رسالة حي بن يقظان ودلالتها الفلسفية لابن طفيل

7٬936

المقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم علمنا ما ينفعنا، واهدنا إلى سبيل الرشاد، وأرنا الحق في معرضه البهي المونق حتى ننتحله موقنين، وبعد:

إن المنافسة بين الدين والفلسفة بلغت مبلغًا كبيرًا، واعتقد الفلاسفة المسلمون وحدة الحقيقة وتعدد طرق الوصول إليها، فكان العقل سبيلًا لمعرفة الحق من جهة والدين كذلك، وهما يسيران معًا إلى نقطة نهائية واحدة.

وأصل هذا التنافس أن الفلسفة تدعي قدرتها على هداية الإنسان وإرشاده، كما أن الدين يعدّ هذه وظيفته، إلى أن غلّب جملة الناس تقديرهم للدين ورجاله واحتقارهم للفلسفة ورجالها.

وقد عمل الفلاسفة على بحث علاقة الله بمخلوقاته، والموافقة ما بين المنقول وصريح العقول، وقاموا بصياغة فكرة عن الوحي والذي هو أصل الدين، لكن بشكل إجمالي لا جزئي، إلا أن الباحث يمكن له أن يستنبط أفكارهم حول النبوة من خلال مؤلفاتهم. ([1])

ومن هؤلاء الفلاسفة ابن طفيل الأندلسي الذي كتب آراءه الفلسفية في رسالته (حي بن يقظان)، والتي تعد أشهر المرويات الفلسفية، وقد عنيت بالبحث والدراسة من قبل الباحثين، وترجمت إلى عدة لغات، واشتهر مستشرقون في إحياء هذا الأثر الفلسفي، ومن هؤلاء المستشرقين الفرنسي “ليون غوتييه”، والمستشرق الإسباني “غرسيه غومس”.

وقد قدمت قصص فلسفية حملت ذات العنوان كما عند ابن سينا والسهروردي، وقد جمعهم أحمد أمين في كتاب استفدت منه في هذا البحث (حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي) إلا أن هذه القصص تتشابه بالاسم فقط والمضمون والأغراض مختلفة، كما نجد قصة مشابهة لحي بن يقظان في الأدبيات الغربية كما عند “دانيال دي فوا” في رائعته روبنسون كروزو، وقد أجرى حسن محمود عباس دراسة مقارنة بين القصتين في كتابه (حي بن يقظان وروبنسون كروزو- دراسة مقارنة)، إلا أن القصة تتعلق بالعقد الاجتماعي أما رسالة حي بن يقظان فهي تتعلق بأمور وجودية وإبستمولوجية.

أما المنهج الذي اتبعته أثناء البحث، فهو المنهج التحليلي؛ إذ قمت بعرض النص الفلسفي لرسالة ابن طفيل ثم محاولة استخراج ما يرمز ويشير إليه.

وتكمن أهمية هذا البحث في بيان آراء ابن طفيل في أهم القضايا الفلسفية، وفي معرفة رأي ابن طفيل في قضية النبوات. وقد استفدت من الآراء التي قيلت حول هذا الموضوع ثم أشرت إلى رأيي والذي أرى فيه إضافة، ولا بأس في إعادة البحث والخروج بأفكار مختلفة في مستقبل العمر بإذن الله.

أما إشكالية البحث، فهي محاولة الإجابة عن التساؤلات التالية:

        هل لابن طفيل آراؤه الفلسفية الخاصة؟

        كيف أسهم ابن طفيل في إثراء الفكر الفلسفي الإسلامي؟

        هل أنكر ابن طفيل النبوة؟

وقد جاء هذا البحث في ستة مباحث؛ المبحث الأول في ابن طفيل: الفيلسوف والأديب، والمبحث الثاني تمهيد إلى فلسفة ابن طفيل، أما المبحث الثالث فيتحدث عن اكتساب حي بن يقظان للمعرفة، والمبحث الرابع في الجواب عن سؤال: هل الفلسفة والدين لا يتعارضان، والمبحث الخامس في أن العامة محتاجون إلى وحي من الله، فهم مغرقون بالمحسوسات، والمبحث السادس خلاصة في قضية البحث عند ابن طفيل.

