محاولةٌ لفهم البنيّة التألّقية للبيان القرآني

377

تصبّ المحاولة التالية في باب القراءة الموضوعية للقرآن الكريم، وتحاول أن تقدّم في ذلك نظرية مع مثال تطبيقي.

أُسس المدخل

  • هناك آيات نووية إشعاعية في القرآن، تشخُص في السورة الواحدة وفي القرآن جملة.
  • تتجاذب آياتُ السورة الواحدة بعضها ببعض وهي تدور في فلك الآيات النووية لتشكل بناءً مفهوماتياً يتّصف بشمولية الإسلام، فيعزّز هذا التجاذبُ طيف معاني الآيةِ النووية ولا ينحصر بمعناها في آن.
  • تمثِّل الآياتُ النووية بؤرةً سياقية. وباعتبار أنه يتميّز السياق القرآني بأكثر من مسارٍ واحد، ينساب المعنى بشكلٍ مختلفٍ بحسب زاوية المسار السياقي عند نقطة عبور الآية.
  • لا تنفرد لزوماً آيةٌ واحدةٌ في السورة بالصفة النووية، بل قد يوجد أكثر من آيةٍ نووية واحدةٍ في السورة الواحدة.
  • تتعاضد مداراتُ الآيات النووية لتشكّل بناءً مفهوماتياً أكثر شمولاً من بناء كل من الآيات.
  • تتألّق آيةٌ نوويةٌ أو أخرى بحسب النور التفكيري التعايشي عند قراءة القرآن تلاوةً وتدبّراً.
  • ترتبط الآيات النووية عبر السور بعضها ببعض موسّعة المجال المفهوماتي لآحاد الآيات النووية، فتنتظم المعاني في سلكٍ مجدولٍ بشكل الصيغة الجينيّة للقرآن، تتناوب فيه الآياتُ بالتألّق لتقدحَ تعدداً في الحزم الجدْلية.

سورة الجاثية مثالاً

الآية التالية في سورة الجاثية هي آية نووية مفتاحية: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [آية: 18]. ويمكن ملاحظة أنّ كلَّ آيات السورة تُعزِّز –على نحوٍ لحظيّ– المحورَ الذي تدور حوله الآية النووية السابقة. فلنتفكّر بالآيات التالية: {حم. تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [آيات: 1-6]. فنرى أنّ هناك خلقٌ وقصدٌ وشريعةٌ وسببيةٌ لاختلافِ الليل والنهار وتصريفِ الرياح، وفي كلّ ذلك آياتٌ لقوم يعقلون. 

وهذه المعاني أعلاه توازي السببيّة والنَظْم الاجتماعي الذي تُمثّل قصةُ بني إسرائيل أحد تجسيداته {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [آيات: 16-17].

وهي سنة عامة: كلُّ أمة جاثية تحاسب وَفق كتابها {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [آية: 28]. 

ولما حوّل الإسرائليون البيّنات إلى بغي بينهم {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آية: 16]، فسد حالهم {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [آية: 17]، فكان خلُقهم النفسيّ الفكّري مثل ذاك الأفّاك الأثيم الذي لا يسمع سماع الهداية {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آية: 8]، وإذا غلبته الحجة عمد إلى الاستهزاء {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آية: 9]. ونلاحظ هنا أن كلاً من الآيتين السابقتين 8 و9 ترتبط بالآية النووية على حِدة: الموقف الارتكاسي في الأولى (استكبار وتناسي)، والموقف المبادر في الثانية (الاستهزاء). كما ترتبط الآيتان معاً مع الآية النووية، فيظهر معنىً ثالثاً يزيد على المعنيين المنفردين: اتباع الهوىٰ والتنكّب عن الشريعة، وهما بدورهما متعاضدان.

وتتبع ذلك الآية بصيغة الجمع {مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آية: 10] لأنّ حال الأفّاك الأثيم ليس مقتصراً على فرد، وإنما يتعفّن ليصبح ظاهرةً اجتماعية (بنو إسرائيل)، رغم التفضيل والرزق بالطيبات {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آية: 16]. ونرى هنا ترابط اتباع الهوى في الآية المفتاحية مع التكبّر الشخصي (آية 8) مع الغرور الجماعي بطيبات الرزق في الآية 16.

وبعد هذا التشبيك الترابطي تأتي النتيجة الطبيعية في إدخال المؤمنين في رحمة الله {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [آية: 30]، وأما الكفار الذين استحكم بهم الكبر والإجرام فيفوتهم الفوز المبين {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [آية: 31]، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً {مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آية: 10].

