الإسلام والمأزق التاريخي للنموذج الغربي الحديث

336

يقول الفلاسفة إننا نعيش في زمن (الشك المنهجي)، وكثيرون يعتقدون بأن الله قد مات قتيل العلم والتكنولوجيا والعقلانية والتطور. الشك باعتباره منهجاً معيارياً لكل تأمل فلسفي ليس شيئاً جديداً. الجديد هو الشك المنهجي، المتشائم عمداً، والمتولد عن غرق الإيديولوجيات والمنظومات في الغرب. ولكن هل تبرر مثل هذه المعاينة حكماً أكثر تعميماً يؤكد “موت الله” في غير الغرب وفي كل مكان؟

صحيح بمعنى من المعاني أن الثورة الصناعية التي أدت إلى تركيز اقتصادي وسياسي متعاظمين دوماً، وإلى ميلاد عقلانية مبتذلة تشكل خلفية النظام كله وتعطي الأفضلية للكمي وللعلوم التطبيقية، كل ذلك جعل من المصنع كاتدرائية لدين جديد ومن الربح إلهاً لكنيسة جديدة.

ولكن من يستطيع أن يزعم بأن حتى هذا قد نجح تماماً في الغرب نفسه؟ ثم ألا تدحض مثل هذا الحكم ظواهر مثل حنا الثاني وجماهير الشباب الغفيرة المتدافعة لتحيته، أو إشعاع بعض الكنائس في أمريكا الوسطى والجنوبية والتي انحازت إلى العدل؟ الأكثر من ذلك أيضاً هو ما يجري وراء الستار الحديدي، في الجمهوريات الإسلامية، سيما في أكرانيا وغيرها، أو في بولاندا مثلاً.

لقد عاش عالم الإسلام من جهته ومازال يعيش على هامش هذا القلق وعلى هامش امثال أزمات الضمير هذه. الله حاضر دائماً في عالم الإسلام. إنه حاضر في الأفعال الكبرى كما هو حاضر في حركات وسكنات الحياة اليومية الأقل شأناً. وفي الوقت الذي ليس فيه لله ذكر بين الاهتمامات الجوهرية للكثيرين في الغرب، فإن العالم الإسلامي يحيا، وخاصة الشباب، فترة من الحماس الديني لا مثيل لها منذ عقود من السنين.

إن الانحطاط السياسي الذي أصاب العالم الإسلامي أدى أحياناً إلى الحديث عن انحطاط الإسلام، وهذا الالتباس الفظ يدل على جهل كبير بالإسلام. الإسلام لم يتأثر جدياً بانحطاطه السياسي، إنه لم يتخلَّ عن حدوده الجغرافية التي كان عليها منذ دمرت جحافل المغول بغداد، عاصمته السياسية والروحية، بل إن تقويم الانحطاط السياسي نفسه ينبغي أن يعاد النظر فيه ويصحح جدياً. فالخلافة العثمانية ظلت زمناً طويلاً بلا نظير في قلب أوروبا نفسها حتى سنة 1683. كما ينبغي أن يصحح ذلك أيضاً على الصعيد الثقافي: فالحضارة المغولية الباهرة لم تخرب إلا في القرن الثامن عشر بسبب التغلغل الاستعماري الإنجليزي. ألا يعيد اسم الإمبراطور أكبر إلى الذاكرة أبهة حضارة مازال بريقها المعماري يثير العجب والإعجاب حتى اليوم؟

مثل هذه الأخطاء مصدرها الخطأ الشائع الذي يخلط عند الخوض في أمور الإسلام بين الزمني والروحي. وحتى فيما يخص الانحطاط الزمني فإن من الخطأ تأريخه بسقوط بغداد في 1258، إذ إن ذلك يعني تثبيته انطلاقاً من الانحطاط السياسي للإسلام العربي. إن من مساوئ مثل هذا الخطأ هو محو خمسة قرون من التاريخ.

إن حكم الخلفاء ما كاد يتهاوى، كما ما كاد تقدم العثمانيين يصد، حتى كانت أفكار جديدة تظهر في العالم العربي. فقد ساعد حكم محمد علي في مصر على بزوغ حركة الإصلاح الديني والثقافة والنهضة وذلك مع ظهور جمال الدين الأفغاني. كانت هذه الموجة ستبلغ، عبر أمواج متعاقبة، تخوم الإسلام لتحيي جذوته حتى أيامنا هذه، وكانت ستتركز في إيران مع ثورتها. هذا بينما يتدفق الشباب في كل مكان من أرض الإسلام على المساجد مطالباً بعودة هذه المساجد لأداء وظيفتها القديمة في كونها الخلية الحية التي توجه حياة مجتمع يستضيء بنور الإيمان بالله.

ولكن، قبل ذلك كله كانت هنالك حركة إصلاحية أخرى تستمد تعاليمها من نفس مصدر حركة النهضة (ابن تيمية). ظهرت تلك الحركة في قلب الجزيرة العربية نفسها وبقيادة رجل بارز هو محمد بن عبد الوهاب، وعُرفت فيما بعد باسم الوهابية، غير أنها بقيت هامشية بعد أن كانت قد أحيت الكثير من الآمال. هذا في حين أخصب فكر جمال الدين الأفغاني العالم الإسلامي إخصاباً دائماً. فهذه المساجد التي لا تفرغ وهذه المنارات المتكاثرة الشاخصة نحو السماء كصلاة خاشعة، ندين بها أولاً لتعاليم جمال الدين.

إن جمال الدين هو فكر تجسد فعلاً. لقد كان حقنة من الكظرين، الأدرينالين، أنعشت جسد الإسلام. لكن رسالة الإسلام وعظمته الروحية والثقافية والسياسية وحتى فيما يخص إسلام الانحطاط السياسي فقد بقيت عالقة وإلى الأبد في قلوب من آمن به، لا تزعزع حتى عندما يكون هذا الإيمان غير معاش بشكل كامل وغير مضطلع به على نحو صحيح.

