الوعي التاريخي وقضاياه: اضطراب الوعي التاريخي واستفاقته

483

في مستهلّ هذا الفصل نذكّر القارئ بهدف هدف هذه الدراسة وتسلسل منطقها. وكما قلنا من قبل، نريد أن نطرح أسئلة ثلاثة على تاريخنا: كيف دخلنا التاريخ العالمي، ثم كيف تراجع حضورنا فيه، ثم كيف يمكن أن ننتشله من وهدته. واصطلحنا دراسة تدرج وعينا التاريخي من الحضور إلى الاضطراب إلى الانتعاش إلى التغييب، ونترقّب حال الاستعادة. وهذا الباب يفصّل في المرحلة الثانية التي تميزت باضطراب وعينا التاريخي.

الفصل الأول: التفكّك والتمذهب

تضعف الذاكرة التاريخية بسبب اختراقات من الخارج أو جمود من الداخل وتصل إلى حال ما نسمّيه غياب الوعي التاريخي. ويتسرّب هذا الضعف إلى كل أركان الحياة، ويغشى حياة الأمة في أركانها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويمكن تقسيم الأسباب التي أدت إلى ضعف الذاكرة التاريخية إلى أسباب خارجية وداخلية.

أولاً: الأسباب الداخلية

وتقسم إلى قسمين أسباب ثقافية وأخرى سياسية.

1.  الأسباب الثقافية

نقصد بالأسباب الثقافية تلك التي تخصّ فهم الدين وتوجهاته وفهم الحياة وإدارتها والنشاط العلمي، ونلخص أهم الأبعاد بالتالي:

  • تحوّل الاجتهاد الفقهي من التوجّه الذي همّه التجديد وتوليد الضوابط للأمور المتطورة التي تستجد في الحياة إلى نزعة حشوية همّها الانغلاق على المذهب وإضافة الحواشي الشارحة والمختصرة ثم شرح المختصر، حتى أن بعضه ابتعد عن روح الإسلام ومقصد التشريع.
  • سيادة التقليد منذ القرن الخامس الهجري وتعظيم المذاهب والتخويف من إعمال العقل وتحويل الخلافات المذهبية إلى دواعي تنازع، وتسيس هذه الخلافات. واستمر ذلك حتى بعد مجيء الدولة العثمانية التي تميّزت بضبط إداري شديد، حيث اقتصرت على المذهب الحنفي كجزء من نزعتها نحو المأسسة لكل شيء.
  • كان استبعاد اللغة العربية ــ وهي أساس منهجي في العلوم الإسلامية ــ سبباً بارزاً لمزيد من الجمود والتحجر، حيث تمتلك اللغة العربية بمرجعيتها القرآنية نقاط التوازن بين الحرفية والمجاز.
  • تراجع همّة الإنتاج العلمي في مناحي الحياة المختلفة.
  • انتشار التصوّف الانسحابي الذي رافق حالة الترف، والانكفاء على الاهتمامات الفردية بعيداً عن السياسة والشأن العام. وفي حين أن التصوّف في مبتدئه كان مدفوعاً بنزعة تهذيب النفس والزهد والإيثار، انتقل التصوّف تدريجياً إلى طرقٍ استوردت أساليبها من ممارسات الحضارات الشرقية كما داخلتها مفاهيم الحلول.
  • انتشار ثقافة سكونية والركون إلى الموروث وتعظيم العادات المحلية وغلبة رغبة التمتع والكسل عن الجهاد.
  • ظهور العصبيات القومية وأخذها أولوية فوق أولية المبدأ.

2-  الأسباب السياسية:

وسوف نفصّل في الأسباب السياسية تفصيلاً وافياً لأنها غير واضحة في الأذهان، وكثيراً ما يقع الناس في ثنائيات مبسطة بين صورة مثالية لفترة ما أو نقيضها من صورة قاتمة بسبب تصرفات ومواقف ناشزة عن الخط العام.

ومن أبرز الإشكالات السياسية تنامي العصبيات الفارسية في خلافة الرشيد ثم المأمون، ثم العصبيات التركية مع المعتصم. وتوازت عوامل الضعف هذه في سدّة الحكم مع تنامي المذهبيات الشيعية والمتفرّعة عن التشيّع، والتي سعت ليكون لها وجود سياسي مميّز ما دام المركز فيه انقسام، وكانت على درجات ثلاث من الخطورة الثقافية.

الدرجة الأولى تمثّلت المنافسة الشيعية في دولة بني بويه (334-447ه)، ثم الدولة الحمدانية في الموصل وحلب (317-394 ه).

الدرجة الثانية الأكثر خطورة وإشكالاً كانت الدولة الفاطمية العبيدية في مصر والشام مثّلت في بداياتها حالة تحدّي لحالة الترهّل العباسي، ثم ما لبث توجهها الإسماعيلي أن تعمّق فمشت باتجاه الباطنية في إنتاجها العلمي الغزير وفي نزعتها السياسية. وكانت هناك اختراقات متعددة منها تحالف القرامطة مع الفاطميين، وتعاون الفاطميين مع البيزنطيين، وتعاون الحركة الباطنية النزارية مع الصليبيين.

الدرجة الثالثة كانت في التحدي الباطني الصرف الذي تمثّل في دولة القرامطة في الجزيرة العربية. ولم يكن هذه الحركة مجرّد منافسة سياسية ترى في نفسها الأحقية في الحكم متابعة على إرث الفتنة منذ عثمان، وإنما مشروعاً خارج البوتقة الإسلامية بالتمام. وسيطرت حركة القرامطة التي على الخليج العربي وامتدّ نفوذها شمالاً حتى دمشق، إضافة إلى ما هو معروف من الهجوم على مكة المكرمة وانتزاع الحجر الأسود من الكعبة.

وكان لعامل الأقوام التركمانية أثرٌ بالغ على جملة المسيرة السياسية في تاريخنا يمكننا أن نسجّل بداياته منذ ذاك العصر. وكان أن استدعى الخليفة العباسي القائم بأمر الله من يؤازره من التُرك، وهو طغرل بك محمد بن ميكائيل بن سلجوق عام 447 ه/1055م، وفوّضه أمور دولته ولقّبه بالسلطان. كان ذلك إيذاناً بدخول السلاجقة التُركمان بغداد وقيام دولة السلاجقة التي أسهمت إسهاماً عظيماً في كسر الجبهتين من المنافسة السياسية لهما أُسس مذهبية: الشيعية من طرف والباطنية من طرف آخر.

وقد ردّ السلاجقة البيزنطيين على ما كانوا قد استولّوا عليه بعد موت سيف الدولة الحمداني (حيث استولى البيزنطيون على حلب ووصلوا حتى حماة)، وشعر البيزنطيون بتنامي نفوذ السلاجقة وخطرهم فحاولوا اكتساح آسيا الوسطى باتجاه القوقاز، فنهض لهم ألب أرسلان وهزمهم في معركة ملاذكرد الشهيرة عام 463ه/1071م وأسر امبراطورهم رومانوس الرابع. وكان أن مهّد له ذلك الامتداد باتجاه الغرب حيث عبر جبال طوروس ووصل إلى بحر مرمرة حيث قامت ما سميت بدولة سلاجقة الروم و”السلاجقة الروم” أتوا بعد “السلاجقة العظام” الذين ظهرت سيطرتهم في بلاد ما وراء النهر واصطدموا مع الغزنويين وانتزعوا مدينتي مرو ونيسابور في خراسان الكبرى. وعندما انحلّت دولة السلاجقة الروم بموت السلطان معز الدين أبو الفتح ملكشاه عام 485 ه/1092م تجزّأت دولة سلاجقة الروم التي كان مركزها الأناضول إلى عشر إمارات منها إمارة سلطان قونية علاء الدين بن قيباذ الذي انتقلت عن طريقه السلطة إلى عثمان بن أرطغرل بن سليمان عام 699 ه/1299م وهو مؤسس الدولة العثمانية.

وبشكل عام، لا يفوت أي ناظر أن النزاعات الداخلية المريرة فسحت المجال أمام الأعداء لاقتناص الفرص، ومن ذلك ما جرى بين أمراء الطوائف بالأندلس في ظل حروب الاسترداد، أو نزاعات أمراء الأيوبيين في ظل الحروب الصليبية والتي كانت أحد أسباب سقوط عكا وقبول صلاح الدين بصلح الرملة وتنازله للصليبيين عما يقع بين يافا وعسقلان. ولقد وصل الأمر إلى أن عرض السلطان الكامل عقد معاهدة بينه وبين الصليبيين تنازل فيها عن القدس وبيت لحم والناصرة وصيدا واللد، لكن البابا رفض المعاهدة.

