دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين

817

اسم الكتاب: دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية للمسلمين

الكاتب: الدكتور عبد المجيد النجار

إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، (2005) (88 صفحة)

مراجعة الكتاب: الأستاذ رياض أدهمي.

يحتوي الكتاب على مقدمة للدكتور طه جابر العلواني وتمهيد وثلاثة فصول:

الفصل الأول: في الوحدة الفكرية للمسلمين

الفصل الثاني:   حرية الرأي والوحدة الفكرية للمسلمين

الفصل الثالث: حرية الرأي والوحدة الفكرية في الواقع الإسلامي الراهن.

يقول الدكتور في مقدمته: إن التحرير كان جوهر رسالة الإسلام لذا حاربه المستكبرون الجبارون وأقبل عليه المضطهدون والمستضعفون، وكان الإيمان هو وسيلة التحرير الكبرى للعقل فتحرر العقل من الأوهام وصار عقلاً حراً متدبراً له منهج منضبط في قبول المعارف أو رفضها فلا يقبل إلا ما يقوم عليه البرهان.

   لقد حرر الإيمان إرادة الإنسان فليس لأحد أن يُكرهه على ما يريد ولم يجعل الإيمان (حرية الرأي) والتعبير عنه مجرد حق يطالب به بل هو واجب وأمانة… وقد اعتبره كثيرٌ من العلماء سادس أركان الإسلام… فهو جزءٌ من الركن الخطير ركن “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

ولقد تراجعت الأمة المسلمة عن القيام بدور الشهادة منذ أن ساهمت في ولادة الطغاة الذين صادروا حقها هذا وبنوا دولة الملك العضوض الذي أسلم إلى دولة الجبر والاستلاب فضمر الكثير من مفاهيم “الحرية” بل وُجد في تراث المسلمين من أصّل لهذا الانحراف تحت باب “سد الذرائع” و”الأخذ بالاحتياط أو الأحوط”… فنقل الطغاة هاتين القاعدتين من إطارهما الفقهي الخاص إلى قاعدتين فكريتين تحكمان مسيرة عقلية الأمة “نفذ ثم اعترض”.

     ترى لو أن علماء الأمة وحكماءها ومصلحيها قاوموا الفسق وعملوا على وقف مده في الأمة، هل سيجد الطغاة سبيلاً لهم للتسلط على الأمة؟ ترى لو أن العلماء بينوا أن الرضى بالاستبداد والسكوت عنه من كبائر الذنوب، التي قد لا يقبل الله معها صلاة ولا صياماً، هل سكتت الأمة عن الاستبداد؟ ليت العلماء علّموا الأمة أن عليها استبدال حكامها إذا هم حادوا عن العدل فهم عمالها وخدمها، وأن الحكم تكليف لا تشريف، وأن السياسة رعاية، وأن ما يفعله الطغاة، بواسطة أجهزتهم القمعية، وأن تعطيل الشورى، وأن مكافآت الإعانة على الظلم هي سحتٌ وحرامٌ لا تختلف عن السرقة والربا وأجر الزانية.

   يقول الدكتور طه: إن الواقع الإسلامي المتخلف سببه الرئيس فقدان “حرية الرأي” ولعل ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” يُغني كثيراً في فهم أثر الاستبداد على جميع مناحي الحياة، وأنه لا ينتج إنسان حضارة، وإنما مجرد آلة تفعل كل شيء للحفاظ على البقاء العضوي والبيولوجي.

   فمن أجل إعادة البناء والإقلاع الحضاري، لا بد من توفر الشرط الموضوعي الضروري لهذا الأمر ألا وهو “حرية الرأي”، ولا بد من إزالة الحُجُب عن عقل الإنسان المسلم ورفع الوصاية عنه.

   وإن كتاب الدكتور عبد المجيد يُعدّ مفتاحاً لأبحاثٍ عديدةٍ حول هذه القضية لتصبح همّاً يعيشه المسلم ويسعى لتحقيقه.

تمهيد

يُفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته…” أن المسلمين مسؤولون مسؤوليةً عينية عن المصالح العامة كلٌ بحسب موقعه. مما يقتضي مبادرات في الرأي تصبح واجبة في حق المكلف، كما تصبح امتلاك الأسباب الممكنة لذلك واجبة أيضاً.

وقد يقول قائل: إن إبداء الرأي، على هذا النحو، يؤدي إلى إمكان واسع للاختلاف، لاختلاف المعطيات، مما يؤدي إلى اختلاف الأمة، التي يعتبر حفظ وحدتها جزءاً من مسؤولية المسلم.

ولقد حُلت هذه المعادلة على حسب الطرف الأول، فضاقت مساحة حرية إبداء الرأي، إلى حد الإلغاء، وانحصرت في مجال ضيق من الناس ومجال أضيق من المواضيع والقضايا، إما لسطوة تيارات فكرية كالصوفية المغالية، أو بسبب الاستبداد السياسي.

