من أجل مفهوم عالمي لحقوق الإنسان
يكثر الكلام اليوم عن مسألة حقوق الإنسان. وأصبحت هذه المسألة مطلباً تردّده الأفواه في الشرق والغرب ناظرة إليه على أنه المخلِّص الذي يجلب للناس السعادة التامة وبه يحصل الرقي والتقدم واستحقاق الاحترام في المجتمع الدولي. غير أنّ مصطلح حقوق الإنسان كما هو مطروح اليوم يمثل اختصاراً للعديد من المفاهيم التي تغطي مساحات مختلفة من أنشطة الإنسان إلى درجة أنه يكاد يفقد هذا المفهوم أي مغزى ويتحول إلى كيس مفاهيمي يُحشى فيه كل شيء.
وتكمن المفارقة في أن المفهوم العام لحقوق الإنسان قد اكتسب شرعية عالمية ربما أكثر من أي مفهوم حديث آخر، ولكن يقف استخدامه السياسي حجاباً دون الاتفاق على مضمونه. أو بعبارة أخرى ربما يصح القول إن مفهوم حقوق الإنسان يزداد اتساعاً في الوقت الذي ينقص عمقاً، الأمر الذي يُبعده عملياً عن إمكان التطبيق، وتتراجع صلاحيته كمفهوم بنّاء، ويتحول إلى شعارٍ إيديولوجي للمجتمع المعاصر.
ورغم أن الحداثة الغربية تحاول احتكار ملكيتها لهذا المفهوم، فإنه لا يصعب إطلاق شعار حقوق الإنسان وجلب الاستشهادات التاريخية القديمة عليه من المبادئ الدينية والفلسفات العقلية. وبالطبع يمكن مناقشة مفهوم حقوق الإنسان على مستوى فلسفي يربطه بتصور الإنسان الفرد نحو غاية الخلق وتصوّره تجاه طبيعة الإنسان والكون من حوله وعلاقة الفرد مع نفسه. وإن إعطاء هذا المفهوم المكانة الأخلاقية أمرٌ ومحاولة إرساء أبعاده العملية أمرٌ آخر. وهذه المعالجة المختصرة تركّز على السياق الاجتماعي لهذا المفهوم أكثر من سياقه الفكري المجرد.
فماذا نعني بكلمة حقوق الإنسان. هل هي غياب الاستبداد والقمع والتسلط، أم هي غياب التفاوت الجائح وضمان الحاجات الأساسية، أم هي التمكين من حرية الكلمة وحرية الفكرة، أم هي حق السفر والتنقل والإقامة، أم هي حق الحصول على مرافق صحيّة… إلخ؟ وسرعان ما يتبين أن هذه حقيقةً بعض المعاني التي يُستخدم فيها شعار حقوق الإنسان، وأن هذا المصطلح يمتدّ من عالم السياسة والاقتصاد والقانون بالإضافة إلى عالم التجارة والسياسة الصحية… إلخ.
الانحيازية التطبيقية
إنه لمن الضروري أن نتعامل مع مفهوم حقوق الإنسان تعاملاً واعياً يدرك ارتباطاته وخصوصياته الثقافية، من غير تعامٍ أو إقصاءٍ عن تطبيقاته الناجحة ومن غير تمسكٍ اعتباطي بما لا يسمن ولا يغني من جوعٍ أيضاً. لقد استطاع مفهوم حقوق الإنسان على المستوى التطبيقي أن يحقق إنجازاتٍ يمكن وصفها بأنها عالمية. وفي عالم الواقع يدفع حركة حقوق الإنسان جمعياتٌ متعددة كثيرة متباينة في خلفياتها ويتبنى كلٌ منها طرفاً من أطراف حقوق الإنسان. والنظرة المنصفة لا تملك إلا أن تعترف أن وراء كثير منها دوافع إنسانية مشرّفة. غير أن هذا لا يمنع من تسجيل بعض الملاحظات:
- تتّسم جهود بعض هذه المنظمات بالتطرّف حين ترصد ناحية من النواحي المؤسفة في واقع البشر فتحاول معالجتها بأساليب فيها تنطع ومبالغة.