ثانياً: الأسباب الخارجية

منذ أواخر القرن الخامس الهجري توالت على الواقع المسلم أحداث خطيرة يمكن أن نحدّدها بالتالي:

  1. بدء ما يسمى حركة الاسترداد المسيحي في الأندلس، إذ سقطت طليطلة عام 478هـ / 1085م، تلتها قرطبة 1237م/635ه، ثم اشبيلية عام 1248م/646ه، وأخيراً مملكة غرناطة عام 866 هـ / 1492م. وتمّ هذا الاسترداد الهمجي بطريق القتل والحرق والتعذيب والتنصير الإجباري، وأخيراً الاقتلاع والتهجير خارج الأندلس عام 1609-1610 م. وبذلك طُويت صفحة من الحضارة الإسلامية، تلك الحقبة الحضارية التي تميّزت بعربية اللسان لغة القرآن فانعكست على الإنتاج الثقافي الفكري، وهي التي شاركت في استمرارها أقوام غير عربية، إذ كان من أبطالها الأمازيغ أصحاب العزة والنخوة، وهي التجربة الباهرة التي تسير في ذكراها الركبان والتي استمرت ستة قرون وكانت وراء نهضة أوربة الحديثة.
  2. الحروب الصليبية في بلاد الشام والتي بدأت([i]) حملتها الأولى باحتلال الرُّها وإقامة إمارة هناك كأول إمارة صليبية في بلاد المسلمين عام 492 هـ / 1098م. وفي السنة نفسها احتُلت انطاكية وأقيمت عليها إمارة انطاكية الصليبية عام 492 هـ / 1098م، وكانت تصل شمالاً إلى جبال الأمانوس على حدود مملكة الأرمن في آسيا الصغرى وتصل جنوباً إلى اللاذقية على الساحل الشامي للبحر الأبيض المتوسط، وتليها إمارة طرابلس التي كانت تمتد من البترون جنوباً حتى طرطوس شمالاً ومنها إلى جبلة. وأخيراً سقطت القدس وأقيمت فيها مملكة بيت المقدس الصليبية عام 493 هـ / 1099م بعد قتل سبعين ألفاً من سكانها (وكانت تمتد شمالاً إلى جنوب دمشق وتمتد إلى قلعة الكرك ومنها جنوباً إلى البحر الميت وتنتهي بميناء العقبة في أقصى الجنوب، وكذلك تصل أراضيها إلى البحر المتوسط جنوب غزة عند الباروم ومنها على طول الساحل الشامي حتى شمال بيروت. وكانت كل هذه الأراضي محمية بالقلاع الحصينة التي يسكن فيها الألوف من الفرسان المسلحين بأحسن سلاح([ii]). أما المملكة الثانية فهي مملكة بيروت الصليبية (والتي تمتد من البترون شمالاً حتى حيفا جنوباً).
  3. حروب المغول بقيادة هولاكو حيث دمرت بغداد عام 1258م/ 656ه والتي انتهت بمعركة عين جالوت عام 658 هـ/ 1260م حيث هزمهم المماليك بقيادة قطز، وبذلك انطوت صفحة الحضارة في بغداد وانتقلت إلى القاهرة.

الفصل الثاني: العدوان الخارجي واستفاقة الوعي

لم تخل الأحقاب السابقة من محاولات المتربصين أن يعتدوا على المجتمعات المسلمة الرغيدة، غير أن هذه المرة برزت جهود كثيفة واستمرت وقتاً طويلاً وتركت آثاراً على الذاكرتين المسلمة والأوربية. سنتناول موضوع ما يسمى بالحروب الصليبية من ناحيتين: من ناحية المصطلح ومن ناحية الدلالة التاريخية، وننهي الفصل بتقييم مختصر لآثار هذه الحملات.

أولاً: حروب الفرنجة أم الحروب الصليبية

الحملات العسكرية التي قامت بها أوربة بشراكة بين الجهات الحاكمة والكنيسة أمر جدير بالدراسة وتقليب النظر فيه لأنه من أوضح دلالات الضعف الذي حلّ بالأمة المسلمة لدرجة أن ثالث حرميها وقع تحت الاحتلال. وما سبقت مناقشته عرضت أوجه الضعف، ونريد أن نكمل الصورة هنا وأن ننبّه إلى عدم السقوط في المماثلة بين واقع الأمة آنذاك وهي تتعرض لهجوم خارجي وواقعها الآن. وتكمن أهمية ذلك لأنه من السهل أن تعتبر أن ثمة تطابق تام بين الماضي والحاضر ما دام العدو هو نفسه، القوى الغربية الأوربية. ولا يخفى أن هذا لا يستقيم، وهو مما نسميه “إسقاط تاريخي”. والإسقاط التاريخي فاسد لأنه يكتفي بالظاهر وبالعناوين ولا يلتفت إلى الفروق الموضوعية. ففي مسألتنا، أوربة الأمس لم تكن مثل أوربة اليوم لا من ناحية قوتها ولا ثقافتها ولا عِلمها ولا التكنولوجيا الحربية التي تملكها. والمسلمون حينها لم يكونوا مثل المسلمين اليوم، فلا هم كانوا في حالة انبهار بأوربة ولم يتبنّوا لا الإديولوجيات القومية ولا المذاهب العَلْمانية.

ا. المصطلح ومضامينه:

نستعمل نحن اليوم مصطلح الحروب الصليبية الذي وضعه المؤرخون الغربيون، أما أجدادنا من المؤرخين المسلمين فقد استعملوا مصطلح (الفرنج) أو (الفرنجة) أو (حركة الفرنجة). والسؤال عندئذ أي المصطلحين نختار؟ من الطبيعي أن نستمرّ في استعمال المصطلح الثقافة الإسلامية لكي نحافظ على وحدة المصطلح التاريخي في تراثنا إذ لا يصح أن نقرأ تاريخنا إن لم أقل تاريخ ثقافتنا بمصطلحاتهم.

وهذا ما يجعلني أتحدث دائماً عن الأسر المصطلحي الذي نعيش فيه في ثقافتنا الحديثة بحيث أزعم أنه منذ حملة نابليون ونحن نقرأ تاريخنا وتراثنا قراءة استشراقية بمصطلحات استشراقية. والذي أخشاه أن تتحول هذه القراءة إلى تبنّي المفهوم الاستشراقي الذي يختفي وراء المصطلح بحيث يصبح فهم الاستشراق لتراثنا هو فهمنا وبالتالي يتمّ القطع الحقيقي مع التراث.

إنّ مصطلح الحروب الصليبية لم تتمّ صياغته واستعماله لدى المؤرخين الغربيين إلا بعد القرن الثالث عشر وقد سبقته عدة مصطلحات زاحم بعضها بعضاً بدءاً من (رحلة الحج إلى بيت المقدس) وانتهاءً بمصطلح (الحرب المقدسة) holy war.

ومما جعل الغربيين حريصين على استعمال هذا المصطلح هو تعميق الشعور لدى الفئات الشعبية للدلالة على أن هذا الصراع هو صراع ديني، العدو فيه هو الإسلام، ويتجلى ذلك إلى اليوم في إقامة التماثيل لأمراء الحروب الصليبية في مختلف المواقع، وفي افتخار كثير من الأسر الأوربية الارستقراطية بانتسابها إلى فرسان تلك الحروب مع العلم أن مفهوم (الفارس الصليبي) يعني المحارب.

ولعل أكثر الدلالات على ذلك أن الجنرال ألّنبي حينما دخل القدس 1916م كان يتكلم بلسان التاريخ لا باللسان العسكري حين قال “الآن انتهت الحروب الصليبية”. وكذلك الجنرال غورو حينما دخل دمشق ذهب إلى قبر صلاح الدين وقال مخاطباً القبر “ها قد عُدنا يا صلاح الدين”، وأخيراً فإن جورج بوش الابن استعمل هذا المصطلح في حربه على العراق عام 2003م.

على أن الأهم من كل ذلك هو تدريس هذه المادة في المدارس الأوربية جميعاً وربطها بدخول التُرك أوربة على نحو يثير الحسد التاريخي لدى الأطفال ومن أجل حفز مشاعر العداء للإسلام. ولقد رأينا بأم أعيننا كيف خرجت رايات الحروب الصليبية ورايات الحروب مع التُرك إلى شوارع مدينة فيينا وكيف خرج طلبة المدارس يطوفون في تلك الشوارع يصحبهم من يشرح لهم تلك الدلالات وذلك بمناسبة الذكرى السنوية لمحاولة التُرك فتح فيينا.

ونحن نحافظ على مصطلحنا التاريخي (حروب الفرنجة) لأسباب أخرى غير الحرص على وحدة تاريخ المصطلح وهو أننا نرفض فكرة (الحرب الدينية) من الأساس، فنحن لم نحارب المسيحيين وإنما كانت فتوحنا لبلاد الشام حرباً تحريرية من طغيان البيزنطيين على شعوب بلاد الشام التي رحّبت بفتوحنا، وكذا كانت لبلاد فارس. ومثلاً، حين جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه من العراق لنجدة جند الشام مرّ على بلدة فحل (بعلبك) فهرع إليه أهلها يطالبونه بتخليصهم من حكم البيزنطيين. وفي موضعٍ آخر دعتنا إلى ذلك بعض قساوستها، وبعضهم اعتنق الإسلام وأسهم في تلك الفتوحات كما تمّ في فتح طرابلس. كذلك الأمر مع الامبراطورية الفارسية التي حرّرنا شعوبها من طغيان الأكاسرة، وكذلك الحرب ضد الرومان في مصر الذين كانوا يستعبدون شعبها ويضطهدون كنيستها القبطية التي نفوا بطركها لمدة عشرين عاماً خارج مصر بعد مجمّع نيقية. لقد كان مجيء الإسلام إلى مصر إيذاناً بالتحرر العملي للأقباط من ظلم الكنيسة الرومانية، وبدأ عهد استقلالهم الديني بالفتح الإسلامي.

ب. الدلالة التاريخية:

وليس في تاريخنا حروب ضد المسيحيين، والصراعات الداخلية حدثت بين أمراء المسلمين أنفسهم ولم تكن بينهم وبين المسيحيين، ولم يشهد تاريخنا مذابح كتلك التي قام بها الصليبيون في بيت المقدس، لدرجة أن ملك بيت المقدس الصليبية كان يشكو من أنه لا يجد سكاناً يحكمهم وكان يطالب بهجرة الأوربيين إليها.

نريد هنا أن نلقي الضوء على طبيعة حروب الفرنجة وحالة أوربة آنذاك من خلال الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: لم تكن حروب الفرنجة حروب الكنيسة فقط، بل كانت تحالفاً بين الكنيسة وأمراء الإقطاع إلى جانب الصراع مع الملوك. وبالتالي فقد كانت حرباً ذات وجوه متعددة: حرب من قِبَل مجتمعين على مجتمع، ومن دين على دين، وقد جعلها التفاوت الحضاري حرباً بين تخلّف وازدهار. ولم يكن الدين في كل ذلك إلا العامل المحرّض. ومن هنا نرى صحة مصطلح مؤرخينا الذين رأوا في هذه الحروب (حرب مجتمع الفرنجة كله): الكنيسة، وأمراء الإقطاع، والملوك، والفلاحون. وهذه أوّل خاصية لهذه الحروب أنها حرب حضارية. ومما يؤكد هذه الصفة أمران:

  • التفاوت الحضاري بين المجتمع الأوربي والمجتمع العربي الإسلامي كواقع تاريخي.
  • حدوث صدمة حضارية لدى أوربة، شرعوا بعدها إلى اقتباس العلوم التي طورتها حضارتنا (ونسبتها إليهم فيما بعد) وتطوير الجهود الاستشراقية لفهم (الشرق) وديانته والنيل منها.