يقول الدكتور النجار: لقد جاء القرآن الكريم، يؤكد مبدأ حرية الرأي، ولكن الخوف من انفراط وحدة الأمة، تطور إلى حد المرض المزمن. فعُطّل عامل الرعاية الرشيدة للأمة، الذي يعتبر إبداء الرأي، المنضبط، لازم من لوازمها. وسنُثبت أن حرية الرأي عامل وحدة في الأمة وليس عامل فرقة.

الفصل الأول: الوحدة الفكرية للمسلمين

1ـ الفكر

الفكر كما جاء في معاجم اللغة: هو إعمال النظر أو هو الخاطر في الشيء. ومنه التفكر في آيات الله للوصول إلى حقيقة وجوده وصفاته. والفكر كما لخصه سيد شريف الجرجاني في القرن التاسع الهجري: ترتيب أمور معلومة للتأدّي إلى مجهول. والفكر: المنهج الذي يسلكه العقل للوصول إلى المعرفة. والفكر الإسلامي: المنهج الذي يفكر به المسلمون، أو الذي ينبغي أن يفكروا به، وليس هو ‑كما هو شائع اليوم‑ المبادئ والتعاليم التي جاء بها الإسلام أو الرؤى والأفكار التي أثمرها المسلمون مما هو من باب “المحتوى” من المعارف والعلوم.

2ـ الوحدة الفكرية

الوحدة الفكرية بين مجموعة من الناس تعني اشتراكهم في طريقة النظر العقلي، بحيث تجمع بينهم خصائص وصفات موحّدة، فكلما تعمقت المشاركة بالخصال المنهجية، ازدادت وحدتهم الفكرية ترابطاً.

والوحدة الفكرية هي الركن الأساس للوحدة الشاملة. ذلك أن الآراء النظرية والعملية المنظمة للحياة هي ثمرة لمنهج العقل في الوصول إليها، رشداً أو ضلالاً. وقد دأب القرآن على توجيه العقل للنظر في آيات الكون كمنهج فكري يفضي إلى معرفة الحق. كما أن الوحدة الفكرية المنشودة هي الاشتراك في الأسس المنهجية الكبرى للنظر العقلي، وليس في فروع النظر الثانوية، فتلك هي أركان الوحدة الفكرية، الذي يؤدي شيوعها إلى تحقق هذه الوحدة. وتاريخ الفترة الزاهرة في حياة الأمة الإسلامية يشهد مصداقية هذا الأمر، حينما كانت هذه الأمة منفعلة في منهاجها الفكري بالخصائص التي بثّها القرآن. أما الفرقة فقد أحدثتها المناهج المستوردة؛ كالفكر اليوناني الصوري والمنهج الصوفي الإشراقي قديماً، والفكر الغربي المادي حديثاً.

3ـ عامل الوحدة الفكرية

عامل الوحدة الفكرية الأساس لأية أمة يخضع للمحتوى الإيدولوجي الذي يتوفر عليه الإنسان. فالفكرة الإيدولوجية عن الوجود والكون ومصير الإنسان هي التي تشكل طريقة النظر العقلي، ولهذا تختلف الأمم في مناهج التفكير باختلاف إيدولوجياتها.

على هذا يكون عامل الوحدة الفكرية للمسلمين إنما هو العقيدة الإسلامية التي تجمع المسلمين على تصور موحد للوجود والكون والمصير. ولقد أحدثت هذه العقيدة ثورةً منهجيةً في النظر أفضت إلى وحدة فكرية بين معتنقي هذه العقيدة، رغم اختلاف قومياتهم وثقافاتهم.

4ـ أركان الوحدة الفكرية للمسلمين

(أ) شمول النظر: هو توجه العقل في بحث القضايا توجهاً شمولياً (من جميع الجوانب، وجميع المعطيات المتعلقة بها). وفي العقيدة الإسلامية ما يربي العقل على هذا المنهج الشامل. أما النظر الجزئي فإنه في الغالب يفضي إلى الرأي المنقوص. والشمولية أصبحت خاصية للعقلية الإسلامية، يمكنك أن تقف عليها بوضوح في التراث العلمي للمسلمين بجميع فروعه، (تفسير الرازي، موسوعة طاش كبرى زادة). وكمثال على النظر الجزئي، الخوارج وفهمهم للقرآن، وما أحدثه في حياة المسلمين من فرق وإراقة دماء.

(ب) المؤالفة والتوحيد: هو توجه العقل، في البحث عن الحق، بحيث يؤالف بين المعطيات التي يتوفر عليها ويوحدها في معيار دلالي يكون أساساً لمبدأ تبني عملية الرؤى والحلول.

والعقيدة الإسلامية تقوم على التوحيد المطلق، فكل ما في الكون مبدؤه واحد وغايته واحدة. وحياة الإنسان، في مختلف تصاريفها، تتجه إلى وجهة واحدة هي تحقيق الخلافة في الأرض بالعبودية لله. وقد تجلى ذلك بالفعل الحضاري الإسلامي على عهد ازدهاره، حيث يبدأ المسلم مسيرة حياته في الأندلس، ثم ينطلق إلى ما وراء النهر ليكمل ما بدأه هناك دون أن يصاب باضطراب أو إحباط. أما ازدواجية المعيار فهي التي تورث الاضطراب وتفضي إلى الفرقة. وما هو حاصل في حياة المسلمين اليوم يُعد مثالاً صارخاً على ذلك.

