تجليات مفهوم الأمَّة في التراث التربوي الإسلامي

960

تراثُ أيَّة أمَّة عنصرٌ أساسي في تكوينها المادي والمعنوي، وفي حضورها المعاصر في ساحة العالم، وهو موضوع مهم في الدراسات الحديثة والمعاصرة؛ إذ كثر الجدل في الدراسات الغربية حول العوامل المكونة للأمة، من لغة، وجنس، وأرض، وثقافة، ومصالح، وآمال، وثقافة، إضافة إلى التنظيم السياسي المكون للدولة، فالمفكرون الألمان لهم رؤية معينة، وللمفكرين الفرنسيين رؤية مختلفة، بينما مارس الأمريكيون تجربة مختلفة في تطوير مفهوم الأمَّة وتعريف تراثها. والاختلاف عادة إنَّـما يكون في موقع العوامل التي يرون أنَّـها هي المقومات المهمَّة للأمَّة، وموقع كلِّ عامل منها في بناء الأمَّة وإعطائها صفتها وخصائصها. وفي الشرق نجد الهنود والصينيين واليابانيين يعتمدون التراث التاريخي أساساً في الحديث عن الأمَّة.

وعلى التفاوت الملحوظ في أهمية كلِّ عامل من عوامل بناء الأمَّة، يبقى التراث المتحدِّر من التاريخ القديم أو الحديث عنصراً أساسياً في بناء الأمَّة، حتى إنَّ المجتمعات الحديثة التي لا يجمعها تاريخ مشترك، وتريد أن تُكرِّس مفهوم الأمَّة لديها، فإنَّـها تَبْنِي لنفسها تراثاً قريب العهد، وتنشئ لهذا التراث على بساطته متاحف يجعلون زيارتها نشاطاً تربوياً مهماً لأبنائها.

أما مفهوم الأمَّة في الإسلام فهو مفهوم مختلف إلى حدٍّ كبير عمّا نجده لدى الأمم والشعوب الأخرى، فقد اتصل مفهوم الأمَّة في التاريخ الإسلامي اتصالاً مباشراً بالدين، وأخذ معنىً دينياً عميقاً، لارتباطه بأصول الدين في القرآن الكريم والسنة النبوية، وما دار حولهما من اجتهادات العلماء في تنزيل أحكامهما في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فانصبغ التراث الذي خلَّفه أولئك العلماء بصبغة دينية ظاهرة. وعلى الرغم من تعدَّد أعراق ولغات الأوطان أو النظم السياسية، فإنَّ ثَـمَّة نوعاً من الترابط بين المؤمنين بالإسلام، هو الذي يجعلهم أمَّة واحدة، لكنَّ سائر العوامل الأخرى التي تقيم الترابط بين النَّاس لها موقعها وفق أحكام الإسلام وتوجيهاته.

وقد ورد مصطلح الأمَّة في القرآن الكريم بالمفرد (أُمَّة) وبالجمع (أُمَم) في اثنين وستين موقعاً،([1]) بمعاني ودلالات مختلفة، يهمنا منها ما وُصفت به أمَّة الإسلام التي اتَّبعت النبيَّ محمداً صلّى الله عليه وسلم، وأثنى الله سبحانه عليها في عدد من الآيات منها: {وكذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، ومنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس} [آل عمران: 110]. وجاء ذكر الأمَّة في الأحاديث النبوية، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: “ولن تزال هذه الأمَّة قائمة على أمر الله لا يضرُّهم من خالفهم حتى يأتِـيَ أمر الله”. ([2])

ويرى إسماعيل الفاروقي أنَّ الأمَّة في القرآن الكريم هي “مجتمع عالمي، تتَّسع العضوية فيه لتشمل أقصى درجة متصورة من التنوع في الأعراق، أو في الجماعات، ولكنَّ التزامهم بالإسلام يربط بينهم بنظام اجتماعي معين([3])… ولا يقبل مفهوم الأمَّة الترجمة ويجب استعماله في صيغته العربية الإسلامية، فهذا المفهوم ليس مرادفاً لمفاهيم الشعب، ولا القوم، ولا الدولة… (فالأمَّة) كيان عالمي عابر للدول، وقد يتضمن دولاً عدة ويحتويها”([4]). فالله سبحانه أنزل الدين الخاتم للناس جميعاً وذلك قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف: 158]، وقوله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أُعطِيتُ خمساً لم يُعطَهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي:… وكان النبي يُبعث إلى قومه، وبُعثت إلى النَّاس عامَّة”. ويجمع بين أبناء الأمَّة على اختلاف لغاتهم وأعراقهم، وتباعد أماكن وجودهم من العلاقات ما يجمع بين الجسد البشري الواحد، كما جاء في الحديث النبوي: “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحمّى”([5]).

