حقوق المواطنة

413

الحمد لله رب العالمين نستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

فقد سعدت بالاطلاع على المحاولة الاجتهادية الجريئة التي مارسها الأخ الشيخ راشد الغنوشي، حفظه الله في موضوع من موضوعات الساعة وأشدها إلحاحاً وحراجة ألا وهو موضوع “المواطنة”.

وموضوع “المواطنة” قد مثّل جزءاً من مشكلة “الهوية” والمفاهيم المختلفة التي ارتبطت بها منذ بدء احتكاكنا الفكري والثقافي والسياسي والعسكري بالغرب في القرن الماضي.

وإذا كانت المسألة قد حُسمت على صعيد الواقع منذ أن تمزقت الدولة العثمانية وتحولت أشلاؤها العربية وغيرها إلى دول وحكومات قومية وإقليمية فإن المسألة لم تنته على المستوى الفكري والثقافي بل بقيت سؤالاً كبيراً يُطرح بشكل تحد أحياناً وبشكل عذر أو ذريعة أحياناً، كما يطرح بشكل تساؤل أحياناً أخرى، وأياً كان الشكل الذي يُطرح الموضوع به فقد بقي موضوعاً شديد الحساسية كبير الخطر.

حتى إذا بدأت مظاهر الشيخوخة والكبر والفشل تبدو على قواعد الدولة القومية والدولة الإقليمية الوطنية في بلاد المسلمين بدأ البحث يشتد حول صيغ جديدة للهوية والانتماء، وأفضل أساليب تنظيم العلاقات بين شعب كل قطر من ناحية، وبينهم وبين الحكومات المهيمنة على مقدراتهم حزبية كانت أو عسكرية أو غيرها من ناحية أخرى، وتضاعف حجم ذلك السؤال كثيراً ونما بشكل هائل.

وحين بدأ الاتجاه الإسلامي في الأمة يتحرك، وترشح بعض فصائله نفسها بديلاً سياسياً وتؤكد أن “الإسلام هو الحل” حُوّل السؤال إلى مشكلة كبرى تطرحها بوجه العاملين في الحقل الحركي والسياسي الإسلامي على اختلافهم سائر الفصائل العلمانية والدنيوية الأخرى، وأصبحت هذه القضية أداة من أدوات الصراع السياسي في العالم الإسلامي الحديث. وكثير من الحكومات السائدة في بلاد المسلمين تحتج بوجود أقليات غير مسلمة لحرمان الأكثرية المسلمة التي قد تبلغ 98% أو تزيد من حقها في اختيار الشريعة التي تتحاكم إليها، وكثير منها تتهم الحركات الإسلامية بأن وجودها، وحده، فضلاً عن مبادئها ومطالبها وأهدافها يعتبر تهديداً “للوحدة الوطنية” يقتضي سن “قوانين طوارئ” وتعطيل القوانين المدنية.

لقد كانت “المواطنة” أساس الانتماء الذي أكد على “الوطنية” هوية للدولة الحديثة. و”المواطنة” انتماء إلى تراب تحده حدود جغرافية فكل من ينتمون إلى ذلك التراب مواطنون يستحقون ما يترتب على هذه المواطنة من الحقوق والواجبات التي تنظم بينهم (بمقتضى هذه النسبة) لا بشيء آخر سائر العلاقات. فالرابطة بينهم رابطة علمانية دنيوية. وكذلك الرابطة بينهم وبين حكوماتهم رابطة علمانية دنيوية تخضع لمقاييس النفع والضرر، نفع الوطن ونفع المواطن، ولا بد من انصهار المواطنين جميعاً، بكل أديانهم ومذاهبهم ومللهم ونحلهم وجذورهم العرقية في هذه الرابطة الترابية النفعية، وكذلك تنازلهم عن أية خصوصيات تتعارض مع هذا الإطار. لأن هذه الرابطة تهن وتقوى بمقدار ما يتحقق من نفع لشركاء التراب الواحد ولا تمثل للإنسان ميزة يختص بها، بل هي نزعة مشتركة بين الإنسان وكثير من فصائل الحيوانات والطيور. فقد أوجد نوع من التلازم بين “المواطنية وبين العلمانية أي الدنيوية لتكون العلمانية الدنيوية مضمونها الفكري”. فالمواطنة بمفهومها المذكور لا تتحقق عند أهلها إلا في ظل العلمانية الدنيوية وفي إطار سيادة مفاهيمها ونظامها ومنهجها في الحياة. ومن هنا ظن العلمانيون الدنيويون في العالم الإسلامي أن هذه الحجة المتمثلة بوجود أقليات غير مسلمة عصا موسى القادرة على لقف ومصادرة كل ما ينادي به أصحاب المشروع السياسي الإسلامي. فتعالت الأصوات برفض المشروع الإسلامي والتنديد به والتأكيد على وجوب بناء “المجتمع المدني” الذي هو نقيض المجتمع الديني في نظرهم([1]).