- هناك تمحور زائد عند بعض المنظمات حول قضية جزئية لها أهميتها ولكن تُعطى أولويةً وحجماً أكثر مما تستحق في بعض الأحيان.
- تغلب النزعة الليبرالية على هذا التوجه، والذي يعتبر عموماً أن الإصلاحات المستندة إلى قيمٍ ذات ميولٍ دينية هي بالضرورة قمعية أو تقود للقمع.
ومن المفيد المضي بشيء من التفصيل في مناقشة هذه الملاحظات الثلاث. أما التطرف الذي يعتري بعض جهود حقوق الإنسان فإنه لا يتعلق بموضع الإشكال الذي تبغي معالجته بقدر ما يتعلق برؤيتها العامة وبرنامجها العملي. وإذا أخذنا مثال الحركات الأنثوية الدولية فإنها تعالج غالباً مشاكل حقيقية ومؤلمة في واقع المرأة، ولكنها تسعى إلى بدائل ليس لها تجاوب ثقافي محلي، ويحصل أحياناً نوع من الفرض الثقافي الخارجي. كما أنها أحياناً تفتّق النقد في مشاكل وهمية مصدرها التمحور الثقافي الضيق أو ليس لها أولوية في المجتمع المخاطب. وكما هو معروف فإن المؤتمر النسائي العالمي الفائت في بكين أظهر تمحور كثير من الطروحات حول ذوق ورؤية فتاة الطبقة الوسطى الأمريكية التي يتاح لها حياة فيها قسط كبير من الراحة. وقد شعرت المشاركاتُ في المؤتمر أن فيما بينهن تباين شاسع، فالفروق بين رؤية المرأة البيضاء لحقوق الإنسان وبين رؤية النساء من ثقافات بلدان ما يسمى العالم الثالث فروق لا يستهان بها، بل تعكس مواقف متناقضة أحياناً.
أما التمحور الكبير الذي تبديه بعض منظمات حقوق الإنسان حول مطالب جزئية فإنه يُشكل من زاوية إمكانية التطبيق. أي أن التركيز الزائد على مسألة ربما يأتي على حساب مسألة أخرى، إذ لا بد من مراعاة المصلحة الوطنية الخاصة. فمثلاً لا شك أن الاستهلاك العالي للموارد الطبيعية لبلدٍ ما ليس في مصلحتها على المستوى البعيد. غير أنه ربما تضطر إليه الدولة على المدى القصير فتستخرج بمعدَّل أعلى من المقدار المثالي. وربما كلفة خفض التلوث في بلد ما قد يتطلّب الأموال الطائلة ولا يمكن تحقيقه إلا بالتدرّج. وهذه معضلات عملية تعترض تطبيق الطروح النظرية السامية، فالتطبيق الفوري غير ممكن، وإن كان تجاهل المشكلة واعتبار صعوبة التطبيق ذريعة لذلك هو أمر مرفوض.
ومثال الدفاع عن حقوق الطفل شاهد على ذلك. فمن وجه تحشر جموع من الأولاد للعمل في المصانع والمهن الصعبة بأجور زهيدة وأجواء سيئة، بينما يغترف المالك الجشع (الشركة الغربية المتعاقدة مع ذاك المصنع عادة بالإضافة إلى ممثّل محلي) جلّ الأرباح. ولكن الدعوة نحو منع عمل الأولاد مرة واحدة وبجرة قلم قد يكون فيه إشكال عملي بحت بغض النظر عن الدافع الإنساني النبيل. فمن ناحية تعتمد كثير من الأسر في البلدان الفقيرة والنامية على هذا الدخل الذي جلبه الطفل مهما قلّ. والحرمان من هذا الدخل يصيب كل أفراد العائلة. ومن ناحية أخرى فإن فقدان المرافق التي تستوعب نشاط هؤلاء الأولاد إذا لم ينشغلوا في العمالة، مثل المدارس أو الخدمات الاجتماعية التي يمكن أن تملأ وقت فراغهم، قد يدفعهم إلى الأعمال الدنيئة.
وبعبارة أخرى، يمكن أن نصف هذه الإشكالية بأنها إشكالية رؤية أحادية لبعض مسائل حقوق الإنسان، رؤية تغفل عن إدراك أن أي نشاط اجتماعي هو جزء من منظومة اجتماعية يؤثر بها وتتأثر به.