سجلت سنة 1492 إلى جانب سقوط غرناطة حدثاً هائلاً هو بدايات مغامرة لم يسبق لها نظير بالنسبة للغرب، لكنه كان أيضاً بداية انحراف أخذ يقوى على مر السنين والقرون، ليمثل تطوراً عبّر عنه جواب العالم الفرنسي لابلاس حين أكد لنابليون بأنه لم يعد يحتاج في منظومته الفكرية إلى الله كفرضية.

عند اكتشاف أمريكا، كانت أوروبا تتحكم في 9% من الكرة الأرضية. ولكنها لحظة انهيار الإمبراطورية المغولية في الهند، كانت تتحكم في ثلث الكرة الأرضية، ثم صارت تتحكم في ثلثيها بعد مؤتمر برلين والاقتسام الاستعماري في 1881، حتى أصبحت عشية الحرب العالمية الأولى تسيطر على 85% من أراضي القارات الخمس.

ومع ميلاد هذا العالم الجديد ظهر إله جديد هو الرأسمالية التجارية التي أعقبتها الرأسمالية الصناعية التي كانت ستولد منها الإمبريالية. ومثل هذا النظام لا يسمح بالوجود الدائم لإلهين اثنين في نفس الوقت. وقد تم تبني صنمية الإله الجديد هذا على حساب الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والأداة التي نفذت ذلك اسمها “الباراديجم” أو النموذج. لقد أدى كل ذلك بالطبع إلى نجاحات مهولة: فنزل الإنسان على سطح القمر، وتراجعت الأمراض تراجعاً مشهوداً، كما اختفت الأوبئة أو كادت، وانتشرت المعرفة، بغض النظر عن مضمونها، بكثافة، على الأقل في النصف الشمالي من الكرة الأرضية. أما الحسنات المادية، فمن ذا الذي يقدر على تعدادها؟

ولكن أي ثمن فادح دفعه الإنسان والطبيعة معاً، وأي تبذير كان ثمن كل ذلك؟ الإله الجديد ينفث سمّ الأنانية التي بلغت مدى لم تبلغه قط، كما أنه يقتل في اللحظة التي يعلن فيها: “لتتحقق إرادتي”.

لقد اعتاد تاريخ الإنسانية على التضحيات الفردية والجماعية التي قدمت على مذبح الطموح و”المجد”. لكن هذا الإله كان سيغتال عرقاً كاملاً من البشر هو العرق الأحمر، شمال وجنوب أمريكا، وكان سيجعل البيض الوافدين من أوروبا يستأثرون بأرض الهنود الحمر. أما الذين استطاعوا منهم البقاء، فلم تُكتب لهم الحياة إلا بانطوائهم في تخوم غابات الأمازون أو بحشرهم في حظائرهم الخاصة التي ليس بإمكانهم مغادرتها لأقرب مدينة لهم إلا إذا كانوا حاملين جوازات سفر داخل نفس الأرض التي كانت قديماً “موطنهم”. فمن بقي حياً من هنود أمريكا لا حق له في الحياة إلا في سراديب موت جديدة، لا يزال حتى فيها مطارداً. ولكي يقطعوا نسلهم، ها هم يصيبونهم بالعقم وينشرون بينهم الإدمان على الكحول. وفي نفس الوقت الذي يتعرض فيه هنود أمريكا للإبادة العرقية فإنهم يتعرضون أيضاً لاغتيال من نوع آخر هو اغتيال الروح وذلك لإتمام أضخم عمل تدميري عرفه تاريخ البشر. إن التصفية الجسدية لهنود أمريكا ما زالت متواصلة ليومنا هذا، ففي بوليفيا، يقتلون بالطعم المسموم كما لو كانوا ذئاباً أو كلاباً سائبة وذلك عندما يأتون جوعى ليحوموا حول مزارع البيض. وفي البرازيل، كما كشفت عن ذلك صحيفة “اللوموند” ينظم البيض في غابات الأمازون رحلات قنص لاصطياد الهنود الأمريكيين. بل إن تقرير عالم الأجناس بيير جولان كشف عن أن هنوداً أمريكيين اغتيلوا لأن سوق كاركاس كان يعاني من ندرة الجلود المدبوغة.

ولادة هذا الإله الجديد وهذا العالم الجديد الموسومة باغتيال العرق الأحمر، ترافقت أيضاً مع أخذ عرق آخر: العرق الأسود. وذلك من خلال النخاسة المتخلفة عن الرق المنزلي الذي يريد بعض الغربيين أن يشبهه بها، وإن كان الرق المنزلي نفسه مذلاً للإنسانية جمعاء. لم تنته النخاسة إلا في القرن التاسع عشر، وذلك ليس على الإطلاق لأسباب أخلاقية كما حاول البعض الإيهام بذلك، فالدوافع الأخلاقية لن تلعب سوى دور ضئيل في صدور قرار منع النخاسة. لقد مُنعت النخاسة لأن انجلترا لم تعد في حاجة إليها نظراً لتقدم اقتصادها. كما كانت انجلترا تهدف من منع النخاسة إلى مضايقة منافسيها المباشرين وخاصة الفرنسيين. الخلاف حول الرقم الدقيق للهنود المختطفين كعبيد يبدو في الواقع مشاحنة سخيفة قياساً بخطورة الموضوع. هل بلغ العدد 100 مليون إنسان ما دام عدد العبيد قد بلغ 10 ملايين باعتبار أن النخاسين الغربيين كانوا يحتفظون بعبد واحد مقابل كل 9 عبيد كانوا يُقتلون كما يؤكد بعض الباحثين، أم أن الرقم كان أكثر تواضعاً؟ وحتى إن لم نحتفظ، على افتراض المستحيل، إلا برقم 10 ملايين الذي لا يستطيع أحد إنكاره لأنه معترف به من الجميع، يكفي أن يتذكر الإنسان لكي يقتنع بما كان بالإمكان أن تكون عليه إفريقيا اليوم، أن انجلترا لم تكن تعد إلا 3 ملايين نسمة يومئذ. وكان لا بد من انتظار عصر نابليون لكي تصبح فرنسا بالخمسة والعشرين مليون نسمة أكثر بلدان أوروبا سكاناً، وكان عدد سكانها هذا مساوياً لعدد باقي سكان أوروبا، مقابل ذلك كانت المكسيك وحدها تعد 25 مليون ساكن عند قدوم كورتيس الإسباني إليها. وبعد 30 عاماً انخفض هذا الرقم إلى مليون واحد فقط. هذا وحده كاف لبيان حجم المذبحة التي ارتكبت ضد العرقين الأحمر والأسود.