ولقد حاول كثير من قادة “المشروع السياسي الإسلامي” احتواء ذلك الضجيج والتأكيد على أن المشروع الإسلامي كفيل بتحقيق “المجتمع المدني” المطلوب، في إطار إسلامي، وأنهم مستعدون لتأصيل كثير من دعائم المجتمع الغربي الذي يصر العلمانيون الدنيويون على أنه النموذج الأوحد “للمجتمع المدني”، ولكن ذلك كله لم يقنع الفصائل العلمانية الدنيوية بذلك ولم يعلنوا قبولهم أو رضاهم، أو تركهم “المشروع السياسي الإسلامي” يمر في أقل تقدير ولا يزال القادة والمفكرون الإسلاميون يجتهدون ويواصلون اجتهاداتهم في كل ما طرحه العلمانيون على المشروع السياسي الإسلامي من إشكالات لكن بعض العلمانيين يرفضون الاستماع إليهم أو تصديقهم، فلقد اجتهد كثير من قيادات “المشروع السياسي الإسلامي” في مفهوم “الديمقراطية” وأعلنوا قبولهم لها وأصّلوا لها دون تحفظ، وشاركوا فيها. كما اجتهدوا في “التعددية السياسية” وأعلنوا قبولها كدعامة من دعائم الديمقراطية. وأعلنوا قبولهم لفكرة ومفهوم “الحريات العامة” كما أعلن بعضهم ذلك بدون تحفظ وقبلها بعضهم بتحفظ بسيط.

وها هو الأخ الأستاذ راشد الغنوشي يعلن في كتابه هذا اتساع الإسلام لقبول مفهوم “المواطنة” كما هو في الوعي المعاصر ويدلل لهذا القبول ويعلل له ويؤصله ليكون اجتهاداً معتبراً شرعاً تستجيب له القلوب المسلمة وتقبله العقول.

ومع ذلك فلا تزال العديد من الفصائل العلمانية الدنيوية على مواقفها من رفض المشروع السياسي الإسلامي وتخوفها منه، وشكها في أصحابه. بل إن بعضهم يفضل العيش في ظل الاستبداد والدكتاتوريات السافرة والمقنعة على قبول أي مشروع سياسي إسلامي مهما أدخلت عليه من تعديلات.

ولذلك فقد وددت أن أصدر لهذا “الاجتهاد” الذي أحترمه وأقدره ببعض الملاحظات ملاحظاً مقصد سلامة المنطلقات الإسلامية أكثر من المصلحة السياسية المتحركة المتغيرة، ومنبهاً إلى المنطق الإسلامي الفكري الذي يعتبر الدعامة الأساسية للمشروع الحضاري الإسلامي الذي يقوم على ثوابت الإسلام، لا على متغيراته، وحين ينظر المشروع الحضاري الإسلامي إلى المتغيرات فإنما ينظر إليها في إطار تلك الثوابت([2]).

إن استعارة مفاهيم من نسق حضاري مختلف له جذوره وأصوله الوثنية وقواعده المغايرة ليس كاستعارة ألفاظ عادية أو ترجمة مصطلحات ميكانيكية، زراعية أو صناعية أو وسائل وأدوات حضارية وإن كنا نرى أنه حتى في هذه المصطلحات هناك أمور كثيرة لا بد من ملاحظاتها، لأن وراء كل من الآلة والأداة والمصطلح الذي يعبر عنها أفكاراً لا يسعنا تجاهلها أو إهمال دورها في التأثير الفكري والعمراني، لكن الأمر في هذه قد يكون أهون خطراً وأقل شأناً من عملية استعارة مفاهيم مشحونة بجملة من الأفكار متصلة بكثير من القواعد، ومؤدية إلى كثير من الآثار في مختلف جوانب الحياة مثل “المواطنة” و”الديمقراطية” ونحوها.

ولعل من الملاحظات القليلة التالية ما ينبه إلى بعض مخاطر استعارة المفاهيم الحضارية من الأنساق المغايرة بحيث يتنبه المستعيرون إلى وجوب وضع الضوابط المناسبة، والمعايير الضرورية لهذا النوع من الاستعارة، لئلا تنهدم السدود بين الثوابت والمتغيرات في إطار الحوارات السياسية.

أولاً: إن كلمة “مواطن” تعبير لم يظهر ولم يجر تداوله إلا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789م، أما قبلها فالناس ملل وشعوب وقبائل لا يعتبر التراب، إلا تبعاً لشيء من ذلك، وسيلة من وسائل الارتباط.

ثانياً: إن العلمانية الدنيوية، بعد ظهورها وبروزها، كتيار فكري ومنهاج حياة يقابل الدينية بالتقاطع أحياناً، والتلاقي والتحجيم والتجاوز أحياناً أخرى، استهدفت فيما استهدفته إذابة الفوارق والخصوصيات بين الناس، لأن من شأن الخصوصيات والفوارق دينية كانت أو عنصرية أو (إثنية) أن تعرقل مسيرتها، وأن تحد من فاعليتها في إذابة الفوارق وإقامة النظم الشاملة القائمة على المصلحة واللذة والمنفعة الدنيوية لا غير، لأنها كرست هذه الأمور باعتبارها البديل عن القيم الدينية والخلقية.

ثالثاً: إن نصوص القرآن العظيم المتعلقة بهذا الموضوع وما ورد تطبيقاً لها وتنزيلاً لأحكامها على الواقع مثل “ميثاق المدينة”([3]) وما بُني عليه من تصرفات الخلفاء الراشدين وقيادات الصحابة والتابعين في الميادين المختلفة كانت تشير كلها، بوضوح شديد، إلى حرص الإسلام البالغ على مساعدة سائر أولئك الذين لم يقتنعوا بعد بالدخول في حظيرة الإسلام، على حماية خصوصياتهم الدينية والعرقية والمحافظة عليها.

