التعلق بالماضي: داء ودواء

704

يعيش المسلمون اليوم في عصر الفتنة بإنجازات الحاضر التي فتحت أبواباً من تسخير الطاقات وأنواعاً من الخدمات والتسهيلات بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية. وقد ساهم هذا الواقع الجديد في طرح قضية العلاقة بالماضي والتاريخ والتراث. لقد أصبح الحاضر الذي تصوغه توجهات الحضارة المادية الغربية هو المعيار لصحة التوجه وسلامة التفكير. وأصبح التعلق بالماضي – بكل أشكاله- انتكاساً عن التطور والتقدم، واغتراباً عن واقع العيش في العصر وما يفرضه الحاضر من منطق وقيم وممارسات.

ومما يزيد من وقع الفتنة بالحاضر أصوات تتعالى وتزعم أن كل تعلق بالماضي هو وقوف ساذج على أطلال الحبيب، وبكاء عابث على ماضٍ لن يعود، وتمجيد للماضي الذي لا يخلو عن معايب وأخطاء، واعتزاز فارغ بما طواه الزمان، وكل ذلك يصرف عن فهم العصر والتفكير الرشيد في الإعداد المستقبل. ويلمح المرء في هذه الأصوات صدى التوجهات الشعوبية التي حاولت الطعن بالإسلام من وراء ستار انتقاد عادات العرب وثقافتهم وشعرهم وخاصة الوقوف على الأطلال. والوقوف على أطلال ديار الأحبة والاستغراق في ذكريات الوصال وما مضى من عهد اللقاء والأنس بالحبيب، ظاهرة فنية أدبية وجدانية ممتعة. وقد احتفل الشعراء العرب بذكر الأطلال وأجادوا في إثارة كوامن مشاعر الشوق والحنين إلى الماضي السعيد. لقد مثّل الغزل العفيف مدخلاً رمزياً لطيفاً يستثير الإعجاب والنشوة والطرب في النفوس مهما كان موضوع الحديث ومتطلبات المقام.

وتتجلى مشكلة التعلق بالماضي وتصبح أمراً لا بد من معالجته بوعي وصبر، عندما يغيب المنهج الرشيد في التعامل مع التاريخ وينقلب الحديث عن الماضي والإشادة بالأمجاد وسيلة إلهاءٍ مقصود ومنزلقاً لصرف الأوقات والطاقات والجهود عن التفكير الجاد في مشكلات الحاضر والمستقبل. وقد تحدث المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله في أكثر من موضع عن الإلهاء المفتعل الذي لاحظه في كثير من المواقف الجادة التي تفرض مناقشة واعية لما يجري في البلاد، فإذا بالأصوات تتعالى في اللحظات الحرجة لينجرف الحديث والاهتمام إلى التغني بالأمجاد بشكل مبتذل يخفي وراءه رغبة في التشويش والإلهاء وصرف الوقت فيما لا يجدي. لقد أصبح ذكر الأمجاد والتغني بالتاريخ طريقة للمزاودة الفجة للتشويش على كل من يتوجه إلى الإصلاح.

أما الشيخ عبد الرحمن الكواكبي صاحب “طبائع الاستبداد” فقد أدان بأسلوبه الخطابي المتميز ظاهرة التغني بأمجاد الماضي بشكل يلهي عن الإعداد والاستعداد للقيام بواجب الوقت فقال: لقد ملّ آباؤكم من إطرائهم وقد استمعت إليهم بالأمس يقولون: إنكم إن كنتم تفخرون بنا فإنا لا نفخر بكم، لأن العمالقة لا تلدُ أقزاماً.

فلا بد من تحرير منهج للعلاقة بالماضي والاستفادة من التاريخ والوعي للمنزلقات المشبوهة التي تصرف عن البناء وتضيع الوقت في الفخر الفارغ والتغني بالأمجاد وادعاء الفضل والشرف.

عند الرجوع إلى القرآن الكريم لنسترشد بتوجيهاته فيما يتعلق بالماضي وطبيعة العلاقة الصالحة الراشدة مع التاريخ، نجد القرآن الكريم يطرح العديد من المصطلحات التي تشكّل إطاراً جامعاً للعلاقة الراشدة مع الماضي والتاريخ، والتعامل الرشيد مع الحاضر والإعداد الواعي للمستقبل.

ذكر القرآن الكريم مصطلح (العِبرة) في التعليق على كثير من القصص والأحداث، مثل قوله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]، وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. والعبرة -كما يقرر المفسرون- هي الحالة التي يتوصل الإنسان بها إلى معرفة ما ليس بمشاهَد من النظر والتأمل في المشاهَد. فالأمر بالاعتبار هو تقرير لمبدأ القياس العقلي وتقرير لمبدأ ثبات السنن الكونية التي فطر الله سبحانه الخلق عليها. وتقرير أن النتائج تنبني على مقدمات وأن الأسباب تفضي إلى مسبباتها وأن من أراد أن تستقيم له النتائج كما يحب فلا بد من النظر إلى استقامة الأسباب، وذلك كما يقرر الإمام الشاطبي رحمه الله.

وذكر القرآن الكريم مصطلح (العاقبة) في أكثر من ثلاثين موضعاً، مثل قوله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]. والأمر بالنظر إلى العاقبة شبيه بمعنى الاعتبار. فالعاقبة هي نتيجة الأعمال ونهاية السلوك والتصرفات وما تفضي إليه من أحوال. فأحوال الهالكين من الظالمين والمفسدين  والمجرمين وما آلت إليه تصرفاتهم، فيها دروس وبيان لسنن الله في خلقه بما يعطي البصيرة ويمكّن المؤمن من رؤية المستقبل وما ستنكشف عنه الأيام.