(ج) الواقعية: وهي اتخاذ العقل الواقع منطلقاً له لمعرفة الحق، سواء كان واقعاً كونياً أو نفسياً أو تاريخياً. فيكون الواقع هو المعطى الأساس لمعرفة ما هو كائن وتقدير ما سيكون. القرآن وجّه العقل لإدراك الغيب انطلاقاً من مظاهر الطبيعة المادية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53]، ووجهه في سبيل صياغة الحياة صياغة صالحة إلى تاريخ الأمم والواقع الآني {قُلْسِيرُوافِيالْأَرْضِفَانْظُرُواكَيْفَ كَانَعَاقِبَةُالَّذِينَ مِنْقَبْلُ كَانَأَكْثَرُهُمْمُشْرِكِينَ} [الروم: 42].

من هذه الخاصية في الفكر نشأت جميع العلوم لدى المسلمين، علوم الطبيعة أو النفس أو الأحكام الفقهية. فالواقعية عامل وحدة فكرية؛ لأنها توحد المعطيات بين الناظرين في وضع الحلول لمشاكل حياتهم ومعاشهم.

(د) النقدية: المقارنة والنقد عاملٌ مهمٌ في ترشيد الفكر للوصول إلى الحق. القرآن يربي العقول على صفة النقدية، إذ كثيراً ما يعرض العقيدة الصحيحة بأضدادها من العقائد الفاسدة التي يجادل أصحابها. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه} [التوبة: 30]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]. وبهذا استوعب المسلمون علوم الآخرين وتعاملوا معها بهذه الخاصية فصوبوا الصحيح وبينوا الزائف منها. ( الغزالي والفلسفة، وابن تيمية والمنطق).

وحينما يضيق الأفق الفكري، يصبح الفكر خطياً لا يستوعب إلا الرأي الواحد، وتظهر بالتالي ألوان التعصب المذهبي، وتذهب وحدة الأمة وقوتها.

(هـ) الموضوعية: وهي تجرد العقل من العوامل الذاتية “الهوى والآبائية”، ويصبح موضوع النظر معطى خارجياً مستقلاً. وقد دأب القرآن في دعوة الناس إلى تحرير العقول من العوامل الذاتية “الهوى والموروث”، {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. وبهذه الخاصية يتوصل الناظرون إلى رؤى وأحكام موحدة في تدبير أمور الحياة. (الصوفية وما أفشت من ذاتية المعرفة التي لا تنضبط بقاعدة، وكذا تقليد المعايير الغربية، مما أدى إلى الفرقة والتشتت).

   هذه الأركان الخمسة، نحسبها تشكل وحدة الفكر، إذا تحققت في الأذهان وتطبعت بها العقول، إذ تفضي إلى وحدة النتائج والتقديرات، وتتوحد بها إرادة الفعل. لكن، قد لا يكون تأثيرها المنهجي الموحد بيناً فاعلاً إلا بتوافر شروط منشطة من بينها حرية الرأي فكيف تكون حرية الرأي عاملاً في الوحدة الفكرية.

الفصل الثاني: حرية الرأي والوحدة الفكرية للمسلمين

1ـ حرية الرأي

الرأي: هو النظر العقلي لأجل المعرفة، أو ما يتوصل إليه العقل من اعتقاد بعد النظر . وسنستعمله بالمعنيين معاً، فهو “الجهد العقلي والثمرة”.

مدلول حرية الرأي يتجاوز البعد الفردي، من حيث هو عمل ذاتي، ليصبح بعداً اجتماعياً يشمل عنصرين مهمين. الأول: حرية طرق النظر وأساليبه، دون تدخل من الآخرين، [انظر المسلك الفرعوني {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ} [غافر: 29] . وكذلك ما يقوم به الإعلام في عصرنا الحاضر ].

   الثاني: حرية الإنسان في الإعلان عن رأيه الذي توصل إليه، أو رأي تلقاه فاقتنع به، فهو يسعى لإشاعته بين الناس، إذ ما قيمة رأي حبيس الخاطر، ليس له تأثير في مجرى الحياة. ويعتبر من حرية الرأي، ارتفاع الموانع الخارجية “الكبت والاستبداد” والذاتية “الهوى والموروث”. كما أن لحرية الرأي قيود وضوابط منهجية كالإخلاص والتحري في المسالك والمعطيات، وأخرى أخلاقية، كالصدق في التبليغ والحسنى في الإقناع.

