مفهوم الإسراف في القرآن وحياتنا المعاصرة

2٬872

تدور حياة الناس في هذا العصر حول الاستهلاك والاستمتاع والمبالغة في تلبية الرغبات الحسية المادية، وذلك بتأثير الثقافة المادية الغربية المعاصرة. ويندفع الناس في هذا السبيل تسوقهم إليه اختراعات متجددة لوسائل الإنجاز والراحة والترويح، وتسهيلات في الشراء والاقتراض، وثقافة تشجع التنافس على الاستهلاك والاستكثار وتجعل ذلك معياراً للمكانة وتحقيق الذات.

يعيش المسلمون في هذا الجو الثقافي الذي تشيعه الحضارة المهيمنة السائدة ويتأثرون به على درجات متفاوتة. وفي بعض ذلك التأثر، يلاحظ المرء خروجاً عن الاعتدال الذي يشكّل صبغة نموذج الحياة الإسلامية الملتزمة بالتوسط واقتفاء سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونموذج حياته.

سأناقش هذه القضية العملية الحساسة في حياة المسلمين بتحري ما ورد في القرآن الكريم عن الإسراف والتبذير وما ورد في السنة ونقاشات العلماء حول هذا الموضوع.

سنتناول بالشرح والتعليق الآيات الواردة في هذا الموضوع حسب ورودها في المصحف مع الاستعانة بدلالة السياق وأقوال المفسرين وخاصة تفسير ابن عاشور رحمه الله.

        {وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا} [النساء: 6]. قال ابن عاشور: والإسراف هو الإفراط في الإنفاق والتوسع في شؤون الملذات. وليس المقصود تقييد النهي عن الأكل بذلك الشرط، بل المقصود تشويه حالة الأكل. اه

        {وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].

        {يَا بَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ}. [الأعراف: 31]. يتحدد معنى الإسراف في هاتين الآيتين بتجاوز حدّ الاعتدال في الأكل والشرب. وفيها تقرير أن المبالغة وتجاوز حد الاعتدال في الأكل والشرب تُبعد العبد من محبة الله وتُقربه من سخطه وغضبه.

        {وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. [يونس: 12]. والمسرفون في هذه الآية ‑كما يقرر ابن عاشور ‑ هم الذين شغلهم الاستمتاع بالنعمة وطيب العيش، فنسوا حال فقرهم واحتياجهم وتضرعهم كأن لم يقع منهم فاقة واحتياج، وتكرر ذلك منهم حتى اعتادوه وألفوه فهم لا يشعرون بقبح ما تورطوا فيه من كفر بالمُنعِم وجحود للنِعَم.

        {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83].

        {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ* مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 30- 31]. والمسرفون في هاتين الآيتين هم الذين تجاوزوا الحدّ في الظلم وبالغوا في استعباد الناس وإهانتهم. ولم تذكر الآيات متعلق الإسراف ليشمل كل ما يكرهه الناس من رعونات الملوك من أمثال فرعون. وقوله: “من المسرفين” أبلغ في الوصف بالإسراف لأنه يفيد أنه من جملتهم ومشارك لهم في قبيح أفعالهم.

        {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء: 9]. والمسرفون في سياق هذه الآية هم المكذبون بالرسل المنكرون للنبوة. فكأن الإسراف هنا هو تجاوز الحدّ في إهمال مقتضى العقل السليم والركون إلى الأباطيل في تفسير الوجود.

        {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151- 152]. والمسرفون في هذه الآية هم الذين يعيشون نموذج حياة يعود على الأرض بالفساد في الحرث والنسل، وتضطرب فيه أحوال الناس وتبتعد عن الصلاح والإصلاح.

