تطبيق الشريعة: هل هناك مجالٌ للاعتبارات والحيثيات

117

                  إن من الضرورة بمكان ونحن نفكر في عمليات الإصلاح الاجتماعي والثقافي العام أن نخرج من إطارات الحماس إلى آفاق أوسع من البحث الاجتماعي والعلمي المكثف والهادئ في مقتضيات الشعارات التي تُرفع هنا وهناك، وفي مدى صلاحية هذه الشعارات وكفايتها مجردةً لتكون برنامج عملٍ للأجيال الحاضرة والقادمة.

                  وإن من هذه الشعارات المرفوعة شعار “تطبيق الشريعة الإسلامية” الذي ترفعه العديد من الجهات، وتجعله هدف حركتها ومبرر قيامها. وتتفاوت المعاني العملية المقصودة من وراء هذا الشعار تفاوتا كبيراً بين مضيقٍ وموسّع. إلا أن هناك غموض في هذا المدخل يجب الحوار والبحث فيها، لاسيما أن الكثيرين يخلطون بين الانسجام مع الشريعة من خلال الحركة العامة للأمة عبر قنوات التربية والتعليم والإعلام وغيرها… وبين تطبيقها من عَلٍ عبر القانون.

                  وتتعلّق إحدى الإشكاليات بتخيُّل البعض إمكانية قيام المجتمعات على القانون وحده، في حين أن القانون لا يمّثل إلا سياجاً حارساً يحمي المجتمع من خرق النظام خرقاً بالغاً يهدّد توازن المجتمع بأسره. فليست القوانين بهذا المعنى لبّ المجتمعات ولا خلاصتها، وإنما هي وجهٌ من وجوه وجودها.

                  ويتمنى المرء لو ترفع تلك الجهات شعار تطبيق روح الشريعة الإسلامية، لكي لا تتعلّق العقول بحذافير التقنينات الفقهية الني فيها سعةٌ من جهة، ولكي لا تتعللّ الأبواق المغرضة بمثل ذلك التصوّر الضيق وتبررّ بذلك نفي اعترافها بحق الناس اختيار نمطهم الاجتماعي من جهة ثانية.

                  ذلك أن جوهر الشريعة الإسلامية هو العدل وإقرار الحقوق والرفق بالعباد والسماحة في التعامل مع الوقائع اليومية التي تحمل الكثير من قصور البشر. ويشار إلى أنّ الجادين في تحقيق رسالة الإسلام في الواقع، لو استسلموا إلى تشديد المضيّقين لحجزهم هذا عن القيام بمهمّة تثبيت نسق الإسلام في الحال المعاصر، ويحول دونهم وخدمة قضايا الأمة. وإن فرض التجارب المحلّية على سعة معاني الإسلام يحصر آفاقه في النهاية ضمن اعتبارات مخصوصةٍ لجماعةٍ ثقافية أو وطنية.

                  الموضوع الذي نوّد التنويه إليه يطرحُ إشكالية نادراً ما تُعالج في هذا الإطار، ألا وهي مدى إمكانية اعتبار الأعراف التي تخالف القوانين. وسوف نطرح هذه الإشكالية من خلال قصةٍ واقعيةٍ حدثت هنا في الولايات المتحدة مؤخراً وتحدّث عنها بإسهاب الإعلام الأمريكي.

                  تتلخّص القصة في وصول لاجئَين عربيَين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتعرّفهما على عائلةٍ مقيمة هنا عرضت عليهما الزواج. وتزوّج هذان الشابان وهما في العشرين من العمر البنتين اللتين تبلغان الرابعة عشر. وحصل أن فرّت إحدى البنتين من البيت فاتصل الأهلُ بالمدرسة التي اتصلت بدورها بالشرطة. وبعد جمع بعض المعلومات عن القضية إذا بالشرطة تقبض على الشابين بتهمة الاغتصاب! وحيث أن قوانين الولايات المتحدة تمنع العلاقة الجنسية ضمن سنٍ معينة، وفي ولاية أوهايو بالذات حيث جرت أحداث القصة تُمنع العلاقة بين طرف فوق الثامنة عشرة وآخر تحت السادسة عشرة ولو كان ذلك بموافقتهما. الجدير بالذكر أن الشابّين عقدا قرانهما بحضور إمام المركز الإسلامي ولكنهما الآن في عرف القانون مُغتصِبان ويواجهان احتمال قضاء خمسين عاماً في السجن، فضلاً عن أن والدَي البنتين يواجهان تهمة “إيذاء الأطفال” أمام القانون.