والأمَّة العالمية لا تعني أنَّ جميع الناس سوف يدخلون في دين الإسلام، فغير المسلمين في هذه الأمَّة أحرار في اختياراتهم الدينية ولكنَّهم يخضعون لأحكام الإسلام، التي تستهدف تحقيق الكرامة الإنسانية، وبسط العدل ومنع الفساد، والسعي في إصلاح الأرض وعمرانها وتوظيف مقدراتها لخير البشر جميعاً. أما في خصوصيات الاعتقاد الديني فلغير المسلمين أن ينظِّموا علاقاتِهم وَفْقَ دياناتهم، وعلى المجتمع الإسلامي أن يحمي هذه العلاقات والقوانين التي تحكمها وينفِّذ قراراتِها بحرية وسلام.([6])

وقد شهد التاريخ الإسلامي في سائر مراحله التَّحَقُّقَ العملي لهذا الهدف، فغير المسلمين في المجتمع الإسلامي كان لهم حرية التدين والعمل والحركة، ولهم في التراث الحضاري الذي خلفته أجيال ذلك المجتمع نصيب مقدر.

والذي يعنينا في هذا المقام هو النظر في الصورة التي يرصد فيها التراث الإسلامي مفهوم الأمَّة وطبيعة العلاقات القائمة بين أفرادها ومجتمعاتها. ذلك أنَّ التراث يُعد مصدراً مهمًّا من مصادر المرجعية الأساسية في التعبير عن شخصية الأمَّة وهويتها الثقافية، التي تميزها عن غيرها، وتربط تاريخها الماضي ووجودها في الحاضر وطموحها للمستقبل، ومن ثَـمَّ تستند كلُّ أمَّة إلى موروثها الحضاري في تكريس وَحْدتها وبقائها.

وفيما يأتي إشارات موجزة لأمثلة من التراث التربوي الإسلامي الذي كان يعبر عن مفهوم الأمَّة الواحدة، على الرغم من تعدد النُظُم السياسية التي كانت قائمة في كثير من الفترات.