2ـ الأصل الشرعي لحرية الرأي

حرية الرأي ليست حقاً مباحاً من حقوق المسلم فحسب، ولكنها واجب أيضاً، وترتقي في سلم المقاصد الشرعية إلى درجة الضرورة، فهي مقصدٌ ضروري. والقرآن في أول ما نزل منه، وهو يؤسس المبادئ الكبرى في العقيدة الإسلامية، نجد تشريعاً لحرية الرأي بقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] في تعجب إنكاري توبيخاً ونهياً لمن يمارس هذا الفعل.

إن حرية الرأي، في التعاليم الإسلامية، تُعد مدخلاً للإيمان الحق. واعتبر بعضهم أن إيمان المقلد ليس بإيمان، أو يعتبر إيماناً منقوصاً. وكذلك الأمر بالنسبة لتوفر الظروف والمعطيات التي تمكن من النظر الحر، واستحقاق العقاب لمن قصر في طلبها {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ} [النساء: 79]. والأمر نفسه بالنسبة لحرية الرأي بمعنى الصدع به بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران: 104]، وإن تعطيل هذا المبدأ يفضي إلى انقطاع وحدة الأمة وذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم) (أبو داود).

والسيرة طافحة بالنماذج والتطبيقات للممارسة العملية لإتاحة حرية الرأي وإزالة العوائق الخارجية والذاتية. ولم يغفل التشريع عن الضوابط والضمانات التي تحول دون انحراف هذا الحق عن طبيعته أو تعطيل دوره، سواء منها ما كان منهجياً أم أخلاقياً.

نلاحظ إذاً أن تشريع حرية الرأي في أصل مقصده وبالضمانات التي أُحيطت به، هو مبدأ من أهم أغراضه حفظ وحدة الأمة الشاملة ومن بينها وحدة الفكر، على أنْ تُحقق حرية الرأي الخصائص المنهجية الخمس، السابقة الذكر، وسنبين ذلك بطريقة من عنصرين، الأول: نظري، يثبت أن شيوع حرية الرأي يفضي إلى تربية العقول على الصفات المنهجية التي هي أركان الوحدة الفكرية. والثاني: الاستشهاد بشواهد من التاريخ البعيد والقريب. ثم بدأ يتناول الخصائص المنهجية الخمس.

الخصائص المنهجية الخمس:

1ـ حرية الرأي وشمول النظر

في ظل شيوع حرية الرأي، تصبح خاصية الشمول ممكنة التحقيق، لتوفر وسائلها وآلياتها، من معطياتٍ ومراجعةٍ في أجواء الحوار المتاحة، وينشط العقل في السعي لمعرفة الحق وتحري الصواب.

وكشاهد من عهد الرسالة، الحوار الذي جرى قبل غزوة بدر. وكذا الطابع العام لحياة الأمة بتطبيق هذه الخاصية انظر (الغزالي في تعبيره عن مناقضته للفكر اليوناني)، وكلما ضاقت مساحة الرأي ضاقت حركة العقول في معطيات المعرفة ووسائلها، وانتهت إلى نتائج جزئية لا تصلح لتوجيه الحياة العامة. (الصوفية المغالية واقتصارها على المعطيات الروحية، والالتزام بأقوال الشيوخ).

2 ـ حرية الرأي ومنهجية التوحيد والمؤالفة

إن تحرر العقل من المكبلات المفروضة عليه، من ذاته أو من خارجها، تتيح له حركة واسعة في مجالات المعرفة تنتهي بإدراك العلل والأسباب المشتركة للتماثل والتشابه، في جميع الأمور، وتوجيه الآراء والأحكام في تحقيق الغاية الموحدة، (مثال قوم فرعون في تفسيرهم لما حل بهم، وما نراه اليوم من توجيه في الإعلام الغربي لصرف الأنظار عن هيمنة الاستكبار الدولي في صناعة الأحداث وتوجيهها).

وفي مناخ حرية الرأي في مستوى الإعلان، ينشط الحوار وتصطرع الآراء، مما يفرض موازين ومقاييس موحدة يحتكم إليها، فتبنى العقول على وحدة في الميزان عند النظر في القضايا والأحداث.

ففي أجواء حرية الرأي التي ربى الرسول صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه، تمت عملية جمع القرآن فجعلوه في مصحف واحد، وكذلك وضعت نواة النظام الإداري في عهد عمر.

ولهذا كان من خدمة الدين ‑وهو الغاية الموحدة للأمة‑ الانفتاح والحوار وإنشاء العلوم، وكلما ضاقت مساحة الرأي تقلصت هذه الخاصية. فغرقت المؤلفات في الجزئيات والفروع من غير تنظير كليّ موحد، وغرقت كذلك في الشروح والحواشي، في الفقه، وفي الاجترار والمماحكات اللفظية في علم الكلام.

3 ــ حرية الرأي والواقعية

لو ترك العقل حراً على فطرته لتوجه تلقائياً إلى الواقع للنظر والحوار لتفسير الأحداث ولحل المشكلات من حوله. ولهذا كان أهل البداوة أكثر اتصافاً بالنظر الواقعي من أهل الحضر. فإذا تعرضت حرية العقل الفطرية للقيود فقَدَ واقعيته واتجه للتعالي عنه إلى نزعة مثالية تجريدية. كما أن نوازع الهوى تصرف العقل عن شواهد الواقع فيصل إلى أحكام مهلكة (مثال أصحاب الشمال في سورة الواقعة).