فبالإسلام يستحق المسلم ذلك كله مع الاعتراف له بخصوصيته الملية والعرقية وحمايتها والدفاع عنها إلى حد القتال إذا هددت من مسلمين أو غيرهم. وبذلك يأخذ غير المسلم نصيبه الكامل من حرية التفكير والتدبر والتأمل والمقارنة، فيأخذ قراره بالبقاء على ما هو عليه أو التحول إلى الإسلام بحرية تامة، بل إن الإسلام قد نظر إلى غير المسلم من منظور رسالة عالمية تنفي الإكراه بكل أشكاله وترفضه في الأصول والفروع {لا إكراه في الدين..} [البقرة: 256]. فالتشريع الإسلامي قام بحماية غير المسلم مرتين: مرة حين بسط عليه ظله الوارف كبقية المسلمين ومنحه مثل ما منحهم من حقوق، ثم نظر إليه مرة أخرى لحماية خصوصياته الملية والعرقية من الذوبان أو الإذابة والدفاع عنها بالقوة نفسها التي يحفظ فيها للمسلم ذلك. فكأن لغير المسلم ميزة على المسلم في هذا الإطار فكيف ينظر إلى الميزة أنها امتهان لمن مُنِحَها؟! إنه لا غرابة في أن يمنح الإسلام الذمي هذه الميزة وهذه الكرامة، فإن الإسلام دين عالمي ينظر للبشر نظرة واحدة وينظر إلى مستقبل البشرية كلها نظرة تفاؤل وأمل بأن يوماً ما آت لا محالة، تتحد فيه هذه البشرية وتدرك أنها، كلها، لآدم وآدم من تراب، وأن كل الخصوصيات المتمايزة إنما هي خصوصيات تنوع وتعارف، ولذلك فإن من أهم خواص هذا الدين تلك الأرحام والقرابات والصلات التي يحاول الحفاظ عليها بين الأديان الإبراهيمية من ناحية، وبينها وبين سواها من ناحية أخرى، حتى يأتي الوقت المناسب ليجعل من كل هذه الأمور التي تبدو متناقضات أشكال تنوع يحتويها في إطاره، ويضمها تحت جناحيه، ويهيمن عليها باعتباره الهدى الكامل، ودين الحق المحتم ظهوره على الدين كله، بعد أن توجد الصيغ الفكرية النابعة من منهجية القرآن العظيم المعرفية، والتي تمكن البشر بشعوبهم المتنوعة وعروقهم المختلفة وسائر وحدات الانتماء الأخرى لديهم من إيجاد الصيغ والقنوات المستوعبة لحركة البشرية، وتحويل ذلك التنوع إلى وسيلة تعارف وتأليف بين أبناء آدم، أبناء التراب.

رابعاً: لا مانع يمنع أهل الاجتهاد من علماء المسلمين من أن يجتهدوا في كل أمر من الأمور التي يجوز فيها الاجتهاد ولا بد من أن يبدع علماء الاجتماعيات المسلمون في سائر المجالات ليسهموا في بناء المشروع الحضاري الإسلامي. فالاجتهاد في الشرعيات والإبداع في الاجتماعيات هما طرفا الديناميكية في حركة الإسلام وعملية بناء مشروعه الحضاري، لكننا شديدو التوجس من قبول أفكار لا يضبطها منهج وقانون كلي صارم ولا تقوم الحجة والبرهان على مشروعيتها، أو التساهل في إطلاق اجتهادات المواءمة بين الإسلام وسواه، واعتبار أي اجتهاد بشري مهما كان، ممثلاً لجوهر الإسلام أو معبراً عنه بشكل لا يحتمل سوى ذلك، فسائر الاجتهادات البشرية يمكن أن يعتريها من النقص ما يعتريها، وذلك لنسبية الإنسان وقصور أدواته ووسائله، ولذلك فإن من الخير لعلماء المسلمين ومفكريهم التأكيد الدائم على هذه النقطة، وبيان أن ما يجتهدون فيه لمواجهة متطلبات العمل السياسي اليومي المتحرك المتغير لا يلغي ما استقر من أحكام أو فقه سابق، بل هو إضافة له وإنماء وبناء عليه وهو قبل ذلك وبعده قابل للتصويب وللتخطئة والله أعلم.

كما أنه في الوقت نفسه لا يصادر على من يأتي بعدهم ولا يحول بينهم وبين أن يجتهدوا لزمانهم في إطار تلك الثوابت وانطلاقاً من تلك الأصول.

خامساً: إن من أكثر الأحكام التي تعرضت لسوء الفهم ولسوء القراءة في عصرنا هذا وفي الماضي، أحكام “أهل الذمة” والأحكام المتعلقة بتقسيم العالم في النظرة الإسلامية في إطار عالمية الإسلام الأولى: ففي الماضي أساء الكثيرون فهم تلك الأحكام وخرجوا من النصوص الواردة في هذا المجال بما لم يأذن به الله، وخاصة ما يتعلق بفهم البعض لقوله تعالى: {..وهم صاغرون} [التوبة: 49]، حيث أخرجها بعض الفقهاء المتأخرين من معناها البسيط الذي يشير إلى الالتزام بالنظام والخضوع لما تبنته الجماعة، إلى ربطها بنوع من الإذلال قد يكون هو الذي أوجد كثيراً من تلك الرواسب التي بعثت على كثير من التساؤلات المتعلقة بهذا النوع من التشريع في عصرنا هذا.