      1. الرحلة في طلب العلم:
        نـَجِد في مصادر التراث التربوي الإسلامي حديثاً وافراً عن الرحلة في طلب العلم؛ إذ لم يكن طالبُ العلم الجادّ يكتفي بالأخذ عمن يتوافر في بلده من العلماء، بل يسافر من بلده إلى بلد آخر عندما يعلم أنَّ فيها عالماً عنده من العلم ما يَنْتَفِع به أو يبحث عنه. ومع أنَّ طالب العلم قد وصله ذلك العلم، ويستطيع أن يرويه عمن أخذه عنه، لكنَّه يحرص على أن يأخذه مشافهة من مصدره. وفي كثير من الأحيان يرحل ماشياً أو راكباً، من بلد إلى آخر، وحيداً أو مع رفيق سفر، براً أو بحراً…
        يروي ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد بن حنبل أنَّه جمع كتابه “الـمُسْنَد” عن طريق لقائه بالعلماء والمحدِّثين في العراق، والشام، والحجاز، وخراسان، ومصر، واليمن، وسار من بلد إلى آخر ماشياً في كثير من الأحيان، وركب البحر في طلب العلم.([7]) ومما جاء في ذلك أنَّ: “عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: خرج أبي إلى طرسوس ماشياً، وخرج إلى اليمن ماشياً”.([8]) وعن يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل قال: “خرج أَبِـي وأحمدُ بن حنبل في طلب العلم، فكُسِرَ بهما (المركب) فوقعا في جزيرة…”.([9])
        وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثٌ سَمِعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعْه منه قال: فابْتَعْتُ بعيراً فشدَدْت عليه رَحْلِي فسِرْتُ إليه شهراً، حتى أتيت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري، قال: فأرسلتُ إليه أنَّ جابراً على الباب، قال: فرجع إليَّ الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، قال: فرجع الرسولُ إليه، فخرج إليَّ فاعْتَنقَنِـي واعتنقْتُه، قال: قلت: حديثٌ بَلَغَنَـي أنَّك سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم، لم أسمعه، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه”.([10])
        ويروي الخطيب البغدادي كذلك عن مالك بن أنس، “قال: قال سعيد بن المسيب: “إنْ كُنتُ لَأسيرُ الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد”.([11])
        وعن محدث أصبهان أبو بكر محمد بن إبراهيم المشهور بابن المقرئ المتوفي (381ه) أنَّه قال: “طُفْتُ الشرق والغرب أربع مرَّات” وأنه قال: “مشيْتُ بسبب نسخة مُفَضَّل بن فُضَالة سبعين مرحلة، ولو عُرضت على خبَّار برغيف لم يقبَلْها”. وقد سمي ابن المقرئ “الرحَّال” لكثرة رحلاته.([12])
        وقد انتشر مذهب الإمام مالك في الأندلس والشمال الأفريقي، مع العلم أنَّ عِلْمَ مالك رحمه الله كان قد استقر في المدينة المنورة، لكنَّ العلماء الذي نشروا المذهب في تلك الديار، كان يرحلون إلى الحجاز للحج، ويجلسون إلى الإمام مالك، ثم يعودون إلى بلدانهم.
        وقد كان العلماء يجدون الترحيب في أي بلد ينتقلون إليه، ويجدون من يتَتَلْمذ عليهم بجدٍّ وإخلاص، لذلك فقد كان بعض هؤلاء العلماء ينتقلون من بلد إلى آخر دون معاناة كبيرة، فهذا محمد بن حارث الخُشني غادر بلده القيروان إلى سبتة، فأبقاه أهلها عندهم ليدرسهم الفقه.([13])
        والذي كان يساعد على تسيير أمر السفر والرحلة أنَّ النَّاس في هذه الأقطار كلّها كان ينتظمهم معنى الأمَّة الواحدة، فلا يحمل المسافر إلا القليل من الزاد والمال، ففي كل مكان يصل إليه طالب العلم يجد من يرحب به ويؤويه فيقيمُ عنده، ويزوِّدُه ما يلزم للمرحلة القادمة من الرحلة، حتى إذا وصل مبتغاه يجد من يقول له مرحباً بطالب العلم؛ فحِرْصُ طالب العلم على التعلَّم لا يقلُّ عن حِرص العالم على نشر العلم ونقله إلى أماكن أخرى ولأجيال أخرى.
        وجاء في كتاب “ثمرات الأوراق” لابن حجه بسنده على الإمام الشافعي يتحدث عن رحلاته في طلب العلم، منذ فارَقَ مكَّة وهو ابن أربع عشرة سنة، في رواية طويلة جاءت في عشر صفحات،([14]) ما يهمنا منها هو التكريم الذي لقيه من القوافل التي كانت تحمله معها، في جميع أسفاره، ثم الترحيب الذي لقيه عند الإمام مالك في المدينة المنورة حيث جلس عنده في ضيافته ثمانية أشهر، فلما أراد الخروج إلى العراق زوَّدَه بما يلزمه من راحلة وزاد، فلما قدم على الإمام محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، في بغداد وأدرك محمد بن الحسن مكانة الشافعي في العلم، جعله ضيفاً عنده طيلة فترة إقامته. يقول الشافعي: “فاستأذنته في الرحيل، فقال: ما كنت لآذن لضيفٍ بالرحيل عني، وبذلَ لي مُشاطرةَ نِعمتَه، فقلت: ما لذا قصدتُ، ولا لذا أردتُ، ولا رغبتي إلا في السفر، قال: فأمر غلامه أن يأتي بكل ما في خزانته من بيضاء وحمراء، فدفع إليّ ما كان فيها وهو ثلاثة آلاف درهم، وأقبلْتُ أطوف العراق وأرض فارس وبلاد الأعاجم، وألقى الرجال حتى صرتُ ابن إحدى وعشرين سنة…”.([15])
