لنتكلم في عناصر الديمقراطية

1٬061

إنّ الحال الذي آلَ إليه مصطلح الديمقراطية أمرٌ محزن إذ أنه يزيد المشهدَ الثقافيّ اختلاطاً ويُبعد الأمة عن القدرة على وضع يدها على مفاتيح الحلول والمداخل التي تمكّنها من أن تَضع رجلها في أول مسار الإصلاح الإداري.

فمِنَ الطرح الذي يُنادي بالديمقراطية وكأنها شيءٌ جاهزٌ للتطبيق نستوردُه كما نستورد حبات معالجة الصداع، إلى الطرح الذي ييأس من إمكان إجراء أيّ إصلاح…

ومِنَ الطرحِ الذي يستبطن الاحتقار الثقافي الذي يُصوّر العرب والمسلمين همجاً ليسوا على مستوى السلوك الديمقراطي، إلى الطرح الرومانسي الذي يصوّر الديمقراطية رفعةً أخلاقية ساحرة تشكّل سر نجاح الغرب وتفوقه…

ومِنَ الطرح الخياليّ الذي يضع عناوين ديمقراطية لآماله الإسلامية، إلى الطرح الرفضي الذي لا يريد قراءة التجربة الديمقراطية…

ومن الطرح العُنْجُهي الذي يُكفِّر من يشكُّ بعالمية التجربة الغربية الديمقراطية ويؤكّد ضرورة مراعاة الخصوصية الثقافية، إلى الطرح الابتزازي الذي يُغطي دعاواه المصلحية باسم الخصوصية…

وكأيّ مصطلح، إذا اشتطّ الناس في استعماله فإنه يفقد معناه ويفقد الفائدة من استعماله؛ وأهم شيء يفقد القدرة على توجيه العمل الواقعي وترشيده. وفي واقعنا الذي يشكو من غياب المعقولية والرقابة في الحكم والإدارة، والذي آل فيه مصطلح الديمقراطية إلى مادة للتراشق اللساني، فإنه ينفع الكلام عن العناصر المكونة للديمقراطية رامين القشرة الاصطلاحية المتآكلة. ورغم أنه لا يوجد ديمقراطية واحدة يمكن التكلم عنها بالتحديد، فإنه يمكن تحديد عدة خصال تشكّل أهم ما تتمتع به الديمقراطية. وبمعالجة الخصال المكّونة للديمقراطية معالجة نقدية يمكننا معرفة أوجه الاتفاق والاختلاف. وابتداءً لا بدّ من الإشارة إلى أن تحديد العناصر الرئيسة المشكّلة الديمقراطية هو توجهٌ يقفز فوق الإشكالية الفلسفية للديمقراطية ويفترض -مؤقتاً- إمكان فصل آليات الديمقراطية عن الديمقراطية الليبرالية كمفهوم حياتي وكدين للحداثة. وسوف يعالج هذا المقال ثلاث خصال مكّونة للديمقراطية ‑سيادة القانون، والتشاور والتمثيل، وفصل السلطات والمحاسبة‑ ويعرّج على مفهوم الاستيراد ومقولات توافق الإسلام أو تعارضه مع الديمقراطية.

سيادة القانون

تُعدّ سيادة القانون أحد الأسس التي ترتكز إليها الديمقراطية الحديثة، الأساس الذي لا يتصور أن تشتغل آلية الديمقراطية بدونه، ورسوخ مفهوم القانون في الثقافة الغريبة عامة والثقافة الأنجلوسكسونية خصوصاً أمر معروف. وتثور نقاشات واسعة حول القانون وعموم تطبيقه على الجميع من خلال أزمات قانونية، إلى درجة أنه أصبحت متابعة جلسات محاكمة المشاهير مصدراً للتسلية يتنافس فيها التلفزيون والإذاعة.

ولكن فكرة القانون ومبدأ سيادته ليس أمراً جديداً البتة، بل عرفته البشرية من أزمان ساحقة. فالدراسات الانثروبولوجية مثلاً تزخر ببيان وجود مفهوم القانون حتى في القبائل التي تعيش حياةً تبدو لنا بدائية. ولنا أن نتذكر أن القوانين المعقّدة قديمة قِدَمَ حمورابي، وأن المجتمعات الكبيرة والحضارات البائدة كلها عرفت القانون وعملت به. وإذا أشرنا إلى الحالة الإسلامية بالخصوص فإننا نجد أيضاً أن القانون كان له وجود أكيد.