وتقريباً في نفس الوقت الذي تقرر فيه إلغاء الرق، كان الاستعمار قد بدأ يحل محله، والاستعمار ليس إلا رقاً مقنعاً بالكاد، يرافقه النهب والذبح على صعيد العالم. فالجزائر وحدها فقدت نصف سكانها أي مليونين، خلال المقاومة التي قادها الأمير عبد القادر، ولكي تستعيد استقلالها فقدت مليون ونصف مليون إنسان. ومن ذا الذي يتجاسر على تقديم رقم إجمالي لجميع ضحايا المقاومة التي قادها الفراني وانتفاضتي أولاد الشيخ، وانتفاضة الظهرة وزاعتوتا ومحاولات انتفاضات أخرى محلية. كما لا بد أن نضيف إلى كل هذا تلك الحشود البشرية الهائلة من الرجال والنساء والأطفال المحبوسة 18 ساعة يومياً بين جدران المصانع، هذه الكنائس الجيدة، تلك الحشود البشرية الهائلة باتت تقدم قرباناً على مذبح “أمون” الجديد: الربح.

وكنتيجة طبيعية للتركيز الاقتصادي المتعاظم دوماً من أجل ربح أكثر دائماً، ظهر تركيز سياسي أدى إلى نهايته المنطقية: حربين عالميتين، كلفت الأولى الإنسانية 20 مليون قتيل، والثانية 60 مليوناً. ومن نتائج ذلك أيضاً: معسكرات اعتقال الجنود وغرف الغاز العنصرية، والجولاج، ومستشفيات الأمراض العقلية لمعارضي موسوليني وهتلر وستالين، قنابل هيروشيما وناجازاكي العنصرية ومبيدات الزرع التي أُسقطت بآلاف الأطنان في فيتنام، والأنهار والبحيرات والبحار الملوثة، والهواء الملوث أيضاً مع الخلاصة الاجتماعية لكل ذلك: العنف الأعمى والأنانية.

ستقولون إن هذه الشرور قد خرجت خطأ من جرة باندورا التي كانت مليئة بالشرور حسب الأساطير (الإغريقية). إنها بالعكس حلقات من نفس السلسلة، تشد بعضها بعضاً وتبشر إحداها بالأخرى، ومنتهاها متضمن سلفاً في مبتداها، ومن أول هندي أمريكي اغتيل إلى مبيدات الزرع في فيتنام، هناك نفس المنطق المرعب الذي قاد إلى الانحراف في مسيرة المصير البشري والذي لم ينج من شره واحد.

التبذير هو بالتأكيد في كل هذا الحطام من الأشياء، هذا التلوث الذي يعلن إفلاس النموذج الذي قامت عليه الحضارة الحديثة بكاملها، بهذا الإطار الضيق الذي يقدمه للإنسان، بهذا الانتقاص من كل ما هو نوعي لحساب ما هو كمي في نمط ومستوى عيشه، بالهواء الفاسد الذي يتنفسه، وبالماء الذي يشربه ويخوض فيه، بالمعمار الذي يخنقه والذي يجعله يبحث بحثاً مسعوراً كل أسبوع عن فرار قصير نحو الطبيعة نفسها التي يعمل جاهداً على تدميرها بدون رحمة. لكن التفريط هو أيضاً وبالتحديد تفريط بالإنسان إذ إن كل واحد يؤثر في الآخر كنوع من الفعل ورد الفعل.

هذا الجرم ينخر في كل النصف الشمالي من الكرة الأرضية، بشرقه وغربه.

أعرف بالتجربة أن ما قلته حتى الآن سيزعج الكثيرين في الغرب. وسيجد فيه بعضهم نبرات عنصرية ضد الغرب. لكن ذلك سيكون تحميل كلماتي أكثر من معناها إذ لا يتعلق الأمر هنا أبداً بإجراء محاكمة للغرب كله، ذلك لأن هناك أيضاً الغرب الذي شيّد الكاتدرائيات، غرب القديس أوجيستان والقديس توما الأكويني. لقد أنتج الغرب رجالاً ونساءً أجلاء، وأنا أجدر من يتحدث عن ذلك. أنا الذي كان عليّ أن أعد صداقاتي الوثيقة خلال حياة مضطربة. وقد وجدت دائماً في الغرب مثل هذه الصداقات، وهذا لا أنساه. إن الأمر يتعلق فقط بإصدار حكم على مرحلة تاريخية سيطر عليها الغرب لا أكثر ولا أقل. فمن ذا الذي لا يرى حصيلة هذه المرحلة التاريخية، وليس تاريخ الغرب كله، لها جوانب سلبية. بل إنها كانت كوارث بالنسبة لشعوب كثيرة غير عربية، هذا إذا لم نقل بالنسبة لأعراق بأكملها، وخاصة العرق الأحمر، بل إنها وفي نهاية المطاف سلبية حتى بالنسبة للغرب نفسه. من ذا الذي لا يرى أن الحضارة التي ولدت منذ خمسة قرون تقريباً قائمة على قبر الهنود الحمر، وأن عظاماً بشرية هائلة تملء الأرض حول مائدة الوليمة المنصوبة؟ لماذا لا يسمح بالخوض في هذه المسألة الخطيرة إلا تلميحاً لا تصريحاً.