        وقد ورد الإسراف في سورة غافر في مقالة مؤمن آل فرعون ثلاث مرات، وذلك قوله: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [43]، {وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [28]، {كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [34]. وقد ذكر الإمام الشاطبي في “الموافقات” قاعدة مفيدة وهي أن: كل حكاية وردت في القرآن الكريم على لسان أحد المتحدثين ولم يقع لها ردٌّ فهي صحيحة مقبولة. وما ذكره مؤمن آل فرعون هو مثالٌ لطيفٌ لهذه القاعدة ‑إذا قدرنا أن الكلام كله هو لمؤمن آل فرعون ‑ وقد رجّح ابن عاشور رحمه الله أن هذه الجمل هي جملٌ معترضة من كلام الله تعالى ضمن حكاية حديث مؤمن آل فرعون. ونفهم من سياق الحديث أن الله سبحانه جعل الإسراف سبباً للحرمان من الهداية وسبباً للتمادي في الضلال وسبباً كذلك لاستحقاق النار في الآخرة. فالإسراف هو نموذج حياة يحرم المرء من النظر والاعتبار والانتباه إلى موارد العظة والتذكير.

        {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5]. والآية خطاب لكفار قريش أن إعراضكم عما نزل من الهدى لا يحملنا على عدم تجديد تذكيركم وإنذاركم. فالإسراف في الآية هو إفراطٌ في الإعراض عن الذكر. فنموذج حياتهم ومزاجهم وطريقة تفكيرهم لا تترك لهم فرصة للاعتبار والنظر لأنهم مسرفون.

        {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ* مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 32- 34]. والمسرفون في الآية هم قوم لوط الذين استحقوا هذا الوصف لإفراطهم في الكفر والعصيان وشيوع الفاحشة فيهم. فالإسراف كما تدل عليه هذه الآية هو نموذج حياة يتمحور حول اللذة والمتعة ويتمرد على ضوابط الوحي والفطرة.

        {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ} [طه: 127]. والإسراف في الآية كما يبينه السياق هو الاعتقاد الضال وعدم الإيمان بالآيات ومكابرتها وتكذيبها. فطريقة التفكير ونموذج الحياة الذي يتغافل عن الآيات ومقتضيات الدلائل والعبر هو إسراف ممقوت.

        {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. قال ابن عاشور في شرح هذه الآية: أطنبت آيات الوعيد ‑التي تقدمت هذه الآية‑ بأفنانها إطناباً يبلغ من نفوس سامعيها أيّ مبلغ من الرعب والخوف.

وقد بلغ بهم وقعها مبلغ اليأس من سعيٍ ينجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة لمن أرادها، على عادة القرآن المجيد من مداواة النفوس بمزيج من الترغيب والترهيب. اه. والإسراف في الآية لا يخرج عن مدلوله في الآية السابقة. فالسورة مكيّة والخطاب فيها للمشركين من أهل مكة. ولكن عبارة القرآن تشمل أهل المعاصي المسرفين من المؤمنين الذين أكثروا من الذنوب والمعاصي لتشملهم رحمة الله ومغفرته.

        {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًاإِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26- 27]. قال ابن عاشور: التبذير إنفاق المال في غير وجهه وهو مرادف للإسراف. فإنفاقه في الفساد تبذير ولو كان قليلاً، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السَرَف تبذير. وإنفاقه في وجوه الخير والصلاح ليس بتبذير.

وإذا استعرضنا ما ورد في القرآن الكريم عن أصناف السلوك والصفات الذميمة التي لا يحبها الله في أصحابها، لوجدنا بالإضافة إلى الإسراف والمسرفين طائفة من الصفات التي تستوجب سخط الله تعالى وغضبه وعقوبته. وكل هذه الصفات لها بخلق الإسراف قربى ونسب.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} [البقرة: 205]، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء: 36]، {إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا} [النساء: 107]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23}، {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38 ]، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76].

ومن المعاني التي وردت في القرآن والتي تتعلق بالإسراف خُلُق “البطر”. والبطر ‑كما يشرحه الشيخ الشعراوي رحمه الله‑ أن تنسى شُكْر المُنعِم على نِعمه؛ أي أنه سبحانه لم يرد ذكره على بالك وأنت تتقلَّبَ في نِعمه، أو يكون البطر باستخدام النعمة في معصية المنعم عز وجل. ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة أو يراها أقلّ من مستواه.  