الملاحظة الثانية: أصبح انتزاع بيت المقدس قلب فلسطين وبلاد الشام كلها هدفاً استراتيجياً ثابتاً لسياسة الغرب تجاه الإسلام. وما دامت قد حصلت لها سابقة فلماذا لا تتكرر.

الملاحظة الثالثة: إن هدف انتزاع بلاد الشام وقلبها فلسطين وقلب فلسطين القدس من المسلمين هو استيطانها وطرد المسلمين منها، فالصليبيون لم يأتوا ليعودوا بل ليقيموا وإذا كان الهدف إقامتهم فهو يعني ترحيلنا، وليست مصطلحات (الاستيطان) و(المستوطنون) و(المستوطنات) التي تستعملها الدولة الصهيونية في فلسطين إلا تعبيراً عن ذلك. وقد سبق لفرنسا حين غزت الجزائر أن استعملت مصطلح (المستوطنون) لأن الهدف كان البقاء في الجزائر باعتبارها جزءاً من فرنسا وبالتالي فإن الخاصية الثالثة الثابتة لهذه الحرب هي أنها حرب استيطانية.

وأكثر ما تنطبق هذه الخاصيات الثلاث على الاستعمار الصليبي الروسي لبلاد المسلمين في آسية. ونشير إلى أن زعماء الروس تعلموا في جامعة قازان الإسلامية. والتنكيل والتشريد والقتل كان سياسة ثابتة للروس، ومثالها الأبرز إيفان الرابع الرهيب وأسرة رومانوف وما فعله القياصرة بشعوب القوقاز وما فعله ستالين في القرم. وأما استيطان العنصر الروسي في بلاد المسلمين فهو سياسة ثابتة لروسية القيصرية وروسية الاتحاد السوفيتي وروسية الاتحادية اليوم. ومثال ذلك الاستيطان القسري لكثير من الروس في البلاد التركمانية في غرب آسيا زمن الاتحاد السوفيتي، وزرع مستوطنة عسكرية في أرمينيا، وكذا في شرق أوكرانيا وأبخازيا شمال جورجيا وفي أكثر بلاد شرق أوربة.

هذه الخصائص الثلاث: التي استخلصها الغرب وهي الحضارية والاستمرارية والاستيطان تصدق عليها أيضاً كسابقة وتجربة.

ج- آثار حروب الفرنجة:

أول من فكر بالحروب الصليبية هو البابا غريغوري السابع وهو ألماني اسمه الأول هلدبراند. وكان الامبراطور الكسيوس كومنين امبراطور الدولة البيزنطية قد استغاث به لدفع الخطر السلجوقي (سلطنة سلاجقة الروم وأولهم قلج أرسلان) رغم الانشقاق الكبير بين الكنيستين سنة 1054م.  

ومما مهد لحروب الفرنجة التطورات الحاصلة في الأندلس. فلقد بدأ حرب الاسترداد فرناندو الأول ملك ليون وقشتالة سنة 1057م. وفي عام 1085م/479 ه استولى الفونس السادس ملك قشتالة وليون على مملكة طليطلة، وفي نفس السنة تمكن النورمان من استعادة صقلية من أيدي المسلمين.

وبعد بضعة سنين فقط من سيطرة الفرنجة على طليطلة وأخذ الموقع البحري في صقلية، أُعلنت الحركة الصليبية عام 1088م عندما دعا البابا أوربان الثاني إلى توثيق الروابط بين الغرب المسيحي والدولة البيزنطية. وفي سنة 489 هـ / 1095م دعا البابا أوربان الثاني في مجمع ديني عقد في مدينة كليرموند لتجنيد جيش مسيحي وتسييره إلى بلاد المسلمين. أول من استجاب لهذه الدعوة هو بطرس الناسك الفرنسي الذي وصل فعلاً إلى آسية الصغرى إلى أن لاقت حملته جيوش سلاجقة الروم فأبادوهم سنة 1096م/490ه.

الحملة الصليبية الأولى وصلت إلى القسطنطينية واخترقت بلاد سلاجقة الروم وهزمتهم عند دورويليوم في 1097م ووصلت إلى أنطاكية. وقبل الوصول إلى أنطاكية انفصل بولدوين أخو جودفروا عند مرعش واتجه شرقاً واستولى على الرُّها وأنشأ فيها أول إمارة صليبية في بلاد المسلمين عام 1098م/492 ه، وكانت منطقة تسكنها غالبية من الأرمن مما سهّل عليه الاستيلاء عليها. سار الجيش الصليبي حتى أنطاكية وحاصرها في 1097م واستمر الحصار لـ 1098م حيث سقطت عام 1098م (وعندما حاول الأمير كربوغا أتابك الموصل إغاثة انطاكية انهزم أمام الصليبيين في العام نفسه). استمرت الحملة باتجاه بيت المقدس واستولى عليها الصليبيون في 15 تموز 1099م وأنزلوا بأهلها مذبحة قتل فيها سبعين ألفاً من سكانها. بعد ذلك أنشئت إمارتان صليبيتان الأولى في انطاكية والثانية في طرابلس فيما بين سنتي 1102-1109م. الحملة الصليبية الثانية وصلت إلى بلاد الشام بقيادة لويس السابع ملك فرنسا وكونراد ملك ألمانيا وتجمعت جيوشهم عند بيت المقدس ثم ساروا للاستيلاء على دمشق ولكنهم فشلوا في ذلك. وبذلك تمّ إنشاء مملكة القدس وثلاث إمارات هي إمارة الرها وإمارة طرابلس وإمارة انطاكية.

ونحن لم ندرس دراسةً كافية الآثار التي ترتبت على الاختراق الإفرنجي لبلادنا لحوالي مئتي عام: الآثار الاجتماعية والسكانية والاقتصادية والسياسية. فمن الآثار الاجتماعية تخلخل المجتمع الإسلامي ومن الآثار الديمغرافية فقدان التجانس بين السكان(1) حيث تعددت الأعراق والانتماءات الإثنية التي أسهمت أيضاً في عدم تجانس السكان. ولا ننسى أن حملات الفرنجة كانت تحتل مواطن إسلامية كمحاولة ليحل محلها صليبيون. كذلك فإن التعاون من قِبل بعض الطوائف المسيحية من أهل البلاد مع الصليبيين، سواء منهم الموارنة أم الأرثوذكس (السريان) أم الأرمن كان تعاوناً تاماً، أسهم في شق المجتمع تجاه عدو خارجي فكانت له آثاره فيما بعد.

أما على الصعيد الاقتصادي فقد حدث تحوّلان أساسيان:

الأول: إنهاء الفرنجة لسيطرة المسلمين على البحر المتوسط وتجارته مما أدى إلى خسارة هائلة من الناحية التجارية من جهة وإلى نمو المدن الإيطالية بسبب ازدهارها الاقتصادي، مما أدّى فيما بعد إلى مزيد من الهيمنة على البحر المتوسط والأهم من ذلك إلى التحولات الاجتماعية التي كانت بمثابة إرهاص لنهضة القرن السادس عشر.

الثاني: تخلّف الزراعة في بلاد الشام وتوقف الحركة التجارية والمواصلات بين أنحائها خاصة بفقدان الساحل الشامي الذي استمر الصليبيون فيه بعد معركة حطين لتحرير القدس 583 هـ/ 1187م حتى خروجهم الأخير على يد قطز بعد ما مئة سنة ونيف في 688 هـ/ 1289م.

لقد تبين من خلال التحقيق العلمي لمصطلح الحروب الصليبية (الذي وضعه الغرب وعوّدنا على استعماله) أنه لا يعبر عن حقيقة هذه الحروب وإنما عن جانب واحد منها. وأن مصطلح “الفرنجة” الذي استعمله مؤرّخونا هو الأصح لأنه يدل على أن المجتمع الأوربي كله، بفئات أربع، شارك في هذه الحروب. فلقد أراد رجال الكنيسة منها إضعاف نفوذ الملوك ورجال الإقطاع، وشارك رجال الإقطاع لإضعاف نفوذ الكنيسة والملوك، وشارك الملوك لإضعاف نفوذ الكنيسة ورجال الإقطاع، وشارك الفلاحون المسحوقون للتخلّص من نير هؤلاء الثلاثة أملاً في أن الأرض الجديدة لا يستطيعون التحكم فيها كما هو الحال في أوربة. وهكذا فإن المجتمع كله قد شارك فيها وليست الكنيسة وحدها وإن كانت هي الداعية لها.

ثانياً: الانتعاشة التركمانية الكردية

يطرأ السؤال البديهي عن تجرّؤ أوربة على مهاجمة ديار المسلمين رغم ما وصل إليه المسلمون من رقي حضاري وما بنوه وما أسّسوه من نظمٍ سياسية ونشاطات اقتصادية وفتوح علمية ونشاطات ثقافية وازدهار حياتي. والجواب ليس متعذّراً. فلقد استغل الفرنجة فرصة الصراع السياسي بين الخلافة العباسية والفاطمية والذي أدى إلى تشرذم القوى الإسلامية. ولا يخفى أن الوضع السياسي في أوربة نفسها كان عاملاً حاسماً، حيث سقطت الخلافة الأموية الأندلسية عام 425 هـ / 1031م وانقسمت الأندلس إلى ممالك الطوائف. فما دام دبّ الضعف السياسي بأمة المسلمين في غرب ديارها، فلماذا لا نوجّه طعنات مباشرة إلى القلب.

1- التحرك الإسلامي لصدّ الفرنجة

كان أول من تحرّك لمواجهة حملات الفرنجة هو مودود من أتابك الموصل وهو من القبائل التركمانية. كما كان أول من شجّع على مهاجمة مراكز الاحتلال الأوربي نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين في بلاد الجزيرة، وقد دخل الأراضي التي كانت تسيطر عليها إمارة الرُّها والتقى بقوة صليبية عند بلدة قسطوان جنوب حلب سنة 1119م/513ه وانتصر عليها وبذلك انكسرت الأسطورة الإفرنجية.

