

6- أن لا يتسع حد التقريب كثيراً، فحدّ القرب ودرجة القرب ومقدار النقص المغتفر كل ذلك لم يرد فيه ضابط للتعيين والتحديد واكتفى الفقهاء بضرب الأمثلة مسترشدين بالقاعدة “ما لا يحدّ ضابطه لا يجوز تعطيله ويجب تقريبه” ومراعاة المقاصد ومآلات الأقوال والأعراف فيما يؤدي إلى الخصومة أو ما يغلب التسامح فيه.

تطبيقات جديدة لنظرية التغليب والتقريب

حصر المؤلف جهده في مفهوم المصلحة والمفسدة وبعض تصنيفاتها وبيّن أن معظم ذلك يعتمد على التقريب والتغليب.

فالمصلحة تعد مصلحة شرعية باعتبار غلبة النفع والصلاح في أمر ما، ولو خالطه بعض الضرر والفساد؛ والمفسدة كذلك تعد مفسدة إذا غلب الضرر والفساد رغم ما قد يوجد فيها من منافع ومصالح.  فليس هناك مصلحة إلا وفيها مفسدة، ولو قلت وليس هناك مفسدة إلا وفيها مصلحة لكان هذا صحيحاً أيضاً. فالمصالح والمفاسد مفاهيم مبنية على التغليب، فما غلب في محل كان الحكم له. وقد قرّر العلماء أن المصالح المحضة والمفاسد المحضة عزيزة الوجود، فالدنيا مبنية على الامتزاج والاختلاط بين المفاسد والمصالح ولا مجال لتمييز المصالح والمفاسد إلا بالتغليب والتقريب.

أما ترتيب المصالح فقد درج الفقهاء على التقسيم الثلاثي للمصالح ضرورية وحاجية وتحسينية ثم أدرجوا لكل مرتبة مكملات، ومنهم من جعل المراتب خمساً. ولكن وضع الحدود الفاصلة بين كل مرتبة وأخرى على درجة من الصعوبة لا يُسعف معه إلا الاعتماد على التقريب والتغليب وخاصة عند تعارض المصالح وتعارض المفاسد، فلا بدّ من تقديم ما يغلب نفعه ولا بدّ من تأخير ما يزيد ضرره. والحكم بغلبة النفع وسعته وامتداده وكذلك الحكم بزيادة الضرر وامتداده أمور تقديرية لا بدّ ولا مفرّ من الرضا بالتقريب والتغليب في كثير من الحالات.

معايير التغليب

وفي مبحث معايير التغليب بين المصالح والمفاسد المتعارضة، قرر المؤلف ما أثبته العلماء من أن الشريعة جاءت لرعاية المصالح وحفظها وجاءت أيضاً بترتيبات وأولويات المصالح، وذلك مبني على ضرورة النظر المصلحي إلى النصوص والأحكام الشرعية برعاية مقاصدها، ومبني كذلك على الأخذ بالتغليب بين المصالح والمفاسد المتعارضة وعدم الاعتماد على المنصوص من المفاسد والمصالح وحدها واعتبار المنصوص علامة ودليلاً على أنواع المفاسد والمصالح ومراتبها وليس حصراً في ذوات الأمور المذكورة.

 وأول معيار للتغليب هو النص الشرعي، فهناك تلازم بين الأحكام الشرعية والمصالح المرتبطة بها؛ فلكل حكم مصلحة تناسبه ولكل مصلحة حكم يناسبها، فالنص الشرعي آت وفق ما يحقق المصالح ويدفع المفاسد، ولأجل ذلك أصبح النص معياراً لمعرفة المصالح ومراتبها ومعياراً للتغليب والترجيح بين المصالح المفاسد المتعارضة. وإذا كانت هناك معايير أخرى لترتيب المصالح فهي أيضاً معتمدة على النصوص ومسترشدة بها.