        كان العلماء ينتقلون من مكان إلى آخر لأسباب مختلفة أهمها بطبيعة الحال الأسباب الذاتية المتصلة بطلب العلم، ومنها الأسباب الوظيفية حين يأمر الخليفة أو الحاكم عالماً أن يذهب إلى بلد معين لتعليم علمه لأبناء ذلك البلد، أو لتولي أمور القضاء فيها، ومنها الجهاد حين يلتحق بعض العلماء بالثغور والرُّبط فيعلمون من فيها، ومنها هروب العلماء من ملاحقة السلطان، أو الخلاف مع غيره من علماء البلد، وأحياناً هروباً من السلطان ليس لخلاف، بل حين يطلب من العالم تولي مسؤولية القضاء على غير رغبة منه فيغادر بلده، ويوثق القاضي عياض عدداً من الأمثلة من النوع.([16])
        وقد وَرَدَتْ في كتاب “رياض النفوس” قِصَّةٌ طريفة عن رحلات عبد الله بن فَرُّوخ الفارسي (ت 176ه)، الذي وُلِد بالأندلس، وتوطَّن بالقيروان، ورحل إلى الشرق، ثم سافر إلى الحجِّ، وعاد إلى مصر فمات فيها. “عن ابن فَرُّوخ أنَّه قال: أتيت الكوفة وأكبر أملي السماع من سليمان بن مهران الأعمش، فسألتُ عنه فقيل لي: إنَّه غضِبَ على أصحاب الحديث، فحَلَفَ أنَّه لا يُسمعهم إلى وقتٍ ذَكَرُوه. قال: فكنْتُ أختلف إلى داره طمعاً أن أصل إليه، فلم أقدر على ذلك، فجلست يوماً على بابه وأنا مفكِّر في غُرْبَـتِـي، وما حُرِمْتُه من السماع منه، إلى أن فُتح الباب، فخرجتْ جارية، فقالت: ما بَالُك على بَابِنا؟ فقلتُ لها: أنا رجل غريب، وأعْلَمْتُها بخَبَرِي، فقالت: وأيْن بلدُك؟ فقلتُ إفريقية، فانْشرَحتْ لي وقالت: أَتَعْرِفُ القيروان؟ قلت لها: ومِنْ أهْلِها أنا، قالت: لعلَّك تعرف دار ابن فروخ؟ ثم تأمَّلَتْني، وقالت: عبد الله؟ قلت: نعم، فإذا هي جاريةٌ كانت ببلادنا، أو قال من بلادنا، وأظنُّه قال: كنت رضيعاً لها فبِعْنَاها، وهي صغيرة، فصارت إلى الأعمش، وكانت لها دالة عليه، فدخلت عليه، فقالت له: ابن مولاي الذي كنتُ أخبرك بخبره بالباب، فأمرها بإدخالي، وأسكنني في بيت قبالته، فكنت أسمع منه وحدي، وقد حرم سائر الناس، إلى أن قضيت أرَبِي منه”.([17]) والعبرة في شأن ابن فروخ هو تعدد البلاد التي تنقل فيها فوِلادَتُه في بلد، وإقامته في بلد آخر، وموته في بلد ثالث، ورحلاته إلى كثير البلدان، أخذ فيها عن أبي حنيفة، وناظر زفر في حضرة أبي حنيفة وتفوَّق عليه، وسمع من سفيان الثوري، وجلس إلى مالك ابن أنس وراسله، فهو ابن هذه الأمَّة في شتى أقطارها، وتعدُّد أقطارِها، وتنوُّع مذاهبِها.
        قدم عبد العزيز بن يحيى من المدينة إلى القيروان، فأقام يعلِّم النَّاس مدَّة، ثم إنَّه رغب في العودة، وطلب منه الفقهاء أن يمكث عندهم مدَّة أطول، وأعانوه على البقاء. ثم إنَّ أبا يحيى زكرياء الوقار جاء إلى القيرون من مصر، وجلس يعلِّم النَّاسَ، فلما أراد الخروج، طلبوا منه البقاء فقال إن أعنتموني على البقاء كما أعنتم عبد العزير بن يحيى أقمْتُ.([18])
        وكان العلماء يتعرضون في بعض الظروف إلى محن وفتن من الحكام، ومِنْ ذلك أنَّ أحمد بن الأغلب سلطان القيروان دعا سحنون إلى القول بخلق القرآن فهرب سحنون ليختبئ عند عبد الرحيم بن عبدربه، في قصر زياد وأقام عنده شهرين ونصف”. وكان عبد الرحيم قد دعا الله أن ييسر له أن يأخذ العلم عن سحنون، فكان ذلك مما يسِّرَهُ الله له.([19]) 
      2. الأمَّة في امتدادها في الزمان والمكان:
        كلُّ أمّة من الأمّم تعتز بتاريخها وتتمسَّك بأرضها. ومع ذلك فليس من السهل أن تجد مفهوم الأمَّة في امتداده العمودي من حيث العمق التاريخي، ولا الامتداد الجغرافي الأفقي حاضراً بكثافة لدى أمَّة من الأمم كما هو حاضر في الأمَّة الإسلامية. فالأمَّة الإسلامية التي آمنت بخاتم الأنبياء محمد صلّى الله عليه وسلّم، تؤمن بجميع أنبياء الله على مدار التاريخ البشري، فتُراثُ النبوَّات السابقة صدّق عليه القرآن الكريم وهيْمَن عليه، فإبراهيم عليه السلام هو أبو المسلمين. فالمسلمون بعد رسالة محمد هم ملّته، هو سمّاهم بهذا الاسم الكريم: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} [الحج: 78].