أما بالنسبة للنقطة الثالثة فإنه من المعروف أنه يغلب على هذه المؤسسات النزعة الإنسانوية المعَلْمنة (Humanism). وإنه وإن كانت تستمد احترامها من أنها تحاول أن تكون محايدة أو أنها تبدو كذلك؛ فإنها عملياً لا تستسيغ الحلول والتوجهات التي تتمازج مع الدوافع الدينية. وبالطبع هناك منظمات تدافع عن حقوق الإنسان من منظور ديني، غير أن بعضها هو واجهة لعمليات تبشيرية مصلحية. وأخيراً فلعل أسوء ما في الأمر هو الاستغلال السياسي لمفهوم حقوق الإنسان واتخاذه ذريعة للتدخل السياسي والاقتصادي والعسكري الذي يبَرَر بممارسات الحكومات القمعية وتجاهلها المخزي لحقوق الإنسان.
الخصوصية الثقافية
لعل أكثر ما يُشكل في هذا المفهوم هو تحديد موقع الفرد من المجتمع: كيف يمكن موازنة الحقوق بين قطبي البعد الفردي والمجتمعي الذين يتعارضان في ترتيب كثير من الأولويات. فهذان البعدان لا يمشيان معاً وباتجاهٍ واحد دائماً (وإن كان هذا لا يعني أنهما ضرورة متعارضان بشكل مستمر). ومن المعروف أنّ الحضارات الشرقية أكثر اهتماماً وتركيزاً على الوجه الجماعي من الحقوق، بينما يركّز الغرب في زمن الحداثة على حقوق الفرد. ومن المفيد أن نلاحظ أن هناك فروقاً مهمة –وتكاد تكون شاسعة– في تطبيق هذا المفهوم فيما بين الدول الغربية نفسها. ومن الطريف ملاحظة الفروق في هذا المفهوم بين الولايات المتحدة وكندا رغم أنهما جارتين ودولتين حديثتي التشكيل. وإن مقارنة سريعة بين مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بين هذين البلدين تدعو إلى فهم أعمق لمفهوم حقوق الإنسان وتدعو إلى التعامل الجدي معه عندما نقوم بتطوير نسخة خاصة بنا في بلاد المسلمين.
تنطلق الحقوق الدستورية الأمريكية من مفهوم “الحق الطبيعي” في فكر الفيلسوف لوك (Lock)، بينما تتمحور في كندا وأوروبا حول مفهوم “العقد الاجتماعي” كما طرحه الفيلسوفان كانت (Kant) ثم روسو (Rousseau). ولذا فإنه لا يستغرب أن يكون الشعار الشائع الذي يُحتفل ويفتخر به في أمريكا هو “الحياة، الحرية، والسعي وراء السعادة” (Life, Liberty, and Pursue of Happiness)، يقابله النسخة الكندية “السلام، النظام، والحكومة الجيدة”(Peace, Order, and Good Government). ولا يخفى الفرق الشاسع بين هاتين العبارتين حيث تتمحور الأولى حول النشاط الفردي مقابل التوجه الجماعي للثانية.
ويمكن للناظر أن يستطرد طويلاً في الأوجه العملية الكثيرة التي ينعكس فيها هذين التوجهين. وتكفي الإشارة إلى أنه تبعاً لذاك تصاغ عبارات الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية بعبارة سلبية “إن الحكومة سوف لا…” بقصد وضع حدّ لصلاحيات الحكومة، بينما تصاغ عبارات الحقوق الكندية بشكل إيجابي يؤكّد تخويل الحكومة حماية المجتمع ومصالحه.
وينبغي التأكيد هنا على أن مثل هذه العبارات المجرّدة والمنطلقات النظرية التي خلفها ليست ترفاً فلسفياً ليس له علاقة بالواقع، بل يمكن تلمّس آثارها في كل زوايا الحياة مهما صغرت، فالنفوس تتشرّبها وتتأقلم معها العقول وتصبح موجهات عامة للسلوك البشري. وذلك لأن السلوك البشري لا ينبثق من الانعكاسات المباشرة للحوادث اللحظية فحسب، بل يتفاعل معها ليعكس التصور الفكري والوضع النفسي أيضاً.