ويناسب كلّ ما سبق ختم السورة بآية الكبرياء، صاحب الشريعة، في منظومة السماوات ومنظومة الأرض معاً: {َولَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آية: 37].

وفي سورة الجاثية آية نووية أخرى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [آية: 23]. وفي الآية تفصيلٌ دقيقٌ لسيرورة الضلال: عبادة الهوى التي لا ينفع معها علم، بل يصبح العلم قوةً ووسيلةً لاستحكام الهوى بعد ختم السمع والقلب، وفي ذلك إشارة إلى المدخلات من خارج النفس البشرية التي تقتضي سمعاً منتبهاً ورفضاً للاعتياد على الضلال الجاثم، وتقتضي إبصاراً من أجل الاستهداء الذاتي. فمن يهدي مثل هذا إلا الله {… فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}؟ [تتمة الآية 23]. وتشترك الآيتان النوويتان رقم 18 ورقم 23 في علّة اتباع الهوى.

واللافت للنظر أنّ آيات السورة جميعها تمرّ أيضاً -كأشعة جدْلٍ مفهوماتي- من خلال بؤرة الآية النووية الثانية. فالآيات الأولى للسورة تقرن تتابعاً بين الكتاب من الله والآيات في السموات والأرض والخلق لكل ما يدبّ من إنس وحيوان {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [آيات: 2-5]. ويرتبط كل ذلك ارتباطاً وثيقاً مع آية {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ…} [آية: 23] ومع آية {… ما كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا…} [آية: 25]، من ناحية رفض التفكّر وتقديم ما هو عادة وهوى وليس بحجّة.

وترتبط آية التنديد باتخاذ الهوى آلهة مع باقي الآيات التي تليها. فهنالك أممٌ كثيرةٌ اتّخذت إلهها هواها. وكما أقعد ختم السمع وغشاوة البصر في الدنيا، ترى هذه الأمم جاثية {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [آية: 28]، قعدت بها أخلاق المجرمين وتجاهلهم {… مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [آية: 32]. واستحقوا تجاه التناسي أن يُنسَوا يوم اللقاء {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا…} [آية: 34]، وذلك مناسبٌ لمقام الأفّاك الأثيم {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [آية: 7]، ممن يغفل عن نعمة تسخير البحر ووجوب الشكر {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آية: 12].

ومن أصرّ على اتخاذ إلهه هواه فإنه لا يسيء إلا لنفسه {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ. مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [آية: 14-15]. كما لا تستقيم المساواة بين اجتراح السيئات والعمل الصالح المهدي بشريعة الأمر، لا في فترة المحيا ولا الممات {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [آية: 21]، عدلاً يقتضيه العقل، وتُجزىٰ عليه الأمم الجاثية التي أقعدها الهوىٰ بدلائل الأعمال التي سُجّلت واســـتُنسخت {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [آية: 29]، وبذلك يستحقون النسيان الأخروي {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا…} [آية: 34] الذي يقابل مزدوجة السجل المستذكر وتناسي الآيات الدنيوية (الآيتان 8 و 29)، ولا مكان هنا للرحمة التي يرجوها المؤمنون بسبب استكبار الذين تتلى عليهم الآيات (الآيتان 30-31). 

وتبرز الآية الخاتمة ثانيةً لتكون أنسب ما تنتهي به رحلة الجدال الذي لا يُستعتب فيه المجرمون، إذ يضمحل تكبّر الجاحدين ولا يساوي شيئاً قبالة مَن له الكبرياء حقاً في السماوات والأرض، ولـمَن كانت أسماؤه وصفاته العزيز الحكيم {وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الآية: 37].

إن هذا الترابط الكثيف متعدّد الأبعاد هو الذي ينشئ نسج البيان القرآني وسيّالته. غير أنه ليس ترابطاً صلداً، بل هو تألقٌ نوريٌ مرنٌ تصطف فيه أشعة النور، فتتلاقى تارةً عند بؤرة تركّزٍ مفهوماتي، وتلتقي تارةً أخرى عند بؤرة مفهوماتية أخرى أو يلتقيان معاً؛ ممّا يجعل النسق القرآني حراكيّ معجز. وإن هذا التناوب بين مركز تلاقٍ شعاعيّ ومركزٍ آخر يُشكِّل طبقةً أخرى في النظام التألقي. فعندما يكون هنالك آيتان نوويّتان، يصبح عندنا خمس طبقاتٍ من التفاعل (وليس مجرد خمسة تفاعلات): تفاعل أشعّة عدّة آياتٍ مع الآية النووية الأولى، تفاعل أشعّة عدّة آيات مع الآية النووية الثانية، وتفاعل أشعّة عدّة آياتٍ مع التألّق الناتج عن تلاقي الآيتين معاً، وتفاعلٌ رابعٌ تكون فيه كثافة الأشعة القادمة من الحزمة الأولى نحو الآية النووية أكبر من الثانية، وتفاعلٌ خامس تكون فيه كثافة الأشعّة القادمة من الحزمة الثانية أكبر من الأولى.