ابن طفيل: الفيلسوف والأديب

هو الفيلسوف المسلم والطبيب “أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي. فهو ينتسب إلى قبيلة قيس، تلك القبيلة التي بلغت من الشهرة حدًا جعل اسمها يطلق على ما سوى اليمنيين من العرب”([2]).

ولد ابن طفيل في وادي يدعى آش، وهو “حاليًا لا يبعد أكثر من 55 كلم عن قرطبة، في عام لم يحدده المؤرخون بدقة، فذكروه ما بين 495 وعام 505 ه”([3]). حتى أنه “ينسب إليها أحيانا فيقال ابن طفيل القيسي أو الأندلسي أو الوادي آشي”([4]).

وقد اشتهر في بداياته في الطب، “وكان الطب في الغالب المدخل للفلسفة إذ كان أحد علومها، ثم أدرك دولة الموحدين وأصبح كاتب عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين”([5]).

وقيل عن ابن طفيل ” كان شاعرا متوسط الجودة”([6])، أما أسلوبه النثري الذي يتوضح من خلال رسالته حي بن يقظان فيتضح انسياب لغته ورونقها وقربها من القارئ، حتى يتميز ابن طفيل عن الفلاسفة في تمكنه من إيصال أفكاره الفلسفية في قالب لغوي يفهمه البسطاء من غير تقعر في الألفاظ، وقد ” أخرج الفلسفة بأحسن ثوب، أو هو أفضل كاتب فلسفي”([7]).

ولعل الدوافع التي حملت ابن طفيل على اصطناع القصة قالبا لأفكاره الفلسفية ما وجده هو وغيره من الفلاسفة في كون “الأعمال الفنية مادة طيعة قادرة على عرض وتفسير ونشر أفكارهم”([8]).

أما اختياره للشكل القصصي خاصة كنوع أدبي فيعزى ذلك إلى رغبته بالتأثير في نفس القارئ، وتقديم الفلسفة لجمهور الناس بشكل غير مباشر، ويحثهم على طلبها، ويبين لهم أن الفلسفة لا تلغي العقيدة بالضرورة، كما أن التجربة الصوفية هي تجربة واقعية والقصة خير وسيلة للتعبير عن تلك المقامات والمشاهدات التي تعترض الإنسان في رحلته الروحية، إضافة لعلم ابن طفيل مكانة القصة عند القارئ العربي وتعلقه بها، ولما كان ابن طفيل مدركا للنفوس وطبائعها أيقن أن القارئ سيحاول فهم وتبني آراء ابن طفيل قدر الاستطاعة. ([9])

تمهيد إلى فلسفة ابن طفيل

لقد لخص ابن طفيل فلسفته في رسالته التي تحمل قصة حي بن يقظان، وتعد هذه الرسالة “الأثر الوحيد المتبقي له”([10])، وقد “عرض من خلاله منهجه في الاستدلال على وجود الكليات من الجزئيات، وبطريق الفطرة والعقل والتأمل أي بفضل بعض المبادئ القبلية”([11])، فابتدأ بالحديث عن إنسان مغيب عن أي تأثير بشري، إذ خرج إنسانه من تعريفه الأرسطي بكونه (حيوان اجتماعي) إلى (حيوان اعتزالي)، وعالج في رسالته الفلسفية عدة مسائل مشكلة، وأراد منها بث ” أسرار الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا”([12]).

ويمكن للناظر بعين البحث والتدقيق إدراك العديد من المسائل المشكلة التي طرحها ابن طفيل، والتي لا تزال محل اهتمام الدراسات والأبحاث الحديثة، وهذا يدل على رجاحة عقل هذا الفيلسوف، وأهمية رسالته الفلسفية.

