الـزَّكـاة والمال المستفاد

183

من الأمور التي تميز هذا العصر الذي نعيش فيه، ازدياد الفجوة بين الفقراء والأغنياء وخاصة في ظلّ النظام الاقتصادي العالمي الذي تهيمن عليه ثقافة الاستهلاك والمتعة والسرف والترف.

وينظر المسلم إلى مجتمعات المسلمين ليسأل نفسه السؤال الفطري الطبيعي: كيف تُسهم فريضة الزّكاة في تقليل عدد الفقراء وفي توزيع ثروة الأمة بشكل يحقق المواساة والتكافل؟

ويصاب المسلم بالحيرة عندما يعلم أنَّ الفتاوى المنتشرة في موضوع الزكاة تسير في اتجاه لا ينسجم مع الفهم الفطري لتوجيهات الإسلام في تحري العدل في توزيع الثروة وتأمين الحدّ الضروريّ من العيش الكريم لمجموع الأمة، حتى أنَّ وصف الإيمان يرتفع إذا اختلَّ تأمين الحدّ الأدنى. فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد ويقول: “ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ”. (رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس. وصححه الذهبي في التلخيص، والألباني في صحيح الأدب المفرد).

فالفتاوى التي تتردد على المنابر وحلقات الوعظ والإرشاد تؤكد على أنَّ الزّكاة لا تجب إلا فيما حال عليه الحول من المال. أما ما يستفيده المرء من المال ويكسبه طول العام إذا أنفقه لا تجب فيه الزكاة بالغاً ما بلغ. فالطبيبُ والمهندسُ والمحاميُّ والإداريُّ وكلُّ أصناف الموظفين والمستخدمين والخبراء والوسطاء لا يجب عليهم زكاة فيما استفادوه من رواتب وأجور وتعويضات ومكافآت إلا فيما بقي في حسابهم في آخر الحَوْل. وغالباً ما يكون هذا الباقي أقلّ من القليل بعد أن اِستهلكت الدخل الالتزامات التي لا تنتهي لتلبية متطلبات مستوى المعيشة والإطار الاجتماعي الذي اختاره المرء لنفسه.

والمسلمُ لا يستريح إلى هذه الفتاوى لأنها ظاهرة الغرابة عن منطق المواساة والتكافل الذي يمثل روح الإسلام. لكنَّ المسلمَ مطالبٌ أن لا يهجم على الفتوى ويتكلم في دين الله بغير علم. وعند البحث في هذا الموضوع الخطير نجد أنَّ من علماء المسلمين الموثوقين من تكفل بمعالجة هذا الأمر وتوجيهه بشكل ينسجم مع الفهم المقاصدي لفريضة الزكاة. وما نفعله هنا هو الإشارة والدلالة على معالجة نظن فيها الانسجام والتوافق مع روح الشريعة ومنطقها ومقاصدها وبعد ذلك كل مسلم مسؤول عما يأخذ به نفسه.

عالج الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه “فقه الزّكاة” موضوع زكاة المال المُستفاد في الفصل التاسع في الجزء الأول من الكتاب وانتهى بعد مناقشات وتحليلات مستفيضة إلى النتائج التالية:

-الأجور والرواتب والتعويضات والمكافآت التي يتقاضاها المرء نتيجة عمله في مهنة أو عقد استخدام، هي مالٌ مستفادٌ تَجبُ فيه الزكاة حين استفادته ولا يشترط فيه الحَوْل.

-ليس في اشتراط الحَوْل حديث ثابت مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما في المال المستفاد.

-يُعتبر الدخل السنوي الإجمالي في حساب النصاب.

-تُؤخذ الزكاة من صافي الإيراد أو الراتب ليطرح منه الدين ويُعفى الحدّ الأدنى لمعيشته ومعيشة من يَعول.

وقد عرض الشيخ القرضاوي المحاولة الرائدة للشيخ ولي الله الدهلوي لبيان معنى النصاب الذي يتحدد به حدّ الغنى وحدّ الفقر بما ينسجم مع النصوص ويراعي في الوقت نفسه تغيرات الزمان وما استجد من وسائل الكسب أو ما يعتبر من الحاجات الأصلية التي لا بدّ منها. وخلاصة مناقشة الشيخ الدهلوي رحمه الله أنَّ النصوص الواردة في بيان مقادير النّصاب يمكن إرجاعها كلّها عند معرفة الواقع الاقتصادي في عهد النبوة إلى معيار واحد وهو “ما يكفي أدنى بيت من المسلمين سنة”. وهذا المعيار يمكن معرفته بدقة في عصرنا إذ تكفلت الدول والحكومات ببيان حدّ الفقر في كلِّ مجتمع. فكلُّ من كان دخله السنوي أقل من حدّ الفقر المقرر في مجتمع معين فهو فقيرٌ لا يدفع الزكاة ويجوز له أن يأخذ من مال الزكاة ما يكفيه. وكلُّ من زاد دخله السنوي عن حدّ الفقر في بلده فهو غنيٌ تجب عليه الزكاة في المقدار الزائد عن حدّ الفقر ولا يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة. ولا فرق في تحقيق معنى التكافل والمواساة والشكر لله تعالى على نعمه، إن دفعت الزكاة المستحقة أقساطاً بإخراج مبلغ عند كل دفعة يقبضها أو أن يدفع المسلم المبلغ المستحق مرة واحدة مع زكاة الأصناف الأخرى من المال أو الدخل عند تمام الحَوْل.

إنَّ موضوع الزكاة واسعٌ متشعبٌ وكذلك أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة ومقادير نصابها، والمسلمُ الصادق يتحرى لدينه حتى يحقق مقاصد الزكاة من المواساة والتكافل فيدفع ما يجب عليه عن طيب نفس واحتساباً للأجر. وما أردنا في هذا المقال هو التذكير بطرفٍ من أحكام الزكاة فيما يتعلق بالمال المُستفاد والتي غفل عنها كثيرون أو تمسكوا بأقوالٍ ظاهرة التعارض مع روح الإسلام وهَديِه في المواساة ومراعاة حقّ الفقير والمسكين.