مقامات الاسـتـغــفـــــار

726

هناك فكرة شائعة عن مفهوم الاستغفار وهي ارتباطه -حصراً- بالذنوب والمعاصي. فكل ابن آدم خطّـاء، والملائكة وحدهم هم المبرمجون لعمل الصواب دائماً {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. أما الإنسان المؤمن وإن كان قلبه لا ينطوي إلا على خير ولا ينوي إلا الخير ولكن عمله يأتي مشوباً بالجهل والضعف والقصور… فالكمال لله وحده. وقد أشار الإمام الغزالي رحمه الله إلى أن هذا المعنى هو المقصود في قول النبي صلى الله عليه وسلم “نية المرء خير من عمله”. فالذنوب والمخالفات جزءٌ من طبيعة الإنسان وجبلته، وفي الحديث: “لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون الله فيغفر لهم”.

 فالاستغفار هو طلب المغفرة وهو طلب ستر الذنوب للنجاة من الفضيحة والخزي وذهاب الجاه والمروءة بين الناس في الدنيا والآخرة. وهذا المعنى سائغ معروف صاغه ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في حكمته التي يقول فيها: “من مـدحك إنـما مـدح ستر الله فيك، فالشكر لـمن ستـرك وليس الشكر لمن مـدحـك وشكرك”.

ولكن اقتصار مفهوم الاستغفار على الذنوب والمعاصي والآثام يحرم المؤمن من آفاق واسعة وذرى شامخة من الكمال الإنساني يرتادها المؤمن من خلال معرفته لمعانٍ أخرى من الاستغفار، وهو ما سنحاول توضيحه في هذا المقال.

جاءني مرة شاب كان يدرس في مدرسة ثانوية نصرانية وأخبرني أن المعلم سأله: هل ثبت عند المسلمين أن محمداً قد استغفر ربه؟ قال الشاب: نعم. قال المعلم: هذا يعني أن محمداً قد اقترف ذنباً أو خطيئة يطلب المغفرة من أجلها. أما عيسى فلم يذنب قط.

حملني هذا السؤال على مراجعة معنى الاستغفار وأجبت الشاب بما أذهب عنه الشبهة والحمد لله. ووجدت أن الشبهة جاءت من حصر معنى الاستغفار بمعنى واحد وهو ما قد يقدح في معنى العصمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يستغفر ربه في اليوم أكثر من سبعين مرة. ولو انحصر معنى الاستغفار بستر المعاصي والذنوب لما كان في استغفاره صلى الله عليه وسلم كبير فائدة فهو تحصيل حاصل لوجود العصمة مما يستلزم الاستغفار.

في طبيعة الإنسان ضعف وعجز وقصور وهو محدود في فهمه ومحدود في إمكانياته. وعندما يدرك الإنسان ذلك من طبيعته وفطرته فإن هذا يحمله على التواضع ويذهب عنه الكبر والغرور. وأظهر ما يتجلى فيه عجز الإنسان وضعفه وقصوره هو عالم الغيب ومحاولة التفكر في صفات الله واستجلاء كمالاته سبحانه وتعالى. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أكمل البشر وأعرف الناس بكمالات الله عز وجل وأعرف البشر بضعف الإنسان وعجزه كذلك. فكان كلما تفكر في صفات الله عز وجل وطالع بقلبه كمالاً من كمالات الله عز وجل، أدرك أنه ‑لبشريته‑ لا يستطيع أن يوفي مولاه ما يستحق من مدح وثناء، فيستغفر معترفاً بعجزه البشري ويقول: “سبحانك، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك”. ويقول: “يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك”، وذلك لعلمه أن ما ينبغي لله عز وجل لا يستطيعه الإنسان مهما بلغ من فصاحة وبلاغة وقدرة على البيان. فاستغفار النبي صلى الله عليه وسلم ‑بهذا المعنى‑ هو دليل كمال إنساني ودليل عظمة نبوية. والاستغفار بهذا المعنى يجعل السبعين مرة أو المائة مرة من الاستغفار في اليوم مفهوماً متوجهاً فهي تعبر عن عدد المرات في اليوم التي تأمل النبي صلى الله عليه وسلم وتفكر في صفة من صفات الله عز وجل فأدرك أفقاً جديداً من كمالات ربه واستشعر عجزه عن الثناء عليه بما يليق وينبغي، فاستغفر.