وهكذا إذا غلبت سطوة الموروث على العقول، فإن العقل ينصرف عن حل مشاكل الحياة، ليتخذ من غابر الآباء مادة للنظر، يستنبط منها أحكاماً وموازين للواقع فيقع في شيء من المثالية التاريخية.

وقد شدد القرآن في الإنكار على هذا الاستلاب لحرية العقل المعطل عن النظر الواقعي {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ *إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ *قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 69- 71]، وكذلك الأمر بالنسبة لفرعون وملئه {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78] إن الوصاية الروحية على العقل تصرفه عن الواقع المحسوس إلى تهويمات لا طائل تحتها. ولهذا شجع المستعمرون هذا الاتجاه لصرف الناس عن اكتشاف مخططاتهم. وفي ظل الاضطهاد الفكري والسياسي ينكفئ العقل على ذاته ليهيم في قيم مجردة ومبادئ مثالية بعيداً عن متعسفة السياسة ومضطهدي الرأي.

إن العقلية الإسلامية على وجه العموم عقلية واقعية، إلاّ أنه في ظل ضمور مساحة الرأي، عزفت هذه العقول عن معالجة الواقع، ونزعت إلى التجريد والمثالية.

4 ــ حرية الرأي والمنهج النقدي

إنّ حرية الرأي عاملٌ مهم في تكوين العقل على صفة المقارنة والنقد، إذ أن تحرره من الوصاية والتوجيه يتيح له فرصة الوقوف على المعطيات المتنوعة في موضوع نظره، فيقابل ويقارن، فيهتدي إلى مظاهر الضعف والقوة، ومواطن الخطأ والصواب فيما بين يديه من معطيات، (إبراهيم عليه السلام كمثال). وبوجود الوصاية، يصبح الفكر خطياً وحيد السمت (الفرعونية). وفي مستوى الإعلان والحجاج ينفتح العقل على الرأي المخالف، فتنشط صفة المقارنة، فيصح القوي ويسقط الضعيف. وفي مناخٍ من الحوار الحر تصدر الرؤى والأحكام عن مقارناتٍ واسعة بين الآراء المطروحة. وإنما ينمو التعصب في كل مناخ تصادر فيه حرية التعبير .

5 ــ حرية الرأي والموضوعية

الهوى والتقليد والوصاية تسوق العقل إلى أحكام خاطئة. وإننا لنكتشف ذلك عندما نطرح تلك الأحكام في ساحة الحوار. فالموضوعية كصفةٍ للفكر تصبح أكثر ظهوراً في أجواء الحرية المتاحة للجميع. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسح الحرية لأصحابه ليلقي كلٌّ بما عنده من حكم فيُبسَطُ على ميزان الموضوعية ويُخَلَّصُ من شوائب الذاتية، ويكون ذلك تربية فكرية تثمر بالدأب الموضوعية في الفكر، (مثال ما وقع إثر غزوة حنين).

4 ـ عامل حرية الرأي في وحدة الفكر عموماً    

قررنا سابقاً أن العامل الأول في وحدة الفكر هو عامل القناعة الإيدولوجية (والدينية منه على وجه الخصوص). هذا ويمكن أن نضيف أنه هو عاملٌ مؤسِّسٌ للوحدة الفكرية بتشكيل العقل على خصالٍ منهجية مشتركة، وهي خصالٌ أقرب ما تكون إلى الاستعداد والإمكان منها إلى التحقق والوقوع. إن الصفات المنهجية الآنفة الذكر “الشمولية، المؤالفة والتوحيد، الواقعية، النقدية، الموضوعية”، لا تكون فاعلةً في النظر المعرفي بما يحقق الوحدة الفكرية بدون العامل المنشط الذي هو حرية الرأي. هذا العامل يخرج الأثر المنهجي للعقيدة من طور الاستعداد إلى الفعالية، ومن الإمكان إلى واقع مشترك للعقلية الإسلامية فتؤدي دوراً مهماً في الوحدة الفكرية بين المسلمين.

لقد ولّدت حرية الرأي الصفات المنهجية المشتركة فأثمرت الوحدة الفكرية التي صاغت الحياة العلمية في العلوم النظرية وفي وجوه الحضارة العملية المختلفة. وبمقارنة فترات حياة الأمة نجد أن شيوع حرية الرأي كان عاملاً مهماً في وحدتها وتماسكها وحيوية فكرها، وفي غياب هذا العامل نما التعصب المذهبي فقهاً وعقيدة، وعجز المسلمون عن نصرة دينهم أمام التحديات، وعن نصرته بتنزيله في الواقع في ضوء مستجداته.