وهنا يأتي السؤال، كيف نسمح لأنفسنا أو عقولنا بأن تجمع بين اعتقادين متعارضين: التسليم أن القانون هو أساس الديمقراطية التي تتميز به مع الاعتقاد أيضاً بأنه كان دوماً موجوداً في الحياة البشرية؟ وإذا أمعنا النظر فإننا نجد أن الفرق ليس في وجود أو عدم وجود القانون، بل هو فرق في (1) مرجعية القانون و(2) المؤسسة المودع فيها القانون و(3) سبل إنفاذ القانون و(4) المساحة التي يغطيها القانون من حياة البشر.

يتميز مبدأ سيادة القانون في السياق الديمقراطي الغربي في أنه أسند القانون مطلقاً إلى الانسان نفسه مقطوعاً عن الخلفيات الدينية. ومقارنة بالمجتمعات البسيطة التي كانت تعتقد أن الظواهر الكونية -من الفيضان إلى المرض- إنما هي من صنع آلهة تغضب يوماً وترضى يوماً آخراً وأن الظواهر الكونية لا تخضع لآليات مفهومة، فإن نفس هذه الظواهر في منطق الحداثة أصبحت تُفسّر من خلال أسباب ماديّة تحكمها احتمالية الصدفة وتطرد أي إرادة خالقة.

وحدث ذلك التحول أيضاً بالنسبة لمفاهيم الاجتماع الإنساني. فكانت طاعة القانون مرتكزة إلى هيبة الملك وادعاء الأحقية الإلهية، فأصبحت في مناخ ثقافة الحداثة مستندة إلى خيال خيار شخصي بحت. فمثلاً كان يُنظر للزواج (وما زال في دوائر المتدينين والكنيسة) على أنه رباطٌ مقدسٌ في حضرة الرب، فأصبح يُنظر إليه بازدياد أنه علاقة صداقة غرامية اقتصادية بين اثنين. أي أن مرجعية القانون الحديث مرجعية تعاقدية مدنية تستند أخلاقيتها إلى الفعّالية الآنية لهذه القوانين ومعقوليتها الظاهرة -إلى جانب إمكان تعليلها العلمي- مرجعية ضحلة العمق الخلقي تُضفي طابع السخف أو التنافس المصلحي على القانون.

ولم يكن للقانون مؤسسة مستقلة في الأزمان البائدة، أو كان لها وجود ضئيل يتمثل في شكل موظفين تابعين للحاكم الأعظم. أما القانون في العصر الديمقراطي فإنه مودع في مؤسسات بيروقراطية ضخمة لها أجنحتها المستقلة.  ومما يميز هذه المؤسسات أنها مضبوطة بالقانون ومولّدة له بآن واحد في طبقات متراكبة على غاية من التفصيل والتعقيد. ورغم أن استعمال العنف لإنفاذ الإرادة الجماعية معروف منذ أقدم العصور، فإن النظم الديمقراطية الحديثة أعطت الدولة حق احتكار استعمال العنف وشكّلت أقوى المؤسسات التي عرفتها البشرية والتي تستعمل العنف لتقمع العنف غير المقنّن.  وأخيراً فإن ما يميز دور القانون في النظم الديمقراطية هو اتساع المساحة التي يحتلّها، فلقد حلّ القانون في نموذج الدولة الحداثي محل كثير من المؤسسات الطبيعية التي كانت تنظّم حركة المجتمع، من العناية بالأولاد إلى التعليم إلى التطبيب إلى طريقة دفن الميت. ولذا تأزم مفهوم القانون في المجتمع الحديث لأنه امتد إلى مساحات لا يناسبها الضبط القانوني الرسمي، وأصبح القانون مصدر الداء والدواء بآن واحد.

وعلى هذا فإنه عند التفكير في سيادة القانون كعنصر من عناصر الديمقراطية فإنه يجب أولاً أن لا نفكر بأنه شيءٌ جديد لم تعرف البشرية أي شكلٍ من أشكاله من قبل، وإنما علينا أن نفكر بعدة أوجه: بالمرجعية الخلقية التي يستند إليها القانون لأن تلك المرجعية هي التي تحدد صلاحية القانون في بيئة معينة، وتحدد إمكان احترامه وتقبله من الناس، وتحدد مدى انسجامه مع واقع الحياة. وثانياً يجب التفكير في المؤسسات التي سيودع فيها القانون، والمساحة المثلى التي ستُترك للدولة مقابل المساحة الحياتية التي ستُترك للمؤسسات المدنية وتلك التي ستُترك للفرد والضمير.

