بين التدين الطّقسي والتدين المدني

175

إن نظرةً ولو خاطفةً إلى الواقع الاجتماعي للمسلمين لتُشير بوضوح إلى إشكالياته العديدة، من الفوضى وعدم المسؤولية إلى الاعتباطية في اتخاذ القرارات، إلى مستوى النظافة المُتدنّي إلى تقدير الآخرين إلى المشاحنات الجزئية السخيفة وإهمال مكارم الأخلاق ومُستوجبات الذوق…

وما كان للمرء أن يعجب ممن يقوم بمثل هذه التصرفات لولا أن أصحابها أنفسهم لربما يفتخرون بكمال الدين وقدرته على إصلاح كل ما هو فاسد مما ضربنا عليه الأمثلة. والنتيجة أن تجد في حياتنا ذلك الفصامُ الذي يقف الناس عاجزين عن تفسيره، اللهم سوى ترديد عباراتٍ عامة مثل “إننا لا نتّبعُ ديننا كفايةً”. والمُراد في هذه المقالة أن نُلقي الضوء على طبيعة التدين (وهو ممارسةٌ بشرية) التي تعجز عن جعل الدّين (المُطلق) مُصلِحاً للواقع.

إنّ أحداً لا يُنكر أن الدّين قد انفصل إلى حدّ ما عن الواقع على مستوى الممارسة والتطبيق، وأنّه حُنّط في طقوسٍ لا تُصلح الحياة الدنيا (ولا الآخرة بطيعة الحال). وقد آل بنا الأمر بحيث صرنا ننظر في الواقع فنجد آلاف الممارسات السقيمة التي يُعمد إلى إخفائها وسترها بينما يتمّ في الوقت نفسه التغنّي برفعة الدين والمثل العليا، وكأنّ ممارسات الناس واقعةٌ في فراغ، وكأن الفصل بين تلك الممارسات وبين الشعار الذي يُرفع فوقها يحلُّ الإشكال، فتُوجّه أصابع الاتهام إلى ذلك الشعار وتُثار الأسئلة حول القيم المُدَّعاة.

وهذه هي الحالة التي يجب أن تُطرح للمُدارسة والنقاش لمعرفة كيف تُفضي الشعارات والقيم الأصيلة المرفوعة إلى ما هو فاسدٌ أو مُشكلٌ في السلوك البشري. فعلينا محاولة اكتشاف طبيعة التديّن الغالبة على المسلمين اليوم الذي يصحّ أنها نطلق عليها وصف (التدين الطقسي) وكيف أدّى بكثيرٍ من المسلمين إلى أن يكونوا على ما هم عليه من الحال غير المرضي. إنها دعوةٌ إلى تفحّص طبيعة التفاعل مع الدين ومحاولة وضع اليد على بعض مكامن الخلل في هذا التفاعل. فما دام الأصل سليماً والناتج غير سليم، فلا بدّ أن يكون الإشكال في عملية التفاعل والاتصال بينهما، أي لا بدّ أن يكون هناك إشكالٌ في طبيعة التوجّه نحو الدين. إن طبيعة التوجه نحو الدين هي التي يمكن أن تجعل منه مجموعةً من الممارسات التي يُعتبر ذاتُ تنفيذها كافياً بغضّ النظر عما يجب أن يترتب على ذلك التنفيذ، كأن يكون أداء الصلاة بذاته (وأقول بذاته ضميراً عائداً على الأداء لا على الصلاة) يُغني عن نهيها عن الفحشاء والمنكر، أو أن التغطية بذاتها تُغني عن التطهّر وابتغاء العفّة، أو أن إلقاء السلام بحرفِهِ ونغمتهِ يُغني عن نيَّة اللقاء بالصفاء والسلامة.

والأمثلة على هذه التصرفات أكثر من أن تُحصى، من ذاك الذي يخرج من صلاة الجمعة فيسير بالسيارة مسرعاً وكأن الناس ذباب، إلى ذاك الذي يحمل حذاءه بيده ويتخطى الرؤوس حتى يصل إلى الصف الأول (وينال كما يتوهم الثواب العظيم)، إلى ذاك الذي لا يعتبر أن لقمامة بيته علاقةً بإيذاء الجيران، إلى الآخر الذي لا يعتبر الوقوف في الدور مَكرمةً ولا يعتبر خرقه مَنقصةً في عرف الدين وغيرها من التصرفات على مستوى الأخلاق الفردية البسيطة.

