في وجه حضارة الأنانية
خاطب أمير الصعاليك عروة بن الورد امرأته بهذه الأبيات يلتمس فيها العذر ويبين ما يدفعه للسفر وركوب الأخطار:
دعيـني أطـوّفْ في البلاد لعـلني أفـيـدُ غـنىً فيه لذي الحقّ محمَـلُ
أليــس عظيــماً أن تُـــلِمَّ مُـلِمّـة ولـيس علـيـنـا في الحـقوق مُــعَوَّلُ
فإن نحن لم نملك دفاعاً بحادثٍ تُلِـمّ بـه الأيــام فالمـوت أجـمـلُ
* * *
اشتهر الصعاليك بين العرب إلى جانب فقرهم وقلة متاعهم بأريحية رائعة وشعور عميق بالمسؤولية والواجب. فالمال بالنسبة إليهم له وظيفة تتجاوز أشخاصهم، ولا يتصورون إمكانية الاستمتاع بفضل المال والرزق ما دام حولهم محتاج.
ويرقى الشعور بالمسؤولية إلى درجة الإحساس بأن كل ملهوف وصاحب حاجة هو صاحب حق، لا منَّـة في إسعافه ومساعدته بل الملامة والذل والأمر الذي لا يحتمل هو في التنكب عن واجب نصرته ومسح معاناته.
ويصل هذا الشعور الكريم بالمسؤولية والواجب إلى قمة عالية عندما يرقى ليكون مبرر الحياة الذي يعطيها المعنى والقيمة.
يجد المرء حاجة ملحّة للاسترواح ببعض ظلال ثقافة التضامن والتعاون والتكافل والتي يعبر عنها أمير الصعاليك في هذه الأبيات عندما يعيش عقابيل حضارة الأنانية والصراع والمتعة المادية والتي تزين للفرد أن يجعل “الأنا” مركز الاهتمام ومبرر الحياة، هذه الحضارة التي تجعل الاستهلاك والاقتناء عنوان المكانة والمنـزلة، ويتحول الإنسان إلى آلة تتحرك وفق رتابة صارمة ويصبح العنف والجريمة والإدمان قدراً يحاصر الإنسان، يغرق في الأشياء ولا يكاد يجد فيها ما يشفي شقوته ويروي ظمأه للمعنى والوجهة.
ولا ينتهي العجب من اعتداد هذه الحضارة وصلفها عندما تدعي أنها الثقافة الأصلح وأنها يجب أن تعمم وأن على الثقافات والحضارات أن تخلي لها الطريق طوعاً أو كرها لأنها لا تصلح للبقاء.
ما أجمل أن نستخرج من تراثنا وأدبنا معاني العطاء والكرم والأريحية والجود والبذل والإحساس بأصحاب المعاناة، ليكون عطاء الأعمال الأدبية الخالدة زاداً عاطفياً يقوي الأفكار ويرقى بها في معارج التواصل مع عناصر كيان الإنسان ليمكن لها في عالم الواقع الإنساني الذي لا يعرف الانحصار والاختزال.