عقب ذلك تشجّع عماد الدين زنكي أمير الموصل واستولى على حلب ووحّد إقليم الموصل وحلب ودعا إلى الجهاد، فهرع المجاهدون من كل مكان إليه، فسار على رأس جيشٍ قوي واستولى على إمارة الرُّها وما يتبعها من بلاد سنة 1144م/539ه. وفي أثناء ذلك استطاع نور الدين محمود بن عماد الدين الزنكي أمير الموصل أن يضمّ إمارة حلب إلى بلاده بشكل رسمي بعد أن كانت قد تفرّقت عقب موت أبيه، ومضى يعمل أكثر من عشر سنوات مناضلاً ضدّ الفرنجة في كل ناحية من نواحي الشام حتى تمكّن في عام 1154م/549ه من ضمّ إمارة دمشق إلى بلاده (وكانت هذه الإمارة وصاحبها معين الدين أنور معادية لجبهة الجهاد ومحالفة للفرنجة المعتدين، فكانت تقف عقبة أمام توحيد الجبهة الإسلامية). وبضمّ دمشق أصبحت جبهة الجهاد عريضة واسعة تشمل بلاد العراق والجزيرة الفراتية بما في ذلك الموصل وبلاد الشام.

وكان هَمّ نور الدين بعد ضمّ دمشق القضاء على دولة العبيديين الفاطميين التي أصبحت حليفة أو مهادنة للصليبيين. وننبّه هنا أن هذه الدولة واجهت البيزنطيين في أوائل عهدها واكتسبت شرعية سياسية مؤقتة من خلال ذلك برغم أن مذهب حكامها اسماعيليّ تعمّق في الباطنية مع مرور الزمن. وتمكّن نور الدين زنكي من الفوز بمصر بمعاونة قائده أسد الدين شيركوه وابن اخيه صلاح الدين بن نجم الدين أيوب أن يفرض نفسه منافساً للخليفة الفاطمي العاضد. وبعد وفاة نور الدين محمود عام 1173م/569ه اختلف خلفاؤه وأمراؤه على الوصاية على ابنه إسماعيل، ولكن صلاح الدين تمكّن من التغلّب عليهم واستطاع أن يعلن نفسه سلطاناً على بلاد المسلمين الموحّدة.

واصل صلاح الدين الجهاد وتجمّعت حوله القوات الإسلامية من كل ناحية وانضمّت إلى قواته ألوف بعد ألوف من المتطوّعة المجاهدين في سبيل الله دون أجر ودون أن يكونوا جنداً سلطانياً، وفي ربيع الآخر 583ه حزيران 1187م انتصر صلاح الدين في حطّين على القوات الصليبية، وبعد ذلك النصر الكبير دخلت قوات الإسلام بيت المقدس في رجب 583ه أيلول 1187م.

وننوّه هنا أننا استعمالنا عبارة “الانتعاشة التركمانية الكردية” لأنها لم تكن ردّ فعلٍ قومي، والزنكي تركماني وصلاح الدين الأيوبي كردي قومياً وهو نسيب عماد الدين زنكي بسبب الزواج. والإنجاز الأيوبي يبدو أنه أكبر من الإنجاز الزنكي حيث جرى الحسم على يد صلاح الدين، غير أن جهود الأيوبيين حصلت في سياق أكبر من صعود التركمانيين. والأهم من ذاك وذاك، أن صلاح الدين الأيوبي قاد حملة تحرير أول القبلتين وثالث الحرمين، ولم يكن يدافع عن حيّز كردي، وصعد صلاح الدين إلى سدة الحكم في مصر وليس في العراق أو في بلاد الشام.

2- استمرار حملات الفرنجة

كان لاستعادة المسلمين لبيت المقدس وقع شديد جداً في بلاد الغرب المسيحي، فلم تكد الأخبار تصل حتى أسرع البابا سلستين غريغوري الثالث الذي خلف البابا كليمنت الثالث يدعو إلى إرسال حملة صليبية لاستعادة بيت المقدس فاستجاب له نفرٌ من ملوك أوربة في مقدّمتهم ريتشارد الأول ملك انجلترا الملقب بقلب الأسد، وفيليب الثاني أغسطس ملك فرنسة، وفريدريك الأول برباروسا إمبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة الألمانية، مما يعني أن أوربة كلها قد تجمّعت في هذه الحملة، وهي الحملة الصليبية الثالثة.

وكان أول من سار من أولئك الملوك هو فريدريك بارباروسا الذي بدأ رحلته عام 1189م واخترق أوربة ووصل إلى آسية الصغرى ودخل القسطنطينية حيث استقبله الامبراطور البيزنطي، ومن هناك اتجه قاصداً بلاد الشام براً، وفي طريقه انتصر على بقايا السلاجقة عند قونيه سنة 1190م ولكنه غرق في نهر يسمى نهر سالف حالياً (جوقصو) أعقب ذلك رجوع معظم جيشه إلى ألمانية ولم يكمّل الرحلة إلى بلاد الشام إلا عدد قليل من الألمان وعلى رأسهم ابنه فريدريك الذي اشترك في الاستيلاء على عكا 1191م.

أما ريتشارد قلب الأسد فقد انطلق من القسطنطينية عبر طريق البحر ماراً بجزيرة قبرص ومنها أبحر إلى عكا واشترك في الاستيلاء عليها مع الملك الفرنسي فيليب، وكان صلاح الدين قد استعادها بعد حطين، لكنّ تجمّع ريتشارد قلب الأسد وفيليب أرسطس مع ملك بيت المقدس الذي انتقل إلى طرابلس بعد سقوط القدس وحاصروا جميعاً عكا عام 1189م وسقطت في أيدي جيوش الصليبيين 1191م بعد دفاع مستميت من جانب أهلها الذين أقسموا على الحرب حتى الموت، وبالفعل لم تسقط حتى هلك معظم رجالها. ويعتبر سقوط عكا على هذه الصورة من أكثر أحداث الحروب الصليبية إثارة، وقد استولى الفرنجة بعد سقوطها على ما جاورها من موانئ المسلمين ومدنهم مثل حيفا وقيصرية وأرسوف والخضيرة وعتليت ثم دخلوا في مفاوضات مع صلاح الدين انتهت بعقد صلح الرملة الذي نصّ على أن يترك للصليبيين شريطاً من الساحل يمتد من صور إلى يافا مع السماح لهم بالحج إلى بيت المقدس، وقد تمكّنوا بعد ذلك من الوصول إلى بيروت. وهذا الجزء الذي أضافته الحملة الصليبية الثالثة من البتروم حتى حيفا إلى الجنوب هو الذي شكّل ما عرف فيما بعد بمملكة بيروت الصليبية.

لم تتوقف حملات الفرنجة، وجمعت أوربة قواتها وجهزت ما يسمى بالحملة الصليبية الرابعة. ولكن أدّت الخلافات بين قادتها إلى فشلها حيث انتهى الأمر باتجاهها نحو القسطنطينية والاستيلاء عليها 1204م وإقامة دولة لاتينية عليها وبذلك لم تحقق أهدافها. وتلاها ما يسمى بالحملة الصليبية الخامسة، ودعا إلى هذه الحملة البابا إينوسنت الثالث وتمّ تنفيذها في عهد خليفته هونوريوس الثالث ونجح في تكوين جيش من الفرسان أقيم على رأسه الفارس جان دي بريين واتجهت هذه الحملة إلى مصر ونزلت في دمياط عام 1218م وحاولت الوصول إلى القاهرة لكن المصريين عندما وصل الجيش إلى قرب المنصورة فتحوا سدود القنوات فاندفقت مياه الفيضانات وغطّت الأرض فكان ذلك عائقاً عاد بعدها الصليبيون إلى دمياط ومنها إلى عكا وانتهت الحملة بالفشل.

وفي حين أخفقت الحملتان الرابعة والخامسة، انطلقت الحملة السادسة فحالفها بعض النجاح وما لبث أن استعاد المسلمون زمام الأمر. وتفصيل ذلك أنه حاول فريدريك الثاني امبراطور الدولة الجرمانية المقدّسة الاستيلاء على بيت المقدس فأبحر نحو سواحل الشام عام 1227م لكنه لم يلبث أن عاد مسرعاً بحجة أنه لم يتحمّل دوار البحر، لكنه عاد في صيف 1228م ووصل إلى عكا واستعدّ للمسير إلى بيت المقدس لكنه فضّل التفاوض مع الملك الكامل سلطان مصر والشام. وكان السلطان الكامل محمد بن العادل خامس السلاطين الأيوبيين في ذلك الحين في نزاع شديد مع ابن أخيه الناصر صاحب دمشق، ولذلك سارع بعقد معاهدة مع الامبراطور فريدريك تنازل فيها عن بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا واللّد، لكن الباباوية رفضت هذه المعاهدة بناء على أن الفرسان الصليبيين يذهبون إلى بلاد الشام لحرب المسلمين لا للتفاوض معهم. وبعد ذلك بقليل تمكن الأيوبيون من تجنيد جيش من التُرك الخوارزميين واستعادوا بيت المقدس وكل ما كان السلطان الكامل قد تنازل عنه للصليبيين.

حملات الفرنجة السابعة والثامنة اتصفتا باليأس بعد تغيّر ميزان القوى وبدء ظهور المماليك. وقاد الحملة السابعة ملك فرنسة لويس التاسع الذي أعدّ جيشاً من خيرة الفرسان الفرنسيين ورحل إلى الشام عام 646 هـ/1248م، واختار أن يذهب بحملته إلى دمياط أولاً ليقضي على القوة العسكرية المصرية وتمكّن من الاستيلاء عليها بعد قتال شديد، ثم تقدّم نحو المنصورة، لكن المصريين وفرسان الأيوبيين تمكّنوا من هزيمته وحاصروه وأرغموه على الاستسلام وأخذوه أسيراً حيث سجن في دار بن لقمان في المنصورة حيث اضطر لتقديم فدية كبيرة رحل بعدها عام 1250م عن مصر إلى فلسطين حيث نزل عكا وبقي فيها أربع سنوات حاول فيها الاتصال بحركة الحشاشين وكذلك مع مونكوخان المغول لكنه لم يفلح وأخيراً عاد إلى فرنسا.