وفي الحاضر تعرضت هذه الأحكام لسخط العلمانية الدنيوية بكل فصائلها وتوجهاتها، فرمتها تلك الفصائل بكل ما لديها من تهم التمييز والتجني، ولو أن هذه الأحكام أعيدت قراءتها قراءة متأنية واستفيد في هذه القراءة بمعطيات العلوم الاجتماعية المعاصرة لربما وجد أنها يمكن أن تكون ضالة البشرية التي تنشدها، وأنها هي أو نحوها التي قد تحقق للبشرية اليوم الانسجام بين التوجهات نحو بناء الكتل والقوى الكبرى، والمحافظة على خصوصيات محترمة تتحول إلى مصدر قوة وتنوع في إطار المجموع، دون أي تهديد بانفجار كالذي تعرضت له الولايات المتحدة بين السود والبيض قبل مدة ويمكن أن تتعرض له في أي وقت بين العروق والأديان والمذاهب الأخرى التي ألفت هذه الأمة الكبرى في ضوء أفكار فيها من الثغرات الشيء الكثير([4]).

فإن هذا السلام الذي نلحظه في نموذج الولايات المتحدة وكندا وهذا التعايش الملحوظ بين الجذور المختلفة والأديان والمذاهب المتباينة التي تعتمد على مفهوم أن حرية الفرد تنتهي عند بداية حرية الآخرين… وأن احترام الخصوصيات من خلال القناعة والتسليم بأن لكل إنسان خصوصيته أو خصوصياته وله أن تُحترم خصوصياته كجزء من حقوق الإنسان، لكن تصور الحرية بهذا المفهوم خاطئ، وكذلك تصور أو تجاهل “حقوق الإنسان” بهذا الشكل فيه من الثغرات ما فيه. كما أن تصور انعدام هذا التمايز خطأ آخر. كذلك تصور أن عدم تقنينه كفيل بإنهائه وأنه أفضل من تقنينه يمثل خطأ آخر. فالتوزان القائم في المجتمع الأمريكي وأمثاله من المجتمعات توزان يمكن أن نسميه (بتوازن النمور)([5])، وتوازن النمور هذا يصلح لأن يكون مدخل تحليل وتفسير لكثير من القضايا الموجودة في المجتمع الغربي… فطبيعة الفكر الغربي والفلسفة الغربية طبيعة ثنائيات صراعية جدلية، تقوم على نفي الآخر والقضاء عليه، فعملية التوازن حين توجد تعتبر عملية طارئة لا تتحقق إلا في حالة وجود قوى متعادلة أو مصالح متعادلة، فالأبيض في بادئ الأمر قد نفى الهندي الضعيف وأباده وحل محله، واتبع سياسة التمييز مع الملون والمرأة وسائر الأقليات الأخرى… وحين يقيم توازناً أو يفكر فيه فذلك في إطار الحلول الآنية التي تفرضها مصالح راجحة مؤقتة، وبالتالي فهذا التوازن مهدد على الدوام بالاختلال والاضطراب… وإذا كان ما يعرف بالاتحاد السوفيتي قد انهار وعاد إلى دول عديدة، ولا تزال عمليات الانشطار جارية وفسر ذلك بأن الإطار الفلسفي الماركسي القائم على الصراع الطبقي والضغط ودكتاتورية (البروليتاريا) لم يستطع أن يكبت المشاعر الإنسانية في التطلع إلى تحقيق الذات، فإن النموذج الغربي الآخر يحمل (ميكروبات) مماثلة وأن فكرة الحرية وحدها سوف تتحول إلى مجرد نموذج للتوازن المؤقت القابل للانهيار في حالات الضغوط والاحتقان التي قد تجعل الحرية وسيلة سلبية تُسخّر في تدمير التوازن بين الفئات المختلفة التي تكون حصيلة تآلفها، ووسيلته الأساسية إحساسهم بأنهم قوم اجتمعوا من سائر بقاع الأرض ليتوازنوا ويشكلوا رابطة فيما بينهم هي عبارة عن عقد اجتماعي أو رابطة تقوم على كونهم جميعاً (دافعي ضرائب)، وأن “صفة المواطن” الصالح هي أن يكون ملتزماً بدفع ضريبته في وقتها ودون نقصان… وفي الوقت نفسه هناك مستفيدون من هذه الضريبة تجمعهم صفة الاستفادة بها…

إن الماركسية كانت محاولة تصحيح لأمراض الفكر والحضارة الغربيين وقد سقطت، فإذا سقط العلاج فذلك لا يعني أن المريض قد صح وعوفي، بل يعني أن المريض قد تفاقمت علته وأصبح في حاجة إلى منقذ آخر وعلاج جديد وإلا كان الهلاك مصيره.

أما الإسلام فمن خلال النظام الملي، وتقنين وضع كل فرد في إطار المجموع، فقد لبى الحاجات النفسية والتطلعات والأشواق الروحية لكل مقيم على أرضه، فليس للأكثرية الحق في أن تمحق شخصية الأقلية أو أن تزيل مزاياها وتذيب خصائصها.. وفي الوقت نفسه ليس للأقلية أن تعمل على إثبات خصوصياتها من خلال الانتقاص من حقوق الأكثرية أو تدمير خصائصها أو استنكار تمتعها بخصوصياتها ومزاياها. فالتوازن في المجتمع الإسلامي يقوم على عملية الاعتراف بالخصوصيات والمزايا لسائر المنتمين إلى هذا الكيان، وتقنين هذه المزايا والخصوصيات بشكل يسمح للأكثرية والأقليات بالنمو والازدهار، لتتحول المزايا والخصوصيات المختلفة إلى وسائل تنوع إيجابية في الكيان الجماعي.