واقعة واحدة تكفي لفهم ما تقدم فهماً أفضل. منذ بعض الوقت بدأت وسائل الإعلام تتحدث عن الهنود الحمر، عن الفظائع التي لحقتهم وما تزال تلحق بهم. وصدرت كتب وُصفت بأنها جدية وموهوبة عن مأساتهم وعن موت روحهم كأقلية وإبادتهم كنوع إنساني في عملية بدأت منذ خمسة قرون ومازالت متواصلة حتى اليوم كما ذكرنا قبل قليل. لكن الذين ينددون بهذه المأساة يكتفون، كما في السيرك الروماني، برفع الإبهام نحو السماء ليطلبوا عدم الإجهاز على الضحية. كفى، شيئاً من الرحمة، هذا ما يقولونه للإنسانية. ترى كم هو عدد الذين يطالبون بشيء غير الرحمة للهنود الحمر الأمريكيين كالمطالبة مثلاً باسترداد هؤلاء الهنود الأمريكيين لممتلكاتهم، وقبل كل شيء لأرضهم وثقافتهم، ولن يكون ذلك سوى وضع الأمور في نصابها الصحيح.

لقد برهن التاريخ على أن لا شيء بنهائي، وأنه يعرف كيف ينتظر طويلاً وطويلاً جداً أحياناً ليذكر بهذه الحقيقة. نادراً ما يعفو التاريخ عن الجرائم الكبرى وإبادة الهنود الأمريكيين التي اُرتكبت ضد عرق بكامله هذا إذا تركنا جانباً الحديث عن الجرائم التي اُرتكبت ضد السود وضد سكان المستعمرات وضد اليهود والغجر، يكفي أن ينظر الإنسان حوله وأن يلقي نظرة ثاقبة على ما هو على قيد الحياة. عندئذ سيتضح أن موت الهنود الأمريكيين طويل جداً، ورغم أنهم ملاحقون حتى في قلب الأدغال الأمازونية، فإنهم يثيرون تقريباً في كل مكان، ببطء ولكن بيقين، موجة متصاعدة من الجنوب نحو الشمال. وقد صار لهم إلى الآن خمس جمهوريات أمريكية وسطى وجنوبية يمثل الهنود الحمر فيها أغلبية السكان.

إن يد الله ثم يد التاريخ والطبيعة تعرف الطريق الأفضل لإصلاح مظالم جريمة من أكبر الجرائم في تاريخ البشر. هذا الإصلاح للجريمة يتجلى أولاً سكانياً حيث لم تجد نفعاً جميع المكائد الفكرية والمادية لوقف تزايد عدد سكان الهنود الحمر لكن إصلاح هذه الجريمة يأخذ أحياناً شكلاً سياسياً عندما يُلجأ إلى حمل السلاح كما في غواتيمالا. وبالتأكيد إن (ناسا) حاضرة وتصوب صواريخها نحو السماء، لكن أقول لمن تطمئنهم هذه الصواريخ المصوبة نحو السماء لا تنسوا المثل الآسيوي القائل: “عندما يشير الإصبع إلى القمر يرى الأحمق الإصبع”.

وفي مواجهة العلم، والتكنولوجيا، والعقلانية وتطور “الشك المنهجي” عند الفلاسفة الجدد ولهذه الحضارة، يتساءل البعض أليس الإسلام في هذا السياق هو الملجأ، وذلك في محاولة للتعلق بالماضي أمام الخضات الاجتماعية والثقافية التي لم يسبق لها مثيل على وجه الأرض؟ اسألوا أنفسكم، إنه ليس ملجأ بل هو مناخ صحي يجعل شعوبه ترفض أكثر فأكثر التبعات للعلم والتكنولوجيا الثقافية التي تفسد وتلوث البيئة. أما إذا كان علينا أن نتحدث عن ملجأ فإنه ينطبق أكثر ما ينطبق على هذا الجزء من الشباب الغربي الحائر والباحث عن أديان وآلة جديدة حتى ولو كانت في أقاصي الأرض. إن الإسلام لا يرفض استخدام العقل، وهذا تحصيل حاصل ولكنه يرفض استعمال العقلانية للعقل.

وبالمناسبة، فمن المفيد التذكير بأن الكوجيتو “أنا أفكر فأنا موجود” قد صاغها الغزالي حرفياً تقريباً، أي قبل ديكارت بأكثر من خمسة قرون. وليس من المستبعد، نظراً لشهرة الغزالي في أوروبا يومئذ، أن يكون ديكارت قد أخذها عنه لكن الغزالي استخدم الكوجيتو استخداماً مختلفاً قاده إلى التصوف. اختباراتي ليس هذا مكانها، وهذا ما أحب التأكيد عليه. ورغم أني أكن احتراماً كبيراً للغزالي الذي يعتبر أفضل الأدمغة في تاريخ البشر إلا أني أقف بالأحرى إلى صف ابن رشد في السجال بينه وبين الغزالي، وأعتبر أن أحد أسباب الانحطاط الأيديولوجي للإسلام يعود إلى أن مجهود ابن رشد لم يتابع وأن العلم الإسلامي لم يأخذ نوبته ويلعب دوره، فالنوبة انتقلت إلى الغرب أولاً بواسطة القديس توما الأكويني حتى في دحضه لأفكار ابن رشد.