بعد ذلك تغيرت الأحوال لأن دولة المماليك الأولى، المماليك البحرية (648 – 784هـ/ 1250- 1382م) قامت في مصر والشام وأنشأت قوة عسكرية عظيمة ظلّت تحوي مصر والشام حتى قيام الدولة العثمانية، وهذه القوة المملوكية هي التي استعادت ما كان بيد الصليبيين من بلاد الشام وهي التي صفّت الوجود الصليبي كما أنقذت بلاد مصر والشام من غارات المغول. وكانت هناك محاولة يائسة نهائية، فرغم ما مرّ به لويس التاسع من هزائم ظل يأمل بقيام حرب صليبية ضد المسلمين وقاد حملته سنة 668 هـ/1270 م، وبدلاً من مواجهة المماليك في مصر هاجم بلاد تونس، لكنه لقي هزيمة هناك وبعد قليل أصابته الحمّى ومات وعاد جيشه بوفاته إلى فرنسة.

ثالثاً: إعادة التأسيس، المماليك والعثمانيون

ذكرنا فيما سبق أن السلاجقة التركمان مدوا في عمر الخلافة العباسية حيث تمّ استدعاؤهم من قِبل الخليفة العباسي في ساعات الضعف كما تمّ استدعاء غيرهم. وكان أن استنجد الخليفة بكل من الحمدانيين والبويهيين، وكل منهما شيعة. وفي حين كان الحمدانيون عربٌ شيعة إثني عشرية، كان البويهيون فرسٌ. وبحكم الموقع والحجم، لم يشكل الحمدانيون تحدياً كبيراً لمركز الخلافة في حين تمكّن البويهيون من جهاز الدولة أي تمكّنٍ، وفي هذه الفترة عكف العلماء الشيعة على الكتابة للتأسيس لمذهبهم.

وكان الصعود السلجوقي هو الذي حافظ على التوازن فيما بعدُ في مركز الخلافة. وتجاه ذلك حاول البيزنطيون اكتساح آسية الوسطى، لكن هزموا في معركة ملاذكرد 463ه/ 1071م، وهي معركة فاصلة في العلاقات بين الخلافة في المشرق المسلم وأوربة. وتمخّض عن ذلك ولادة دولة سلاجقة الروم التي أورثت السلطة إلى العثمانيين فيما بعدُ على يد عثمان بن أرطغرل بن سليمان عام 699ه/1299م، وهو مؤسس الدولة العثمانية.

1- المماليك

ومن ناحية أخرى، كان ظهور المماليك (قبل التمكّن العثماني)، ليس في مركز الخلافة العباسية في بغداد وإنما في مركز حضاري آخر مهم في القاهرة من أرض مصر. ورغم أن صلاح الدين أنهى الدولة الفاطمية في مصر، وهي التي تمادت في تطرّفها الإسماعيلي وتطلّعت لانتزاع الخلافة، إلا أن مركز الخلافة شهد غزواً همجياً من قِبل المغول حيث سقطت بغداد سنة 656 هـ/ 1258م. وكان المغول قوة صاعدة في الشرق الأقصى، وشجعهم الصليبيون – بعد إخفاقهم السيطرة على القدس وديار المسلمين- من الانتقام من البلاد المسلمة التي كانت تتعافى من صدمات الحرب والتحرير.

انتقلت السلطة للمماليك في مصر عن طريق شجرة الدر أرملة السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، والتي تزوجت عز الدين أيبك أتابك المملوكي لكي تخرج من إشكالية تولّيها الحكم بعد وفاة زوجها. وكان المماليك هم الذين هزموا المغول عام 658 هـ / 1260م في معركة عين جالوت على يد القائد الشهير قطز قرب مدينة نابلس الفلسطينية، وانطلقوا بعدها لتحرير دمشق.

انتعشت الذاكرة التاريخية مرة أخرى على يد المماليك، بدليل توافر العلماء الأفذاذ والمجددين في عصرهم. ولم يكن المماليك مثقفين، بل كانوا جنوداً أشداء، ولكنهم أتوا في ساعةٍ حرجة واستطاعوا إنقاذ الدولة من حملة تخريبٍ فظيع. ولقد وقف العلماء في وجه استبدادهم وتصرّفهم في المال العام، فهذا الإمام النووي الذي عاش في عصر الملك ظاهر بيبرس يرفض فرض المكوس وفي القصور أموال فائضة تستعمل في الزينة. أما ابن تيمية فإنه فيما اشتهر به تزعمه للجهاد في وجه التتار، وذلك في وقعة شقحب أو معركة مرج الصفّر. والمقصود هنا أن ظلم المماليك وشدتهم المماليك وازنها الحضور العُلمائي، ولذا انتصر المجتمع في النهاية. فها هو الاستقرار الذي حصل في عهدهم نتج عنه صعود القاهرة في البنيان والفنون والعلوم والصنائع، وأعطى مصر شخصية جديدة استمرّت إلى عصرها الحديث. وهكذا ساهمت الفترة المملوكية في انتعاشة الوعي التاريخي المسلم بعد ضرباتٍ غادرة من قِبل الفرنجة تبعها اجتياحٌ مخرّب لأي شيء اسمه حضارة من جهة الشرق على يد المغول والتتار، وهم الذين أسلموا في نهاية المطاف.

وأيضاً فسح الجهد المملوكي الفرصة لمركز الخلافة وللوجود المسلم بشكل عام أن يرمّم وضعه الجيوسياسي في الجبهة الشرقية والشرقية الشمالية حيث تمّ صدّ ثم احتواء أكبر خطر داهمٍ على مناطق شاسعة. غير أن المماليك لم يغيروا المعادلة الاستراتيجية في الجبهة الأوربية، وكان العثمانيون هم الذين فعلوا ذلك.

2- العثمانيون والزلزال الجيوسياسي

بدأ التشكل العثماني في آسية الوسطى ثم الأناضول في القرن السابع الهجري، وأسس الدولة أول ملوكهم عثمان بن أرطغل في 699 هـ/1299 م، وكان همّها الأول الأقاليم الأوربية المسيحية إلى الغرب منها. وتحولت التحالفات غير المستقرة بين القبائل التركمانية في آسيا الوسطي إلى دولة يقودها عثمان، غير أنها كادت تبيد وتختفي زمن بيازيد الذي قضى على ثورات الأناضول وبدأ التوجه إلى العمق الأوربي وسيطر على بلاد الصرب، والذي فيما بعدُ هُزم أمام جيش تيمورلنك في معركة أنقرة 804 ه، إلى أن قامت الدولة من الرماد ثانية وتطورت إلى إمبراطورية.

واستطاعت القوة العثمانية المتنامية أن تُسقط القسطنطينية عاصمة بيزنطة. وبسقوط القسطنطينية عام 857 ه/ 1453م سقطت الامبراطورية البيزنطية وانتقلت وراثة بيزنطة إلى موسكو التي أصبحت روما الثالثة بالنسبة لأوربة وحامية الأرثوذكسية بالعالم. وهكذا غيّر الفتح العثماني المعادلة الجيوسياسية وقطع أوربة عن أوراسيا. وفيما بعد تابع العثمانيون التوسع في أوربة الشرقية، كما حاصرت قواتهم فيينا 935 ه/ 1529 م، وكادت تسقط لولا استعصاؤها بسبب البرد وقرار السلطان سليمان القانوني الانسحاب والعودة السنة القادمة، وإن لم تمهله المنية.

ولقد عاصرها وجود المماليك في مصر، أما تونس فكانت تحت الخلافة الحفصية والمغرب تحت السعديين الفلاليين. وكان قرار العثمانيين التوجه نحو المنطقة العربية مفرقاً تاريخياً ظهرت على إثره أكبر الدول المسلمة على الإطلاق.

تحوّل العثمانيون نحو البلاد العربية كان مفرقاً ثقافياً كما كان مفرقاً جيوسياسياً. وصحيح أنهم لم يستطيعوا جعل البحر المتوسط بحيرتهم، إلا أنهم أخذوا مواقع مهمة للغاية، سواء من ناحية شرق المتوسط أو الامتداد على شمال الساحل الإفريقي. وهذه الالتفاتة نحو بلاد العرب بادر فيها السلطان سليم الأول في اللحظة التي تصاعد فيها الخطر في الجنوب الشرقي في إيران التي شهدت صعود شاه إسماعيل الصفوي، ومن جهة أخرى شهدت الضعف في حكم المماليك في مصر. وفي سنة 444 ه/ 1516م هزم جيشُ السلطان سليم الأول قواتِ قانصوه غوري في معركة مرج دابق شمالي حلب، لينطلق بعدها للسيطرة على مدن حماة و حمص و دمشق ويتابع بعد معركة الريدانية إلى القاهرة فيدخلها الجيش، فينتهي حكم المماليك لمصر. ثم جرت السيطرة على منطقة الحجاز ثم العراق، ليصبح العثمانيون في مواجهة مباشرة مع الصفويين ليس من ناحية الأناضول فحسب، وإنما في جبهة عربية هي جنوبٌ للمركز العثماني.

التوجه نحو بلاد العرب كان مفرقاً ثقافياً لأن العثمانيين انفتحوا بشكل طبيعي على العمق الإسلامي من ناحية وعلى اللغة العربية من ناحية أخرى. غير أن علينا التنبيه إلى أن الربح العثماني هنا لا يساوي الخسارة التي حصلت من قبلُ في الأندلس. فالأندلس مثّلت الجناح الغربي للدولة الإسلامية وامتداداً للحضارة الإسلامية بأصالة لسان القرآن، ولا عجب أن برزت فيه قرطبة (بغداد الأندلس)، في حين غلب على الفتوحات العثمانية صفة توسّع دولةٍ أكثر من إقامة حضارة. ولكن لا مراء في أن القوة العثمانية هي التي حفظت بقاعاً واسعة من المساحة العربية، وبإعلانها الخلافة واعتمادها اللامركزية، كانت الشعوب العربية (وغيرها من الشعوب في الإمبراطورية) شركاء عمليين في الحكم. غير أن العثمانيين لم يتبنوا اللغة العربية لغة رسمية للدولة برغم أنها حُكماً كانت لغة العلم الشرعي. ونشير إلى هذا لأن العربية لسان القرآن هي شرط ضروري للحماية الثقافية.