التشاور والتمثيل

تفتخر الديمقراطيات الحديثة في أنها متفوقة خلقياً لأنها تمثّل إرادة الشعب. فمقابل خضوع الناس للملوك في الأنظمة السابقة ومقابل القرارات الحازمة التي كانت تصدر من قبل مجموعة صغيرة من الأفراد، فإن الناس في ظلّ الديمقراطية يطيعون إرادة الشعب ذاته من خلال المشاركة بالتصويت والانتخاب. وبغض النظر عن التبسيط في هذا الطرح وإسقاطه لبعد التحكم المبطّن وترك مساحة ضيقة للاختيار (والذي يصفه البعض بأنه اختيار إذعان)، فإن قضية التمثيل قضية معروفة مارستها المجتمعات البسيطة منذ القدم. بل تتميز تلك المجتمعات بلقب “مجتمعات المساواة والمشاورة الكثيفة”.  فرغم كل السطوة التي كان يتمتع بها رجال الحكم، فإنهم كانوا يتحسسون الإرادة العامة من خلال الأقنية الاجتماعية الكثيرة. كما كانت طبيعة تلك الأنظمة القديمة أن تتعامل مع كل شيء -بما فيه التمثيل- على شكل كتل جماعية. فمثلاً تعهيد مهمة معينة لقبيلة ما أو حيازتها الرمزية لحق من الحقوق هو في حدّ ذاته ضربٌ من التمثيل، سواء كان ذلك في حق غسيل فناء المعبد أو في حق الرعي في مساحة عشبية معينة. وصحيح أنه شهدت هذه الأنظمة تأزمات في مسألة التمثيل والتشاور، فإنه يبدو أن المجتمعات الزراعية الكبرى هي التي مثلت أعلى درجات هذا التأزم.

ومن وجه آخر فإن الديمقراطيات الحديثة أفرزت أزماتها الخاصة في مسألة التمثيل. ولنا أن نتذكر أن نسبة المشاركين في الانتخاب متدنية في كثير من الديمقراطيات، وأن كثيراً من المفاصل الحساسة في حياة المجتمع الحديث تخضع لطبقة الموظفين الفنيين (التقنوقراط) التي تفرض رأيها الفني حكماً من غير مشاورة. وحين تُعرض قرارات الفنيين للتصويت فإن التمثيل الصادق يكاد يفقد معناه مع تسييس هذه القرارات واستعمال الدعاية المضللة.

والمقصود من التذكير بهذا هو أنه ليس المطلوب أن نتغنى بالديمقراطية وقدرتها على تمثيل الناس، وإنما أن نتفكر في الصيغة التي يتم فيها تمثيل الناس وموضع السلطة ومساحة صلاحياتها، وما هي الأمور التي سوف تُسند إلى القرار السياسي وما هي التي ستُترك للمجتمع ومؤسساته المدنية والطبيعية.

وبالذات فإن هناك ثلاثة نماذج عامّة للديمقراطية، نموذج التمثيل و نموذج التعهيد و نموذج المشاركة.

فنموذج تمثيل المصالح (وأكثر ما يعبر عنه هو نظام الولايات المتحدة الأمريكية)، يعتبر الشخص المنتخب مجرد ممثّل… مجرد شخص ليس ضرورة على علم ومهارة فائقة أو رؤية ثاقبة، وإنما مجرد ممثّل عن الشخص الذي انتخبه يحاول أن يدافع عن رغبات هذا الشخص. ولكن لما كانت الرغبات والمصالح في المجتمع الرأسمالي البحت قد تكتلت على شكل شرائح اجتماعية وشبكات مصلحية، فإن الممثّلين المنتخبين أصبحوا يلعبون دور ممثل مصالح شريحة همّهم إقناع قاعدتهم بأنهم فعلاً يدافعون عن مصالحها، وهذا الذي يؤهلهم لينتخبوا مرة ثانية.

وهناك نموذج التعهيد والذي يوجه الناس إلى انتخاب من يُفترض حيازته على أهلية وقدرة وكفاءة. ويتوقع من هذا الشخص المنتخب اتخاذ القرار الحكيم حسب ما يراه وبناءً على خبرته، مع مراعاة مصالح من انتخبوه. وهناك نموذج المشاركة الذي يقتضي أن يشارك الناس فعلاً في صنع القرارات وذلك من خلال مؤسسات اجتماعية بينية ليست حكومية.

ومرة ثانية فإن المطلوب التفكير بالنموذج المحبّذ بين هذه النماذج العامة. فالنموذج التشاركي يتكئ بشكل أكبر على نوعين من منظمات المجتمع المدني: النقابات والمؤسسات الخيرية ومؤسسات الخبرة من جهة، ومؤسسات النشاط والممارسة التعبدية والحي والجوار وشبكة القرابة من جهة أخرى، إذ تتميز كل هذه المؤسسات بأنها تحاول أن تضم -بشكل أو آخر- رؤيةَ أكبر مجموعة ممكنة من الناس. أما النظام التعهيدي فإنه يحتفظ فيه الناس لأنفسهم مساحة كبيرة من الفضاء الاجتماعي تاركين السياسة وشؤونها للذين لهم خبرة وتاريخ ورؤية وواضعين فيهم ثقة شبه كاملة وكـأنها أمانة عُرفيّة. أما نظام التمثيل المصلحي فإنه من أكثر النماذج تمكيناً للمال ولفعاليات السوق من أن تفرض نفسها في الحياة السياسية. ولا يخفى أنه يمكن تقييم هذه النماذج وفق محك معياري، فالادعاء بأن واحداً من هذه النماذج أصلحُ من الآخر هو حكم له علاقة بالخلفية الفكرية والتصورية وليس مجرد خيار تقني.