كما وتجدر الإشارة هنا إلى ما قاله الدكتور عبد الحليم محمود في أن ” الكثيرين يتحدثون ممن درسوا ابن طفيل عن صلته بالفلاسفة، فيزعم بعضهم أنه تأثر بابن باجه، بينما يذهب آخرون إلى تأثره بالفارابي، ويزعم آخرون أنه كان التلميذ المخلص لابن سينا”([13])، فمقصودهم أن ابن طفيل لم يبتدع القصة بل يمكن أن نجد لها أصولا سابقة؛ وقد وصل “إميليو غرسيه” في كتابه الذي يحمل عنوان “الناقد” إلى أن قصة “حي” تعود إلى أصل يوناني، فهي شبيهة ببعض الأساطير التي تدور حول الإسكندر. ([14])

إلا أن ذلك كله لا ينفي شخصية ابن طفيل، وتميزه عن غيره من الفلاسفة، وعظيم سبكه، ودقة بيانه، وأسلوبه السردي الفريد، والفرادة تبدو في “اعتماد الفكرة، الابتكار في البناء الفني، البراعة في المعالجة، الفعالية في الإيحاء”([15]).

وقد سار ابن طفيل على منهج ممزوج من البحث العقلي والكشف والمشاهدة، فقد قام “بإثبات قدرة الإنسان الفائق الفطرة على الارتقاء في المعرفة من المحسوس إلى المعقول، بحيث يصل إلى مرحلتي التجلي والاتصال الإلهيين”([16]).

وأما القضايا الفلسفية التي تعرضت لها الرسالة يمكن إجمالها بالآتي:

1-     بداية الخليقة وتكوين الإنسان؛ إذ لم يحسم ابن طفيل كيفية نشأة “حي”، فقد سرد روايتين؛ الأولى منها: تخمر الطين في جزيرة من جزائر الهند، وهي كما ” ذكر سلفنا الصالح ‑رضي الله عنهم‑ أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي أنها جوار الوقواق”([17])، والرواية الأخرى تقول: “إنه كان بإزاء تلك الجزائر، جزيرة عظيمة متسعة الأكناف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها منعها الزواج إذ لم يجد لها كفوا، وكان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سرا على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم، ثم إنها حملت منه ووضعت طفلا، فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها، وضعته في تابوت … ثم قذفت به في اليم، فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها”([18]).

2-     اكتشاف الذات؛ فقد نظر حي إلى الحيوانات في الغابة والأوبار التي تكسوها، وقوة البطش، وسرعة العدو عندها، فما كان له إلا أن ينظر لنفسه وخلوها من ذلك كله، وقد كان يألف بعض الحيوانات كالظبية التي أرضعته ورعته فكان لا يفارقها ولا تفارقه، واتخذ من بعض الحيوانات أعداء كبعض الوحوش المنازعة له، وكان يهش بعصاة سوى أطرافها على تلك الوحوش وخاصة حين تستقوي على الحيوانات الضعيفة “فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نبالة”([19]).

كما أنه رأى أن ليديه فضلا على أيدي الحيوانات الأخرى؛ إذ استطاع بيده أن يستر عورته حين علق أوراق شجر عريضة على خصره وربطها بحزام من الخوص والحلفاء، وصنع بيديه كذلك عصاة اتخذها من أغصان الشجر سواها وعدل منها.

وقد كان يمعن النظر في الحيوانات وأشباهها، “ويتطلب هل يرى أو يجد لنفسه شبيها حسبما يرى لكل واحد من أشخاص الحيوانات والنبات أشباها كثيرة، فلا يجد شيئا من ذلك”([20]).

3-     اكتساب المعرفة؛ يذهب ابن طفيل إلى أن اكتساب المعرفة يتم عبر طريقين: طريق العقل، وطريق الارتياض.

4-     توافق الفلسفة مع الدين، فالحقائق الدينية لا يمكن أن تتخلف عن الحقائق العقلية.

5-     في أن العامة محتاجون إلى وحي من الله، فهم مغرقون بالمحسوسات.

اكتساب حي بن يقظان للمعرفة:

يكتسب الإنسان المعرفة كما يرى ابن طفيل عبر طريقين:

1-     المعرفة النظرية.

2-     المعرفة الحدسية أو الإشراق الصوفي.

  • المعرفة النظرية

إن هذا النوع من المعرفة هو المؤسس على الحواس التي تعمل على نقل صفات الأجسام إلى العقل، فيقوم العقل بإصدار حكم عام، أو إخضاع الأشياء للتجربة.