ويُذكر أن الإنجاز العثماني متفّق في النواحي الإدارية حيث تميّزت بالمرونة والإبداع برغم استقرارها الدواويني البيروقراطي. كما طوّروا (نظام الملّة) الذي يرعى التعدّدية الدينية فيعطي الفرق المختلفة الحق في إدارة شؤونها الخاصة. كما اشتهر العثمانيون في التقنين، وهو مما يساهم في ترسيخ وجود الدول واستقرارها، ومن ذلك إصدار مجلة الأحكام العدلية التي كانت أول محاولة لتقنين الشريعة وفق المذهب الحنفي. ومثل هذا الجهد يساهم في ضبط الأمور من جهة، ويحاصر التجديد من جهة أخرى.

لقد أحدثت الفتوحات العثمانية انقلاباً استراتيجياً هاماً ورسمت خريطة جديدة محورها بلاد الشام ومركزها القدس. وشكلت الفتوحات تحدياً جيوسياسياً لأوربة بأكملها بما في ذلك الامتداد الآسيوي للفتوحات، بحيث يمكن اعتبار ما اصطلح عليه فيما بعد بالمسألة الشرقية والتي لم يكن اقتران هذا المصطلح بالدولة العثمانية إلا امتداداً لهذه المسألة الإسلامية كآخر مرحلة من مراحلها، إذ جاء بعدها الاستعمار والهيمنة السياسية الغربية.

كما لا يمكن أن ننسى أنه لولا الامتداد العثماني وهزيمته لشاه إسماعيل الصفوي في معركة جالديران 1514م شمال كردستان، لربما تمكّن الصفويون من كل المنطقة العربية ونجحوا في تأسيس تشيّعهم الفارسي في البلاد العربية. ونسوق هنا مقتطفاً مترجماً من رسالة السلطان سليم لشاه إسماعيل الصفوي موبّخاً ومهدّداً:

 

أوَ لقد نشرت راية الظلم في سبيل العدوان ، ولم تعد تقيم أوامر ونواهي الشريعة …

ولقد بِعت رداء الإسلام المشرف بيد من الطغيان،

وادعيت أن القرآن الكريم هو أساطير الأولين …

وإن الفتاوى الشرعية لجهابذة علماء الدين الكرام الذين يستندون في رأيهم إلى العقل والسنة على حد سواء، وإجماع أهل السنّة على الواجب القديم في استئصال وإبادة وطرد البدع الضآلة، مما يجب أن يكون هدف طموحنا السامي…

إسأل الشمس عن تألق سلطاني؛

واستنطق المريخ عن ألمعية سلاحي.

وبرغم أنك تضع تاجاً صوفياً، فإني أحمل سيفاً باتراً،

وإن ذاك الذي يحمل السيف سوف يمتلك التاج قريباً.

 

فأجاب الشاه إسماعيل الصفوي بشاعرية أيضاً:

 

إن الذي يمسك بعروس الحكم الدنيوي عن قرب،

سوف تقبّل شفتاه السيف الوهاج.

وقد علمتنا التجربة المريرة لعالم المحن،

أن ذاك الذي يقترب من آل علي يندحر دوماً.

 

ولقد أقلق التمكّن السياسي للعثمانيين القوى الغربية، وربما أيقظتها من سباتها وجعلتها تسارع إلى محاربة هذه الدولة بلا هوادة لمدة ثلاثة قرون كاملة، وكان أشدّها مرارة العدو الروسي وتمّ ذلك كله تحت عنوان المسألة الشرقية. وما نراه اليوم ليس إلا استمرارا لنسقٍ قديم في محاولة سلخ المسلمين عن هويتهم الحضارية وضرب وعيهم التاريخي الذي ما فتئ يستيقظ ويعيد تشكيل نفسه.

الفصل الثالث: فكرة النهضة وتجربة كارثية

سوف نعالج في هذ الفصل أمرين. أولاً، مصطلح النهضة مصطلح شائع اتخذ معانٍ متعددة عبر العصور، وتأرجح بين حدّين، حدّ محاولة التقليد الحرفي للتجربة الأوربية وحّد مجرد الرغبة بتغيير الواقع في الأوجه التقنية. وكتطبيقٍ يشرح نتائج اختلاط الفهم في مسألة النهضة، نفصّل في تجربة محمد علي في مصر وما آلت إليه.

أولاً: إشكالية مفهوم النهضة

إن العنوان يتطلّب منا الإجابة عن سؤالين، ما هي النهضة، وما هي اللحظة التاريخية؟ فبالنهضة نعني أن تحدّياً تاريخياً لمجتمعٍ ما ينبغي مواجهته وتجاوزه. وأما اللحظة التاريخية فتعني ما هو وضع المجتمع المطلوب في سياق تاريخه. وعليه فإن على مفكري النهضة أن يقوموا بمهمتين: (1) تحديد نوع التحدّي الذي يواجهه المجتمع ووجهته؛ (2) وما هي خصائص المجتمع في تلك اللحظة من سياق تاريخه.

أما نوع التحدي الذي واجهته الأمة المسلمة منذ القرن التاسع عشر فهو تحدّي العلم التجريبي الحديث والصناعة الحديثة وعقلانية التنظيم المقترنة بهما، أي الإدارة الحديثة. أما وجهة التحدي فهي أن الثورة العلمية والتقنية الأوربية أحدثت تحولاتٍ اجتماعية عميقة للمجتمعات على الصعد الاقتصادية والسياسية والقانونية. وقد نشرت الرأسمالية والاستعمار بذور تلك التحديات الاجتماعية الفكرية، وتابعت في ذلك الاشتراكية.

وفي الوجه المقابل نحتاج إلى تحليل خصائص مجتمعنا في تلك اللحظة التاريخية. ويمكننا أن نشخصه بشكل عام بأنه عانى غياب الوعي التاريخي وجمود المتوارث التاريخي نتيجة توقف الاجتهاد العقلي (الفقهي منه وغير الفقهي) وسيادة التقليد بحيث أصبح المجتمع عاجزاً عن ردّ هذا التحدي.

ولم يكن ممكناً والحال هكذا الردّ على التحدّي الأوربي الحديث إلا بالقيام بحركة (إحياء حضاري) لمكونات الهوية الحضارية، أي للدين واللغة والتاريخ. أي كان علينا في تلك اللحظة التاريخية تأسيس فهمٍ جديدٍ نستعيد فيه كنه نسقنا التاريخي مؤطراً ضمن رؤيتنا الحضارية الشاملة. أي أن سؤال النهضة كان يعني: أن تحدياً لمجتمعنا تسبّب بأزمة حقيقية ينبغي مواجهتها وتجاوزها بـولادة جديدة للمجتمع بخصائص ميلاده الأول، ولا يتم ذلك إلا بالعودة إلى الأصول مباشرة عودة لا من أجل استدعاء صورة تاريخية ما للمجتمع كما كان تاريخياً، بل لإعادة تأسيس فهم جديد يمكّن من البناء المستأنف، وهذا هو معنى (التجديد).

ونريد هنا أن نلفت النظر إلى أن المسيرة الأوربية التي أنتجت الحداثة التي فيها انتقام من الماضي وكُره له، مشت من وجه آخر مع محاولة استرداد للماضي تمثّل بالتالي:

أولاً: نداء النهضة الأوربية للعودة إلى اليونان بدءاً من حركة الإحياء التي قامت بها حركة هيومانزم عودة مباشرة إلى الأصول اليونانية وليس من خلال شروح ابن رشد لأرسطو. ومن هنا مثّل اكتشاف هذه الأصول عقب سقوط القسطنطينية عام 1354م حدثاً فاصلاً في التاريخ الثقافي الغربي كله.

ثانياً: حتى بعد النهضة الأوربية كان مبدأ العودة إلى الأصول في مواجهة أي أزمة حقيقيةً متبعة، فمثلاً حينما تحدث هُسرَل عن أزمة العلوم الأوربية الحديثة لم يجد سبيلاً للخروج منها إلا بالعودة إلى ديكارت أي إلى أصول الفلسفة الحديثة، وهذا هو مغزى كتابه (تأملات ديكارتية) والعودة ليست استدعاءً تاريخياً لفلسفة الأصول، فلا ديكارت استدعى مذهباً فلسفياً يونانياً ولا هُسرل استدعى مذهب ديكارت وإلا ما ولدت (الفنومينلوجيا).

ثالثاً: اعتبار أن الرومان حجبوا حقيقة المفاهيم اليونانية. وحتى حين العودة إلى الأصول اليونانية، عاد الغرب إلى فلاسفة ما قبل سقراط متجاوزاً أفلاطون. وقد اعتبر كارل لوفت في هذا السياق أن المسيحية أساءت للفلسفة اليونانية بإدخالها مفاهيم لم يعرفها اليونان، مثل الإيمان والخلق من عَدَمٍ والإلحاد، فحجبت بذلك مفاهيم المعرفة والظن والشك.

وأردنا بهذه الملاحظات الثلاث التنبيه إلى معنى العودة إلى الأصول، ومن هنا تسقط دعوى القطع مع الأصول كشرط للنهضة إضافة إلى تبنّي أصول الآخر، فالأصول لا تستبدل ولا تُتداول.