كما أن فرصة نجاح هذه النماذج مرتبطة بشروط موضوعية. فمثلاً يواجه النموذج التشاركي صعوبات جمّة إذا كان هناك تفاوت كبير في مستويات الناس العلمية، كمجتمع فيه مجموعة من ذوي التعليم العالي إلى جانب نسبة أميّة عالية بين الشعب (وكمثال عكسي، يُمكن التفكّر بالممارسة الديمقراطية السويسرية التي يلعب فيها المستوى الثقافي العالي دوراً مهماً). كما أنه من الصعب تخيّل نموذج تمثيل مصلحي فعّال ويستحق الوصف الديمقراطي في بلد فقير قليل الموارد تتركز فيه الثروة في أيدي ثلّة محدودة العدد جداً (ويمكن التفكّر بالممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية كمثال يدلّ على طرفي المسألة: فمن وجه فإنه ترتاح لهذه الممارسة شرائح ما فوق الطبقة المتوسطة -وهي شرائح كبيرة العدد باعتبار ضخامة حجم الاقتصاد الأمريكي؛ ومن وجه آخر تتأزم هذه الممارسة بين صفوف ثُلْث أو نصف الشعب من الشرائح غير المحظوظة التي تستقيل يائسة من المشاركة، وتندفع المنظومة للجوء إلى الدعاية والطروحات الجانبية لإمكانية الاستيعاب العام). وأخيراً، يصعب تخيّل فعالية نموذج التعهيد إذا كان هناك هوّة ثقافية قِيَمِيَّة بين النخبة المُعهَّدة وعامة الشعب (ومثال ذلك أكثر البلاد العربية والإسلامية).

اللامركزية وفصل السلطات والمحاسبة

مبدأ اللامركزية مبدأ قديم مارسته كثير من إمبراطوريات التاريخ، بل لعله كان النموذج الغالب لأسباب كثيرة أهمها عدم توفر الوسائط المادية للسيطرة المركزية مع اتساع رقعة الدولة. ولكن الثورة الصناعية ومنتجاتها مكّنت من التحكم بمساحات شاسعة والسيطرة على أعداد هائلة من البشر. وفي ظل ظروف تاريخية معينة تعانقت المركزية والتقنية في أوربا لتفرز أنظمة فاشية في التجارب الإسبانية والإيطالية والألمانية والروسية، ولــذا فإنه يُنظر عادة إلى اللامركزية على أنها ترتيبة تنظيمية ضرورية من أجل عدم تركيز قدرات التحكم في أيدي قلّة.

ولكن اللامركزية شرطٌ لازمٌ غير كافٍ ففي أمريكا مثلاً في أواخر القرن 18 وأوائل القرن 19 كانت اللامركزية هي الترتيبة التنظيمية التي مكّنت بعض الولايات المتفرقة من رفض التوصيات الفيدرالية في التضييق على الرق الرسمي وتمرير الإرادة المحلية التي كانت تعارض لمس الأساس القانوني للرقّ كما تعارض أي تغيير في ترتيبة المصالح الاقتصادية المرتكزة إلى عمالة الرقّ الزراعية.

وبالطبع فإن مجرد فصل السلطات النظري أو مجرد فصل السلطات كتصميم في بنية المنظمة لا يضمن بالضرورة الفصل الكامل الفعلي، إذ أنه يمكن أن تنشأ علاقات غير رسمية تربط بين هذه السلطات وإن كانت غير قانونية وغير ديمقراطية في نتائجها. والمثال المعروف في هذه الأيام هو نظام الولايات المتحدة، فرغم أنه شديد اللامركزية نسبياً، ورغم أن فصل السلطات مغروس بشكل واضح وأكيد في الدستور، ورغم أن الثقافة السائدة تتوقعه وتحرص عليه، إلا أن دور المال في التصويت وفي تمويل الحملات الانتخابية يقلّص مسافة الفصل هذه.  ومثل ذلك جماعات الضغط التي تعتمد حكماً على المال، ومثل ذلك الدور المتزايد للإعلام وقدرته الكبيرة على توجيه الرأي العام والذي تلعب فيه المصالح والتدبير الاستراتيجي دوراً كبيراً. ويطلق في علم السياسة الأمريكي على العلاقات المتشابكة المتناغمة بين سدة الحكم التنفيذية والسلطة التشريعية المنتخبة ومؤسسات الضغط اسم “المثلث الحديدي”، الأمر الذي يجعل قضية افتراض الفصل التام في النموذج الديمقراطي قضية نظرية لا تنطبق بالكامل مع الواقع.