أما المجال السياسي فقد كان حظه من الحرية أقل بكثير من الجانب العقيدي والفقهي، فلم يثمر العقل المسلم في الفقه السياسي قواعد عملية تنظُم المؤسسات السياسية في نماذج واقعيةٍ موحِّدةٍ للأمة، بل بقي مبادئ مجردةً مما ساعد على فشوِ الاستبداد السياسي الذي أدى إلى الفرقة، (انظر مؤلفات السياسة الشرعية).

الفصل الثالث: حرية الرأي والوحدة الفكرية في الواقع الإسلامي الراهن

في هذا الفصل محاولةٌ لتأصيلِ توجُّهٍ وحدوي في الفكر بمقترحاتٍ عملية يكون مُتَأَسَّساً على حرية الرأي، ومفضياً إلى مظاهر من الوحدة في المفاصل المهمة للحياة الإسلامية.

1ـ حرية الرأي وواقع الفكر الإسلامي

الفرقة في واقع المسلمين ليست في الأعراض، ولكنها في أعماق الأصول الفكرية المحركة للحياة. ولعل هذه سابقةٌ في حياة الأمة، وهي شديدة العلاقةِ بواقع المصادَرَةِ العريضة لحرية الرأي، وإليك البيان:

(أ) مظاهر الفرقة في الواقع الإسلامي:

   مظاهر الفرقة عديدة على مستوى الثقافة وعلى مستوى السلوك. فعلى مستوى الثقافة هناك ثقافتان متنافرتان:

ثقافة ماضوية تراثية مبتوتة عن واقع المسلمين مُغفِلةٌ للكسب المعرفي الكوني. المساعد لحل مشكلات الواقع الراهن.

وثقافةٌ غربيةٌ مبتوتةٌ عن تراث الأمة وأصولها الدينية غريبةٌ عن طموحاتها في البناء والفعل الحضاري المتميز. وعلى مستوى السلوك، هناك نمط تقليدي، مع سوء فهمٍ للقيم الإسلامية، ونمط مجلوب من حضارة الغرب، نُسخ نسخاً رديئاً، في كثير من الأحيان.

كما تشقّ الأمة فرقة في العقيدة والفقه، هي من بقايا الماضي (سنة، شيعة، إباضية، سلفية أشعرية) كلها تدور في الغالب على قضايا غيبية، تصل هذه الفرقة إلى حد التلاعن والتكفير، وكذا الحال في الاختلافات الفقهية، وإن كانت أخف وطأةً، بحيث تصدُ عن التوحد لحل مشاكل الواقع.

وكذا تشقها فرقةٌ سياسية بينة، ليس على صعيد تعدد الكيانات السياسية المصطنعة، ولكن على صعيد المواقف من القضايا الداخلية إلى حد الصدام المسلح، وعلى صعيد القضايا العامة، إلى حد الوقوف في صف الأعداء، (أفغانستان، أرتيريا، جنوب السودان).

أما الفرقة في المد الإسلامي الحركي على الرغم من وجود الصدق والإخلاص فقد داخلت صفوفهم إلى درجة التكفير والتلاعن وسفك الدماء. وإنك ترى الشقوق تتواسعُ والوجوه تتدابر في الأحداث الجسام، وحرب الخليج خير مثال على ذلك.

(ب) سببية التشتت الفكري في فرقة المسلمين:

يمكن أن يقال الكثير عن أسباب هذه الفرقة، ولكن علتها الجامعة لمظاهرها هو انحلال الوحدة الفكرية بين المسلمين، المتمثلة في الخصال المنهجية الخمس، ثم يكتشف المتأمل أن انحلال هذه الوحدة يعود إلى سبب أصلي هو انحسار حريةِ الرأي وشيوع الاستبداد.

إن اختلاف منهجية التفكير أدت إلى تباين النتائج النظرية، وبالتالي إلى تشتت الجهود العملية. ولا أثر لبقاء آحادٍ من المسلمين على منهجيتهم الفكرية الموحدة، لأن المسيرة الجماعية توجهها العقلية العامة.

إن مظاهر الخلل في الفكر الإسلامي السائد يتصف بالجزئية (التراثيين والمتغربين)، وبالتشتت والتقطيع الذي غابت فيه وحدة الغاية المشتركة، وقصرت في معرفة وحدة السبب في الظواهر السياسية (ألا وهي هيمنة قوى الاستكبار العالمي) فسادت الإقليمية الضيقة والعصبية الوطنية، كما ظهرت صفة التجريد والمثالية في هذا الفكر، فهو إما غائبٌ في الماضي أو هائمٌ في المستقبل يبني فيه خيالات لمصير الأمة يسود فيها الخير والعدل وينتفي منها الجور والشر.

على عكس الفكر الرشيد الذي ينطلق من الواقع ليبني علاجاً له على أسس الشريعة ينقله من حاله إلى ما هو أفضل.

ويمكن أن نضيف إلى مظاهر الخلل ما يسود هذا الفكر من صفة الخطية (الرأي الواحد) بدلاً من المقارنة والنقدية… ومن صفة الذاتية بديلاً عن الموضوعية.