وعودة إلى قصة المجتمعات المسلمة، نقول إنه لا بدّ من إحياء الذاكرة التاريخية المنهكة واستعادة الوعي التاريخي الغائب لتحريك الفعل المتوقف كي يسترد المجتمع فعّاليته في مواجهة التحدي. بعبارة أخرى، نحتاج إلى توفير الشروط النفسية والاجتماعية للنهضة إلى جانب الشروط الموضوعية، والشروط الاجتماعية النفسية هي شروط موضوعية، ومن الخطأ اختزال الشروط الموضوعية في الأبعاد المادية. فالتجديد كإحياء حضاري هو شرط النهضة الأول الذي يشكل الرؤية التي توجه (التحديث) وتحدّد مساراته.

ثانياً: تجربة محمد علي للنهضة

كانت تجربة محمد علي للنهضة أول تجربة في ذاك المضمار، ولقد اخترنا مصطلح نهضة محمد علي وليس مصطلح النهضة المصرية في عهد محمد علي، لأن النهضة الحقيقية هي (نهضة مجتمع) بينما تجربة محمد علي لم تكن سوى محاولة (نهضة سلطة). وهذه السلطة كانت سلطة عسكرية، لذلك اتصفت النهضة التي واكبتها بالقسرية منذ اللحظة الأولى، واستمرت هذه الصفة معها طوال فترة حكمه الاستبدادي.

والسؤال هو، هل كان المجتمع المصري على أبواب نهضة حقاً؟ لقد كانت روح الشعب المصري تختزن طاقة للتغيير قوية جداً تجلّت في التعامل مع مشكلة الاستبداد المملوكي. ونذكّر هنا بأن حقبة المماليك هي التي آذنت بعودة الاستقرار بعد هزيمة القوى الخارجية من بقايا الصليبيين والمغول في عين جالوت (658 هـ/1260 م). ولكن الحكم المملوكي هو النظام الذي تميّز بالاستبداد، وربما بحقٍ هو أول استبداد عميقٍ في تاريخنا المسلم، وذلك بسبب الحالة المجتمعية والخمول الفكري بشكل عام.

إلا أن علينا دور ابن تيمية في الدعوة إلى مواجهة المغول ومشاركته في معركة في شقحب أو مرج الصفر جنوبي دمشق بعد أن شجع الطرف المصري على المشاركة. إن هذا الدور كان استثناءً يؤكد ما آلت إليه الأمور. والمفارقة أن الاستقرار الذي حصل بعد سيطرة المماليك أسهم فيما بعد في ازدهار القاهرة ومصر.

ولقد كانت هناك، من جهة أخرى، عوامل إحياء حضاري في بداياتها الأولى، وقد تجلّت في إحياء علوم اللغة والدين والتي تمثلت بجهودٍ ثلاثةٍ متميزة: (1) الصنعاني في إحياء علوم الفقه؛ و(2) الزبيدي في إحياء علوم اللغة؛ و(3) الجبرتي الكبير بالالتفات إلى الجانب العملي في حقل التقنية.

وفيما بعدُ من قرون، فقد مثّلت روح حركة المصريين رغبة في التغيير مما آل إليه وضع المماليك من تحكّم لا مبرّر له بعد انقضاء ردّ الصليبيين وحصول الأمن، وشكّل وجود محمد علي فرصة، وكانت زعامة هذه الثورة النخبة الأزهرية بقيادة عمر مكرم.

وزادت روح الشعب المصري اشتعالاً مع قدوم الاحتلال الفرنسي حيث بلغت الثورة مداها، وكان كتاب: (ودخلت الخيل الأزهر) أحسن تصوير لذلك. وبعد هزيمة نابليون في عكا وأمام الأسطول البريطاني في معركة أبي قير غادر الفرنسيون مصر 1803 م بعد احتلال دام ثلاث سنوات (1801-1803).

وكانت الخطيئة الكبرى للنخبة المصرية بزعامة عمر مكرم من النخبة الأزهرية – وهي النخبة التي كانت الممثل الصادق لثورة الشعب المصري وطموحه –أن نصّبت محمد علي حاكماً لمصر. ولا غرابة أن قام العسكريُّ محمد علي فيما بعدُ بإقصاء هذه النخبة واضطهادها واستبدالها بنخبة أجنبية غريبة عن مصر والمصريين، شكّلت له بمثابة بطانة لحكمه المستبد. وبذلك تمّ القضاء على روح الشعب المصري وبدأت مرحلة إذلاله وإخضاعه لحاكم عسكري مستبد من جهة ويخذل ثقافة أمته من جهة أخرى.

لقد اندفع محمد علي لإجراء نهضة دون رؤية ودون إحياء حضاري ودون أن تكون استجابة لروح الثورة التي كانت مشتعلة في قلوب المصريين، وبالتالي فقد اقتصرت هذه النهضة على الأشياء لا الأفكار، وتحوّلت من نهضة ناقصة إلى تحديث بإشراف أجنبي، وسرعان ما تحوّلت على يد أبنائه إلى عملية تغريب.

ويمكننا فهم محمد علي كجزء من ظاهرة “الجماعات الوظيفية”. فقد قدم محمد علي مصر كجزء من الألبان/الأرناؤوط كجماعة وظيفية مقاتلة لا تعرف المجتمع ولا لغته ولا تقاليده. فقام باستثمار إمكانات مصر وسرّع في عمليات التحديث والعلمنة. ومثله كمال أتاتورك الذي أتى وكثير من رفاقه في حزب تركيا الفتاة من سالونيكا التي كانت تعدّ عاصمة اليهود الدونمة. المهم هنا أن مثل هذه الشخصيات غير الملتحمة بالمجتمع ولا تشكّل جزءاً عضوياً منه تقوم بدورٍ خارجي متعالٍ عن المجتمع يتخيّلون أنه (موضوعي).

ثالثاً: بين التحديث والتغريب

قبل الحديث عن نهضة محمد علينا ومن أجل تبسيط فهم هذه الفترة المعقّدة أن نفرّق بين مصطلحي (التحديث modernization) و(الحداثة modernity). سوف نفترض أن الأول يتّصل بعالم الأشياء والثاني يتصل بعالم الأفكار، أي هو تفريق بين (الجدّة) و(التجديد). ولا يخفى أن هذا الفصل بين هذين العالمين فصل اصطناعي، فكل يتأثر بالآخر، ولكن من باب أنه لا نتوقّع من السياسي-العسكري نضجاً فكرياً، دعنا نقبل هذا التفريق من أجل تقييم الخطوات العملية على المستوى القريب فحسب. ووفق ذلك سنقسم نهضة محمد علي إلى حقبتين: الأولى من 1805 إلى 1848، والثانية من 1848 إلى 1879 (من وفاة الخديوي ابراهيم إلى تنحي الخديوي اسماعيل).

المرحلة الأولى:

وهي التي امتدت 43 سنة تمثّل محاولة نهضة قام بها محمد علي من خلال التركيز على العلم والصناعة والإدارة. لكنها كانت ناقصة لأنها لم تكن تمتلك رؤية نهضوية فاقتصرت على التحديث بمعناه المادي المباشر، وكأن المترافقات الاجتماعية والإدارية لا علاقة لها بالتحديث، ناهيك أنّ هذه الجهود كانت تحت وصاية فرنسية على كل الجوانب.

ونورد هنا بعض خصائص نهضة محمد علي بإيجاز:

  1. لقد تصدت لتحدٍ حقيقي متمثّل بالعلم والصناعة والإدارة الأوربيتين.
  2. بدأت بحركة ترجمة للموضوعات المتصلة بهذا التحدي حيث أخذت وجهة نقل العلوم والتقنيات وأسس الإدارة الحديثة.
  3. اهتمت بالجانب العملي التطبيقي استجابةً لحاجات المجتمع آنذاك، فأصبحت مصر خلال 35 سنة فقط قوة سياسية يُحسب حسابها.
  4. اهتمت بالتعليم فأنشأت المدارس الابتدائية والثانوية وبدأت سياسة إرسال البعثات خاصة إلى فرنسا. وكانت في الغالب لدراسة الطب والزراعة والكيمياء والهندسة والطباعة، بالإضافة إلى التخصصات العسكرية وهي الهمّ الأول لمحمد علي.

ونشير هنا إلى أن هذا النجاح –ولو كان ظاهرياً ومحكوماً عليه بالإخفاق في النهاية– قد صادفته ظروفٌ أو حقّق شروطاً موضوعية ساعدت على الإنجاز. فلقد ساعد على النجاح المبدئي لتجربة محمد علي أمران: واحد ثقافي وآخر هيكلي.

العامل الأول هو أن وحدة المجتمع كانت ما زالت قائمة، ومرجعيته الثقافية والسياسية واضحة. ونعني بالمرجعية الثقافية الالتزام بنظام الحقوق للشريعة الإسلامية، ونعني بالسياسية الولاء السياسي للسلطة الإسلامية الحاكمة، أي مفهوم الخلافة الإسلامية. ومن هنا أمكن القول إن محمد علي كان عثمانياً يتابع محاولات الإصلاح لسلاطين بني عثمان الذين سبقوه في دار الخلافة نفسها، مثل أحمد الأول (1703 ــ 1730) ومحمد الأول (1730 ــ 1750) ومصطفى الثالث (1757ــ 1774)، فهؤلاء المطالبون بالإصلاح كانوا وراء صدور فرمان الكلخانة (قصر الزهور) سنة 1839.

أما العامل الثاني فهو اعتلاء محمد علي الحكم في فترة فراغ أو انشغال استعماري، حيث استقلّت حكومة محمد علي بالسلطة، فلم تكن هناك جهة أجنبية مباشرة سواء الفرنسية التي رحلت عام 1801 بعد ثلاث سنوات من قدومها، أم السلطة البريطانية التي لم تأتِ إلا عام 1882. صحيح أن الترجمة والاقتباس والخبرة جاءت من مصادر فرنسية، وصحيح أيضاً أن رجالاً فرنسيين أسهموا على نحوٍ مباشرٍ في التحولات العلمية والتقنية والعسكرية خاصة، إلا أن ذلك لم يصل إلى درجة الحكم الاستعماري المباشر.