فالاستغفار هو اعتراف بالعجز والضعف والقصور وطلب من الله تعالى أن يستر ذلك ويغطيه بلطفه ورحمته. والاستغفار ‑بهذا المعنى‑ هو الذي يقطع وسواس العجب وادعاء الكمال فيما يقوم به العبد من أعمال وطاعات. ومما يدل على هذا المعنى ما سنّه النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغفار بعد الصلاة، وفي هذا الموضع يلزم أن يكون معنى الاستغفار ‑بعد العبادة‑ هو الاعتراف أن البشر لا يملكون الثناء على الله تعالى بما هو أهله وبما يستحق لعجزهم وقصورهم ولـما قد يخالط العبادة من سهو وغفلة وشرود.

والاستغفار الذي ورد الندب إليه في ختام المجلس ‑ولو كان مجلس عبادة وطلب علم‑ بقول المؤمن “سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك”، هو تبرؤ من الكمال وطلب للستر من العجب والخطأ.

 والاستغفار الذي ينهي به المتحدث أو الخطيب خطبته بقوله: “أقول قولي هذا وأستغفر الله”، هو طلب من الله تعالى لستر ما كان في الحديث من خطأ وزلل أو ما قد يشوبه من إعجاب بالنفس وإدلال بالعلم والفصاحة والقدرة على البيان.

والاستغفار الذي ورد عند التثاؤب والتجشؤ هو طلب من الله تعالى لستر ضعف وهشاشة بنية الإنسان والاعتراف بذلك.

والاستغفار الذي نُـدب إليه عند الخروج من الخلاء وقول المؤمن: “غفرانك، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث” هو طلب من الله سبحانه أن يستر الجانب القبيح من طبيعتنا وخلقتنا. ولولا ستر الله تعالى هذا الجانب القبيح من طبيعتنا وخلقتنا بلطفه ورحمته، لما استطاع البشر أن يستمتعوا باجتماعهم وتواصلهم وحديثهم.

 فأصل الاستغفار وما يبعث عليه في قلب المؤمن، هو إدراك العجز لما يجب لمقام الألوهية من الحمد والثناء، وإدراك بُعدِه عن الكمال، وإدراك ما يخالط خلقته وبشريته من جهل وضعف وقصور يتجلى أحياناً بالمخالفات والذنوب والمعاصي. وكذلك إدراك ما يخالط طبيعته من هشاشة الصلصال ورعونة ونتن الحمأ المسنون قبل أن يتشرف بنفخة الروح والإيمان.

فالاستغفار مقامات ويدرك المؤمن منها بقدر تواضعه ومعرفته بحقيقة بشريته، وبقدر مجاهدته للتبرؤ من ادعاء الكمال والفضل والحول والقوة، وبقدر لجوئه إلى الله عز وجل ليتداركه برحمته وعنايته وستره. فهذه آفاق من معاني الاستغفار تعيد الحياة إلى هذه العبادة المهمة وتجعل المؤمن أكثر مقدرة على ملاحظة أحوال قلبه وخواطر فكره عند الاستغفار.

وأكمل البشر في مقامات الاستغفار هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكمال معرفته بربه ومعرفته ببشريته، فما جاء في الآيات التي تأمر النبي الكريم أن يستغفر من ذنوبه أو الآيات التي تخبر أن الله تعالى قد غفر ذنوبه يجب أن تفهم بما يليق بمقام النبوة ولا يقدح في معنى العصمة. فذنوب النبي صلى الله عليه وسلم ‑ليست ذنوباً على الحقيقة‑ بل هي عمله لخلاف الأولى باجتهاد، وقد سميت ذنوباً من باب المشاكلة اللفظية لما يستغفر منه المؤمنون، تأكيداً لبشريته صلى الله عليه وسلم وتعليماً لأمته التواضع والبراءة من ادعاء الكمال.