ثم إنه يجب أن نتذكر أن طرق الإدارة الحديثة مغروسة في المفهوم البيروقراطي للإدارة. أي أنه بغضّ النظر عن وجود اللامركزية أو عدم وجودها، فإن الترتيبة البيروقراطية التي تنبني عليها الأنظمة الحديثة هي قيد بحد ذاتها، حتى أنه أُطلق عليها الصفة الشهيرة بأنها الـ “قفص الحديدي” أو القشرة الصلدة لمجتمعات الحداثة.

ويجب أن نلحظ أيضاً أن هناك درجات متفاوتة في لامركزية الأنظمة الديمقراطية الحديثة. فمثلاً تتميز كل من فرنسا وألمانيا بمركزية أعلى بكثير من الولايات المتحدة، ويتميز نظام الإدارة الصيني بأنه عالي اللامركزية رغم أنه مغروس في نظام جمعي في روحه له جذوره الشيوعية والتي اختلطت مع الأسس التاريخية للثقافة الاجتماعية للصين. أما المجتمعات القديمة فإنها على العموم جمعت بين اللامركزية الشديدة في أكثر أوجه الحياة وبين مركزية شديدة في قليل من الأمور. ويجب أن نتذكر أن درجة وشكل اللامركزية الأمثل له علاقة بالامتداد الجغرافي والتوزع السكاني والتنوع الثقافي والتكامل الاقتصادي لأصقاع البلاد.

أما مبدأ فصل السلطات فإنه متصل باللامركزية ولكنه ليس جزءاً منها بالضرورة. ولا يخفى أن هذا مبدأ قديم عرفته كثير من الأقوام. ولكن العامل الحاسم الذي يفرّق بين فصل السلطات القديم والحديث هو تقنين هذا الفصل. فمثلاً وجود القضاة المتخصصين ذوو سلطة متمايزة أمر قديم، ولكن علاقة القضاة بالمؤسسات الأخرى لم تكن بذاك التقنين الذي نراه اليوم. ويترك اليوم للقضاة مساحة أصغر لتقليب الرأي، أي أن هناك درجة فصل للسلطات أقل من قبل نتجت عن ذات الفصل المقنّن.

ويجب أن نتذكر أيضاً أنه كانت تُحلّ معظم المسائل في مجتمعات ما قبل الحداثة من غير الإحالة إلى القانون أصلاً. أي أنه تكمن المفارقة في أن المجتمعات القديمة والبسيطة والتي لم يكن فيها فصل السلطات حاسم تمتعت بدرجة مساواة عالية بسبب حصر القانون في المسائل الكبيرة وحلّ أكثر المشاكل من خلال الآليات الاجتماعية، والتي هي بالضرورة ديمقراطية بسبب إشراك عدد كبير من الناس في هذا وبسبب عدم امتلاكها المباشر لوسائل العنف (سجن، غرامة) وبسبب أن طريقة اتخاذ القرار فيها طريقة إجماع تتطلب المساومة والتراضي.

ولعل إشكالية فصل السلطات وضرورة هذا الفصل تظهر عندما يكون عند هذه السلطات قوة كبيرة على الإنفاذ، كما هو الحالي في المجتمعات الحديثة. إن قوة السيطرة لأية مؤسسة من مؤسسات المجتمع الحديث قوة كبيرة، فإذا اجتمعت كلها ولم تُفْصل تحوّلت إلى قوة مُخيفة. وكذلك فإن التعقيد والتداخل في تنظيم المجتمعات الحديثة يُلزم بضرورة وجود درجة عالية من الفصل بين السلطات.

إشكالية منطق الاستيراد

إن التفكير بالديمقراطية من خلال عناصرها الثلاثة الأساسية (سيادة القانون، والتشاور والتمثيل، وفصل السلطات والمحاسبة) يساعد على فهم إشكالية الديمقراطية ويزيل عنها الهالات، لكن لا يعني هذا أنها ثلاثة مكونات يُمكن استيرادها. إن الدعاوى التي تطرح المسألة الديمقراطية وكأنها حلٌ جاهز يمكن استيراده وتركيبه كقطعة غيار في آلة المجتمع دعوى في غاية التهافت وتفقد أدنى درجات العلمية وإدراك طبيعة حركة المجتمعات وطبيعة التطور التاريخي. وذلك أن الفعل الاجتماعي يتحرك أولاً وقبل كل شيء حسب صيغة تفاهم مُضمرة في عقول ومشاعر الناس، وتتشكل هذه الصيغ من خلال محاولة الإنسان الدائبة التعاملَ مع الظروف المحيطة به وتذليل العقبات وتخفيف وقع المصاعب التي تحيط به.