وعند تأمل الآيات التي تحدثت عن الإسراف لاكتشاف المعنى الذي يجمعها في سلك واحد ويجعلها تستحق سخط الله تعالى وكراهية المتورطين فيه، نجد أن الآيات تصور نموذج حياة ونمط معيشة وطريقة تفكير ومزاج وعقلية تتصف بالمبالغة في الملذات والزينة، والاعتقاد باستحقاق ما يتمكن الإنسان من امتلاكه منها، حتى يستولي عليه هذا الاعتقاد فلا يدع له مجالاً للتفكير الجدي بحقوق الفقراء والمساكين، أو المساهمة في رفع الفساد في الأرض برواج المنافع وتحري العدل في توزيعها. ويصل الأمر بهذه المبالغة في الملذات أن يعيش الإنسان حياة مادية تتجاوز ضوابط الفطرة وتصرفه عن التفكير بما يجب لخالقه ورازقه من الإيمان به والخضوع له وشكر نعمه والبعد عن التوسط والاعتدال في التمتع بها أو عن استعمالها في معصيته.

ويتأمل المرء الهدر في الموارد والإمكانات وما تتورط فيه المجتمعات التي تعيش متأثرة بالحضارة المادية الغالبة، فلا يرى إلا ما يوجب الأسى من مبالغات التنافس في الزينة وطلب المتعة، وتبلد في الإحساس لما آلت إليه حال الأرض من الفساد في الحرث والنسل، وتبلد في الإحساس بمعاناة الملايين من الناس وآلامهم وحاجاتهم.

وقد لا يتورط المسلم فيما يحرم من الزينة والمتعة والملذات، ولكن التورط في المبالغة في الزينة والتأنق يضعه على منزلق خطير يبتعد به تدريجياً عن تمثيل نموذج الحياة التي يرضاها الله سبحانه لعباده. فإذا أصبح هذا التورط صبغة عامة وخلقاً جماعياً سائداً يتبارى الناس في دفعه وتوسيع مداه، انفتح باب الفتنة واسعاً عريضاً إعجاباً وتقليداً وخضوعاً للرؤية الكونية المادية ولفكر من سبقونا في تفتيق وسائل الزينة واستحداث طرق الاستمتاع وإثارة البهجة.

وأما حدّ المبالغة وما يمكن أن يُعتبر داخلاً فيها أو خارجاً عنها، فهو المدخل الواسع للتقليل من الحساسية للإسراف والتبذير. فإذا اعتبر المرء حال البيئة الخاصة الضيقة التي يعيش فيها والتي تساهم في دوامة التنافس والتكاثر، ارتفع سقف ما لا يدخل في الإسراف والتبذير. أما إذا أخذ المرء بعين الاعتبار حال الأمة بمجموعها أو المجتمع الكبير الذي يعيش فيه، انخفض هذا السقف واستولى على المرء حال من الإشفاق والحذر في كل ما يستمتع به مما زاد على القيمة الاستعمالية للارتفاق وقضاء الحاجات.

وقد يحتج بعض الناس أن هذا الكلام تحريم لما أباحه الله من الطيبات وتضييق لا ينسجم مع الإباحة الأصلية المقررة. وأود هنا أن أذكّر بما قرره الإمام الشاطبي من أن المباح ليس له وجه واحد بل له وجهان ومعنيان. والمعنى الأول؛ هو التخيير وذلك في الأمور المطلوبة لإقامة الحياة. فإذا كان الطعام ضرورياً كلياً لحفظ الحياة كان قولنا: إن الطعام مباح، يعني التخيير بين أنواع الأطعمة. وكذلك قولنا: إن الزواج مباح وهو ضروري لاستمرار النسل وبقاء الحياة، فالإباحة هنا تعني التخيير بين من وجد من الأزواج. وأما المعنى الثاني للإباحة؛ فهو رفع الحرج، وذلك في الأمور المكروهة إذا صارت عادة مستحكمة تستغرق الأوقات والنفقات، فإذا فعلت مرة فلا حرج. وذلك مثل التنزه في البساتين وغيره من موارد المتعة والترويح، ينسب من استغرقت أوقاته وماله إلى السفاهة وقلة العقل، أما إن فعلت مرة فهو الأمر المباح بمعنى رفع الحرج عن فاعله بهذا الشرط. فالزينة والتأنق والزخرفة والتجميل لا يقال إنها من المباحات إلا بالمعنى الثاني من رفع الحرج عند فعلها في أدنى الحدود.  