(ج) سببية الاستبداد في التشتت الفكري:

   كيف لم تؤدِ العقيدة الإسلامية القائمة إلى الخصائص الفكرية الموحدة؟ ربما يقال إن السبب غياب العمق والصفاء مما يجعلها لا تثمر تلك الوحدة، ولكن السبب الأكبر هو غياب المنشط الضروري الذي ينقل هذه الخصائص من منطقة الاستعداد إلى منطقة الظهور والفعالية. لا حاجة بنا لإثبات فشو الاستبداد في حياة المسلمين، ولكن سنبين أن خنق حرية الرأي أفضت إلى تشتت وحدتهم الفكرية بانحلال الخصائص المنهجية التي هي أركان وحدتهم.

الاستبداد السياسي (منع وقمع إلى حد البطش) حَرَمَ الأمة من الرؤى التي تعالج مظاهر شؤونها العامة فتشخص الأسباب وتصف العلاج وهامت عقول الناشئة وتكونت على صفة التجريد والمثالي… فهذا اشتراكي يحلم بالمدينة الفاضلة… وذاك يروم حياة اجتماعية في ظل قيم الدين ‑كما يفهمها‑ ويتعامل مع الأحداث تعاملاً إسقاطياً ويطرح الحلول طرحاً إسقاطياً بعيداً عن معطيات الواقع.

في واقع المسلمين استبداد تربوي تمارسه كثير من المؤسسات التربوية (انتقائية، تلقين، حشو) فسادت صفة الخطية الضيقة وغاب النظر النقدي المقارن… ومن ثمار مصادرة حرية الرأي: الغفلة في قبول الآراء والمنقولات على علاتها جعلت المواقف والرؤى تُبنى على أسس منهارة.

     حتى الحركات الإسلامية لم تسلم من داء الاستبداد باسم التحصين وتحقيقاً لمعاني الجندية والانقياد وعلى هذا يمكن للمتقصي إرجاع كل خلل في تلك الخصائص المنهجية إلى سبب من الاستبداد في إهداره للحرية أو في خنقها والتضييق فيها… ولنرسم الصورة المقابلة فنبين كيف تكون حرية الرأي عاملاً فاعلاً في الوحدة الفكرية تفضي إلى وحدة الثقافة والسياسة والمذهب والحركة.

2ـ حرية الرأي والوحدة الثقافية

الوحدة الثقافية بين الأمة هي وحدة الأسلوب في تحقيق الحياة على المستويين النظري والعملي؛ (نظم إدارية واقتصادية وعمرانية، وفنون وعلاقات اجتماعية، وتقاليد وعادات).

   الحياة الإسلامية تقوم على عنصرين: الأول، القيم الثابتة من عقيدة وشريعة وأخلاق، والثاني، الوسائل المتغيرة بتغير الظروف، والمحققة لتلك القيم الثابتة، مستفيدةً من الكسب الإنساني في المعرفة النظرية والعملية. فقيام الحياة على العنصر الأول تكون الثقافة قاصرة، وإذا أقيمت على الثاني فهي ثقافة ضالة. فالثقافة الحقة هي التي تتفاعل فيها القيم الثابتة مع الكسب المعرفي المتنامي.

   في العنصر الأول لا بد من العودة إلى المصدر الأصلي، الوحي (قرآن وحديث)، ثم دراسةٍ شاملة لجميع المذاهب بما فيها المذاهب التي تدعي صفة الإسلامية، وهي مارقة منها. ولا تكفي حرية الانفتاح، بل لا بد من حرية الاجتهاد واستحداثٍ لما لا نص فيه وفق المبادئ والقواعد الكلية. إن الجمود على التراث واستصحابه ليَحُلَّ مشاكل الحاضر، سيدفع الكثيرين لتجاوز هذا التراث ليسقطوا في حلولٍ موهومة من القوانين الوضعية، ( وهذا ما هو واقع اليوم).

   في العنصر الثاني تدرس الحضارة الغربية باعتبارها ذروة الكسب الإنساني في المعرفة من جميع جوانبها دون استبعاد لشيء منها بأي مبرر… ويميز ما فيها من الحق والباطل، ويستبعد منها ما هو مخالف لقيم الدين وأحكامه بصفة صريحة.

   غياب النقد لهذه الحضارة سيدفع كثيراً من المسلمين لرفضها جملة، ويجعلون من التراث مصدراً وحيداً لثقافتهم… بهذا التعامل مع التراث والكسب المعرفي يؤوب التراثيون إلى المعارف الإنسانية المصفاة ويؤوب التغريبيون إلى التراث المستنير بالنقد، وتلتقي الأطراف على أسلوب موحد.