ويمكن أن يكون هناك تألّق لحظي لأكثر من بؤرة، وباعتبار أننا لا نتكلّم عن مادةٍ تُستهلك وتفنىٰ في بؤرتها وإنما عن نورٍ فيّاض، فإن الشعاع الذي يُضيء صورةً معنويةً ما، يمكن أن يعكس ظلالاً أخرى في تألّقٍ آخر عند آية نووية أخرى.

وتلخيصاً لما تمّ بيانه، تجتمع أشعةُ المعاني والمشاعر وتتركّز حول آيات نووية في السورة الواحدة، وهذا هو الفضاء الأول من الترابط النسجي في البيان القرآني. الفضاء الثاني هو تفاعل الأشعة وفيه خمس طبقات (كما ذكرنا). واجتماع هذان الفضاءان يُشيّد شخصية السورة الفكرية الشعورية وبناءها التكاملي. وثمّة فضاء ثالث تصطّف فيه آياتٌ نووية على طول القرآن، فيكتمل الكمون الهادي للخطاب القرآني على نحوٍ جمَليّ يُعزّز حقل المعاني، ولا يلغي معاني أفراد الآيات. فهناك بؤرةٌ تألقيةٌ في كلِّ سورة، تتفاعل فيما بينها لتُنتج وُحدةً تراكيبية لها خلود التألّق ولها كمون التجدّد والتوليد. وتسري في الوقت نفسه حزم أشعةٍ تزيد ضياء البؤرة الواحدة، وتنشئ معاً بُعداً إضافياً تتكامل فيه كمونات الهداية.

وإذ نشير إلى مستويات ثلاثة من التراكيبية، فإن هذا لا يعني أننا نتكلم عن مجرد أبعادٍ ثلاثة، وإنما هناك عدد يكاد لا ينتهي من الأبعاد بحسب تقاطع موجات النور وزواياها وتشكلّاتها. ولا يتنافى عدم تناهي هذه الأبعاد مع ثبات المعنى المباشر للآيات المضبوطة لغةً، وهي لغة إشعاعية بطبيعتها على كلّ حال. ويمكن أن يفهم معنى اللاتناهي إذا استحضرنا أنه لا يُتصوَّر الثبات بحق التألّق. ففي لحظةٍ ما تتألّق مجموعةٌ معينةٌ من الآيات النووية، وفي لحظةٍ أخرى تتألّق مجموعةٌ أخرى، فيشكِّل مجموعها جدائل نسيج خطابٍ قرآني ذي شاكلةٍ متفرّدةٍ متجددةٍ لها صبغة ثباتٍ حراكيّ.

ومثالاً عن الترابط الطولي بين الآيات عبر أكثر من سورة واحدة، يمكننا أن نلاحظ أن الآية (8) من سورة الجاثية التي تذكر الاستكبار {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا…} تتصل مع الآيتين 42-43 من سورة فاطر {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا. اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}. ولا يخفى أنه تعالج آيات سورة فاطر الموضوع نفسه التي تعالجه سورة الجاثية، غير أن لكلٍّ امتدادت مختلفة، ولنظم ولجرس كلٍّ من الآيات صفته الخاصة.

وإذا أخذنا آيات سورة فاطر كوُحدة تألّقية، نرى أنه سبقت آياتي فاطر 43-44 آيةٌ تذكر السماوات والأرض {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41] مثلما هو الأمر في سورة الجاثية حيث سبقت الآية التألقية الثانية رقم 23 الآية التالية {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (آية: 22). وذكر السماوات والأرض مختلف بين آيتي السورتين، غير أنهما يرتبطان بمعانٍ عديدة، منها الحلم والمغفرة في سورة فاطر والقسط (لا يُظلمون) في سورة الجاثية.