إلا أن ما يجب أن ننتبه إليه هو أن الأمر لا يقف عند الخُلق الفردي الذي قد يبدو أنّ آثاره وانعكاساته تنحصر في الشخص نفسه، بل إن الدّين قد انفصل جزئياً عن الحياة على مستويات أخرى مهمة لها أبعاد اجتماعية عريضة، مثلاً الأخلق الاقتصادية الفاسدة أو المُفسدة، كعادات اتخاذ الحليّ والمبالغة فيها حتى أنك ترى كثيراً من البلاد النامية والفقيرة يتجمّد فيها الذهب في أساور في أيدي الناس ولا تُستثمر فيما يعود على الجميع بنفعٍ عام. وإذا حُظر استيراد بضاعةٍ كمالية لقلّة العملة الصعبة انزعج الناس وكأن الاستقلال الغذائي وعدم التبعية ليس له علاقةٌ بالدّين وبمفاهيم العزة والكرامة التي وصف بها الباري سبحانه المؤمنين. ومن المُذهل أن ترى تلك المواقف فيمن يسكنون ما يُسمّى بدول العالم الثالث، فترى الفرد منهم يفخر بأن في بلده كل ما يخطر بالبال من فتات البضائع الاستهلاكية، والمزعج حقاً أن يُقدّمَ هذا الكلام برهاناً ودليلاً على أن بلادنا بخير، وأنّ حطام البضائع الذي يتراكم في بلادنا هو دليل على التقدم والتطور…

فإذا كان هذا الفصام النّكدُ واقعاً، ما هو السبيل إلى المخرج؟ بطبيعة الحال هناك من يقول بعدم الحاجة إلى الدّين، ولن أجيب على هذا الطرح هنا لتهافته وسطحيته البالغة. ولكن هناك طرحاً آخر تحسن مناقشته ويتمثل في دعوة البعض ومحاولتهم لإجراء عملية إحالةٍ وتقطيرٍ وتطويرٍ للدين بحيث ينسُج حلَّةً على قدِّ مسائل معاصرة مخصوصة ومحددة، ويُبعدَ شمولية الدين التي يُعتقدُ أنها لم تُثمر في معالجة هذه المسائل. فعلى سبيل المثال يحاول هؤلاء حصر الخطاب الديني في مسائل معاشيّة كنظافة الحي من القمامة وتدوير فوارغ البيبسي والوقوف بالدّور أمام المخبز وفي الدوائر الحكومية. ويُصبح المندوب عند هؤلاء بعدها التضرعُ بإشراقيةٍ روحية إلى المولى كي يُلهمنا ويُعيننا على مثل تلك القضايا…

والسؤال المهم الذي ينبغي الإجابة عليه بهدوء ورويةٍ هنا هو الآتي: إذا كان لبعض الممارسات المعاشية المعاصرة علاقةٌ بالدين، هل يصحُّ أن يُختزل الدين فيها ويُرتهن إلى متعلّقاتها الظرفية الخاصة بمكان وزمانٍ معينين؟ إن من أخصّ خصائص هذا الدين شموليته الغامرة وهيمنته على كل نواحي الحياة. وهناك فرقٌ شاسعٌ بين إدراج شيءٍ وجعله من جملة ما أمر به المولى من إصلاح الحياة وعمارة الأرض، وبين جعل مسألةٍ خاصة تنفعُ في الدنيا محور الدين ومدار التعبّد، فهذه ا لثانية درجةٌ أدنى بكثير، وإذا آتت أُكُلها في مجال فإن هذا يحدث على حساب مجالٍ آخر. فكيف إذا تدنّى الخطابُ أكثر من ذلك إلى درجةٍ يُنسخ فيها معنى التعبّد ويُستبدل بمجموعةٍ من أعراف التعامل والتصرفات التي هي مطلوبةٌ بذاتها (كاحترام الآخرين والحفاظ على البيئة) ولكنها تفتقد الناظم الديني الذي يضعها في إطارها المناسب ويعطيها القيمة الحقيقية.