3 ــ حرية الرأي والوحدة المذهبية

المذاهب التي ينتمي إليها المسلمون في العقيدة (سنة وشيعة وإباضية) وفي الفقه (الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي)، هي إفراز تاريخي قديم، وهي وجوهٌ للتدين واجتهاداتٌ في كيفية التطبيق، تفاعلت فيها النصوص مع الظروف زمن نشوئها، وقد كان للمذهبية فضلٌ في إثراء التجربةِ الإسلاميةِ في التدين، أصبحت هذه التجربة فيما بعد تراثاً بشرياً لا غنى للأجيال عنه.

فمن غير المعقول أن يبقى حال المسلمين مرتَهناً لهذا الإفراز التاريخي، مستدبراً تحدياتِ الواقع الذي يديره الماديون بحسب تصوراتهم ومصالحهم. فإما أن يلتقي المسلمون على مذهب واحد (؟)، أو يعذر بعضهم بعضاً في الأمور التي لا يُبنى عليها عمل، ويتحدون لمجابهة تحدياتِ واقعهم المرير.

4ـ حرية الرأي والوحدة السياسية

الوحدة السياسية بين المسلمين على درجتين؛ وحدة شاملة، بعيدةُ المنال في الوقت الحاضر، ووحدةُ مواقف وهذه ممكنة وهي الخطوة الأولى نحو الوحدة الشاملة.

وأسباب هذه الفرقة، يعود بالدرجة الأولى إلى الاستبداد والحجر على حرية الرأي، الذي يُفضي إلى تخزينِ أسباب الانفجارِ التي تشهدها البلاد الإسلامية بين الحين والآخر . ففي ظل حريةِ الرأي يُكشَفُ عن مراكز الهيمنةِ الدولية على العالم الإسلامي وعن أسبابها الإيدولوجية والتاريخية، ويحصل ذلك تيار من الوعي يفضي إلى الوحدة في مقاومة هذه الأوضاع المأساوية.

كما أن حرية الرأي السياسي تضعف الانتماء الإقليمي، ويتحول إلى الانتماء الإسلامي الواسع. فيَنمُوَ الإحساس بقضايا العالم الإسلامي، ويَحصَلُ التعاطفُ معها.

5ـ حرية الرأي والوحدة الحركية

الحركاتُ الإسلاميةُ، هي النهضةُ بهموم الأمة، أصابها ما أصاب الأمة من الآفات ومن بينها آفةُ الاستبدادِ. وهي على كثرتها عموماً، حتى في القطر الواحد، تعيشُ مأزِقَ التعارض والفرقةِ إلى حد الفتنة.

إن شيوعَ التربيةِ الحرةِ وحريةِ الرأي والشورى هي العاصُم الأقوى لامتصاص كلِ جنوحٍ أو تطرف أو خطأ. وليس من باب المصادفة أن تكون الحركاتُ التي تسود فيها التربيةُ الحرةُ وحريةُ الرأي هي الأكثرُ تماسكاً ووحدة، (السودان، تونس).

وإن حرية الرأي تُعَدُّ بحق مدخلاً مهماً إلى الوحدة بين المسلمين، بما تُحدثه في العقولِ من خصائصَ منهجيةٍ مشتركةٍ تتكون بالتلاقي والحوار والتبادل، فتنشأُ وحدةٌ فكرية تنتهي بالمسلمين إلى الوحدةِ في الأهداف وفي طرق الإنجاز .

وقد دلنا القرآن إلى أن جامعَ الأمة ومعقدَ فلاحِها هو حريةُ الرأي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]

خلص الكاتب إلى أن حرية الرأي عامل وحدة في الأمة وليس عامل فرقة إذا انضبط بإدراك أن الوحدة الفكرية تعني اشتراك مجموعة من الناس في طريقة النظر العقلي، فكلما تعمقت المشاركة بالحضارة المنهجية ازدادت الوحدة الفكرية ترابطاً.

**************

التعريف بمؤلف الكتاب الدكتور عبد المجيد النجار: من مواليد بني خداش (الجنوب التونسي) في 15/6/1364هـ الموافق 28/5/1945م. حصل على الإجازة في أصول الدين من الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين/ تونس 1972. نال درجة الماجستير في العقيدة والفلسفة من كلية أصول الدين جامعة الأزهر/ القاهرة 1974. وحاز على الدكتوراه في أصول الدين من جامعة الأزهر عام 1981.

درّس العقيدة بالكلية الزيتونية منذ 1974 ثم عُين رئيساً لقسم أصول الدين فيها عام 1980. عمل أستاذاً زائراً بكلية الشريعة جامعة عمان، ومعهد العلوم الإسلامية جامعة الجزائر، وكلية الدعوة الإسلامية طرابلس/ ليبيا، ثم درّس بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة الجزائر.

له العديد من الأبحاث منها: 1.المهدي بن تومرت: حياته وآراؤه وأثره بالمغرب. 2.تجربة التغيير في حركة المهدي بن تومرت. 3.العقل والسلوك في البيئة الإسلامية. 4.المعتزلة بين الفكر والعمل (مشتركاً). 5.فقه التدين: فهماً وتنزيلاً. 6.خلافة الإنسان بين الوحي والعقل ( بحث في جدلية النص والعقل والواقع).