        ثم أصبح هذا القرآن، مع بيانه العملي في السنة النبوية، ولا يزال، مصدر كلِّ تراث لاحق. فكلُّ علماء الأمَّة على اختلاف مذاهبهم وفِرَقهم اجتهدوا في فهمهما وتنزيل أحكامهما، فكان الصحابة في أوَّل الأمر الجيلَ الفريد الذي استوعبَ مقاصد الدين ومارسَه بتوجيه نبوي كريم، وجاء التابعون فاتَّبعوا ما كان عليه الصحابة، وجاء تابعوهم على المنهج نفسه، وتواصلت منهجية الاتِّباع جيلاً بعد جيل، كلُّ جيل يحاول أن يبدأ من القرآن والسنة ثم يرى كيف كانت حياة الصحابة ثم التابعين في الفهم والاتباع. وكلما بَعُد الجيل عن عهد النبوة هيأ الله لهذه الأمَّة من العلماء من يُـجَدِّد لها دينَها، فيعود كما بدأ جديداً. هذا الامتداد الزمني عبر مواكب النبوات ثم أجيال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، المهتدين بالوحي الإلهي والهدي النبوي، هو الذي شكَّل معنى الأمَّة، ولذلك لا غرابة أن نجد التراث التربوي الإسلامي قد كرَّس الانتماء لهذه الأمَّة وعزز ترابط أجيالها بهذا الامتداد التاريخي.
        أما الامتداد الأفقي الجغرافي فقد أشرنا إليه عند الكلام عن الرحلة في طلب العلم، فعلى الرغم من القدسية الدينية لمكة المكرمة والمدينة المنورة، وعلى الرغم من أهمية العواصم السياسية الكبرى في دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها، فإنَّ العلماء قد انتشروا في أنحاء كثيرة، فكلُّ هذه الأنحاء هي مواطن لوجود الأمَّة، وهي مواطن تحتاج إلى علماء يُـبْقُون العلم حيّاً فيها متصلاً بأصوله، وبذلك أصبحت أماكن وجود العلماء هي مهوى أفئدة طلبة العلم، وأصبحت “الرحلة في طلب العلم” فصلاً من فصول الكثير من كتب التراث، وعناوين لكتب مستقلة من كتب التراث.
        وحين أصبحت بعض الأمصار في الدولة الإسلامية مستقلة عن المركز، وتعدَّدتْ النظم السياسية في الأمصار، والدول التي تحكم المسلمين، بقي مفهوم الأمَّة واحداً، واستمرت قنوات التواصل بين أعضاء جسم الأمَّة الواحد الموزع على الحجاز واليمن وبلاد الشام والعراق وبلاد فارس وخراسان والهند ووادي النيل والشمال الأفريقي والأندلس وصيقلية وبلاد الروم والأناضول وجزء كبير من شرق أوروبا. فأبناء هذه الأمَّة تشكيلة واسعة من الأعراق والقوميات من العرب، والفرس، والروم، والترك، والبشتون، والبلوش، والبربر، والسودان، والحبشة…، ولو تتبعنا أسماء العلماء الذي ذكرَتْـهم مصادر التراث التربوي الإسلامي لوجدنا أنَّ كثيراً من هذه الأسماء تنتسب إلى مكان وجودها، البصري، البغدادي، الشامي، الحموي، القيرواني، الأندلسي، الغرناطي، الصنعاني، الشوكاني، الآجري، الصيقلي، المروزي، الحراني، الرازي، الفارسي، المديني، المكي، الغزِّي، القابسي، الزرنوجي، الحضرمي، الفارابي…
        فكلُّ مَن عَرَفْنا من العلماء الذي كتبوا مصادر التراث التربوي الإسلامي وعلى اختلاف ما تشير إليه أسماؤهم من أماكن، أو قبائل، أو مذاهب، إنَّما ينتمون إلى أمَّة واحدة. ولا شك في أنَّ هذا التعدُّد والتنوَّع كانا مصدر غِنَىً للتراث التربوي الإسلامي، دون أن يؤثر ذلك على خاصية الانتماء إلى الأمَّة الواحدة في مرجعيتها الدينية، وما ترشد إليه هذه المرجعية من كتابة معظم التراث باللغة العربية.
      3. وحدة مصادر العلم والتعليم: من القرآن والسنة والآثار إلى علماء المذاهب
        أشرنا في البند السابق إلى بعض تجليات الوحدة في كيان الأمَّة رغم امتداد الزمان والمكان، ولكنِّ ثَـمَّة ملمحاً آخر لهذه التجليات، وهو ما يختص بوحدة مصدر العلم والتعليم. فبعد عصر الرسالة انتشر الصحابة في الآفاق الإسلامية، ولكل صحابي منهم علم، على الرغم من أنَّ أصل علومهم كلِّها هو الوحي الإلهي والهدي النبوي. وقد شاع الأثر المروي عن مالك بن أنس عندما طلب منه المنصور أن يكتب الموطأ، ليحْمِلَ النَّاس عليه، فلم يقبل مالك، فكرة حَمْل الناس عليه، وقال: “يا أمير المؤمنين لا تفعلْ، فإنَّ النَّاس قد سبقَتْ لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كلُّ قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودالوا له من اختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وغيرهم، وإنَّ ردَّهم عما اعتقدوا شديد، فدَعْ النَّاس وما هُمْ عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم”.([20])
        وعلى أساس هذا التنوع والاختلاف فيما وصل إلى النَّاس من علم، اختلفت بعض الاجتهادات بصورة استقرت على شكل مذاهب فقهية، تعددت فيها طرق الاستدلال الفقهي وأصوله. واختلفت كذلك آراء بعض العلماء في تفسير بعض مسائل العقيدة مما أدَّى إلى تشكُّل الفِرَق الكلامية، ثم دخلت ترجمات الأمم الأخرى فجاءت المذاهب الفلسفية، وتفاوت الناس في حبِّ الدنيا أو الزهد في متاعها فجاءت الطرق الصوفية، وأرخَّ بعض العلماء للشخصيات العامة في المجتمع من علماء وأمراء وللأحداث من تقلبات سياسية ومعارك عسكرية وتغيرات اجتماعية وتربوية، فذهبوا في كتابة التاريخ مذاهب مختلفة، وكان من ذلك مدرسة تاريخية… وهكذا.