في حين نجد العلمانية الدنيوية المعاصرة تستهدف إذابة كل الخصوصيات لصالح فلسفتها ولذلك فإنها تنتهي عادة بإذابة كل الخصوصيات لصالح فلسفتها وتنتهي عادة لصالح الأكثرية المتصورة التي يمكن أن تتحقق بأي جزء فوق النصف (فتصويت فرد واحد بعد الخمسين في المائة) يسقط شرعية وقانونية ما يذهب إليه الباقون في هذا الأمر… ذلك لأن العمل السياسي في إطار هذه العلمانية، يقوم على فكرة الحزبية التي انبثقت في بادئ الأمر عن نظم الشركات التي كانت تستخدم عمليات التصويت لتعالج بعض مشكلاتها كما تستخدم الشخصية المعنوية كوسيلة وأداة لحفظ حقوقها في صراعها مع الشخصية الحقيقة، أو للتوازن معها.

إن نظام أهل الذمة في الإسلام حينما يوضع في إطاره الصحيح ولا يساء استعماله، فإنه باعتباره فكرة يمثل حلاً لكثير من الأزمات الكامنة في المجتمعات المعاصرة وخاصة في مثل المجتمع الأمريكي فهناك أزمات كامنة لن يستطيع النظام الغربي حلها بشكل سليم بدون تقنين التنوع بصيغة من الصيغ المناسبة، ووضعه في إطاره الإنساني الصحيح في وقت قريب. إن الأقليات في العالم الإسلامي استطاعت أن تبقى وتستعصي بكل ثقافاتها وخصائصها على الإذابة، لأن هذا النظام قنن لها هذه الخصوصيات وحفظها فاستطاعت أن تعيش كل هذه القرون بل واستطاعت أن تؤدي أدوراً هامة في سائر البلاد التي عاشت فيها، ووصل أبناؤها في بعض الفترات إلى مراكز مرموقة جداً، وقل أن تجد مدينة إسلامية ليس فيها وجود متميز ملحوظ لأقليات دينية تتمثل في أحياء كاملة تحمل كل السمات الدينية والاجتماعية لتلك الأقليات مثل “حارات أو أحياء اليهود والنصارى وسواهم”. أما في الغرب فهناك هجرات كثيرة ومهاجرون كثيرون قد ذابت خصوصياتهم الدينية وغيرها في ظل العلمانية الدهرية التي خلعت القداسة عن كل شيء([6]).

إن الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي استطاعت أن تغزو أفكار الناس مسلمين وغيرهم، وأن تعطي قراءتها الخاصة لكثير من المفاهيم، وتُلبّس على الناس دينهم، فاعتبرت هذا التقنين الملي في داخل المجتمع قضية مهينة، وتفريقاً بين المواطنين، واندفع بعض أبناء الأقليات في العمل على هدم هذا النظام، لأنهم تصوروا أن هدمه سوف يضر بالأكثرية وحدها. ولكن ها هو الضرر قد عم الأكثرية والأقليات في بلاد المسلمين، فاُذيبت خصائص الجميع لصالح المشروع (العلماني الدنيوي) وما أفرزه من أطر عرقية وترابية، وتسلط الحاكمون واستبدوا بأمور الجميع فتساوى الكل في البؤس والشقاء في الوضعيات البشرية.

ولذلك فإننا ندعو جميع الأقليات والأكثرية إلى مراجعة هذه الحقائق قبل رفع العقائر برفض مثل هذه التشريعات الحكيمة أو التنديد بها دون وعي على طبيعتها وأهدافها.

أخيراً فإننا نشكو من تصدع هائل في حياتنا الفكرية والثقافية وتشتت في رؤانا الحضارية وحرب فكرية بين فصائل الحداثة والعلمنة والدهرية وبين فصائل التراث والمحافظة والأصالة. والأمة، إذا كان من الجائز أن نقول إن هناك أمة، ليست بحاجة إلى الانحياز لهذا الفصيل من أبنائها أو ذاك، أو تراجع هذا الفصيل عن بعض ما يدعو إليه أو ذاك لتحقيق موازنات سياسية آنية، بل هي بحاجة إلى إدراك ذاتها المتميزة، وتحديد إطارها المرجعي الذي تستمد منه كل فصائلها أصولها الفكرية وشرعيتها ومعايير التحاكم لديها، وكيفية تحديد الخطأ والصواب، والصالح والضار لدى الجميع، فقد تتفق سائر فصائل الأمة سياسياً على ضرورة “الحرية” و”الديمقراطية” و”النهضة” و”المواطنة” وغيرها ثم تختلف حول التصورات التي تستدعيها هذه المفاهيم والوسائل والأدوات. ألا ترى كيف رُفضت “الديمقراطية” في كل من تونس والجزائر حين جاءت صناديق الاقتراع بنتائج لصالح الإسلاميين؟ لاختلاف المقاييس وتعدد الموازين. وظاهرت على هذا الرفض قوى علمانية دنيوية كثيرة مفضلة الدكتاتوريات العسكرية على حكم الإسلاميين، ولذلك فإن حاجة قوى الأمة إلى الاتفاق على مقياس واحد، وإطار مرجعي واحد، وإصلاح مناهج الفكر، وتصحيح القراءة، وإصلاح الأسس الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، أكثر من حاجتها إلى مقاربات وموازنات سرعان ما تنتهي بعدم وجود ما يسندها ويقويها من البنى الفكرية والثقافية الموحدة والرؤى الحضارية المشتركة([7]).