وإذا عاد المسلم إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليسترشد بهديه وسنته ليتعرف على ما يدخل في المبالغة، وجد نموذج حياة صبغه التواضع والتقشف والزهد والبعد عن كل زيادة حتى فيما هو من ضرورات العيش. ولعل ما يلخص سمت حياته صلى الله عليه وسلم يتمثل في الدعاء الذي كان يدعو به ويعلمه أصحابه ويقول كما ورد في الحديث الصحيح “اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحبّ المساكين”.

وحب المساكين يمكن أن يُفهم على وجهين؛ أولهما، دعاء أن يجعل الله في قلبه حباً للمساكين ورحمة بهم ومساعدتهم. والمعنى الآخر ‑الذي أرجحه وكما أفهمه في هذا المقام‑، هو دعاء أن يجعل الله المحبة في قلوب المساكين لمن يدعو بهذا الدعاء، وذلك بالتوفيق لاختيار نموذج حياة وطريقة عيش لا تنفر المساكين ولا تكسر خاطرهم ولا تقصيهم ولا تشعرهم بالدونية وعدم الانتماء إلى دائرة مودته وراحة نفسه.

ومما يرشح ويؤكد المعنى الثاني لهذا الدعاء، ما ورد في القرآن الكريم خطاباً مباشراً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعليماً لأمته: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]، {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

وأختم الكلام عن الإسراف والتبذير بفقرة أنقلها من كتاب “تـنـشئة أطفال يعتمدون على أنفسهم في عالم الوفرة والبطر”، ربما لم تفكر على الإطلاق أنك من الآباء الأغنياء ولهذا فأنت تعتبر أن المشكلة لا تخصك ولا تنطبق على حالتك. وإذا كنت في شك في تحقيقك لمعيار الغنى فجرب أن تجيب على الأسئلة التالية:

1 هل تملك أكثر من زوج واحد من الأحذية؟

2 – هل عندك أكثر من خيار واحد لما ستأكله في كل وجبة قادمة؟

3 هل عندك مجال لتصل إلى وسائل المواصلات؟  

4 هل عندك أكثر من مجموعة واحدة من الملابس الداخلية؟

فإذا أجبت بنعم عن ثلاثة أسئلة أو أكثر، فأنت في المعيار العالمي الإجمالي غنيٌّ. فأقل من عشرة في المائة من جميع من عاش على سطح الأرض هم الذين تمكنوا من الإجابة بنعم على ثلاثة أسئلة أو أكثر من الأسئلة السابقة خلال فترة واحدة من حياتهم. نحن نتحدث عن أيّ زوج من الأحذية سنستعمل في الوقت الذي لم يتمكن ثلث سكان الأرض من اقتناء أيّ حذاء على الإطلاق. ونحن نتحدث عما سنأكله اليوم في الوقت الذي يتحير قطاع كبير من البشرية إذا كان بإمكانهم أن يأكلوا أكثر من وجبة واحدة في اليوم وهم شاكرون إذا توفر نوع واحد من الطعام نفسه كل يوم. ونحن نتحدث عن امتلاك وسيلة نقل تخصنا وربما اشترينا سيارات لأولادنا في الوقت الذي لا يتوفر لنصف سكان المعمورة إلا المشي على الأقدام ولا يستطيعون تخيل وجود عربة تحت تصرفهم. ولأن مثل هذه الميزات تأتينا بسهولة فليس عندنا تقدير لها. ولأننا نزود أطفالنا بالكثير دون أن نعلمهم كيف يمكن الحصول على هذه الأشياء وكيف نقدر ونحترم هذه النعم فربما نحن نعمل حرفياً على تهديد فرصهم لاجتياز فترة حساسة من عمرهم بنجاح. فقد صوِرت الأمور لليافعين بشكل يحملهم على الإيمان أن الأحذية والطعام والسيارات ستأتي بشكل تلقائي وأن المضايقة (النق) والمناورة والتمني سيضمن الحصول عليها من النخب الأول.