        ومع ذلك لو نظرنا في كتب الفقه أو الحديث أو التاريخ أو التصوف، لوجدنا ما يعبر عن المرجعية الموحدة للأمة الإسلامية، فهم يبدأون بما ورد عن الموضوع الذي يكتبون عنه، في القرآن الكريم، ثم يأتون بما ورد عنه من أحاديث نبوية، ثم بما ورد من أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم، ويتتبعون اختيارات رؤوس المذاهب والفرق والطرق، ولكنّ أيّاً منهم لا يملك إلا أن ينهل من القرآن الكريم والسنة النبوية، أو يدعي ذلك على الأقل.
        وقد وجدنا أنَّ من مصادر التراث التربوي الإسلامي ما يختصُّ بالمدرسة الفقهية والحديثية التي تنتهي مرجعياتها إلى رؤوس المذاهب، ونحن نعلم أنَّ رؤوس المذاهب كانوا أكثر حرصاً على وحدة المرجعية ممن جاء بعدهم، وكثير منهم كان تلميذاً للآخر، فمالك أخذ عن أبي حنيفة؛ وكثير من شيوخ أبي حنيفة هم كذلك شيوخ للإمام جعفر بن محمد (الصادق)، ومنهم مثلاً محمد بن المنكدر ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم؛ والشافعي أخذ عن مالك وتلاميذ أبي حنيفة؛ وأحمد بن حنبل أخذ العلم عن الشافعي، والمعتمر بن سليمان التيمي، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي الأزدي، ووكيع بن الجراح،  وعبد الرزاق بن همام، وسفيان بن عيينة. والإمام مالك روى عن جعفر الصادق، وروى سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وابن جريج عن الإمام الصادق… وهكذا نجد أنَّ مرجعية الأمَّة التي توزعت على المذاهب الفقهية والحديثية، هي مرجعية واحدة فيما يأخذون من الكتاب والسنة وفيما يأخذ علماء المذاهب عن بعضهم بعضاً.
        ومرجعية الأمة الواحدة لا تقتصر تجلياتها في المذاهب الفقهية وحسب، بل تمتد إلى الفرق الكلامية كذلك على كل ما بينها من اختلافات، فحين كتب أبو الحسن الأشعري كتابه “مقالات الاسلاميين واختلاف المصلّين” وجد أنه على الرغم من الاختلاف والتباين الفرقي فقد ظلَّت مرجعية الإسلام ومصادر الإسلام الأساسية هو التي توحد بين هذه الفرق وتشتمل عليهم، لذلك حكمَ عليهم بأنهم جميعاً إسلاميون، فقال: “اختلفَ الناسُ بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ضلّلَ فيها بعضُهم بعضاً وبرئ بعضُهم من بعضٍ. فصاروا فِرَقاً متباينين وأحزاباً متشتّتين إلا أنَّ الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم.”([21])
      4. العلماء من مذهب يأخذون من علماء مذهب آخر:
        تكشف مراجعة مصادر التراث التربوي الإسلامي، أنَّ بعض هذه المصادر تكاد تتطابق في الموضوعات التي تتحدث عنها، وفي الرؤى التي يقدمها المؤلفون حول هذه الموضوعات، وأحياناً في نصوص كاملة. ومن الطبيعي أن تتشابه الآراء ضمن المصادر التي تنتمي لمدرسة فقهية واحدة، كما لاحظنا في مصادر الفقه الشافعي الأربعة الآتية:
        “تذكرة السامع” لبدر الدين بن جماعة الشافعي (733ه)
        “جواهر العقدين” لنور الدين السمهودي الشافعي (ت911ه)
        “المعيد في أدب المفيد والمستفيد” للعلموي الشافعي (ت981ه)
        “الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد” للغزِّي الشافعي (ت984ه)
        لكن اللافت أنَّ “منية المريد في أدب المفيد والمستفيد” للعاملي (ت 965ه) من الفقه الإثني عشري، و”كتاب العلماء والمتعلمين” للمنصور بالله من المذهب الزيدي (ت 1050ه) يتطابقان في محتواهما إلى حد كبير مع موضوعات الكتب الأربعة السابقة. وظاهرة تدوين العالم نصوصاً جاءت في كتابات غيره معروفة في التراث الإسلامي، وفي كثير من الأحيان يصرح الناقل عمَّن نقل، فالسمهودي صرّح بأنه أخذ مادة كتابه من ثلاثة كتب سماها، ثم قال “وربما تبعت الثالث في ترتيبه وتعبيره”.([22]) والزرنوجي الحنفي أخذ بعض النصوص حرفياً عن أبي حامد الغزالي، وأبو موسى الجيطالي “الإباضي” أخذ الكثير من أبي حامد الغزالي “الشافعي” وصرح بذلك. وكان أبو حامد الغزالي قد أخذ عن الحارث المحاسبي لكنه لم يصرِّح، بل اكتفى بالإشارة إلى أنه طالع كتبه، فعندما وقع في الحيرة والقلق وسعى للخروج منها باستقصاء ما عند فرق المتكلمين والفلاسفة والباطنية والصوفية ابتدأ “بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي…”.([23]) وابن القيم (الحنبلي المذهب)  أخذ عن الغزالي كثيراً من آرائه حتى تجد التشابه الكبير بين ما أورده الغزالي في “إحياء علوم الدين” من تقسيمات لموضوع التفكر، وما أورده ابن القيم في “مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة”، سواءً في تقسيمات الموضوع أو في ذكر أقوال السابقين، على الرغم مما بين هاتين الشخصيتين من فارق زمني يصل إلى قرنين ونصف، وما بينهما من اختلاف في الانتماء الفقهي والتوجه الكلامي والفلسفي.([24])