ولقد قام حي بالنظر إلى الحيوانات والجمادات من حوله وتفحصها، وقام بمحاكاة أفعالها في أحايين كثيرة، فاتخذ غطاء يستر عورته حين رأى عورات الحيوانات مستورة بشعرها، كذلك قام بدفن الظبية حين ماتت أسوة بما تفعله الحيوانات بميتها.

وحين ماتت الظبية التي أرضعته وربته أراد حي معرفة سبب سكونها بعد الحيوية، وعدم حراك هذه الظبية من غير علة ظاهرة على جسمها، ونظر فإذا العطلة قد شملت جميع جسمها،  فشرح الظبية ابتغاء معرفة السبب والآفة التي نتج عنها ذلك، وقد  أدرك حي العلة والمعلولات والسبب والمسبب حين نظر إلى نفسه، “وكان الذي أرشده إلى هذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك”([21])، فقد كان يرى أنه إذا أغمض عينيه حجبت الرؤيا، وإذا سد أذنيه لم يستطع السماع، فوقع في نفسه أن سبب تعطل الظبية هو عضو ما، فبحث في ظاهر جسمها فلم يجد عطلا بينا، فأدرك أنه عطل مغيب عن العيان.

وحين قام بتشريح الجسد ولم يجد كذلك عطلا، تشتت فكره في ذلك كله، وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وأدرك أن هذا الجسد هو بمنزلة الآلة، فانتقلت علاقته بالجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق شوق إلا إليه. ([22])

وبذلك فقد بيّن ابن طفيل أن المعرفة الإنسانية آخذة بالتطور والتدرج؛ إذ إن حي ابتدأ بالحواس والتجربة ثم انتقل إلى التحليل والاستنتاجات العقلية، وأخيرا انتقل من العالم الطبيعي إلى ما وراء الطبيعة عن طريق اكتشافه للروح بل وتعلقه بهذا المعنى، إذ إنه “لما وقف بهذا النظر على أن حقيقة الروح الحيواني، الذي كان تشوقه إليه أبدا، مركبة من معنى الجسمية، ومن معنى آخر زائد عن الجسمية… هان عنده معنى الجسمية فاطرحه، وتعلق فكره بالمعنى الثاني”([23]).

  • المعرفة الحدسية.

لما نظر حي إلى المحسوسات، أخذ أبسط الأجسام المحسوسة وهي الماء، فوجد أنه يسخن ويبرد، وإذا تعرض لفرط حرارة الشمس أو النار يأخذ شكلا غير الصورتين التي تصدر عنه، فعلم بالضرورة أن لكل حادث محدث. ([24])

وعرف خاصية الأجسام، فقد “علم أن السماء وما فيها من الكواكب أجسام، لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة” الطول، العرض، والعمق؛ لا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك عن هذه الصفة فهو جسم”([25]). وأدرك بعد ذلك أن كل جسم متناه، ويلزم عن انتهائه أن “كل قوة في جسم فهي لا محالة متناهية. فإن وجدنا قوة تفعل فعلا لا نهاية له، فهي قوة ليست في جسم”([26]).

وبذلك استدل حي على وجود قوة فاعلة خارجة عن الأجسام، ولولا وجودها لم تكن الموجودات، وهي في ذاتها غنية عن كل علة، ذات قدرة متناهية، تتصف بالحكمة، وبديع الصنعة، فما كان له إلا أن ” تتحقق عنده أن ذلك لا يصدر إلا عن فاعل مختار في غاية الكمال وفوق الكمال. ([27])

ثم أخذ حي بتأمل بأي شيء حصل له العلم بهذه العلة الفاعلة، فتبين أنها بأمر غير جسماني، “فلما علم أن ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدركها بحواسه، ويحيط بها أديمه، هان عنده بالجملة جسده، وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة”([28]).

وبعد ما حصل حي بن يقظان على المعرفة العقلية، أدرك أن ما وراء العقل طورا معرفيا آخر، ولا سبيل للعقل في الوصول إليه، فاهتدى إلى وسيلة يخفف بها من فعل الحواس، والانقطاع عن الأجسام. فأخذ يغمض عينيه ويصم آذانه ويستعين بالاستدارة على نفسه، فإذا لحقه ضعف أفسدت عليه حاله تناول بعض الأغذية بحسب شرائط معينة، ثم نظر فإذا الحركة من أخص صفات الأجسام، فطرحها واقتصر على السكون في مغارته. ([29]) فإذا بحي “يطلب الفناء عن نفسه، والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك”([30]).