إننا لا نريد أن تضغط علينا متطلبات الحوار بين المتقابلين السياسيين الديني والقومي أو الإسلامي والوطني الذين يريدان الاتفاق على حل وسط يأخذ الإسلامي فيه شيئاً من القومي أو الوطني، ويأخذ القومي أو الوطني فيه شيئاً آخر من الإسلامي.

فنحن ندرك أن هذه المحاولات تجري في إطار سيادة ثقافة دنيوية غربية فرضت نفسها عالمياً بكل خلفياتها وظلالها وانعكاساتها، ومواقفها من الدين كلاً وتفاصيل. ثقافة علمانية دنيوية استبعدت الدين تماماً من فلسفة العلم ونظرياته وقوانينه ومعالجاته، وهذه الثقافة تحظى بتعميم وتكريس عالميين، والمركز العالمي الجديد (الولايات المتحدة) يرى أن سيادة هذه الثقافة واكتساحها لكل ما عداها شرط ضروري ودعامة أساسية لما سماه “بالنظام العالمي الجديد”.

ولو أن هذه الاجتهادات في “المواطنة” و”الديمقراطية” والقضايا الأخرى المماثلة جرت في إطار عالمية إسلامية أو مركزية حضارة إسلامية أو تكافؤ حضاري وثقافي على أقل تقدير لأمكن تجاوز كثير من الملاحظات أو لوجدنا على كثير منها جواباً ملائماً. أما الوضع بالشكل الذي نعرف فإن الحذر ضروري. حيث إن طوائف العلمانيين الدهريين الدنيويين الفكرية في العالم الإسلامي والعالم العربي بصفة خاصة هم مجرد مجموعة من المترجمين للنقد الغربي للفكر الديني اللاهوتي الكنسي في أوروبا، وهم يعيدون صياغة ذلك النقد بلغة عربية ويسقطونه على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأحكام الفقهية، ولا إبداع لديهم في شيء مما يقولون. فليس من المناسب أن تشغل القيادات الإسلامية الفكرية نفسها وثمين أوقاتها عن بناء منهجية القرآن العظيم المعرفية والمشروع الحضاري الإسلامي العالمي المتكامل المنبثق عنها والتقدم به إلى الدنيا كلها بمناقشة ترجمات أطروحات هؤلاء اللاهوتية.

فمثلنا ومثل رفاقنا العلمانيين الدنيويين كمثل قول القائل:

بكلٍّ تَدَاوينا فلمْ يُشفَ ما بنا … لأنَّ الذي نهواهُ ليس بذي ودِّ

فهؤلاء الدنيويون العلمانيون حين يأخذ الإسلاميون هذه المواقع الاجتهادية التأويلية المتقدمة يسارعون هم إلى احتلال مواقع الماضويين والتمترس بذات النصوص التي يتمترس الماضويون وراءها، يقول أحدهم: “… كنا نعرف بالطبع أن المساواة المطلقة التي يتحدث عنها التيار الإسلامي الثوري غير صحيحة شرعاً، والآيات والأحاديث تتحدث بوضوح عن تفاوت الدرجات…”([8]).

وحين حاول الشيخ نديم الجسر، رحمه الله، إيجاد علاقة (تصورية) بين نظرية الضوء ووجود الملائكة والجن في مقالة نشرتها صحيفة “النهار” اللبنانية في ملحقها الأسبوعي في بيروت (12 / 3/ 1967) رد عليه د. صادق جلال العظم في كتابه “نقد الفكر الديني” مؤكداً على أن نصوص القرآن ومعانيه غير قابلة لأي تأويل عصري يسحب معانيها إلى خارج عصر التنزيل والمفاهيم السائدة فيه، وأكد على حصر مفهوم العلم الذي أمر الكتاب الكريم به، وجاءت السنة بحث الناس على طلبه في العلم الشرعي مستشهداً بتعريف الغزالي المتوفي سنة 505هـ الموافق (1111م) للعلم في كتابه “الإحياء”([9]). ولو تتبعنا هذه النماذج من مواقف الدنيويين العلمانيين لاحتجنا لدراسة خاصة بها، ولذلك فلا نتوقع أن يقابل هؤلاء هذه الاجتهادات التي يقدمها الإسلاميون بما تستحقه من اهتمام، لكن ذلك كله لا يقلل من أهمية هذه الاجتهادات والحاجة إلى مثلها إذا وُضعت في سياقها وُوظفت في نسق منهجي معرفي يهدف لإخراج العقل المسلم من دوائر التقليد وتدريبه على الاجتهاد والإبداع ولكل مجتهد نصيب إن شاء الله تعالى.

سادساً: وملاحظة أخيرة أود ذكرها في هذا المدخل هي:

إن فكر المقاربات الذي عمل منذ بدأ احتكاكنا بالغرب حتى عقود قليلة على ردم الهوة بين فكر المسلمين ومعطيات الفكر والحضارة الغربيين قد أدى دوره وانتهت مرحلته وعبر عن عمق الصدمة الحضارية الأولى التي تعرضنا لها بدء احتكاكنا بالثقافة والحضارة والفكر الغربي. وقد غلب جانب السلب فيه على الإيجاب، وتجاوزت الأمة مرحلته بفضل الله، وثبت فشله.

كما أن فكر المقارنات بين قضايا الفكر الإسلامي ومعطيات الفكر الآخر في القضايا نفسها أو ما شابهها قد تجاوزت الأمة مرحلته بما له وما عليه. وإذا كان فكر المقاربات قد ساعد على ثلم شخصيتنا وتهيئة نفوس الملايين من أبنائنا لحالة الاستلاب الفكري والثقافي والحضاري من جانب منه، فإن فكر المقارنات قد ساعد وهيأ نفوس الكثيرين للاستلاب إلى الماضي، وتحقيق حالة ارتجاع إليه يمكن تسميتها بحالة (التقدم إلى وراء)، أو “استلاب إلى التاريخ”، وتوسيع الهوة بيننا وبين عصرنا، وبيننا وبين معاصرينا كذلك.