وفي حين لا يعترف الغرب لله بمكان في حياته وأحل آلهة أخرى محله فإن الغالبية العظمى من المسلمين لا تعترف إلا بإله واحد: إله الإسلام الذي هو نفس إله أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين. أما قدرة الإسلام على تعبئة الناس في اتجاه التقدم فإنها لا تحتاج إلى برهان، والتاريخ يشهد عليها بوضوح. فمن وجّه شعبنا نحو التحرر غير الإسلام؟ أليس افتراءً على الكلمات أن ننسب للقومية معنى غير معناها الحقيقي عندنا؟ إننا في الجزائر، في المغرب، في مصر والسودان وفي كل مكان من دار الإسلام وفي مواجهة كل التحديات الخارجية وخاصة التحدي الاستعماري والإمبريالي، حين كانت جميع قناعاتنا تهتز وجميع أحلامنا تتلاشى، ألم يكن آخر ملجأ لنا هو “الله أكبر” الذي هو غالباً رمز النصر والذي يحيي الهمم الخامدة ويزيل الخوف من القتال؟ وكذلك في حرب رمضان كما في طهران وفي غرة نوفمبر 1954 كما في زمان الأمير عبد القادر، ومن حرب الريف إلى حرب الحاج عمر في إفريقيا السوداء، ومن حرب المهدي في السودان إلى حرب عمر المختار في ليبيا؟

في كل مكان، عندما نعتقد بأننا أصبحنا نرزح تحت الأغلال، هذه الصيحة، بل هذه القذيفة النارية التي كنا نرميها في وجه العسف والطغيان والحيوانية، كانت دائماً تتصاعد من صدورنا تمجيداً لله وتشريفاً للإنسان: أليس التقدم هو قبل كل شيء حرية وكرامة؟

أما فيما يخص قدرة الإسلام على التعبئة في منظور تقدمي، فلا بد من أن نعرف مضمون هذا التقدم. ما المقصود به؟ هل التقدم هو هذا الذي يقود إلى الاندهاش أمام أدوات مجتمع الاستهلاك القادرة على نقل الإنسان إلى القمر ولكنها تملأ في نفس الوقت ثلث المستشفيات بضحايا الأمراض العقلية؟ هل هو تقدم هذا الذي يجعل رواد الفضاء يضربون الرقم القياسي في الدوران حول الأرض بمدة 100 يوم لكنه يسجن 70% من المسنين في دور العجزة التي هي تمهيد للموت؟ هل هو تقدم هذا الذي يجعل الناس يفضلون رفقة القطط والكلاب على رفقة هؤلاء المسنين وذلك بنسبة عائلة من كل عائلتين في فرنسا حيث تبلغ الميزانية السنوية للعناية بالكلاب وحدها حوالي 13 مليار فرنك بينما لا تبلغ ميزانية الصومال والبالغ عدد سكانها 3.5 مليون نسمة ملياري فرنك فرنسي سنوياً؟ هل هو تقدم هذا الذي يحل رموز عناصر الوراثة لكنه يقدم بسخاء 30 مليون دولار للمنظمة العالمية للصحة وذلك لتمويل مشروع مكافحة الأمراض الاستوائية التي تكبل مليار إنسان وتجعل حياتهم جحيماً؟ هل هو تقدم هذا الذي لا ينفك يضاعف الهيئات الرسمية للمساعدة في نصف الكرة الشمالي وذلك لتعويض الخراب الذي لا يعوض والذي أحدثه في نصف الكرة الجنوبي، خراب عنفه الأعمى الذي لا يستثني حتى الأطفال المختطفين أو المقطعين إرباً لقاء فدية؟ هل هو تقدم هذا الذي يبدو أنه سيعود بنا من جديد إلى الطاعون الأسود ومشتقاته مثل المنظمات العنصرية كالكوكلاكس كلان في الولايات المتحدة ومنظمات الفاشية الجديدة في إيطاليا وغيرها وذلك بعد جيلين بالكاد من اختفاء موسوليني، هتلر، ستالين، جوبلس، وبيريا؟ أليس المحيط الحيوي ونادي روما هما اللذان يرفضان هذا النوع من التقدم؟

علينا إذاً أن نحل مسألة دلالة الكلمات قبل أن نقدم إجابة أو بتعبير أدق، بعض عناصر إجابة، لأن الإجابة التي بإمكانها تقديم حل مرض لجميع المسائل المرتبطة بجميع المشاكل، مازالت الإنسانية لا تعرفها بعد. أما المسألة المتعلقة بقدرة أو عدم قدرة الإسلام على تشجيع التعبئة في منظور التطور فإنها تحمل في ثناياها اتهاماً أشد خطورة حتى ولو لم يكن ذلك إلا إيحاءً، وهو اتهام لا يتعلق فقط بالقدرة على التعبئة بل بالقدرة على التطور نفسه. وبالإمكان ترجمة هذا الاتهام كما يلي: أليس الإسلام موسوماً بعدم ملائمته لتشجيع التطور بمفهومه الغربي؟ في الواقع إن هذا الأمر لم يدرس بما فيه الكفاية في نظري. لقد بدأ الإسلام “يُحتوى”، هذا إذا تحدثنا مثل فوستردالس، في ذات اللحظة التي لاحت فيها معالم مرحلة تاريخية جديدة: مرحلة الرأسمالية التجارية التي تحولت فيما بعد إلى رأسمالية صناعية.