وهذه المعرفة التي توصل لها حي تسمى بالعرفان، بحيث تستفيض على القلب “الحقائق ويستلهمها بنفسها عبر حدس يطلق عليه بالحدس الصوفي”([31]).

ويعد المنهج العرفاني “منهجا ذوقيا، فهو يقوم على تذوق طعم المعرفة مثلما يتذوق الحيوان الأشياء. ففي هذا المنهج يكون التحسس تحسسا مباشرا بموضوع المعرفة، مما يطلق عليه بالعلم الحضوري”([32]).

والظاهر أن ابن طفيل أراد التمييز بين الكشف الصوفي والحكمة المشرقية التي ذكرها ابن سينا وسار عليها هو من بعده، وهي أن الحقيقة التي توصل لها حي ليست بعبادات ظاهرة كما عند المتصوفة، إنما بتأمل وإطالة نظر في أشكال الحياة والموجودات.

ويستفاد منه أنه من أهل العرفان. وهذا بالرد على من وضعه في قائمة الجهاز البرهاني كالجابري في كتابه تكوين العقل العربي، بل إن ابن طفيل صريح الميل والانتماء إلى العرفان. ([33])

هذا وإن ابن طفيل قد جمع ما بين العقل والقلب، وعلم أن العقل محدود بعالم المحسوسات، وأن السبيل لمعرفة صفات الله سبحانه لا تكون عبر العقل فحسب بل من خلال مصادر معرفية أخرى، ويمكن أن نجد مثل هذا القول عند الفيلسوف الألماني كانط؛ إذ جعل كانط مناط العقل عالم المادة أما الدين فهو خارج حدود العقل. “إن كانط قال الحق كل الحق عندما قال إن كل محاولة يبذلها العقل للوصول إلى (كنه) الحقيقة النهائية هي محاولة فاشلة، وقال الحق عندما أوضح أن العقول لا تستطيع أن تتعدى ميدان الظواهر المحسوسة لتدرك كنه ما وراء عالم الحس لأنه عالم مجهول”([34])، والاختلاف بين كانط وابن طفيل في أن الأول لا يرى دليل العلة برهانا على وجود الله، بخلاف ابن طفيل الذي جعل من حي بن يقظان يستدل على وجود علة أولى من خلال عقله.

إن حي بن يقظان “يمثل نموذج الإنسان عند العرفانيين من المتصوفة والفلاسفة على السواء. إنه باختصار الإنسان العارف الكامل والنموذج، الذي أنتجه الوعي الإسلامي”([35]).

الفلسفة والدين لا يتعارضان:

لما كان العقل نور من الله، والشرع نور منه كذلك، فالمنطق يقول إن الذي خلق العقل وأنزل القرآن لا بد أن يأتي بالأمور على حقيقتها، وبذلك فإن حقائق الدين لا تخالف الحقائق التي يتوصل إليها العقل السليم، “فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”([36]).

وهذه من أهم القضايا التي تعرض لها ابن طفيل في رسالته، وذلك تمثل عبر أسال ذلك العابد المتبتل “واسمه دال على ما يعتمل بنفسه من أسئلة”([37])، الذي التقى بحي في الجزيرة، فعلمه اللغة وشرائع الدين، و”كان يشير له إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها، ويكرر ذلك عليه ويحمله على النطق”([38]).

وعلم أسال بعدما أخبره حي عن حاله وكيفية معرفته بالذات الإلهية أن المعقول والمنقول مطابقان لبعضهما، “ولم يبق له مشكل في الشرع إلا تبين له، ولا مغلق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح، وصار من أولي الألباب”([39]).