وكل فكر لا يؤدي إلى تحقيق تقدم في إطار إيجاد حالة “الاجتهاد والإبداع” لدى الأمة وإخراجها من حالة الجمود والجحود والتقليد فإنه فكر لا يضيف الكثير إن لم يحكم عليه بالفشل بقطع النظر عن أية إنجازات يمكن أن يحققها في أطر جزئية.

إن المرحلة التي نحن فيها الآن، هي مرحلة “المنهجية المعرفية القرآنية”([10]). و”أسلمة المعرفة”. وأهم خصائص هذه المرحلة أنها تجعل من مجرد محاولة العودة إلى فكر المقاربات والمقارنات محاولة تراجعية تجري خارج إطار “المشروع الحضاري الإسلامي” الكامل، وإن كان من الممكن إدراجها في “إطار مشروع سياسي محدود إقليمي أو قومي” والفرق كبير بين قواعد وأطر وتطلعات المشروعين.

لا يظن ظان أني فيما ذكرت من جوانب إيجابية للفقه المتعلق بقضايا “أهل الذمة” كنت أدافع عن فقه قديم موروث أو أحاول تكريس ذلك الفقه، كلا فذلك مما لم أقصده ولم أرم إليه حتى لو أفاده بعض ما ذكرت، لكنني قصدت إلى التأكيد على وجود مداخل منهاجية أخرى للإبداع والاجتهاد في هذا المجال وغيره يمكن سلوكها لبيان قدرة الإسلام الفائقة على استيعاب التعدديات، وبناء قواعد عالمية الهدى والنور والرحمة ودين الحق القادرة على استيعاب التعدديات على مستوى المعمورة كلها لا على مستوى إقليم معين أو قومية محددة. وهذه القدرة والقابلية الكامنة في كتاب الله وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سنته وبيانه تتمثل في منهاجية معرفية قرآنية نبوية تشكل القاعدة الأساس “لأسلمة المعرفة ومناهجها” التي تؤدي إلى ضبط الأفكار وحمايتها من التوجهات الانتقائية والتوفيقية.

وهذه المنهجية هي التي مكنت الإمام الرازي من القول بما لم نره لأحد قبله من تجاوز تقسيمات الفقهاء الأقدمين للأرض في دارين: دار إسلام ودار حرب أو ثلاثة ديار بإضافة دار ثالثة هي دار العهد ليقرر عليه رحمة الله، أن الأرض مرحلياً داران (أي في المرحلة التي كان فيها) “دار إسلام ودار دعوة”. وكأنه بذلك أراد أن ينبه إلى أن البشرية قد تتجاوز حالة الصراع الدموي والإكراه الإنساني إلى حالة التدافع الحضاري لتتم حماية دين الحق والهدى والنور أو الاحتماء به في إطار تدافع حضاري يحمي الصوامع والمساجد والبيع والصلوات معاً في ظل قيم دين الحق والهدى الظاهر لا محالة على الدين كله، البالغ ما بلغ الليل والنهار، المستوعب لكل التعدديات، الداخل لكل بيت، على نحو إنساني مهتد مناقض لمناهج الحضارات السابقة واللاحقة في إبادتها لشعوب بأسرها أو إجبارها على قبول قيم وأفكار المتسلطين عليها تحت مختلف الأسماء وشتى المسميات، ومنها ما سمي “بالنظام العالمي الجديد”. ولتكون الحوارات الإنسانية المتصلة وسيلة نقل الأفكار وتبادلها.

وهذه المنهجية المعرفية هي التي أملت على شيخ الإسلام ابن تيمية تصنيفاً للعلوم انفرد به عن أهل زمانه حيث صنفها إلى علوم عقلية وشرعية وملية “وحدد من خلال ذلك التصنيف للعلم مواضع الإطلاق والعموم في العلوم التي يمكن أن تتناقلها الأمم دون حرج أو إخلال بهويتها كتلك التي يمكن أن تشكل رصيداً حضارياً مشتركاً ووضّح الفرق بين النسبية والخصوصية ووجّه النظر إلى قاعدة معرفية وفكرية تتيح قدراً معلوماً من التنوع والتمايز بين جماعة وأخرى حيث إن التنوع من سنن الله في خلقه، ولها ما لها من حكمة ونفع تماماً. كما أن الوحدة من تلك السنن، وما بين الإطلاق والنسبية، والعموم والتخصص في تحديد قاعدة العلوم وتصنيف محاورها ودوائرها توجِد أيضاً المساحات المتداخلة والمتشابكة التي لا هي بالعقليات المحضة ولا بالمليات كلية، والتي يمكن أن تتمثل في الشرعيات من حيث ما تجمعه من وحدة الأصول وتعدد وتنوع الفروع”.

“وهنا نجد المرونة والإحاطة والدقة والشمول ووضوح الرؤية ونفاذها في المجال المعرفي الذي يستمده صاحبه من تمثله للإطار المرجعي الإسلامي، وإلمامه بمقدمات وأوليات البيئة الاجتماعية الحضارية الإسلامية التي تتسع للتعامل مع الظواهر الاجتماعية والإنسانية والظاهرة الحضارية والعمرانية بكل ما تتسم به من تعقد وتعدد في أبعادها وعمقها”([11])، مقدمة حتى تصل إلى بناء عالميتها المباركة.