ويمكن أن نتصور بُعدين للواقع البشري، بعداً بنيوياً وآخر ثقافياً، ولنفترض هنا أن البُعد البنيوي أمرٌ مفروض لا يمكن الحياد عنه ولنركّز التفكير في كيفية التأقلم الثقافي مع الواقع المفروض وعلاقة ذلك بمنطق الاستيراد.  ولنأخذ مثالاً مجتمع جزيرة تحيط بها البحور، فهذا بُعد بُنـيوي ليس للناس الساكنين فيه خيار في تغييره أو إزالته، ولنفكّر في كل ما تفسح به هذه الوضعية الجغرافية من إمكانات وفيما تفرضه من عوائق. فإذا أخذنا مسألة الطعام والنظام الغذائي للقوم فإنها بُعدٌ ثقافي يتأقلم حول البعد البنيوي المفروض حيث طوّرت ثقافة هذه الجزيرة نظاماً للتغذية يرتكز بشكل كبير إلى منتوجات البحر وأسماكه. ونجد التفنّن والتأنق في الطعام يدور حول إتقان التعامل مع هذه المنتجات واستخراج أحسن ما فيها لكل حاجة طعامية بدءاً بما هو صحي وانتهاءً بفنون الطبخ وكيفية تنظيف السمك وحفظه… وإنه لا مراء أنه لا يُتخيل وجود مجتمع جزيري من غير وجود مثل هذه الثقافة. والسؤال الآن، هل يمكن تصور استيراد نظام غذائي آخر وفرضه على أهل هذه الجزيرة؟ وماذا ستكون النتائج لو تم هذا الفرض. إن استيراد نظام غذائي يعتمد على اللحم البقري لهذه الجزيرة أمر شبه مستحيل لأنه ليس هناك مساحات رعي كافية للأبقار. ولو جُرّدت مساحات وخصصت للأبقار لكانت على حساب منتجات أخرى ضرورية للمجتمع ولفقد الناس مهارات صيد السمك وطبخه وتحضيره، ولتهدّد كل المجتمع بالجوع أو بالنقص البروتيني لعدم معرفتهم التعامل مع اللحم البقري.

ثم دعك عن الأكل وإيفاء الحاجة الغذائية ولنتذكر العادات التي تشكّلت حول البحر وخيراته والتي تشكّل مادة للروابط الاجتماعية. إن الفقدان السريع لهذه العادات يسهم في فقدان التوازن الاجتماعي ويصبح مصدراً للعنت وشعور الغربة في المجتمع نفسه. فإذا كان هكذا الأمر في مسألة النظام الغذائي التي تبدو بسيطة، فكيف بغيرها من الأمور.

والنقطة المراد التأكيد عليها هنا أن النظام الاجتماعي ليس قانوناً مكتوباً يحتكم إليه الناس وإنما هو تفاهم اجتماعي تتعارف عليه الناس عفواً وبشكل طبيعي. بل إنه لنجد في كثير من الأحيان أن الحياة تمشي على وقْع عرفي يخالف القانون، والقانون يكاد لا يكون له معنى في غياب تلك المفسرات العرفية التي تجعل تطبيق القانون والتحكم إليه ممكناً. وإنه لمعروف ومسلم به في علم المنظمات أن المؤسسات لا تسير وفق المخطط المثالي الموجود في سجلاتها بقدر ما تتحرك وفق التأقلم حول هذه الخطط.

وليس المقصود من هذا الكلام القول بأنه لا يمكن الاستفادة بما هو خارج الحيز الثقافي الخاص والتأقلم مع خبرات ومفاهيم جديدة، وإنما المقصود الإشارة إلى أن قضية الاستيراد المتعسف وبالجملة أمرٌ لا يُنشئ واقعاً مشابهاً لواقع المصدر وإنما يُنشئ واقعاً جديداً بالكلية يعتمد على طبيعة تفاعل الماضي الموجود مع الطارئ المستورد. أي أنها ليست قضية معادلة خطية:

وأخيراً فإن قضية الاستيراد، واستيراد الديمقراطية بالذات، أمر ليس جديداً على البلاد العربية. ففي هذه البلاد مجالس نيابية وانتخابات لا تسمن ولا تغني من جوع بسبب أنها استوردت استيراداً ولم تنمُ طبيعياً في تربة الأرض.  والذي حصل أن هذه المجتمعات تاهت في عملية معالجة تناقضات واقعها الداخلي مستعملة الوسائل المستوردة، فمشاكل الفقر والتفرقة والتفاوت الاجتماعي مشاكل عضوية تتطلب حلولاً مُوطّنة يستجيب لها الواقع الاجتماعي من خلال فعالياته اليومية الطبيعية الكثيفة. فكان أن قام المستورَد بحجب قنوات العلاج الطبيعية -بل وحطمها بالكلية في بعض البلدان- وأعاد تشكيل الأزمات الاجتماعية وفق معطيات واقع جديد مضطرب. وبعبارة أكثر تحديداً، إن الذي أُشكل في عملية استيراد أنظمة الحكم بعد الانهيار العثماني هو غياب العقد الاجتماعي القادر على إقناع الناس بعدالة ومشروعية الآلية الجديدة وعدم استجابة هذه الآليات للواقع المعاش. وهكذا تحولت الآليات الجديدة إلى آليات تمرير التناقضات الشاخصة التي تنتظر الحل وإغلاق الباب عليها وتركها أمراضاً تزداد تعفناً بعدما لم تستطع الآليات الحديثة التعامل الحواري معها.

مقولات توافق الإسلام أو تعارضه مع الديمقراطية

يغمر ساحة الخطاب الشعبي توجهان اثنان حول علاقة الاسلام بالديمقراطية، واحد يرى توافقاً بينهما وآخر يرى في تلك الدعوة خلطاً فكرياً.

فالذي يرى توافق الإسلام مع الديمقراطية يشير إلى آيات القرآن الكريم وأن مبدأ الشورى مبدأٌ راسخٌ في الحياة الإسلامية. ويستشهد هؤلاء بميثاق المدينة والدرجة الديمقراطية العالية التي تمتع بها، حيث لم يكتفِ الميثاق بتحديد المبادئ الإسلامية في العدل وإنما وضعها على شكل مقنن ونمط دستوري. ورغم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان ما زال حياً فإنه لم يعتمد على الوحي في إدارة شؤون المدنية كما لم يعتمد على مجرد موقعه كنبيّ مرسل، وإنما وضع أسساً إجرائيةً لإدارة المجتمع. وتزداد أهمية هذه الملاحظة في أنه جرى تبـني هذا النموذج في أخطر مراحل تشكل الوجود المسلم. ورغم وجود مجتمعات غير مسلمة مثل اليهود والنصارى، فإن الميثاق أصرّ على تساوي الناس في الحقوق والواجبات المدنية بالإضافة إلى تقرير الحرية الدينية.

وهناك مقولات متعددة ضمن هذا التيار (تيار توافق الإسلام مع الديمقراطية) تتفاوت في درجة تماهيها الفلسفي النظري مع ليبرالية الآلية الديمقراطية:

  1. فهناك الذي يصوغ المسألة ضمن منطق “لا يُعارض”؛ أي أن الإسلام لا يعارض الديمقراطية معتبراً الديمقراطية أمراً مدنياً بحتاً. وتؤكد هذه المقولة أنه بدون استعمال الوسائل الديمقراطية فإن المسلمين سوف يعجزون عن إصلاح واقعهم.
  2. وهناك من يطرح صياغة تطورية تجادل أن الإسلام قادر على التطور والتأقلم مع الديمقراطية لأن مفهوم الاجتماع البشري قد تغير، وكان أن عجز الإسلامُ عن تحقيق بعض الأمور في تاريخه ولكنه يمكنه اليوم تحقيقها بعد الثورة الصناعية واكتشاف الديمقراطية. وتؤكد هذه المقولة أنه بدون التأقلم مع المفاهيم الديمقراطية وتدجينها فإن المسلمين سوف يتابعون مسيرة التخلف.
  3. وهناك الطرح الذي يرى أنه لا بدّ للإسلام أن يتحدّث ويقبل عناصر جديدة ضمن جسمه ويرفض بعض العناصر الأخرى ويغّير من تركيبته التصورية ويحصر نفسه في الحيز الديني، فهناك إشكالية نرجسية في الإسلام نفسه (وفي كل الأديان) ولا بدّ له من التسليم بمفاهيم الحداثة من الحرية والمساواة والحق الفردي. وتؤكد هذه المقولة أنه بدون التغيير على هذا المستوى فإن الإسلام سوف يبقى عقبة في وجه الحضارة الحديثة.

