همة الإصلاح لا تكفي

121

      طُلب مني في إحدى اللقاءات العلمية تقديم النصيحة وإبداء الرأي حول برنامج إصلاح تتبناه جميعة إصلاحية تجديدية، ويشعر المرء خلال الرحلة في صفحات هذه الجمعية الإصلاحية روح التجديد والشوق إلى الحياة في سعة الإسلام والحنين إلى تنسم عبير الوحي ومحاولة تجسيده في واقع يمسح عن الأمة شقاوة المناهج والمبادئ وعنت مواريث التخلف.  وأظن أن معظم ما جاء في منهجها هو مبادئ إسلامية عامة لا يُتصور الخلاف على وجاهتها. وقد يخالف المرء في تفصيلات الأنظمة المقترحة وكل ذلك أمور اجتهادية سيقضي على الخلاف فيها معطيات الواقع وقرائنه التي ترجح وجهاً دون وجه في إطار الشورى التي تقلب الآراء وتختار ما تراه مصلحة راجحة.  لذلك كله أرى أنّ من الخير أن نتجنب الخوض في التفاصيل والجزئيات والاقتصار في التعليق والمناصحة على العموميات والكليات ‑وأهل مكة أدرى بشعابها‑ فالتفصيلات وجزئيات التطبيق لمقتضى الكليات والعموميات هو من شأن من يعيش الواقع بملابساته وقرائنه.

لقد كان واضحاً أن هذه الجمعية تطرح تصوراً فكريّاً لنخبة مثقفة لها موقفها من الواقع بكل سلبياته. والمنهج يرسم صورة مشرقة لما يجب أن تكون عليه الأمور ليعم الخير والعدل. وأرى أنّ هذه النقطة تستحق الوقوف والنظر، فالنخبة المثقفة من أبناء الأمة هم العدة للتغيير، ولكن المشكلة أنّ حركات الإصلاح القائمة على عقلية النخبة تورطت في تجاهل الواقع ومؤسساته وحاولت أن تبدأ كل شيء من أسس جديدة وعلاقات جديدة فكان ذلك مساعداً على سوء التفاهم الذي يستغله أصحاب الأغراض لعرقلة مسيرة الإصلاح. وقد كان مستغرباً أن أقرأ برنامجاً إصلاحياً ليس فيه إشارة إلى خصوصيات الواقع الذي يتعامل معه.

فأين هي المؤسسات التقليدية في بلدكم الطيب؟ ما هو حجمها وتأثيرها وطبيعة القوى التي تمثلها، وما هو الامتداد الشعبي لهذه المؤسسات وكيف يمكن التعامل معها بحكمة تكثر الناصر والصديق وتقلل المناهض المكاشح؟ ما هي كيفية التعامل مع الوجهاء والروابط التقليدية القائمة التي يعتمد عليها الناس في تسـيير معاشهم من جهة، ولكن التي غالباً ما تتمسك بالموروث البالي وتدّعي لنفسها الإسلام من جهة أخرى؟ أين هي مؤسسة العلماء وكيف يمكن التعامل مع مستوياتهم المختلفة في تفهم الواقع المعاصر؟

وإنّي لأرى ‑والله أعلم‑ أنّ طرح الحركات لبرنامجها من خلال عقلية النخبة التي تفترض الوصاية قد زرع إسفيناً ابتعد بالأمة عن قيادتها الفكرية فأسلمتها لعدوّها بعد أن مسخت صورة الإصلاح إلى تنافس على السلطة واستبدال لواجهات الحكم والسيادة.

            خطاب الجمعية في إطارها العام كان طرحاً يؤكد على الحقوق والمكاسب ‑على طريقة الحملات الانتخابية‑ وأرى ‑والله أعلم- أنّ هذا ينطوي على مخاطر ويشير إلى عقلية تمثل أحد أمراض الصحوة الإسلامية المباركة. إنّ التأكيد على المكاسب والحقوق أمرٌ لا يستقيم مع الاعتبار الواقعي العملي لأولويات التربية والتكوين العقلي والنفسي لأمة البناء وجيل العطاء المؤهل للنصر والتمكين. فالأخذ بالإسلام بجدية كمنهج حياة يفرض من الضغوط والتضحيات ما لا يفرضه أي خيار آخر، ودعوة الأمة لتكون على بينة من هذا تحقيقاً للكرامة في الدنيا والنجاة من الخزي في الآخرة أولى من دغدغة مشاعر الاطمئنان لوفرة لا نملك أسبابها والوعد بضمانات لا تستطيعها أقوى الدول اقتصاداً وإنتاجاً وتمكناً. إنّه من المطلوب خطاب الأمة بلغة الواجبات وإنذارها بما يقع على عاتقها من مسؤولية تحقيق الكفاية، وتحديد هذه الكفاية بما ينسجم مع هوية الأمة وعقيدتها وثقافتها وحضارتها حتى لا تقع فريسة النموذج الاستهلاكي… كلّ هذا يمثل التحدي الحقيقي لمصداقية أي برنامج للإصلاح وجديته في فهم الواقع والأخذ بيده على طريق الكفاية.

كنت أتمنى أن أعثر على إشارة إلى وصف علمي لكبرى المشاكل والعقبات التي تواجه برنامج الإصلاح ووضع نوعٍ من الأولوية في المعالجة.  كنت أتمنى أن أعثر على إشارة إلى نسبة الأمية في بلدكم الطيب ‑وأنا أعلم أنها مرتفعة‑ وكيف تجند الأمة لمحاربة هذا الواقع المؤلم بالإمكانيات المتوفرة عملياً. كنت أتمنى أن أعثر على إشارات لإحصاءات ومقارنات تبين ماذا يستورد هذا البلد وأين يقع ما يستورده من كفايته في الأساسيات والضروريات.

إن وضع برنامج للإصلاح واقتراح عشرات المؤسسات والوعد بالوفرة والخير والعدل دون الإشارة إلى قصور الواقع وتخلفه عن تحقيق أوليات الانطلاق للكفاية، والتركيز على أنّ أسباب التخلف تكمن حصراً في سلبيات الواقع الأخلاقي وأمانة القائمين على أجهزة الإدارة الحكومية… كل هذا يشير إلى فكرة غريبة انتشرت بين صفوف أبناء الصحوة في أنحاء العالم الإسلامي ومفادها أنّ الرجوع إلى الإسلام ورفع شعاره وتبنيه كهوية ومنهج يحلّ المشكلات تلقائياً ويعفينا من الجهد اللازم للبناء والصبر والمصابرة… هيهات فلن تتبدل سنة الله بالأماني. ولا يخفى وجوب الاطلاع على تجارب الشعوب التي حاولت النهوض وكيف واجهت المشكلات المترتبة على قلة الإمكانيات الإدارية والعلمية وانخفاض الأداء والإنجاز والتي تقف عقبة في وجه أي برنامج طموح وتطلع مخلص.