الديني والسياسي في فكر سعيد حوى

218

يعد موضوع العلاقة بين الديني والسياسي من المواضيع المثيرة للجدل والمفضلة لدى التيارات العلمانية والإسلامية المؤدلجة، وعادة ما يكون الموقف فيها استقطابياً، بين من يقول بالوصل الكامل وآخر يدعو إلى الفصل، ولكن هل ينتهي أفق النقاش عند هذا الحد؟

كثيراً ما يدور النقاش في هذا الموضوع حول الأبعاد الفكرية والأيديولوجية للعلاقة بين الديني والسياسي، ولكن ماذا عن الأبعاد المؤسسية والعملية، والتي تعني الشأن الواقعي أكثر من الجدل الفكري. فهذا المستوى من النقاش لا يتضمن بالضرورة حزازيات أيديولوجية، فهو يدور في فلك النقاش حول الخيارات التنظيمية لمسارات العمل والتمييز بين مجالات الحركة.

ولكن هل هناك من قدم إضافة في مسألة الأبعاد المؤسسية لهذا الموضوع كي تتضح الصورة أكثر؟ في هذا المقال سنناقش أحد المساهمين في هذا الموضوع، وهو الشيخ سعيد حوى.

يبدو الحديث عن العلاقة بين الديني والسياسي لدى سعيد حوى وكأنه موضوعٌ مفروغٌ منه وواضح لا يحتاج لكثير من التفصيل، ولا يفضي إلى أي جديد؛ خاصة وأننا نتحدث عن مفكر يُعد من أعلام الحركة الإسلامية في المجالين السياسي والدعوي، ولا يبدو أنه يتبنى قولاً يخرج عن أفكار الحركة الإسلامية في الوصل بين الديني والسياسي.

ولكن من أطلع على تراث المفكر الإسلامي سعيد حوى رحمه الله، سيجد تصوراً مهماً حول العلاقة بين الديني والسياسي من الناحية المؤسسية، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنه تصورٌ متقدم وقابل للتطبيق، وأكثر تنظيماً للعلاقة بين الديني والسياسي.

ولا تنبع تصورات سعيد حوى عن معرفته الواسعة فحسب، بل من تجربته العملية في المجالين الدعوي والتنظيمي، والتي أدرك فيها ثغرات الحركة الإسلامية وقدم مجموعة من الحلول لسد هذه الثغرات.

العلاقة بين الديني والسياسي: مشروع الربانية

يعتبر مشروع الربانية من أبرز المشاريع التي تناولها سعيد حوى في أعماله، خاصة في رسالته المعنونة بإحياء البرانية، وعبَّر في هذا المشروع عن شكل من التنظيم المؤسسي للعلاقة بين الديني والسياسي.

تمثل حركة الربانية تجمعاً لجهود الدعاة والمهتمين بالشأن الدعوي من كافة الأطياف والأماكن في المجتمع، يجتمعون ليشكلوا هيكلاً اجتماعياً يوجه العمل ويؤسس حالة من التعاون والتكافل بين الأفراد، حيث ينشأ هذا التجمع من المساجد والمجالس العلمية وحلقات الذكر، والجمعيات الإسلامية الفاعلة في المجتمع، بالإضافة للحركة السياسية.

واجب الربانية هو إقامة العلم وتقوية الإيمان وبناء أجواء مساعدة للإيمان والالتزام والعمل الدعوي والتعليمي الذي يهدف لنشر الأفكار.

ولكن النقطة الجوهرية هنا هي الطبيعة المؤسسية لفكرة الربانية، فـ”الربانية” تمثل جهازاً أو هيكلاً واسعاً يضم مجموعة واسعة ومتنوعة من الجمعيات الإسلامية، من دون أن تكون منتمية لها بالضرورة ومن دون أن تكون خصمةً لها، فهي مجرد هيكل توجيهي في المجال الدعوي والإرشادي ضمن رؤية إسلامية شاملة تهدف لردم الصراعات والنزاعات فيما بينها وتوحيد جهودها.

بمعنى آخر، تقف الربانية في موقع أعلى من الجمعيات والحركات، فهي أشبه بالمظلة الجامعة لها.

وما كان يؤكد عليه حوى أن الربانية ليست حركة سياسية، فهي لا تبتعد عن الخوض في الصراع الإسلامي الداخلي فحسب، بل تمتنع عن معارضة الدولة أيضاً، فالربانية هي القيادة الدينية الروحية للتنظيمات الإسلامية السياسية والاجتماعية.

لذلك تقع الربانية فوق الحركة الإسلامية السياسية أيضاً، فالحركة السياسية هنا معنية بالشأن السياسي تحديداً، والتحرك ضمن الفضاءات السياسية الممكنة من دون الانخراط في العنف، بينما يُعد الشأن الدعوي/ الديني هو من مهمة الربانية، فهي المسؤولة عن تثقيف وتربية الأفراد، بما فيهم أبناء الحركة الإسلامية وغيرها، ولكن الربانية لا تنخرط بالضرورة في الصراع السياسي الذي تمر به الحركة الإسلامية.

يكون هدف الربانية والمؤسسات التي تحتضنها هو التوسع والانتشار عبر التعليم والإعلام والعمل الاجتماعي، لتتمكن من نشر الدعوة والتربية والعلم بأفضل شكل ممكن.

كان يكتب حوى وهو يتأمل في واقع الدولة والمجتمع في سورية، مع هيمنة الدولة في مجالات السياسة والمجتمع والتعليم، لذا كان يفكر في سبل التحرك ضمن هكذا نظام استبدادي، وكان جهده المتعلق بالربانية هو فتح هذه السبل للحركة الاجتماعية والدعوية عبر التوسع أفقياً في المجتمع؛ في المساجد وحلقات التدريس، وبالتالي فهو ينظر للتربية الإسلامية داخل المساجد وهذه الحلقات ضمن نظرة أوسع، نظرة تأخذ بالحسبان أسئلة العمل والحركة ضمن سياق استبدادي.