في حاجة الناس إلى وحي من الله، فهم مغرقون بالمحسوسات:

أخذ حي بن يقظان يستفسر من آسال عن ملته وما ورد فيها من وصف العالم الإلهي والجنة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصراط، فعلم أن النبي الذي جاء في هذا القول محق في وصفه، فآمن به وصدق به، ولكن بقي في نفسه مسألتان وهما؛ لِمَ ضرب الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه من أمر العالم الإلهي حتى وقع الناس في التجسيم، واعتقاد صفاتٍ في الله هو منزه عنها؟ والمسألة الثانية؛ اقتصار الشريعة على هذه الفرائض فقط، وإباحة اقتناء الأموال والتوسع في المأكل، حتى يفرغ الناس للاشتغال بالباطل.

إذ إن حي كان يعتبر المأكل لإقامة الجسد وقليل ما يسد به الرمق، أما الأموال فليس لها معنى، وأشفق على الناس وأراد أن تكون هدايتهم على يديه، ولما أبحر مع آسال إلى جزيرة وأخذ بتعليم الناس أسرار الحكمة لم ير إلا نفورا واستكبارا، ورأى الناس طبقات وأفرقة وكل حزب بما لديهم فرحون، وألهاهم عن ذكر الله البيع والتجارة، فانتهى إلى أن “تكليفهم من العمل فوق هذا القدر لا يتفق، وأن حظ أكثر الجمهور من الانتفاع بالشريعة إنما هو حياتهم الدنيا ليستقيم له معاشه”([40]).

فترك الناس على ما أعلمت به الرسل؛ إذ الحكمة كلها فيما نطقوا به فاعتذر إليهم وأوصاهم بملازمة حدود الشرع والأعمال الظاهرة، وانصرف مع آسال إلى جزيرتيهما وعبدا الله عزلة حتى أتاهما اليقين.

الخلاصة في قضية الوحي من خلال قصة حي بن يقظان:

يقسّم ابن طفيل الناس إلى أصحاب فطرة فائقة وأصحاب الفطر الناقصة. ([41]) ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى أن الوحي هو خطاب لعامة الناس، أما أهل البرهان والعرفان فالوحي لهم بمثابة الإشارات والتنبيهات، والغرض من هذه التنبيهات “تمكنهم من تأويل عباراته المجازية والتمثيلية تأويلا يكشف الدلالات الحقيقية المقصودة من ورائها”([42]).

ويمكن أن نجد مثل هذا التقسيم في فهم الخطاب عند الفيلسوف المسلم أبى الحسن العامري، الذي يقول في حق العامة وعدم قدرتهم على فهم الخطاب الفلسفي: “فإن طبقات العوام قد أعرضوا عنها-أي الفلسفة-، وكرهوا الإصغاء إليها؛ لا لأنها منعت عنهم، بل لأن عقولهم بالإضافة إليها نزلت منزلة الأعين الرمدة بالإضافة إلى نور الشمس”([43]).

وهذا ما توصل إليه حي بعد تعامله مع عامة الناس، فتركهم على ظاهر قول الوحي، أما باطنه وإشاراته ومتشابهه فلا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم.

من ذلك لا ينفي ابن طفيل النبوة بل يشدد على أهميتها، كما لا يعلي من شأن الفلاسفة على الانبياء كما هو شأن الفارابي، بل نجده قبل الشروع في القصة قد وجه نقدا صريحا للفارابي ونظريته في النبوة، ووصفه بسوء المعتقد في هذا الجانب. ([44])

والقصة في نظري رمزية وهي محملة بكثافة المعاني، إلا أن صريح ابن طفيل يخالف الكثير من تأويلات القصة، كما أن مقدمته في الصلاة على النبي وذكر صفاته وفضله تبين رفيع تدينه وحسن معتقده.

وربما تبنى هذه التأويلات مع كونها مخالفة لصريح قوله يرجع لمعضلة المسألة ابتداء؛ إذ الحقيقة واحدة والطريق إليها متعدد.

إن حي بن يقظان عرف الله بالعقل وعبده بالمكاشفة، وبقي متأملا متفكرا، وحسب العبادات ومقصودها ربط العبد بالله وتجديد العهد، وإن كان الدين يدعو للموازنة بين الروح والجسد والدنيا والآخرة، إلا أنه لا ينكر على من أراد الاستزادة، بقطع شهوات الجسد والخلوة عن الناس ما دام هذا خيار واجتهاد شخصي، وفي المسألة عند أهل التصوف تأصيل وإيضاح ليس المحل هنا الاستفاضة فيها.