        ولا شك في أنَّ الاختلافات الفقهية عند المذاهب المختلفة أقل أثراً وأهمية بكثير عن الاختلافات الكلامية والعقدية عند الفِرق المختلفة. وإذا كان أبو الحسن الأشعري قد أفتى بأنَّ هذه الفِرَق كلَّها يجمعها الإسلام ويشتمل عليها، فمن باب أولى أن تكون هذه الفتوى أكثر انطباقاً في الاختلافات المذهبية الفقهية.
        فالمذاهب لم تقسم الأمَّة الواحدة إلى أقسام متمايزة كما بدا لبعض متعصبي المذاهب من المتأخرين، حتى جاء زمن أصبح في المسجد الأموي بدمشق أربعة محاريب، محراب لكل مذهب من المذاهب الأربعة الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي.([25]) وقد أشرنا إلى أنَّ رؤوس المذاهب كان تجمعهم مرجعية الأمَّة الواحدة، وكثير من العلماء الذين أتوا بعدهم حافظوا على جسم الأمَّة الموحد، وأخذ بعضهم عن بعض إلى الحد الذي وجدنا فيه إماماً واحداً مثل أبي حامد الغزالي، كان مرجعاً حاضراً في كثير من كتابات المالكية، والحنفية والحنبلية والإباضية، فكأن أبا حامد فقيه عابر للمذاهب.
        ورأينا واحداً من أهم مصادر التراث التربوي الإسلامي وهو “أدب الطلب ومنتهى الأرب” يشدد مؤلفه النكير على التعصب المذهبي وعلى ما كانت تقوم به بعض حكومات أقاليم المسلمين من فرض المذهب الذي يخدم مصلحتها ويعزز شرعيتها.([26]) وقد نشأ  الشوكاني في بيئة المذهب الزيدي الذي كان مذهب حكام اليمن، وبرع في المذهب، وقرأ فقه ابن حزم الظاهري، وابن تيمية الحنبلي، وسائر كتب المذاهب السنية، لكنه رفض التقليد، وأصر على أن تكون مرجعيته القرآن الكريم وصحيح السنة، واعتمد في فهمه لكل مسألة على الدليل، وليس على ما قالته كتب المذاهب، فانتهى إلى أن يكون مجتهداً مطلقاً، لا ينتسب لمذهب، وأصبح بذلك مجدداً ينتسب لأمة الإسلام. ومن يقرأ كتابه “أدب الطلب”، فسيجد أنَّ جزءاً من قيمة التراث التربوي الإسلامي فيه تكمن في ما يوصي به العالم والمعلم والمتعلم من الالتزام بالقرآن والسنة والانفتاح على مصادر العلم عند الأمَّة بتنوعاتها، ومحاربة التقليد والتعصب، لكن الجزء الأكثر أهمية يتجلى في كون المؤلف نفسه هو نموذج لإنتاج هذا المنهج الذي يوصي به.
      5. الأوقاف في بلدٍ تَرْعَى مصلحةً في بلد آخر:
        ومن تجليات مفهوم الأمَّة في أدبيات التراث التربوي الإسلامي أنَّ الجزء الأكبر من الإنفاق على التعليم وبناء مؤسساته كان شأناً عاماً للأمة، يسهم فيه كل قادر بما يقدر عليه. فالشافعي نشأ يتيماً في بيت أمِّه في فلسطين فكل ما كانت أمُّه تقدر عليه أن تنتقل بابنها إلى مكة لينشأ في بيئة علم وشرف، فكان أن أصبح عالماً عظيماً تشهد بعلمه وفضله أجيال الأمَّة على مدار التاريخ. والغزالي مات أبوه الفقير وخلَّف شيئاً يسيراً من المال أعطاه لصديق له لينفقه في تعليم أبي حامد وأخيه أحمد، فلما نفد المال لم يكن أمام الغزالي إلا أن يذهب إلى المدرسة الوقفية ليجد فيها المأوى والعلم، فكان أن أصبح الغزالي حجة الإسلام في العلم والفضل على مدى القرون.
        وقد كان من شأن الأوقاف في تاريخ الأمَّة الإسلامية كثيراً من مظاهر العجب. فقد كثر الواقفون من الرجال والنساء، من العلماء والأمراء، وللأغراض المختلفة التي تتحقق بها مصالح الأمَّة في سائر شؤونها وفئاتها، حتى أبناء الأمَّة الغائبين عنها حين يكونون أسرى في بلاد أخرى.([27]) ومن اللافت للانتباه أن يُنشئ أحدهم أوقافاً دارّة للإنفاق على مدرسة في مدينته أو قريته، لكن الأكثر لفتاً للانتباه أن يُنشئ أحدهم أوقافاً للإنفاق على مؤسسات تعليمية في أنحاء بعيدة عن بلده. فالواقف هنا حريص على أن تنتفع الأمَّة بهذا الوقف في أي مكان كانت، وينتفع طلبة العلم به من أي مكان جاؤا، فطلبة التعلم يأتون مثلاً إلى الحرم المكي والحرم المدني من كل أنحاء الأرض، ولكن الواقفين على تعليمهم، ربما يكونون من مصر أو الهند أو الأناضول.
        ومن الأوقاف المخصصة لأماكن بعيدة عنها أوقاف كثيرة في قطاع غزة في فلسطين، ومنها وقفية زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني التي كانت تحتوي على ما يقارب ثلاثين قرية ومزرعة مخصصة للإنفاق على الأقصى في القدس والمحرم الإبراهيمي في الخليل.([28])