                  ولْيتصور المرء نفسه محامياً في هذه القضية، ويريد رفع الظلم عن الفرقاء في المسألة، فما الذي يقوله للمحكمة؟ لقد خالفت هذه العائلة وهذا الزواج قوانين البلد بشكل صريح، وليست المسألة مسألة تهمةٍ لم تصحّ، فالشابان لا ينكران أنهما تزوجا البنتين في هذا العمر. ولذلك فإن من الغالب أن ينطلق الدفاع من المدخل الثقافي، ويحاول أن يبيّن أن هذه الحادثة جرت مع حديثي قدوم إلى أمريكا، وممن ينتمون إلى ثقافة أخرى لا ترى في مثل ذلك العمل حرجاً، بل تراه على أنه صوابٌ وحكمةٌ في إحصان شابين وبناء عُشٍّ لفتاتين.

                  فماذا ستكون إجابة المحكمة؟ ستقول ‑بعد الاستعانة ببعض الخبراء‑ إن هذه الممارسات تراجعت كثيراً حتى في بلاد المسلمين، وأن التبكير الشديد في الزواج كان معقولاً في مجتمعات سابقة تميزت ببساطة العيش وبالتشارك في المسؤوليات وبالحياة الاجتماعية القريبة والكثيفة. وتميزت كذلك بِطُرُقٍ في التربية تدفع الأولاد من الصغر نحو تبنّي مسؤوليات الكبار، كما أن البلوغ الفيزيائي فيها كان يقترن بالبلوغ العقلي والرشدي إلى درجةٍ معقولة. وستتابع المحكمة بأن الزمان تغيّر وأولاد العشرين اليوم يحلمون بـ (ديزني لاند) ويلبسون ثياباً عليها وجه قطة أو صورة سوبرمان. فالقانون هنا يقصد حماية مثل هؤلاء الأولاد الأغرار، فلا ينظر فقط في نموهم الجسدي، وإنما في نموهم النفسي والعقلي أيضاً.

                  لقد مُدِّدت فترة الطفولة في العصر الحالي، وفي حين كان الولد والبنت يتعلمان معظم المهارات الأساسية المطلوبة للحياة مع وصولهم سن البلوغ فإنهم اليوم لا يكادون يتعلّمون بعضها في سن الثامنة عشرة. وأتخيل أنه لو كنتُ المحامي عن العائلة وقال لي القاضي أنه يرضى برأي جدتي في الموضوع، ثم لو سألتُ جدتي التي تزوجت في الحادية عشرة وعاشت حياةً هنيئةً أكرمها فيها زوجُها كل الإكرام، ومات عنها وهي تحبّه وتذكره بكل خير، وقد خلّفت البنين والبنات الذين لا يعيّرهم في شيء صِغَرُ سنّ زواج أمهم… لو سألتُها أو سألها القاضي لربما أجابت بحكمتها المعتادة ورؤيتها البصيرة: يا أولادي لكل زمان أصول…، وسامح الله العائلتين، وسَتَرَ الله على هذين الشابين وهاتين الفتاتين، ولا حاجة إلى محكمة.