ترى، ألا يكون عدم الملائمة لبعث التطور الرأسمالي عدم ملائمة للتكيف مع نظام مثل الرأسمالية كما مع النظام الآخر الذي يزعم أنه نفي لهذا الأخير، أي الماركسية؟ ها هنا مسألة تستحق الطرح ومازالت بعض الدراسات المفيدة أحياناً لم توفها حقها. أليس ما يعتبر عدم ملائمة هو في الحقيقة الإجلال من جانب الرذيلة للفضيلة؟

من جديد، ها هو الإسلام ينبض حياة، وغدت شعبيته على مسرح التاريخ مشهودة الآن حيث نضجت شروط جديدة تسمح للإنسانية بأن تتجاوز المرحلة الرأسمالية في تعبيرها الجنوني. ألا يدل هذا على سعي الإسلام لتشجيع التطور بشرط أن يكون هذا التطور قد أعد ليكون في خدمة الإنسان أولاً وأخيراً؟ وحتى إذا لم يصل بعد لشيء من ذلك فإن هذا الظمأ وهذا التوتر من أجل بلوغ هذا الهدف، ألا يشجعان على الثقة فيه؟

لسنا هنا بصدد تقديم برنامج عمل دقيق يندرج ضمن مشروع حضارة جديدة. فمثل هذا العمل مازال لم يُنجز بعد، ولا بد لإنجازه من جهد واجتهاد جماعي يبذلهما المسلمون وخاصة من أوتي منهم العلم الضروري لإعداد مثل هذا المشروع وهو ما لا أملك منه شيئاً. ولكن إلى جانب هذا الجهد الفكري المطلوب فإن العمل مطلوب للتصحيح الضروري. وبالتأكيد فإن مشروع هذه الحضارة لن يخرج من “غرفة التأمل” أو من مختبر، كبدلة جاهزة، وإنما يتكون شيئاً فشيئاً وبلمسات متتالية ضمن عمل في الهواء الطلق والحر ويرتبط بالتأمل والجهد الفكري ارتباطاً جدلياً.

ما هو المقصود عملياً؟ المقصود هو مشروع حضارة، أي ذات بعد كوني، نعارض به الحضارة الرأسمالية ونظامها العالمي، مشروع أرقى نوعياً ويرمي إلى علاقة نوعية بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والطبيعة، ولن يكون هذا ممكناً إلا إذا قضى هذا المشروع الحضاري قضاءً مبرماً على تلك الثمرة التي عفنت كل شيء في النظام الغربي، والمقصود بذلك هو استغلال الإنسان للإنسان واستغلال الأجهزة للإنسان. إن استغلال الإنسان للإنسان الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي في الغرب واضح كل الوضوح في الاشتراكية المطبقة في الدول الشرقية أيضاً. فاغتصاب أملاك المغتصبين تمت في الاشتراكية الشرقية ولكن لا لصالح المنتجين مباشرة بل لحساب أكثر المغتصبين ضراوة، ألا وهو الدولة.

إن العالم الاشتراكي الرسمي، وهو الوحيد الذي يهمنا هنا، لم يشكل بديلاً مقنعاً للعالم الرأسمالي. لقد ولد هذا النظام منذ 65 عاماً، وكان من المفروض أن يقضي على شرور الرأسمالية. ولكن ها هو يعترف بهذه الشرور جميعها ويمارسها بدوره وفي مقدمتها استغلال الإنسان للإنسان. إن أقل ما يقال بهذا الصدد هو أن الأهداف التي أعلنها العالم الاشتراكي لم يتحقق منها شيء، وأن البروليتاريا التي كان من المفروض أن تصبح المشرفة على عمل بنائي هائل لم تبرر الآمال التي علقت عليها، كما أن المواجهة الرأسمالية التي قيل مراراً إنها ضرورة لا غنى عنها، لم تحدث، كما نصت على ذلك العقيدة الماركسية، والحرب الدائرة بين الرأسمالية والاشتراكية الرسمية والمفروض فيها أن تنتهي بموت الرأسمالية طالت ولم تسفر عن نتيجتها المرجوة. بل إن الأدهى من ذلك هو أن الضربات التي وجهها الخصم المحتضر نظرياً قد أحدثت أضراراً أكثر مما كان متوقعاً وتركت آثاراً لا جدال في دلالتها، كمعسكرات الاعتقال الستالينية أو الجولاج كما باتت تُسمى. ولا جدال اليوم في أن الاشتراكية الرسمية تلاحق نفس أهداف النظام الرأسمالي المتمثلة بمجتمع الاستهلاك وهذا الهدف كامن ضمن شعار الاشتراكية الرسمية: “اللحاق بالرأسمالية وتجاوزها”.

هذان القطاران، الرأسمالي والاشتراكي، واللذان كان من المفروض أن يتصادما، ترى منذ متى قاما بانعطافة أصبحت تقودهم اليوم إلى أن يسيرا متوازيين في نفس الاتجاه، إلى نفس المحطة، إلى نفس الثقافة ونفس الحضارة؟ هل منذ يالطا حيث تقاسم تشرشل وروزفلت وستالين أوروبا عشية هزيمة ألمانيا الهتلرية كما يؤكد البعض، أم منذ تبني لينين سنة 1918 التيلورية التي هي طريقة علمية جهنمية لتكثيف استغلال العمال، وتحويلهم إلى آلات صماء؟ لا شك أن هذا السبب الأخير كان هو الحاسم. ولكن لا شك أن تصفية ستالين لسلطان جاليف، هذا التتري الذي كان صديقه ولكنه كان نصيراً للثورة في المستعمرات ولممارسة تُراعي الإسلام، قد أثرت كثيراً على إفقاد الاشتراكية السوفياتية آخر أوهامها. لقد قدم سلطان جاليف حياته ثمناً لجهله بأن التعصب العرقي الروسي توأم للتعصب العرقي في الغرب الرأسمالي. لكن ما هو أشد حسماً من العوامل المذكورة التي جعلت الرأسمالية والاشتراكية الرسمية تلتقيان على أرضية واحدة وهدف واحد هو التواطؤ النشيط، وهو شيء غير معروف تقريباً، بين ثورة أكتوبر ومؤسس الأسرة البهلوية في إيران. فقد شارك الحزب الشيوعي الإيراني، الذي كان سيسمي نفسه لاحقاً تودة، مشاركة فعالة في تصفية جمهورية جيلان التي قامت في إيران منذ 1916 في أعقاب نضال مسلح ظافر وأعلنت من تلقاء نفسها بأنها جمهورية المجالس العمالية (السوفيات) كما طلبت من ثورة أكتوبر مساعدتها والاعتراف بها، لكن دون جدوى. عاملان مزعجان في جمهورية جيلان كانا مناقضين للعقيدة الماركسية: فالذين صنعوها كانوا فلاحين بينما كان، ميرزا خان، تلميذاً لجمال الدين الأفغاني. إنها نفس العقيدة التي جعلت إنجلز يقول إن فتح الجزائر يعتبر حدثاً مهماً وملائماً للتقدم والحضارة وهي قناعة كان يشاركه فيها نسبياً ماركس بخصوص احتلال انجلترا للهند.