ينهي ابن طفيل القصة بأنه خشي على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء وأرادوا تقليد السفهاء بظنهم أن ثمة أسرار مضنون بها على غير أهلها، فأراد أن يصدهم عن ذلك الطريق، ويجذبهم إلى جانب التحقيق، إلا أنه يلغز بعد ذلك إذ إنه بحسب ما أشار قد أودع في هذه الأوراق حجب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعا لمن هو أهله.

لقد أبدع ابن طفيل هذه الرسالة، وفجر بها مكنونات أسرار وقضايا كثيرة، “وليس من قبيل الصدفة أن يكون ابن طفيل قد أعطى مشروعه شكل قصة، مسجلا بذلك لنفسه ابتكارا غير مسبوق إليه في تاريخ التقليد الفلسفي: فالقصة هي النوع الأدبي الأكثر مواءمة لخلق واقع بلا واقع، واقع متخيل تربطه بالواقع الفعلي علاقة مشاكلة لا علاقة مطابقة.. واقع بالقوة لا واقع بالفعل”([45]).

وفي نهاية القول، لم ينكر ابن طفيل النبوة، بل على خلاف ذلك فقد شدد على أهميتها خاصة في هداية عوام الناس، أولئك المحجوبون عن الحقائق الإلهية بحجب المحسوسات والشهوات.

والله أعلم.

الخاتمة

إن العقل هو ميزة الجوهر الإنسي، به عرف الله وأدرك وحيه، وجاء الوحي مصدقا لهذا الجوهر ومساندا له، ولقد أراد ابن طفيل في رسالته الفلسفية بيان هذه الميزة وعلاقة هذا العقل بالوحي الإلهي، ودرء التعارض الذي يتوهم بين هذين العقلين.

ولقد خلصت إلى إجاباتٍ لقضايا فلسفية أراد ابن طفيل تنبيه العالمين عليها، وأبرز ما توصلت إليه من نتائج هو الآتي:

        أهمية العزلة في صياغة المعرفة الإنسانية.

        أثر المجموع في تشكيل المعرفة الإنسانية، وصعوبة التشكيك وإعادة النظر في الآراء السائدة.

        أن العقل والنقل وحيان من الله، لا يمكن تعارضهما.

        لكل مقام مقال، ومقام العوام في الخطاب هو سهولة الألفاظ، وبساطة الفكر، وتحديثهم على قدر عقولهم.

        صعوبة سيادة الفكر الفلسفي في المجتمع المتدين.

        أهمية الوحي في تنظيم الجماعات وإرشادها.

        إمكانية إثبات الوحي بالعقل.

والله نسأل أن ينفعنا بما علمنا، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

والحمد لله رب العالمين.

المراجع

        ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم فاروق سعد، الطبعة الخامسة، دار الآفاق الجديدة: بيروت.

        ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، وزارة الثقافة مكتبة الأسرة الأردنية: عمان.

        أبو زيد، نصر حامد، هكذا تكلم ابن عربي، الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء- المغرب، 2006.

        أمين، أحمد، حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، دار المعارف.

        الجسر، نديم، قصة الإيمان، ص 167، دار التربية.

        ز.شمس الدين، عبد الأمير، الفكر التربوي عند ابن طفيل، الطبعة الأولى، الشركة العالمية للكتاب: بيروت.

        عباس، حسن محمود، حي بن يقظان وروبنسون كروزو، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسة والنشر: بيروت، 1983.

        العامري، أبو الحسن محمد بن يوسف، الإعلام بمناقب الإسلام، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر: القاهرة،1967.

        العمري، محمد نبيل، النبوة بين المتكلمين والفلاسفة والصوفية، الطبعة الأولى، دار الفتح: عمان، 2015.

        طرابيشي، جورج، نقد نقد العقل العربي: وحدة العقل العربي الإسلامي، دار الساقي: بيروت.

        محمد، يحيى، مدخل إلى فهم الإسلام، الطبعة الأولى، الأنتشار العربي: بيروت، 1999.

محمود، عبد الحليم، فلسفة ابن طفيل، الطبعة الثانية، مكتبة الانجلو المصرية: القاهرة.