إن الالتزام بـ”أسلمة المعرفة” وبـ”منهجية الوحي المعرفية” سيقدم لنا الوسائل الضرورية لضبط مناهج التفكير، وتقنين الأفكار وينقل معالجاتنا من الأطر الجزئية إلى الإطار الكلي ومن ساحات الخصوصيات الضيقة إلى ميادين المأزق الحضاري العالمي. ويخرجنا من حالة الدفاع عن النفس أمام تحديات الحضارة المعاصرة العالمية بالتعامل مع الظواهر الجزئية المنعكسة عن الحضارة العالمية فيما يتعلق بالأشكال الدستورية لأنظمة الحكم أو المؤسسات الاقتصادية أو مظاهر السلوك الاجتماعي والأخلاقي([12]).

كما أن ذلك سيمكننا من إنتاج الأفكار المنضبطة منهجياً والمفاهيم والنظريات الإبداعية الاجتهادية التي نواجه بها متطلبات شهودنا الحضاري، وعالميتنا المرتقبة.

هذه مجرد ملاحظات عامة وددت أن أضعها بين يدي القارئ لهذا الكتاب وللقضايا الخطيرة التي يثيرها لأؤكد أنه إذا كان الاجتهاد ضرورة إسلامية فإن إعادة القراءة لفقهنا وتراثنا ضرورة أخرى لا بد من أن ينفر لها المؤهلون، كما أن منهجية الوحي المعرفية وأسلمة المعرفة هما الحل البديل عن كل من المقاربات والمقارنات والتقابلات الثنائية.

بارك الله في جهود أخينا الشيخ راشد الغنوشي وحفظه ورعاه وسدد خطانا وخطاه وهيّأ أمر رُشد يُعزُّ به أهلُ طاعته ويُذلُّ فيه أهلُ معصيته وتعلو فيه كلمته. إنه سميع مجيب..

هيرندن، فرجينيا

الولايات المتحدة الأمريكية

رجب 1413 هـ

يناير 1993م


[1]  ـ انظر ما يتعلق بمفهوم “المواطنة” ونشأته بحثنا في “التجنس بجنسية البلاد غير الإسلامية” المقدم باللغة الإنجليزية للمؤتمر الحادي والعشرين لجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين، المنعقد بإيست لانسنج، ميشيجان، الولايات المتحدة الأمريكية، أكتوبر، 1992.

[2]  ـ درجنا على التفريق بين “المشروع الحضاري الإسلامي” الذي يقوم على ثوابت الإسلام وقواعده الأساسية ويسعى لتحقيق عالميته وبين “المشاريع السياسية الإسلامية” التي يسعى أصحابها لتقديم معالجات أو مشاريع سياسية في أطر إقليمية أو قومية محددة. ونرى في هذه التفرقة ملحظاً منهجياً مناسباً لعالمية المشروع الإسلامي وخصوصيات المشاريع السياسية لفئات إسلامية.

[3]  ـ راجع البحث القيم (المجتمع المدني في عهد النبوة أو “السيرة النبوية الصحيحة”) الذي جمع متفرقات هذا الميثاق وحققها وبنى عليها الكثير من الاستنباطات والدروس المستفادة لمؤلفه الدكتور أكرم ضياء العمري، ط المدينة وقطر وترجمته الانجليزية نشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1991م.

[4]  ـ راجع بحث الدكتور عبد الوهاب المسيري “الفردوس الأرضي” ومقالاته الأربعة التي نشرت بمجلة المصور بعنوان “هكذا تضيع الأحلام” عن أحداث (لوس أنجيليس) وقارن بما كتبه الأستاذ فهمي هويدي حول الأحداث نفسها.

[5]  ـ  اصطلاح استعمله الشهيد إسماعيل الفاروقي في محاضرته “نحن والغرب”.

[6]  ـ  يراجع البحث القيم عن العلمانية ومفهومها وآثارها في النموذج المعرفي والأخلاقي للدكتور عبد الوهاب المسيري الذي سيصدره المعهد في إطار المقدمات النظرية لموسوعة “المفاهيم والمصطلحات الصهيونية” كما صدر ملخص لها في مجلة (منبر الشرق) القاهرية.

[7]  ـ انظر البحث القيم للمستشار طارق البشري “مشكلتان” حول اضطراب رؤى فصائل الأمة واختلافها، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، 1412هـ/ 1992م، وراجع بحثه المنشور في “مستقبل الحوار الإسلامي العلماني”.

[8]  ـ انظر مقالة الدكتور خليل علي حيدر في صحيفة الوطن الكويتية نقلاً عن (الأزمة الفكرية والحضارية في الواقع العربي الراهن) للأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد.

[9]  ـ  انظر نقد الفكر الديني صادق العظم، ص 26.

[10]  ـ يراجع كتاب “منهجية القرآن المعرفية” أ. محمد أبو القاسم حاج حمد. قيد الإعداد للطبع ص 20، ويراجع كتابه الآخر قيد الإعداد كذلك “الأزمة الفكرية والحضارية في الواقع العربي الراهن” وكلاهما سيصدران عن المعهد.

[11]  ـ انظر مقدمة د. منى أبو الفضل لكتاب “نظريات التنمية السياسية المعاصرة: دراسة نقدية في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي” لنصر محمد عارف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992م، ص 25 ـ 54.

[12]  ـ منهجية القرآن المعرفية.