ولعلّ التفكر في كثيرٍ من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُنبِّهنا إلى هذا الأمر، حيث أنه أُعطي جوامع الكلِم لكي لا ينحصر اهتمام المتضرّع بمسألته الخاصة بل يدعو دُعاءً عاماً (أنضجَ عقلياً) من الدعاء الأناني أو الطفوليّ إن صحّ التعبير. حتى أنه عليه الصلاة والسلام حين كان يُخصِّصُ في الدعاء سرعان ما يعود لربطه بمصلحةٍ عامةٍ أو أمرٍ شامل.

والجدير ذكره أن فكرة الأخلاق المنقطعة عن مصدرٍ علوي نبتت منذ ما يُسمّى عصر التنوير في الغرب حين طرح الفكر الغربي انتفاء الحاجة إلى الدين وانتهاء دوره الإنساني بعد أن استُبدل بالعقلانية الحديثة التي فصّلت علومُها كل إجابةٍ لمجتمعٍ سعيدٍ في غنىً عن كل ما هو مادي. وبدأ منذ تلك اللحظة الحلم الذي يهدف إلى صياغة (مجتمعٍ مدنيٍ) قائمٍ على فكرة الحقوق التي ينظمها قانونٌ وضعي يتّفق عليه الناس من خلال مشاركتهم في صياغة هذه القوانين. وشيئاً فشيئاً أخذت طريقة الحياة هذه أهميةً أخلاقيةً وقيمةً معنويةً تفوق صلاحيتها العملية، وجرى افتراض عالميتها وأبديّتها حتى أُطلق عليها اسم الدين المدني (civil religion).

لكن يُثبت الواقع أنّ مثل هذه الأخلاق المنقطعة عن المصدر العلوي ربما تكون قد حقّقت بعض النجاح على مستوى المحلّة الصغيرة، ولكنها أخفقت على مستوى المجتمع الكبير، ناهيك عن الفشل على مستوى العالم بأسره. ويصعب المراء ‑بين المتابعين‑ في انهيار جوهر تلك الديانة المدنية. لقد فشلت الأخلاق الحضارية (أو على الأصح الممارسات الحضارية) أشدّ الفشل لا لأنها شرٌ بذاتها، بل هي خير ومما تأمر به الأديان، وإنما مصدر الفشل بالضبط هو افتقاد المرجعية والإطار العلوي… كالوردة المقطوعة ليس لها غذاء الجذع المستمر، ولا هي متسقةٌ مع غيرها من الورود والأوراق. بل إن ممارسات التحضر أصبحت إما بروتوكولات شكليةٍ نفاقية تُتّحذ واجهاتٍ خداعية لممارسات فاسدة في حقيقتها أو في مآلاتها.

إنّ الابتعاد عن الدافع والمحرّك والناظم الديني وإسقاط الإسلام (بمفاهيمه وأهدافه الواسعة) عند رؤيتنا لكثيرٍ من القضايا المعاصرة إنما هو تحجيم للإسلام وإصرار على حرمان مبادئه وتوجيهاته الرحيبة من أن تُظلِّلَ المساحات الجديدة التي امتدَّ ويمتدُّ إليها النشاط البشري. وإن هناك من أصابت نظرتهم للغرب ما يُمكن أن نسميه “عوارض السائح” أو “Disney Land Syndrome” التي تدفع أصحابها إلى النظر إلى الغرب وأمريكا بوجهٍ خاص نظرةً سطحيةً لا تتجاوز ظاهر جماليَّاتها وتعجز عن الغوص فيما يجري في الأعماق.

وإني لا أدري ما هي الحاجة إلى (حمل السلّم بالعرض)، فهل هناك مشكلةٌ في توسيع دائرة النصوص حتى تشمل الممارسات اليومية التي نبغي إصلاحها. بل وقبل ذلك، أليست هناك نصوص ومفاهيم إسلامية تُخاطب هذه المسائل نفسها، من إماطة الأذى عن الطريق إلى ذمِّ الإسراف (وواجبنا هو توسيع مفهوم الأذى والإماطة، وتحديد أنواع السَّرف ومدِّ مساحاته). وهل ضاقت المصالح المرسلة ومقاصد الشريعة عن شيء حتى نضيق ذرعاً بالأصيل المأثور ونستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وأوسع وأشمل وأعم لجميع مستويات الفهم والثقافة، وهو في الوقت نفسه المتوازن والمتجدّد والقادر على الخطاب المستمر والمتصل مع التاريخ والمستقبل.

06-1419 هـ / 10-1998 م

وكتبت هذه المقالة يومها جواباً على سؤالٍ للوالدة رحمها الله.