والمعيار الثاني هو رتبة المصلحة بمعنى درجتها في سلم المصالح والمفاسد وذلك ابتداءً بالتقسيم الثلاثي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات وما قد يتفرع عنه من درجات، وإنما تُلحق المصالح والمفاسد بإحدى الرتب على سبيل التغليب، فيقدم عند التعارض ما كان أعلى رتبة سواء ما كان في جلب المصالح أو درء المفاسد.

والمعيار الثالث هو نوع المصلحة والمقصود بذلك انتماءها إلى الكليات: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، حيث تجري المفاضلة بين هذه الكليات والمصالح التابعة لها عند التكافؤ المرتبي فيقدم ما كان مصلحة للدين ثم النفس ثم النسل ثم العقل والمال عند تعارض مصلحتين ضروريتين أو حاجيتين أو تحسينيتين.  

والمعيار الرابع هو مقدار المصلحة بمعنى التغليب الكمي، فليس من الصواب تفويت الخير الكثير لوجود بعض الضرر، وتقديم المصلحة العامة على المصالح الخاصة عند تعارضها أمر مقرر معروف. والجزئي مهمل بالإضافة إلى الكلي، ورغم القاعدة المعروفة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح إلا أن العلماء قرروا أن المصلحة تُراعى لغلبتها على المفسدة.

والمعيار الخامس هو الامتداد الزمني، وهو النظر إلى الآثار المستقبلية المتوقعة، وذلك عند تعارض مصلحتين أحدهما لها امتداد زمني وأثر بعيد فيتحتم عند الموازنة تقديمها على المصلحة القريبة المحدودة بالزمن والتأثير، ومن ذلك السنّة الحسنة والسنّة السيئة والصدقة الجارية والبدع.

وبعد النظر إلى المصلحة وتغليبها بأحد المعايير السابقة أو أكثر تُقدم المصلحة الراجحة، فإذا فرض التساوي بين المصالح أو المفاسد من كل وجه صار المكلف إلى التخيير أو القرعة.

مبحث التغليب في فتح الذرائع وسدها

وفي مبحث التغليب في فتح الذرائع وسدها، بيّن المؤلف أن الذرائع هي وسائل تفضي إلى غايات ومقاصد، وتعظم الوسيلة بقدر ما تعظم المصلحة التي تحققها، وكذلك يعظم أمر الوسيلة المؤدية إلى مفسدة كبيرة، وكثير من المحرمات والواجبات إنما أعطى لها حكمها باعتبارها وسائل وأسباب وليس باعتبارها مقصودة لذاتها. والحكم بمنع أمر لما يفضي إليه من مفسدة مبني على درجة الاحتمال ونسبة الإفضاء وكل ذلك راجع إلى التغليب والموازنة بين ما يغلب على الحال من المصالح والمفاسد، فلا يجوز تعطيل المصالح الغالبة الوقوع خوفاً من ندور كذب الظنون، غير أن الحاجة إلى العمل بالتغليب تظهر أكثر ما تظهر في سد الذرائع لا في فتحها، وينبغي أن لا ينبني هذا على مجرد الهواجس والتخيلات بل يجب أن ينبني على توقعات راجحة قوية غالبية وليست قليلة أو نادرة.

هل الغاية تبرر الوسيلة؟

  تعرض المؤلف للخلفية التاريخية والسياسية لهذا الشعار والآثار السلبية لهذه الخلفية، ثم قرّر ما ذهب إليه العلماء من أن الوسائل تتبع أحكام المقاصد وقرر أن الغاية هي المصالح الشرعية المعتبرة وليس أهواء وغاية (طريقة ميكافيللي). وبهذا الاعتبار فإن بعض الوسائل غير المشروعة يمكن أن تباح بالنظر إلى غاياتها وذلك بحدوده وضوابطه كبعض وجوه الكذب المباح أو الغيبة المباحة وفداء الأسرى بالمال ودفع الظلم والعدوان.