منذ تصفية جمهورية جيلان والتيلورية واغتيال سلطان جاليف وصفقة يالطا، حدث أمر آخر سرع الاتفاق بين الأهداف المشتركة للرأسمالية والاشتراكية الرسمية: هذا الأمر هو تشابك المصالح الاقتصادية بين النظامين وهو ما تشجعه الشركات المتعددة الجنسية الغربية التي أصبحت تتكاثر خلف “الستار الحديدي”. ولقد حيت موسكو هذه الظاهرة بلسان فصيح هو لسان وكالة نوفوستي التي كتبت بالحرف الواحد في فبراير 1974: ” إن آفاق تطور عظيمة تدفع الشركات الأمريكية الكبرى: جنرال إلكتريك، جنراك موتورز، انترناشيونال بزنس ماشين، إلى توقيع عقود مع الاتحاد السوفيتي”، ثم تمضي نوفوستي قائلة: “إن عمالقة ماليين مثل روكفلر وبنك أمريكا وبنك الولايات المتحدة للتوريد والتصدير تفتح فروعاً لها عندنا، حتى هؤلاء أصحاب تشيز مانهاتن بنك، يشعرون بالفخر لأن لهم مكاتب في العنوان التالي: ساحة كارل ماركس”، وتختتم نوفوستي مقالتها قائلة: “أليست في ذلك دلالة رمزية بشكل رائع؟”.

فعلاً إنه لرمز رائع. كما يمكن أن نضيف إلى قائمة هذه الشركات الأمريكية: كروب، فيات، بيجو، رينو، والصفقات الحقيقة التي حققتها الشركات اليابانية المتعددة الجنسية في سيبيريا وأيضاً اكتساح نادي البحر الأبيض المتوسط الفرنسي لبلدان أوروبا الشرقية.

هناك عامل مهم يدل على تشابك هذه المصالح بين الغرب والشرق وهو حجم ديون بلدان أوروبا الشرقية للغرب. فمن 1975 إلى 1980 تضاعفت ديون البلدان الشرقية ثلاث مرات: من عشرين مليار سنة 1975 قفزت إلى 60 مليار دولار اليوم. أضف إلى ذلك أن ثلاثين بالمئة من تجارة أوروبا الشرقية مع الخارج تجري مع الغرب وأن أربعين بالمئة من واردات بولندا تأتي من الغرب وأن بولندا وحدها تستأثر بثلاثين مليار دولار من هذه الديون أي نصف ديون البلدان الشرقية من الغرب، كما أن مدفوعات هذه الديون تلتهم 80% من عملاتها الصعبة، وهذا ما يبرهن على بؤس اقتصاد هذه الديمقراطيات الشعبية ويساهم بقوة في إثارة استياء الجماهير فيها، ولا شك أن مثل هذا الانحطاط الاقتصادي يكمن وراء أحداث بولندا الأخيرة. وهكذا فإن آثار الأزمة الاقتصادية في الغرب هي نفسها في غرب أوروبا كما في شرقها بل إنها في الشرق تبلغ أحياناً مدى أوسع وأعمق، وهذا ما جعل إحدى الصحف الأسبوعية الفرنسية تكتب: إن معظم بلدان الديمقراطيات الشعبية تعاني هذا السنة من الركود الاقتصادي، هذا الداء الذي قيل عنه مراراً إنه داء رأسمالي، كما أن بلدان الكتلة الاشتراكية عليها كجميع البلدان الأخرى أن تقود سفينتها بحذر شديد. وكما قال أحد الخبراء إنه الانتقال المعروف من سيء إلى أسوأ.

التيلورية مرفقة بهذه الشركات المتعددة الجنسية والتي ليس ريجان وبريجينيف أو أندروبوف في نظرها سوى رئيسي قبيلة قصيري النظر ينسجان دون أن يرف لهما جفن علاقات خانقة للعالم الثالث ليرسيا نظامهما العالمي الذي يتعالى على الحدود القومية البالية، هذا هو الحلم الذي أصبح جزئياً حقيقة: تلاقي نظامين يعملان في الأرض بدقة تضاهي دقة أبولو وسيوز في الفضاء.

وأخيراً فإن الاشتراكية الرسمية والرأسمالية يظهران أكثر فأكثر كما هما في الواقع: ظاهرتان غير متناقضتين لنفس الرقعة الثقافية ولنفس الحضارة، يجران وراءهما استغلال الإنسان للإنسان بكل عواقبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وإن كان نظام الحزب الواحد في الاشتراكية الرسمية يزيد من هذه العواقب الوخيمة.