                  ودون إطالةٍ في تصور احتمالات نتائج هذه القصة، فإن من الواضح أن الحلّ سوف يكون مجحفاً ما لم نُنَحِّ القانون ونحاول الحكم من خلال النظر في العادات والتصورات الثقافية. وأذكِّرُ هنا بالمثال الذي أشرت إليه في مقالٍ سابقٍ حول العادة الرائجة في أمريكا والتي لها علاقة وثيقة بموضوع بحثنا اليوم، وهي عادة حفلة التخريج من المرحلة الثانوية التي تنظمها المدراس بنفسها. وهي حفلةٌ تحوي أنشطةً من سماع الموسيقى والرقص (وهذه نشاطات اعتيادية بالنسبة إليهم) ولكن ما يزيد في هذه الحفلة هو السماح بشرب المشروبات الكحولية (وهو أمرٌ ممنوعٌ تماماً في أنشطة المدارس!) كما أن بعض الطلاب يرتّبون مع بعض الفتيات مراسيم هي أشبه ما تكون بحفل زفاف جزئي. وينظر الأهل والمجتمع إلى هذه الحفلة وما يجري فيها على أنه تمهيد لممارسة واقع الحياة (وأحياناً تتبعه ممارسة جنسية خلسة) دون زواجٍ، ويغلب أن تنقطع العلاقة فيما بعد بين الشباب والفتيات. والطريف أن المدرسة نفسها لو رتّبَتْ مثل هذا الحفل في وقتٍ آخر من العام لغلب أن ثارت الثائرة ولربما قُدّمت إلى المحاكمة. والشاهد هنا هو التأمل في ارتباط القانون بالقيم الاجتماعية، وكيف يمكن أن يحكم القانون بشكل مختلف في حالاتٍ متشابهة، فيدين البعض منها ويسمح بالباقي. فالقانون بحدِّ ذاته ليس له معنى إلا بمقدار ما يكون قصده الصيانة والدرء والحماية.

                  وعوداً على بدء يتساءل المرء: هل هناك مكانٌ للحيثيات والاعتبارات مع القانون؟ فها نحن في قصة الشابين الذين ترعرعا في وسطٍ مسلمٍ مِلنا إلى تطبيق الفهم والتحليل الثقافي ورفضنا تطبيق القانون الذي يحملُ وجهاً من المعقولية في غير هذا السياق.

                  والغرض هنا أن نجعل من هذه النقطة إشكاليةً عامةً عند التفكير مع دعاوى تطبيق الشريعة. فالحادثة التي تُعالجها هذه القصة تنطق بشكلٍ شديد الوضوح مدى العمق الاعتباري للسلوك البشري، فالمسألة الواحدة اعتُبرت زواجاً حصيناً من طرف، واغتصاباً مشيناً من طرفٍ آخر. ويتبع ذلك سؤال خطير: إذا كان الإسلام ديناً عالمياً منفتحاً على كل الثقافات، إلى أي حدٍ يمكن اعتبار التباين الثقافي عند التعامل مع مسألة القانون؟

                  والمقصود من استخدام عبارة التباين الثقافي عادةً الإشارة إلى مسألة اختلاف القيم التي يبرزها المثال السابق. فربما لا تكون جدتي موافقةً على الزواج في مثل هذا السن المبكّر في هذا الزمان، إلا أنها لا تقبل ولا يخطر في بالها أن تسميه اغتصاباً، لأنها تدرك القيم الثقافية الكامنة وراء إنشاء عشٍ زوجي يتضمن الرعاية والديمومة وحفظ الحقوق... أما التصور الأمريكي فإنه ينظر إليه من زاوية حقٍ فردي تعرَّض للغرر بافتراض أن مَن كان عمره فوق الثامنة عشرة يستطيع أن يغرر جنسياً مَن هي تحت السادسة عشرة (برغم أن البنات أبكر نضجاً من البنين).

                  وتمثّل مسألة الاختلاف في القيم وجهاً واحداً من أوجه مفهوم “التباين الثقافي”، لكن هناك وجه آخر مهم يتمثل في كيفية تخيّل الناس وتصورهم لواقعهم ولطرق حياتهم وتصرفاتهم؛ أي أن السلوك البشري يكتسب معناه ليس من الوصف والشكل الخارجي بقدر ما يكون ذلك من المعاناة والصيرورة الذاتية، والقانون أبعد ما يكون عن الإحاطة بهذا.

ونضرب مثلاً لشرح هذه الفكرة من واقع قصتنا السابقة. فقد ذكرنا أن القانون لم يأخذ بعين الاعتبار مفهوم الرعاية والديمومة، ولكننا نعلم أن الواعظ البروتستانتي لا يعقد الزواج حتى يجيب كل من الرجل والمرأة بقبول الطرف الآخر زوجاً مدى الحياة يُخلص له في السراء والضراء وفي اليسر والمشقة. فقيمة الزواج والأسرة بهذا الشكل موجودةٌ في النصرانية ومازال الزواج يُتوّج بها، لكن الممارسات الحياتية الأخرى تبني خيالات الناس نحو هذا الزواج بشكل مختلف.