[1] انظر: العمري، محمد نبيل، النبوة بين المتكلمين والفلاسفة والصوفية، الطبعة الأولى، دار الفتح: عمان، 2015، ص95.

[2] محمود، عبد الحليم، فلسفة ابن طفيل، الطبعة الثانية، مكتبة الانجلو المصرية: القاهرة، ص 9.

[3] ز.شمس الدين، عبد الأمير، الفكر التربوي عند ابن طفيل، الطبعة الأولى، الشركة العالمية للكتاب: بيروت، ص 11.

[4] عباس، حسن محمود، حي بن يقظان وروبنسون كروزو، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسة والنشر: بيروت، 1983، ص 18.

[5] أمين، أحمد، حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، دار المعارف، ص7.

[6] ز. شمس الدين، عبد الأمير، الفكر التربوي عند ابن طفيل (مرجع سابق)، ص 22.

[7] المرجع السابق، ص 22.

[8] ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم فاروق سعد، الطبعة الخامسة، دار الآفاق الجديدة: بيروت، ص60.

[9] انظر: عباس، حسن محمود، حي بن يقظان وروبنسون كروزو (مرجع سابق)، ص 70.

[10] المرجع السابق، ص 29.

[11] الجابري، علي حسين، دروس في الفكر الفلسفي الإسلامي، الطبعة الأولى، دار الفرقد: دمشق، 2010، ص116.

[12] ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم فاروق سعد، (مرجع سابق)، ص 106.

[13] محمود، عبد الحليم، فلسفة ابن طفيل، الطبعة الثانية، مكتبة الأنجلو: القاهرة، ص17.

[14] انظر: ز.شمس الدين، عبد الأمير، الفكر التربوي عند ابن طفيل (مرجع سابق)، ص 15.

[15] ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم فاروق سعد (مرجع سابق)، ص 7.

[16] عباس، حسن محمود، حي بن يقظان وروبنسون كروزو (مرجع سابق)، ص 72.

[17] ابن طفيل، حي بن يقظان (مرجع سابق)، ص 117.

[18] المرجع السابق، ص 121.

[19] المرجع نفسه، ص 131.

[20] المرجع نفسه، ص 139.

[21] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 133.

[22] المرجع نفسه، ص 138.

[23] المرجع نفسه، ص 64.

[24] ز.شمس الدين، عبد الأمير، الفكر التربوي عند ابن طفيل (مرجع سابق)، ص 105.

[25] المرجع نفسه، ص 107.

[26] المرجع نفسه، ص 114.

[27] المرجع نفسه، ص116.

[28] المرجع نفسه، ص 119.

[29] انظر: عباس، حسن محمود، حي بن يقظان وروبنسون كروزو (مرجع سابق)، ص45.

[30] المرجع السابق، ص 45.

[31] محمد، يحيى، مدخل إلى فهم الإسلام، الطبعة الأولى، الانتشار العربي: بيروت، 1999، ص 226.

[32] المرجع نفسه، ص 229.

[33] محمد، يحيى، مدخل إلى فهم الإسلام، ص 99.

[34] الجسر، نديم، قصة الإيمان، دار التربية، ص 167

[35] أبو زيد، نصر حامد، هكذا تكلم ابن عربي، الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء- المغرب، 2006، ص117.

[36] ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، وزارة الثقافة مكتبة الأسرة الأردنية: عمان، ص 31.

[37] أبو زيد، نصر حامد، هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق)، ص177.

[38] ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم فاروق سعد (مرجع سابق)، ص 226.

[39] المرجع السابق، ص 226.

[40] ز.شمس الدين، عبد الامير، الفكر التربوي عند ابن طفيل، (مرجع سابق)، ص 149.

[41] المرجع السابق، ص 146.

[42] أبو زيد، نصر حامد، هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق)، ص 181.

[43] العامري، أبو الحسن محمد بن يوسف، الإعلام بمناقب الإسلام، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر: القاهرة،1967، ص 74.

[44] ز.شمس الدين، عبد الامير، الفكر التربوي عند ابن طفيل، (مرجع سابق)، ص 70.

[45] طرابيشي، جورج، نقد نقد العقل العربي: وحدة العقل العربي الإسلامي، دار الساقي: بيروت، ص 397.