أما التوجه الثاني فإنه يرى أن إطلاق مصطلح الديمقراطية يُمثّل اختلاطاً ذهنياً ورضوخاً نفسياً. ولكنه يؤكّد أن رفضه ليس رفضاً لأصل فكرة المساواة والحرية -فإنه قد دعا إليها الإسلام في أعمق صورها- وإنما رفضاً لعنوانها وخصوصية مضمونها ولكونها رمزاً لمشروع غربي لا يستحي من رفع هذا الشعار من جهة وممارسة كل التصرفات غير الديمقراطية من جهة أخرى. هذا من الناحية السياسية، أما من الناحية الاجتماعية فإنه ‑تحت غطاء الديمقراطية- لم ينقطع سيل المؤلفات والمقالات الذي تُبشّر بالنموذج الغربي للحياة الاجتماعية والتحقير من كل ممارسة للمسلمين، سواء كانت منحدرة من الإسلام نفسه أو من العادات التي تختلف فيها الأقوام وتتفاوت.  أي أنه ترى هذه الوجهة أن في تخوّل الموعظة بالديمقراطية ِكبْر وتعالٍ ثقافي، فمجتمعات الدول الديمقراطية لم تستطع حلّ مشاكلها الاجتماعية، فكيف تُبشّر بما لم تنجح فيه أصلاً؟

وترى هذه الوجهة أن معالجة مفهوم الديمقراطية تتسم بالتسطيح الفكري. وبالذات فإن إشكال الديمقراطية لا يكمن في آلياتها من تصويت أو اقتراع، وانما في أساسها النظري الذي يطرد المفاهيم الخلقية والدينية من حيّز الحياة. أي أنه هناك معنيين للديمقراطية، معنى الآليات والإجراءات السياسية ومعنى الفلسفة الاجتماعية الحياتية التي يُعبّر عنها بقولة “الديمقراطية الليبرالية”. فإشكال الديمقراطية هو ضمن المفهوم الثاني، أما الأول فخاضع للظروف ويمكن الاستفادة منه والاستعانة به.

كما ترفض هذه الوجهة أصل مبدأ المقارنة بين الإسلام والديمقراطية، الأمر الشائع في كثير من الأدبيات حتى العلمية والفكرية منها. وذلك أن محاولة المقارنة تحوي بحدّ ذاتها على مغالطة لأنها تحاول مقارنة دين شامل برؤية سياسية. وكذلك ترى هذه الوجهة أن استعمال كلمة الشورى ومساواتها بالديمقراطية أو إطلاق مصطلح الشورقراطية مُشكل أيضاً، وذلك لأنه إذا ساوينا الشورى بالديمقراطية فإن ذلك يحدّ من رحابة معنى الشورى ويحصرها في تجربة الآلية الديمقراطية الغربية التي تصدأت كثير من أجزائها؛ والأهم من ذلك أن هذه المماهاة تحرم من تفعيل منظور الإسلام الخاص في تنظيم الحياة ولا سيما أن الديمقراطية الغربية أسقطت إلى حدٍّ كبير البعد الخلقي وهمّشته لصالح إجرائيات صلدة.  ولكن تنبّه هذه الوجهة بنفس الوقت أن الادعاء بأن هناك تنافٍ جذري بين الشورى والآليات الديمقراطية يظلم الشورى لأنها تتسع لأية ممارسة رأت فيها حكمة في إيصال الحقوق المشروعة وتمكين الناس منها.

*                *                *

وبعد، يبدو أن استعمال مصطلح الديمقراطية تحيط به هالات وغبش يحول دون الوصول إلى تفاهم، فهناك من يستعمله ويقصد به المستوى الإجرائي، وهناك من يريد منه طرفيه العملي والفلسفي؛ وهناك من يقصره على الوجه السياسي وهناك من يعمّمه على الحياة بأسرها؛ وهناك من يستعمله بإيمان كامل وهناك من يستعمله كضرورة. والذي يستعمله كضرورة يهدف إلى تفادي أمرين: تفادي غلبة طرح قلة إسلامية ليس لها أي رؤية سياسية إسلامية وتَصِمُ كلّ تجربة عملية أو آلية اقتراب من تطبيق الروح الإسلامية بأنها بدعة؛ وتفادي ارتكاس غير الإسلاميين الذين يرون أن في إصرار الإسلاميين على مصطلح الشورى إشارة على أنهم غير جادّين في قضية احترام الحقوق.

ومهما يكن الأمر، وبغض النظر عن المصطلح الذي يميل الفرد إلى استعماله (فالمعاني أهم من المباني) فإنه يرى هذا المقال أن الكلام في عناصر الديمقراطية -مع استحضار السياقات التاريخية والظرفية المعاصرة- أمر أجدى وأنفع من البقاء في مساحة العمومية والضبابية والشعاراتية.