ذلك أن معظم تلك “الخيالات” التي تُحاط بها علاقة الرجل بالمرأة في هذا المجتمع إنما تأتي من زاوية الحبّ الرومانسي (الذي يُعتبر من مخلفات العهد الفيكتوري حيث كان الفارس يأتي ليجلس تحت شرفة امرأةٍ يحبّها ولو كانت متزوجة ويغني أو ينشد في غزلها، ولم يكن ينبني على هذا الحب الرومانسي زواجٌ بالضرورة، وكان ذلك يُعدُّ تكريماً للمرأة!). وحديثاً تتشكل خيالات العلاقة بين الفتيان والفتيات ابتداءً بالقصص المدرسية للمراهقين ومروراً بأفلام (ديزني)، وانتهاءً بالأفلام التي تروّج بأن الزواج المثالي هو ذلك الذي يحصل فجأةً في لقاء عابر، مع تطبيعٍ لنزوة الشهوة.

إن هذه الأمثلة جميعاً تُظهرُ أن السلوك البشري مرتبطٌ إلى درجةٍ كبيرة بتصورات الناس الذاتية وتجاربهم الثقافية المعينة والتي تُضفي على العمل الواحد معاني مختلفةً ومتباينة ربما لا يكون في مقدرة القانون أن يتعامل معها ويحيط بها وفق قطعيته المعروفة.

وحين ننتقل إلى الحيّز المسلم، يعجب المرء وهو يرى كيف كانت فطرة الفهم الإسلامي في تاريخ المسلمين عند التعامل مع القضايا العلاقات الاجتماعية ‑وعلاقات المرأة والرجل‑ أكثر نضجاً في كثيرٍ من الأحيان من بعض صياغات الحواشي الفقهية ومن بعض عبارات الوعظ السائد في قضايا المرأة والرجل.

ويبدو بديهياً أن المطلوب المناداة باسترجاع حقّ النساء القيام بالمسؤوليات المجتمعية على اتساعها؛ بل هو واجب وليس قضية حقٍّ يُنتزع. ولا بدّ أن تتشبّع الثقافة مفهوم الشراكة الصادقة للمرأة في المسؤولية المجتمعية من خلال الممارسات الحياتية اليومية. وهي شراكة كاملة في المسؤولية وليس‑ضرورةً‑ في ذات الوظائف. بمعنى أن تفاوت أولوية الواجبات والأدوار أمرٌ مشهودٌ في الحياة البشرية، فالشراكة المطلوبة هي شراكة تكاملٍ، بعيداً عن أي تهميشٍ أو تقليل من محورية الأدوار. ويرجى من الخطاب على نحو الإيجاب أن ينتفي معه الإيحاء بأن المسألة هي مسألةُ تسلّطٍ إيديولوجي يفرض أفهاماً خاصة.

وإن قطاعاتٍ واسعةٍ من المسلمين حين تسمع شعار “تطبيق الشريعة الإسلامية” تفهم منه السعي نحو إحقاق العدل وإشاعة الرحمة ومنع الظلم والفساد والجور، وهناك مَن تساورهم الشكوك عند سماع هذا الشعار. فهل مردّ هذه الشكوك إلى غلبة الشهوات في سياق إغراءات الإعلام، أم إلى غلبة الاختلاط الفكري في سياق تآكل المرجعيات؟

وختاماً، كان المراد من هذه الإشارات إثارة بعض الأسئلة العملية التي تغيب عن الخطاب الفقهي الضيّق، فيساهم في زيادة الانطباعات الشاردة. وليس المقصود بطبيعة الحال تهميش مركزية أحكام الشريعة وأثرها في بناء حياةٍ طيبة، وإنما الإشارة إلى خطورة عدم إدراك الحاجة إلى استصحاب الحيثيات، وإلى الإشكالية التي يمكن أن تنجم عن قصر الشريعة على أحكامها دون روحها ومقاصدها العامة.

06-1410هـ/12-1992م