حكم الأغلبية

وقد تناول المؤلف موضوع الأغلبية وناقش اعتبار الأغلبية مرجحاً أو قرينة للصواب أو ملزماً في الحكم والاتباع، وقد توصل إلى أن الأغلبية معتد بها في مواضعها وشروطها، وساق أدلة من القرآن والسنة والسيرة مستنداً إلى المضامين والدلالات ومبيّناً أن الألفاظ والعبارات متغيرة عبر العصور والاصطلاحات والصيغ لن تتوقف يوماً عن التقلب.

وقد ناقش المؤلف الاعتراضات والردود على اعتبار الأغلبية وبيّن أن القرآن أهدر الأكثرية للخبيث والباطل وليس في القرآن تفضيل مطلق للقلة على الكثرة؛ فالكثرة تقوي خبث الخبيث وتقوي طيب الطيب، فمن الغلط قطع الآيات التي وردت في ذم الكثرة عن سياقها وموضوعها والانتقال بها إلى صفّ المسلمين وجماعة المؤمنين ثم الانتقال إلى إهدار الكثرة مطلقاً، فالكثرة في الخير أفضل، ووقع تقديم حق الكثير على حق القليل عند عدم وجود مرجح أولى وأقوى.

وقد ناقش المؤلف حجج خصوم الأغلبية وبين أنه لا متمسك لهم فيما ذهبوا إليه في إهدار الأغلبية، وخاصة بتحليل دقيق لمعطيات مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وأحواله مع أصحابه وتصرفات الخلفاء الراشدين فيما وقع لهم من قضايا وبيّن أن لا متمسك لرد قول الأغلبية ولا معنى للشورى إذ أهدرت الأغلبية بإطلاق.

وفي بحث مستقل ناقش المؤلف مسألة الترجيح بالكثرة عند العلماء وبيّن أن الروايات التي تكثر رواتها أرجح وأن الغلط والسهو هو أبعد عن الكثرة وهو إلى الأقل أقرب، ورجح العلماء من الآراء ما كان مع الكثرة من العلماء لأن الأغلب أن يكون الصواب مع الأكثر، وتحرّج كثيرٌ من العلماء من عرض ما اقتنعوا به كراهة مخالفة الجمهور، مما يدل على الاعتداد بالكثرة عند انتفاء مرجح أقوى منها.

وفي مبحث العمل بالأغلبية تعرض المؤلف إلى تطبيقات عملية، وبيّن أن الأغلبية تحقق أكبر قدر ممكن من الصواب والسلامة من الخطأ وأن إهدار قول الأغلبية لقول الفرد هو خطأ أصولي ومنهجي ينبثق عنه مع الأيام ما لا يحصى من الأخطاء، وأن القول برأي الأغلبية يضمن مشاركة الأمة في التفكير في قضاياها وما يصيبها ويجعل الأمة أكثر انقياداً وأكثر حماساً للعمل والالتزام وتحمل تبعات ومسؤوليات القرار، والأهم من هذا أن الأغلبية هي العاصم من الاستبداد والتفرد، وأما مجالات العمل بالأغلبية فهي:

·      التشريع الاجتهادي العام حيث يجب أن يُعطى لقول أغلبية العلماء قوة الإلزام العملي والقضائي، أما علمياً فلا يلزم أحداً إلا بما اقتنع به.

·      الأمارة واختيار الممثلين والنقباء، فليس هناك طريقة معينة منصوص عليها بل إن الأمر متروك للمسلمين ليختاروا الكيفيات والجزئيات والتي تعتمد على الأغلبية والأكثرية.

·      تدبير المصالح والشؤون المشتركة بين الناس ويختلف مدى وسعة الأغلبية حسب طبيعة المصلحة وامتدادها، فالأمر اليسير يختص بأهله والعمل الجليل العام لا بد أن يشمل عموم الأمة وأغلبية المجالس المختصة.