وذكر القرآن الكريم مصطلح (السنة) في أكثر من عشرة مواضع في مثل قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا} [الإسراء: 77]، والسنة في سياق الآيات تعني الطريقة والقانون والوضع الذي أقام الله سبحانه عليه أمر الخلق. وهو أمر ثابت مستقر، وعلى المؤمن العاقل أن يكتشفه ويتصرف بمقتضاه. فالأمور تفضي إلى نتائجها ومقتضياتها ولا تتخلّف وهذا الإيمان يمد المؤمن بالوعي والبصيرة وإدراك مواطن التأثير، ولا يتركه يتقلب في الحيرة وتوقع ما تأتي به المصادفات.

وذكر القرآن الكريم مصطلح الأسوة والقدوة، مثل قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]. وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4]. وقوله تعالى: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وفي كل هذه التوجيهات القرآنية ينهض الماضي ليكون نبراس هداية ونموذج حياة فاضلة وتجربة حياة تشد إلى مثل أعلى وقدوة صالحة. وقد ذكر الشيخ القاسمي في تفسيره معنى الأسوة بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: كان في أخلاقه وأفعاله قدوة حسنة، إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب. وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب. ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة. وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهدّ الصياصي. وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي. ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى، وهو الرفيع الشأن، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان.

والماضي بالإضافة إلى كونه مستودع عبر ومواعظ ودروس وسنن وقوانين ونموذج حياة صالحة، فهو الذي يحدد للمسلم الهوية والمرجعية في التصور والأخلاق والقيم. فالقرآن الكريم هو الهداية للتي هي أقوم بلسان عربي مبين. وبيان الرسول ونموذج حياته القرآنية الربانية، هو التفسير العملي لبيان القرآن. والجيل الأول من المؤمنين الذين رباهم الرسول على عينه وتوفي وهو عنهم راضٍ وشهد لهم ربهم بالخيرية والسبق والفضل، هم الامتداد الجماعي لمعنى البيان النبوي لهداية القرآن، “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ”.

فالماضي الذي يحدد الهوية ويرسم الوجهة ويسدد طريقة فهم الأمور وأصول معالجاتها، هو مجال الاقتداء والاتباع الذي يعصم من الشطط والضياع. فالاتباع الذي يعني الانضباط بمرجعية الوحي ومنهج فهمه هو مطلب أصيل في تصور المسلم. وقد خاطب القرآن الكريم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 9]. وخاطب المؤمنين عبر تاريخ الرسالات بقوله: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

وقد عرض القرآن الكريم طريقة أهل الكتاب في التعامل مع الماضي والتاريخ وبيّن سوء صنيعهم بادعاء الشرف والفضل بمجرد الانتساب مع النكول عما يفرضه هذا الانتماء والنسب من واجبات ومسؤوليات. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65]. {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68]. {أمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]. ويأتي الجواب القرآني حاسماً قاطعاً للإجابة على كل الدعاوى الفارغة للشرف والفضل والحظوة عند الله: {تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134}. فلا منزلة ولا تشريف إلا بعد القيام بواجبات التكليف، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: ]113. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أن أمته ستتورط فيما وقع فيه أهل الكتاب، فيوجه خطابه لأمته ولأهل بيته بشكل خاص فيقول: “يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً.  يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً”. رواه البخاري.

عندما يصبح الماضي ملهماً للهمم ودعوة للترفع على واقع الهوان والضعف ووعياً للهوية وللقيم والمبادئ التي يمثلها الانتماء إلى أمة التوحيد. وعندما يصبح الماضي رمزاً للمقاومة والتعالي على محاولات الإفناء. وعندما يصبح الماضي كاشفاً للأقنعة الخادعة التي تخفي وراءها الوجه الكالح للعدو القديم. عندما يحدث هذا كله وتستقيم العلاقة مع الماضي وتخرج من الفخر والادعاء إلى الإلهام والبناء، فعندها فقط يحقّ للنفس أن تستروح وتطرب بأحاديث الماضي والوقوف على الأطلال وقوفاً يلهم الشوق إلى المجد ويشحذ الهمة للعطاء والتضحية والبذل والتميز.

لقد كانت النهضة الأدبية والفكرية في بلاد العالم الإسلامي والتي شهدها مطلع القرن العشرين، وأنتجت لنا تراثاً أدبياً متميزاً وأبرزت أسماء كبيرة في الشعر والأدب والفكر، مثالاً يحتذى للعلاقة الصحيحة بالماضي استلهاماً وباعثاً على الثقة بالنفس ودافعاً للاعتزاز وطموحاً لمقاومة الغزاة المستعمرين والتمسك بالهوية والانتماء. رحم الله ‑إقبال‑ فقد أكثر في شعره من الحديث عن العشق الذي فقدته الأمة في العلاقة مع القيم والمبادئ فكان ما كان من الضياع والخمول والفتور. فما كان يرجوه إقبال عندما يتحدث عن العشق يتمثل في أحد أبيات قصيدتيه شكوى وجواب شكوى حيث يقول:

والعشق فياضٌ وأمة أحمدٍ   يتحفّز التاريخ لاستقبالها

 فالعلاقة الحميمية بالمبادئ والقيم تضع الأمة من جديد لتصنع التاريخ وتخط الأمجاد. وعندها يكون المعنى الرمزي للوقوف على الأطلال وتذكر ديار الأحبة صانعي الأمجاد مطلباً ثقافياً وعنصراً إيجابياً لنفخ الروح في الأفكار الباردة وإيقاد نار الشوق في القلوب التي غلب عليها الخمول.