المطلوب من المسلمين هو أن يبتدعوا عالماً جديداً لا مكان فيه للاستغلال، سواء كان في داخل نظامهم أو في علاقاتهم مع الآخرين ممن لا يشاطرونهم إيمانهم، عالماً بدون ربا، وأنا أستعير هذا التعبير من الثورة الإيرانية، عالماً تلقى فيه المشاكل الراهنة حلها الصحيح: مشاكل التنمية، التي تجعل من الإنسان همها الأول في شمولية حادة يتميز بها الإسلام، وتحافظ على الطبيعة، لأن التنمية والمحافظة على البيئة وجهان لعملة واحدة، تنمية تحل مشكلة الجوع الذي يصبح أكثر فأكثر مشكلة وذلك نظراً للانفجار السكاني في العالم الثالث والذي سيعد أكثر من 5 مليارات نسمة من مجموع 6.5 مليار نسمة الذين سيشكلون نفوس العالم سنة 2000 وتحل مشكلة العنصرية وأخيراً مشكلة الإمبريالية، كما تحل مشكلة الثقافة المرتبطة باختراع معرفة وعلم وتكنولوجيا تسهل تحقيق هذه الأهداف الكبرى.

لقد تكلمنا عن العلم والتكنولوجيا وما يجران إليه وخاصة الاستغلال وأشرنا إلى أنهما حلا اليوم محل سياسة الغزو الاستعماري القديمة ولكن بأسلحة جديدة أكثر خبثاً وذلك لربطنا بعربة الإمبريالية. إن اختراع عالم جديد يعني أولاً اختراع علم وتكنولوجيا جديدة. ولكن كيف يمكن ترجمة مشروع كهذا على أرض الواقع في وقت تلتهب فيه هذه الأرض تحت أقدامنا ويتبدى فيه المأزق التاريخي لحضارة الغرب شاملاً؟ في هذا المأزق الذي نجد نحن أيضاً أنفسنا فيه، كيف لا نرى عبر ظلماته أننا أيضاً مسؤولون وأن لانحرافات هياكل الدولة والتدهور الذي أحدثته في أنظمتنا السياسية حصتها الكبيرة في مسؤولية هذا الانحطاط الذي قاد إلى احتلال بيروت؟

لذلك ينبغي أن ننتبه إلى أن الشر كامن فينا وبأن ضعفنا هو السبب الرئيس في نكباتنا. إن ما يجري منذ عقود من السنين وبالرغم من بعض الوثبات التي لم تدم كما أن ما جرى أمام أعيننا طوال شهرين في لبنان ثم في بيروت، كل ذلك ليس إلا شهادات صريحة على ما نقول. هذه الصور ليس باستطاعة أحد ولا أي شيء أن يمحوها من أذهان الأجيال القادمة ولقرون وقرون.

هكذا برزت إلى الأضواء التمزقات المرعبة في نسيجنا الاجتماعي والثقافي والسياسي والتي تفسر وحدها المأساة وتفرض الإقرار بأمر جلي هو أن رؤسائنا من السياسيين قد قطعوا وشائجهم مع الشعب وأن القطيعة الكاملة قد حلت بين الجانبين ولذلك حلت الكارثة. أصبح الإنسان العربي مهزوماً مذلاً يداري خطر الموت.

لا بد لنا من إصلاح هذا التمزق بأي ثمن وبشكل عاجل، خصوصاً في الوقت الذي يريد فيه شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي، أن يحقق خيالات سعاره. ألم يقل في ديسمبر الماضي في معهد الدراسات الإسرائيلية في تل أبيب بصدد المصالح الاستراتيجية لإسرائيل: إن هذه المصالح لا تقف عند البلدان العربية والشرق الأوسط والبحر الأحمر. فلأسباب الأمن خلال الثمانينيات، سيكون على هذه المصالح أن تمتد لبلدان مثل تركيا وإيران والباكستان وإلى مناطق الخليج وإفريقيا وأواسطها. هذا ما قاله شارون. أما المذابح المريعة بين المدنيين والتي أرعبت الضمير الإنساني، أفليست هي الدلائل لهذه الإرادة الواعية في الوصول إلى الهدف المنشود؟

لا، ثم لا، سنقولها بكل قوانا. وإذ تجتمع كل الأمة، فإننا نعتبر أنفسنا في حالة دفاع مشروع عن النفس ما دامت دار الإسلام معرضة للخطر. إن مذابح لبنان يجب أن تشكل العام الأول في تقويم النهوض الإسلامي. منذ هذا اليوم، نتوقف عن كوننا عرباً فقط. إننا كلنا فلسطينيون ما دامت فلسطين من اليوم فصاعداً هي الصخرة التي تلتقي عندها كل أفعال المقاومة والصمود في المستقبل وما دامت تحتوي وفي آن واحد الإسلام والعروبة بكليتيهما.

فليبارك الله فلسطين…

وليبارك الله لبنان…

وليبارك الله بيروت الغربية وأهلها…

فليبارك الله بطولتك يا شعبنا الذي عرفت كيف تحافظ على جذوة الحق في ظلام الليل العربي وفي هذا العهد من الزمن الإسلامي الذي هجرك فيه الجميع بينما انقضت عليك فيه قوى البربرية. إن أطفالنا وأطفال أطفالنا وأحفادهم عبر القرون وإلى الأبد سيحملونك في سويداء القلب ويباركونك.

فليبارك الله صبرا وشاتيلا. فليبارك أطفالها المذبوحين ونساءها وشيوخها، أطفالها المدفونين بطوفان النار الملحدة. فليبارك عظامهم المسحوقة وخصلات شعرهم المقطعة الشهيدة.

إن لبنان سيولد من المأساة المروعة لبيروت الغربية وصبرا وشاتيلا ولادة تكون فاتحة لولادة فلسطين المحررة.

إن بيروت الغربية وصبرا وشاتيلا هي خط الحدود الأخيرة الفاصلة بيننا وبين التخاذل. إنها الرباط الذي ظل صامداً في الوقت الذي لم يصمد فيه أي شيء آخر.

إنه فجر حياة جيدة والإعلان عن نهوضنا القريب.

يوماً سيقول التاريخ: “في بيروت الغربية وصبرا وشاتيلا كانت البداية…”.

1404هـ / 1983م