والأمثلة على ذلك كثيرة، تستحق أن يتوفر عليها باحث جاد فيجعلها موضوعاً لبحث كامل.

والحمد لله رب العالمين


[1] عبد الباقي، محمد فؤاد. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، بيروت: دار الفكر، 2000، ص 102-103.

[2] البخاري، محمد بن إسماعيل (256ه)، صحيح البخاري، طبعة جديدة مضبوطة ومصححة ومفهرسة، بيروت: دار ابن كثير، 2002، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، حديث71 ، ص 30.

[3] الفاروقي، إسماعيل راجي. التوحيد ومضامينة في الفكر والحياة، ترجمة السيد عمر، عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016، ص 237.

[4] المرجع السابق، ص 238-239

[5] مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261ه). صحيح مسلم، اعتنى به أبو صهيب الكرمي، بيروت: بيت الأفكار الدولية، 1998، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمين وتعاطفهم، حديث رقم 2586، ص1041.

[6] الفاروفي، التوحيد، مرجع سابق، ص 374.

[7] ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (597ه) مناقب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبد الله التركي، القاهرة: دار هجر، 1409، ط2، ص 27-39

[8] المرجع السابق، ص 38.

[9] المرجع السابق، ص 34

[10] الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت (463ه) الرحلة في طلب الحديث، تحقيق: نور الدين العتر، دمشق: مكتبة العلوم الإسلامية، سلسلة روائع تراثنا الإسلامي، ط1، 1395ه/ 1975م، ص109-110.

[11] المرجع السابق، ص127.

[12] المرجع السابق، ص 210.

[13] عياض، عياض بن موسى بن عياض السبتي، (544ه) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلم مذهب مالك، الرباط: وزارة الأوقاف في المملكة المغربية، ط2، 1983،

[14] ابن حجة، تقي الدين أبو بكر بن علي بن محمد الحموي (837ه). ثمرات الأوراق، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، صيدا: المكتبة العصرية، 2005، ص 181-190.

[15] المرجع السابق،  ص 186.

[16] القاضي عياض. ترتيب المدارس، مرجع سابق، ج3، ص 107-108

[17] المالكي، أبو بكر عبدالله بن محمد (460ه) كتاب رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية، تحقيق بشير البكوش، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط2، 1994، ج1، ص 180.

[18] القاضي عياض، ترتيب المدارك، مرجع سابق، ج 4، ص 38.

[19] المالكي، أبو بكر عبد الله بن محمد. كتاب رياض النفوس، مرجع سابق، ج1، ص 425-426. 

[20] القاضي عياض. ترتيب المدارك، مرجع سابق، ج2، ص 72.

[21] الأشعري، أبو الحسن علي بن إسماعيل (330ه). مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، صيدا: المكتبة العصرية، 1990، ص 34.

[22] السمهودي، علي بن عبد الله الحسني (ت911ه). جواهر العقدين في فضل الشرفين شرف العلم الجلي والنسب العلي، مرجع سابق، ص 251.

[23] الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد (ت505ه) المنقذ من الضلال، والموصل إلى ذي العزة والجلال، تحقيق جميل صليبا وكامل عباد، بيروت: دار النفائس، ط7، 1967، ص 100-101.

[24] انظر تفاصيل ذلك في:

  ملكاوي، فتحي حسن. البناء الفكري: مفهومه ومستوياته وخرائطه، عمان، الأردن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2015، ص 32-34.

[25] دخلتُ لصلاة الظهر في أحد أيام شهر نوفمبر عام 1962، في المسجد الأموي بدمشق، فأقيمت الصلاة، وكان الإمام في المحراب الأوسط من المسجد، وبعد أن سلَّم الأمام، سمعت صوت إقامة، فظننت أن الجماعة الأخرى هي للمتأخرين الذين لم يدركوا الصلاة الأولى، فسألت فقيل لي كانت الصلاة الأولى للمذهب الحنفي، والآن الصلاة للمذهب الشافعي، والإمام في المحراب المخصص لهذا المذهب!

[26] الشوكاني، محمد بن علي (1250ه) أدب الطلب ومنتهى الأرب، تحقيق عبد الله يحي السريحي، صنعاء: مكتبة الإرشاد، وبيروت: دار ابن حزم، 1998، ص 113-140.

[27] وقد وصل تعدد هذه الأغراض إلى أن ينتبه بعض الواقفين إلى إمكانية التخفيف عن أسرى المسلمين في البلاد الأخرى، يروي التنوخي بسنده عن رجل من المسلمين أُسِر ثم رجع إلى دار الإسلام “قال: لما حُملنا إلى بلد الروم، مرَّت بنا شدائد فحصلنا عدة ليالٍ لا ننام من البرد، وكِدْنا نتلف، ثم دخلنا قرية فجاءنا راهب فيها بأكسية وقُطُف ٍثقيلة دفيّة، فغطّى جميع الأسارى،… فسألنا عن السبب في ذلك فقالوا: إن رجلاً ببغداد من التجار يقال له ابن رزق الله،… توصل إلى أن حصلت له هذه الأكسية والقطف عند الراهب بغرامات مال جليل فسأل أن يغطي بها من يحصل في قريته من أسارى المسلمين، وضمن له أن ينفق على بيعة في بلد الإسلام بإزاء هذا في كل سنة شيئاً ما دامت الأكسية محفوظة للأسارى…” انظر:

  التنوخي، أبو الحسن علي المحسن بن علي (ت 384ه) نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، تحقيق عبود الشالجي، بيروت: دار صادر، ط2، 1995، ص 56.

[28] الصلاحات، سامي محمد. الأوقاف الإسلامية في فلسطين ودورها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2011، ص 90. نقلاً عن مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أستانبول تركيا، 1980، ص 20-56