ووفق هذا لا نستغرب تباين المواقف العملية بين الأمريكيين والكنديين. ففي دراسة للمواقف النفسية سئُل الناس عن شعورهم نحو بعض القوانين المقترحة مثل: منع دخول السيارات لمنطقة قلب المدينة، أو منع البياعين المتجوّلين الذين يذهبون من بيت إلى بيت يعرضون البضائع، أو منع المدنيّين من امتلاك الأسلحة النارية، فكانت النتيجة أنّ نسبة الموافقين على السؤال الأول كانت 42% للكنديين و 25% للأمريكيين، والسؤال الثاني 53% مقابل 39%، وأخيراً 72% مقابل 36% للسؤال الثالث.
شروط العالمية
وأحب هنا أن أقترح أربعة شروط تؤهّل مفهوم حقوق الإنسان لأن يقترب من العالمية، علماً بأن هذا مبحث طويل آمل أن أعود إليه:
- أن يرتبط بمفهومٍ أخلاقي عالمي.
- أن يكون كل حق وجهاً آخراً لواجب.
- أن لا يُختزل في تمظهرة القانوني.
- أن لا يرتبط قصراً بمكاسب معيشية، لأن هذا يتعلّق بالإمكان المادي من جهة وقد يكون متلبّساً في استغلال خفي للآخر من جهة أخرى.
خاتمة
وعود على بدء، نقول إن شعار حقوق الإنسان أصبح مطلباً عالمياً لا يمكن تجاهله على مستوى الواقع، غير أن عدم التجاهل لا يعني التقافه كما هو بكل خصوصياته الثقافية وخلفياته التصورية. ومن وجه آخر، تجاهل هذا المفهوم غير جيد حيث تزداد الشقة في التخاطب العالمي اتساعاً. أما محاولة لبس حقوق الإنسان وفق مقاسات الآخر فإنه تعجز عن إصلاح الواقع وتعود بخيبة الأمل بعد حين، وربما تحلّ مشكلة اليوم لتفجّر غيرها في الغد. وإذ ينفع التفاهم العالمي بلغة مشتركة، فإن هذا ينبغي أن لا يقف في وجه توضيع مسائل حقوق الإنسان ضمن إطار مختلف والسماح لطرحها من منظور ثقافي آخر، ثم التحاور في كل هذا. وإنه إذا كانت عبارة “إن فكرة أن لكل إنسان الحق في اعتقاد رأيه الخاص قد بولغ فيها هذه الأيام*” قد وافق عليها أكثر من ثلث الكنديين (37%) وقريب من خمس الأمريكيين (19%)، فإنه يحق للناس من الثقافات الأُخرى أن يطوّروا مفهومهم الخاص نحو حقوق الإنسان بشكل مجذّر في ثقافتهم يعطيه القبول العام والفعالية في التطبيق والانسجام مع طبيعة المجتمع بالإضافة إلى التفاهم العالمي الصادق.
ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن الإسلام دعا إلى تكريم مطلق الإنسان كونه من بني آدم الذي خُلق في أحسن تقويم، غير أنه –كما يتسق مع الخطاب الديني الذي هدفه هداية الإنسان– قيّد هذا التكريم باستقامة السلوك بعيداً عن درك أسفل السافلين. وبلُغة اليوم يمكننا القول إن في الإسلام حقوقاً للإنسان من الحرية ورفع الظلم والتكريم والإحسان والحماية وردّ العدوان والتعاون ونجدة الفقير والمسكين والعدل والإنصاف…إلخ، وتكون عندها نابعة من تصوّر الإسلام ومركزية الرحمة فيه والحثّ على فعل الخير وسعة مفهوم الصدقات، وليست حقوق إنسانٍ مرتكزة في دهرية الهوى، ولا هي متأطرة بإطار الفردانية الليبرالية ولا الطبقية الانتقامية الماركسية.
05-1421 هـ / 09-2000 م
* نص السؤال بالإنكليزية: “The idea that everyone has a right to their own opinion is being carried too far these days“. انظر
Lipset and Pool. “Balancing the Individual and the Community: The United States Versus Canada”. Summer 1996.