كان حوى يعتبر أن الطريقة النقشبندية (التي كان ينتمي لها) هي القادرة على أداء هذا الدور لتكون مثالاً للحركة الربانية، وتحديداً في تقديم التوجيه الديني والروحي لجماعة الإخوان، ويبدو أن الشيخ سعيد حوى أراد أن يؤدي هذا الدور بنفسه في علاقته مع الجماعة والجهد الدعوي الذي بذله معها.

ويبدو أيضاً أن الشيخ كان يشعر باستمرار بغياب الروحانيات والتزكية عن التربية السائدة في الجماعة، حيث تغلب العقلية الأيديولوجية الأميل للصراع والانخراط في السياسة، وتسييس كل شيء من دور الفرد إلى نمط الحياة، وكل ذلك على حساب التربية الأخلاقية الدينية والروحية التي كان يدعو لها سعيد حوى.

وفي الحقيقة لا تزال هذه المشكلة موجودة عند أبناء الجماعة، وقد حاول البعض التعامل مع هذا الإشكال خاصة قبل فترة الربيع العربي وقبل الضربات التي تلقتها الجماعة في مختلف بلدان الربيع العربي.

كان يهدف حوى من مشروع الربانية إلى نشر الدعوة في المجتمع في ظل هيمنة الأنظمة العلمانية آنذاك والتعليم العلماني والاستقطاب السياسي بين الإسلاميين والبعثيين وتسلط الأنظمة العسكرية.

كما كان يهدف إلى ردم الفجوة القائمة بين الجمعيات الإسلامية المختلفة الفاعلة في المجتمع، والتي كانت تضمر موقفاً سلبياً من الحركة الإسلامية.

مشروع الربانية اليوم

بعد هذا العرض السريع لفكرة الربانية عند سعيد حوى، والتي بينت موقفه من العلاقة بين الديني والسياسي، سنشير إلى ثلاث فوائد يمكن أن تُسهم في الواقع العملي وفي النقاشات الدائرة اليوم:

1-      التنظيم المؤسسي للعلاقة بين الديني والسياسي

إن الطرح الذي قدمه حوى هنا يرتبط بفكرة التنظيم المؤسسي للعلاقة بين الديني/ الدعوي والسياسي، فهو لا يتبنى دعوى علمانية بطبيعة الحال، وإنما يفتح مجالاً للتفكير في الآفاق العملية للعلاقة بين الحركة الإسلامية السياسية، والعمل الدعوي الأوسع والأشمل.

وهذا التمييز أو التنظيم مهم على صعد عدة؛ أهمها الأضرار التي يُحدثها الخلط بين العمل الدعوي والسياسي، والتي تأثرت به سلباً الجماعات الإسلامية في العالم العربي (تجدر الإشارة إلى أن الحركة الإسلامية في تونس والمغرب قد تجاوزت هذا الإشكال بطريقة ما، مع تميز الحالة المغربية عن التونسية طبعاً).

والأهمية الثانية لهذا التمييز هو: إفراد مساحة فاعلية مستقلة للعمل الدعوي والاجتماعي الذي تشرف عليه الجماعة الدعوية، من دون إثقالها بالأعباء السياسية المناطة بالحركة السياسية، ومن دون إقحام بدائرة الهوية التنظيمية الضيقة التي تعيق العمل الاجتماعي، وهو من السمات السلبية لدى جماعة الإخوان التي غلبت عليها العقلية التنظيمية.

2-      تطوير النقاش في العلاقة بين الديني والسياسي

إن هذا الطرح يتجاوز الجدل العلماني الإسلامي لسؤال علاقة الدين بالسياسة والحياة الاجتماعية، فهو طرح لا يقوم على دعوة أيديولوجية نظرية، بل هي دعوة تنظيمية مؤسسية، أي هي دعوة لشكل من التقسيم أو التمييز المؤسسي بين مساحات عمل الديني ومساحات عمل السياسي، وعدم اختلاط المساحتين في دائرة واحدة ضيقة، وهو ما يضر كلا المساحتين.

وبطبيعة الحال هذا لا ينفي أن تكون الدوافع الدينية حاضرة في الحركة السياسية، فهذا ليس له علاقة بالموضوع، وإنما مجرد الفصل والتمييز المؤسسي.

3-      استعادة الروحانيات والتزكية بين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين

هذه مساحة مهمة للعمل الدعوي والتربوي، خاصة فيما يتعلق بالروحانيات والتزكية، التي تغيب عن المشهد وسط الجدل السياسي، والتي تحدث العادة نوعاً من القطيعة بين الفاعلين الدعويين والسياسيين، أو بين الجماعات الصوفية والسياسية (وهي قطيعة لها عوامل سياسية ترتبط بمسألة الاستبداد أيضاً).

وهي مسألة عبر عنها حوى في ضرورة وجود حركة الربانية التي توجه الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين عن بعد من دون الانخراط المباشر في المشهد السياسي.

ولكن في النهاية لا بد من ذكر أن تراث حوى لم يتم استثماره بالشكل اللازم والمطلوب، وأن إعادة العمل عليه وتكييفه مع الواقع المعاصر قد أصبحت عملية أكثر صعوبة، خاصة مع الحال الذي آلت إليه الحركة الإسلامية والتي وصلت إلى حافة الاندثار في دول المشرق العربي، بين ملاحقة أمنية وتفكك وانقسام داخلي وغياب للرؤية المستقبلية.