والتذكير بسلوك بني إسرائيل كحالة سننية في سورة الجاثية {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آية: 16)، يقابله في سورة فاطر الإشارة إلى سنّة عامة: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [آية: 44].  ويمكننا ملاحظة الترابط الطولي بين الآية 20 من سورة الجاثية {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، مع الآية 10 من سورة فاطر {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}، وبرغم أنّ ثمة تفرّدٍ في آفاق كلّ من الآيتين، إلا أنه يمكن أن ينقدح شعاع شعوري ومفهوماتي يربطهما معاً يتعانق فيه التألّقان ويتداخلان ليؤكدا معنىً إسلامياً أساسياً: نكد حياة الضالّين مقابل تحقّق العزّة من خلال العمل الصالح، وكلاهما يرتبط مع معنى الآية النووية لسورة الجاثية {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ} مع الآية النووية في سورة فاطر {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [آية: 18]. وهذا التعانق التألّقي هو ظلٌ جديدٌ وتوضّعٌ فريدٌ يمكن أن تجتمع عند عقدته آياتٌ عدّة لتنشئَ تألّقاً هداوياً يختلف عن التألّق الهادي عند تعانق آياتٍ أخرى ولو كانت متشابهة في موضوعها.

ولا يخفى أنه لم تتمّ الإشارة إلى الخصائص اللغوية المترابطة، ولو أخذنا هذا البُعد بالحسبان لأدركنا مزيداً من الإعجاز البياني للقرآن. ولا عجب أنه يصعب على القارئ المتدبّر الوقوف في وسط السورة، إذ يشعر عدم اكتمال خطاب السورة إلا بإكمالها.

رسم لتقريب فكرة الترابط و التعاضد بين أشعة معاني الآيات

محدّدات نظرية

نسرد فيما يلي بعض المحدّدات النظرية لفكرة التألّق التعاضدي:

  • خاصيّات الترابط:
    • ارتباط الآية النووية في سورة ترابطاً تسلسلياً مع الآيات المجاورة.
    • ارتباط آيةٍ أو آيات ترابطاً أفقياً مع آيةٍ نوويةٍ لسورةٍ أخرى.
    • ارتباطٌ بين الآيات النووية في عدة سور.
  • خاصيّات التناضد:
    • الخاصة الازدواجية: قد يشكل جزءٌ من الآية ارتباطاً عمودياً مع آياتٍ أخرى والجزء الآخر ارتباطاً أفقياً.
    • الخاصة التشاركية: آيةٌ أو جزءٌ من آيةٍ يصل بين الآيات ويجعل لها انتماءً مشتركاً.
    • الخاصة المفصلية: قد تشكّل الآية النووية نقطةً تلاقٍ بين أكثر من حزمة أشعة معنوية.
  • خاصيّات الحراكية:
    • خاصة الزاوية: يختلف تألّق شبكة الارتباطات بين الآيات بحسب زاوية النظر.
    • خاصة الموضوع: يختلف تألّق شبكة الارتباطات بين الآيات بحسب موضوع النظر.
    • خاصة الزمن: يختلف تألّق شبكة الارتباطات بين الآيات بحسب لحظة النظر.
  • خاصيّات الكثافة:
    • تركّز الكثافة: تختلف الآيات في كثافة التألّق بحسب تلاقي الأشعة مع آياتٍ أخرى في السورة الواحدة.
    • تركّز الكثافة: تختلف الآيات في كثافة التألّق بحسب تلاقي الأشعة مع آياتٍ أخرى في سورٍ أخرى.
    • السيالة الأدائية: تتسبّب في توهّج وتألّق آياتٍ معيّنة وخُفوت آيات أخرى، فتجدّد المعاني بحسب الحال.

أحمد الله أن يسّر لي كتابة هذه النبذة بعد تلاوة وقت الضحى. وأول مرة لاحظت فيها الترابط بين الآيات وعبر السور كان في اعتكافٍ تدمريّ، ثم تفلّتت مني هذه الآفاق واللفتات حتى عادت في رمضان لسنين خلت، قيّدتها يومها برسم من غير شرح. ورحم الله صاحب الظلال ولفتته الترابطية الباهرة في تفسير سورة القصص آية {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا…}، فقد بقيت في قلبي عقوداً.

مازن موفق هاشم

وكُتبت نظرية الخواص

في رمضان 1424/تشرين أول 2003
ثم جرى تطبيقها على سورة الجاثية وشرحها
  يوم الجمعة 4-11-1430/23-12-2009