المرحلة الثانية:

وهي التي امتدت 31 سنة هي مرحلة تآكل ما تمّ بناؤه على يد خلفاء محمد علي وتحويل المجرى من (تحديث مادي) إلى (تغريب ثقافي). فبعد ثلاث سنواتٍ فقط من تنحّي اسماعيل جاء الاحتلال البريطاني عام 1882، فبدأت ولادة نخبة جديدة هي (النخبة الاستشراقية)، ومعها بدأ التحوّل من المرجعية الإسلامية إلى المرجعية الغربية. ومرحلة تآكل النهضة هذه شهدت تحول إرسال البعثات من حقول العلوم والتكنولوجيا إلى حقول العلوم الإنسانية والفنون والآداب الغربية. ووازى ذلك داخلياً فتحُ أبواب مصر للمدارس الأجنبية والتبشيرية، وصل حدّ تقديم مساعدات لها، مما أحدث تحولاً حقيقياً في الثقافة السائدة. ومرة أخرى نرى هنا أثر ضحالة المنطق العملي البحت، لأنه وفق هذا المنطق لا مانع من مساعدتها ما دامت تقوم بالتحديث المادي، وكأن ليس لذلك أثر على الثقافة.

ومن الناحية الاقتصادية، قام محمد علي بإغراق مصر بالديون من أجل جعلها “قطعة من أوربة”. وأخيراً، فإن الميزة التي فُسحت للمرحلة الأولى من الاستقلالية السياسية غابت، حيث تمّ القبول بالنفوذ السياسي الأجنبي المباشر بدءاً من المحاكم المختلطة إلى تشكيل وزارات يشارك فيها الأجانب في تولّي المناصب الوزارية. وهكذا حين جاء الحكم البريطاني فيما بعدُ وجد كل شيء مهيأً لتنفيذ أغراضه.

تقييم تجربة محمد علي:

تجربة محمد علي أُتيت من مواضع ضعفها وضحالتها من ناحية رؤيتها النهضوية التي اقتصرت على التقليد من أجل القوة، فجعلت منها نهضةً ناقصة مؤقتة فحسب:

  • اهتمت التجربة بتجديد الأشياء لا الأفكار، أي دون رؤية تضع الأمور في نصابها، فلا تعتني بالمواءمة بين الخارجي والمحلي وبين المستورد والسائد ولا تنتبه إلى قضية الأنماط الثقافية المختلفة. وكانت هذه الرؤية تتطلب منه عدم استبعاد النخبة الأزهرية بزعامة عمر مكرم والتي كانت على أبواب إحياء علوم الدين واللغة، وهما عنصر الهوية الحضارية للمجتمع العربي المسلم، لكن محمد علي لم يكن عربي الثقافة ولم يكن رجلاً تهمّه الأفكار، بل كان همّه السلطة فحسب.
  • باستبداده السياسي، أطفأ محمد علي شعلة روح الشعب المصري التي تفجرت ضد المظالم المتراكمة لورثة المماليك، حيث كانت أسرة محمد علي تنظر إلى مصر كمُلكٍ خاص له. إن غياب الحرية إيذانٌ بتدمير أي منجز حضاري، وشرّ أنواع الاستبداد هو الاستبداد العسكري كما كان استبداد محمد علي. وتتابعت روح الثورة في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
  • إن اهتمام محمد علي بالجانب العملي جعله يهتم بـ(تطبيق) نتائج البحث العلمي لا (إيجاد) بيئة محلية لإنتاج العلم. لذلك اقتصر العمل على “نقل العلوم والتكنولوجيا” لا بداية توطينهما. بعبارة أخرى، اقتصر العمل أن نكون (مستهلكين) لنتائج البحث العلمي وتطبيقاته في الصناعة (لغيرنا)، لا منتجين لبحث علمي بلُغتِنا وعقول أبنائنا، فمن بين جميع المؤسسات التي كوّنها محمد علي لم تكن هناك مؤسسة واحدة للبحث العلمي. من هنا ولدت التبعية العلمية والتبعية التكنولوجية التي مازالت مستمرة إلى الآن.
  • إن نظام التعليم العلمي الحديث الذي بدأ مع هذه التجربة كان ينبغي تطبيقه في نظام التعليم الأزهري أيضاً لا أن يسير موازياً له، مما أوجد انفصاماً وتعارضاً بين (المدرسة) و(الكتّاب)، وأدى ذلك فيما بعد إلى انشطار التعليم إلى حكومي وأزهري. إن ازدواجية التعليم هذه أدّت على المدى البعيد إلى وجود تيارين متعارضين في المجتمع. ولقد أسهم (دنلوب) فيما بعد في تعميقه في ظل الاحتلال البريطاني، مما مكن الحكم الاستعماري من جعل المجتمع المصري مجتمعين لكل منهما نخبته. وأتاح ذلك للمحتل البريطاني تبنّي النخبة التي تصلح له وسيطاً بينه وبين المجتمع وهي (النخبة الاستشراقية).
  • مكّن حكم محمد علي صعود النفوذ اليهودي في المجتمع المصري نتيجة فتح باب هجرة اليهود إليها. وكان عدد اليهود في عهده لا يتجاوز 7.000 آلاف وعند قدوم الاحتلال البريطاني بلغ 25.000 ألفاً، مما كان له أبلغ الأثر في نمو النفوذ الصهيوني فيما بعد([iii]). وقام محمد علي بهذا رغم أنه كان يعلم بدعوة نابليون يهود آسيا وأفريقيا للعودة إلى فلسطين لإعادة (أورشليم القديمة). والتقى محمد علي شخصياً مع المستشرق اليهودي سلومون مونك سنة 1840 ضمن الوفد اليهودي الذي جاء إليه (إلى جانب السير موسى مونيفيوري وأدولف كارمه)، وتحدّث معه بشأن كيانٍ ممكنٍ لليهود من نوع ما. وفي أثناء هذه الزيارة قام مونك بالخطوة التأسيسية لمدارس يهودية عصرية بالإسكندرية.

لقد جعلت نهضة محمد علي من مصر قوة سياسية وعسكرية تجلّت في حروبه في الجزيرة العربية وفي بلاد الشام والعراق والسودان واليونان. ولكن مع غياب الرؤية الناضحة، انتقل دور محمد عليّ من رديف مكمّلٍ للمركز (العثمانيون) إلى المنافس ثم العدو. وإذا كانت بريطانية حريصة على الوقوف في الصفّ العثماني ضدّ محمد علي، فلأنها كانت تحاذر وقوع مصر في يد فرنسا، وكانت تركّز نظرها على الصيد الأكبر (الخلافة العثمانية نفسها) بعدما كثُرت الخروقات فيها، والتي كانت بحكم المنتهية وجرى تأجيل الإعلان عن موت الرجل المريض حتى تعود النخب التي ابتُعثت للدراسة في جامعات الغرب – وخاصة فرنسا– لتمسك بزمام الجانب الثقافي لأنه هو الذي يضمن استمرار الارتهان السياسي والتبعية الطوعية.

ويمكننا القول إن الغرب كان له هدفان استراتيجيان: (1) ألا تقوم نهضة حقيقية في مصر لئلا تصبح قوة سياسية حقيقية جيوبولوتيكية ذات تأثير مباشر في المجال المحيط بها، (2) ألا تقوم وحدة بين مصر وبلاد الشام وخاصة جنوبها فلسطين لئلا تقوم وحدة عربية.

ومن هذا المنظور يمكننا فهم اجتماع الأساطيل الغربية كلها – وعلى رأسها الأسطول البريطاني– لتحطيم قوة محمد علي العسكرية في معركة نافارين، ومن أجل ذلك سعت بريطانيا بكل ما تملك من نفوذ لإخراج محمد علي من بلاد الشام، فتمكّنت من ذلك رغم الصعوبات التي واجهتها معاهدة لندن 1840م وملحقاتها، وخلاصتها عودة محمد علي من بلاد الشام مقابل إعطائه حكم مصر حكماً وراثياً. ومن الواضح أنه منذ ذلك الوقت كان لدى الغرب هذا الهدف الاستراتيجي بفصل مصر عن بلاد الشام، بل بفصل المشرق العربي عن المغرب العربي، كي يصار إلى قطع الاستمرار الجغرافي للبلاد العربية وبإقامة كيان يهودي في فلسطين، ولكي لا يتكرر السيناريو الأيوبي مرة أخرى. وكم يشبه البارحة اليوم، إذ يكاد ما ذكرناه ينطبق في منطقه على سلوك الدول الغربية مع حركة التحرر العربي، وبخاصة فيما يتعلّق بسورية ومصر.

جداول ملحقة

خط سير الحروب الصليبية

1 492ه 1098م سقوط الرها
2 492ه 1098م سقوط انطاكية
3 493ه 1099م سقوط القدس
4 494ه 1101م سقوط حيفا وأرسوف وقيسارية
5 495ه 1102م سقوط طرسوس
6 497ه 1104م سقوط عكا
7 502ه 1108م سقوط طرابلس وجبلة
8 503ه 1109م سقوط بيروت وجبيل وبانياس
9 504ه 1110م سقوط صيدا
10 548ه 1153م سقوط عسقلان
11 587ه 1191م سقوط عكا ثانية

خط سير استعادة المسلمين للأراضي الإسلامية

1 539ه 1144م استعادة عماد الدين زنكي لإمارة الرها
2 583ه 1187م استعادة صلاح الدين لبيت المقدس
3 667ه 1268م استعادة السلطان الظاهر بيبرس مملكة بيروت
4 685ه 1287م استعادة السلطان منصور قلاوون إمارة انطاكية بما فيها اللاذقية
5 688ه 1289م استعادة السلطان منصور قلاوون إمارة طرابلس
6 690ه 1291م استعادة الأشرف قلاوون ابن المنصور مدينة عكا وبذلك انتهى الوجود الصليبي

هوامش


[i] تلتها سبع حملات حتى عام 1250م وهي حملة لويس التاسع على تونس أي بعد 164سنة من بدء الحروب الصليبية وقد استمر الوجود الصليبي حتى عام 1295م

[ii] راجع د/حسين مؤنس، أطلس تاريخ الإسلام

[iii] راجع هذا كتاب محمد محمد غنيم وأحمد أبو كف: اليهود والحركة الصهيونية في مصر من 1897-1947، كتاب الهلال شهر يوليو 1969