أربعة آراء في العولمة

165

اجتمع أربعة رهط يتناقشون في مسألة العولمة، وانقسم هذا المجلس تلقائياً إلى أربعة أقسام؛ ناظر في التاريخ وناظر في الفقه وناظر في السياسة الحركة وطالب علم يتصيد الحكمة، وقام كلّ يدلي بحجته ويتحفظ على رأي الفريق الآخر، وما يلي بيان رأيهم وملخص حججهم.

قال الأول

العولمة والتنمية مسائل مهمة، وما هي إلا تمظهر لمنطلقات فكرية وأسس مفهوماتية، وإنه لمن ضياع الوقت أن نناقش الفروع والأعراض، بل يجب علينا أن نغوص في الأعماق والخلفيات.

إن مفهوم التنمية هو امتداد للنظرة العلمانية منذ أن أطلّت بقرنها في القرن الثامن عشر الميلادي، إنها تلك النظرة الشرهة نحو الكون والوجود التي نحّت الإله والقيم جانباً وأرادت الانطلاق من غير قيد ولا شرط، تأكل بنهم وتتمتع كما يتمتع الأنعام. إنها تلك النظرة التي تريد أن تُسيطر وُتخضع وتستأثر؛ إنها قبل كل شيء وجهة في تصور الوجود: الوجود جماد، الوجود ليس فيه روح ولم يخلق لهدف… إنه ذاك الوجود الداروني الذي تمكن الإنسان فيه أن يرتقي إلى قمة الهرم الغذائي بحيث يسمح لمن تحته أن يأكل بعضه بعضاً ولكنه متمكّن في القمة يلتهم الجميع…

إنها النظرة التي ترى أن الإنسان قد أثبت نفسه في هذا الوجود، ومكنته الصدفة أو الذكاء أو كليهما أن يرتقي ويتطور في حين فشلت باقي السلالات الحيوانية. ولكن نجاح السلالة البشرية من بين الحيوانات الأخرى ليس نجاحاً مطلقاً إذ أن وجوده محكوم بمعضلتين: الأولى هي أن عند البشر شهوات لا تشبع، والثانية أن موارد الأرض محدودة. إن هذين المبدأين (النهم والندرة) هما اللذان يشخصان الأرضية التحتية لمفاهيم التنمية والعولمة.

لقد كان لهذا البشر النهم في عالم الندرة أن يفجر طاقاته باتجاه إشباع أكبر لشراهته في بقعته الأرضية محدودة الموارد والتي تمكن من السيطرة عليها… وبذلك كان عليه حتماً أن يوسع البقعة التي يسيطر عليها لأن بتوسيعها تزداد الموارد. ولا بد أيضاً من تصعيد مستوى الاستخراج من موارد الأرض لكي تنتج أكبر قدر ممكن من المتاع. ولكن تصعيد مستوى الاستخراج من الأرض يحتاج إلى سواعد عاملة وطاقات منفّذة… ويلزم تحصيل هذا بأرخص الأسعار… وهكذا استهلت حركة الشره الثقافي-الاقتصادي القرون الماضية باستجلاب الرقيق ليكونوا وقود آلة الاستخراج هذه، وما يزال يتابع هذا الخط بالـ (الجات) الجديدة… وما يزال صراخ هذا التوجه يتعالى: أريد عمالة رخيصة… أريد نفطاً رخيصاً… أريد سوقاً مفتوحة بلا عوائق.

وتبلورت هذه النظرة في مفاهيم أصبحت عملة التداول الفكري: التنمية والتقدم والانفتاح؛ والركود والتخلف والانغلاق. ثم شفعت هذه المفاهيم بنزعة جبرية. التنمية ممكنة للأبد وخط التقدم صاعد إلى الأعلى باستمرار… والإنسان يحطم يومياً الحواجز التي أمامه… والسعادة الأبدية ليست إلا على مرمى النظر… لقد كتب إنسان القرن العشرين والواحد والعشرين نهاية التاريخ! وليس ثمة شيء ينتظر إلا مزيداً من التقدم الذي تتضاعف سرعة نموه.

ويتابع هذا التوجه متبختراً فيقول: لقد كانت بعض المفاهيم العقدية أساس هذا النصر الذي حققناه.  لقد كان التخلص من سطوة الإله حلماً يدغدغ الإنسان منذ الأزل. ولقد تجرأ أحياناً على التمرد وأماته الرعب أحياناً أُخرى. ولكن ها نحن حققنا الفوز النهائي بضربة قاضية. فشكراً للأجيال الجريئة الأولى التي مكنتنا من هذا الفوز. على أنه يجب أن لا يغلبنا الشعور بالأمن، فما زال هناك من الهمج من يتشكك في سجل إنجازاتنا الباهرة. إن عبء الإنسان المتقدم عبء كبير ارتضينا أن نحمله ونضطلع به. وإنه محتم علينا أن نستعمل ما أمكننا من الوسائل لتأديب الرجعيين المتخلفين الذين مازالوا يحلمون بعوالم مثالية ومبادئ متسامية. إن واجبنا الأخلاقي أن نزيل هذه الأعشاب الضارة من وجه الإنسانية، وأن نمكن لثقافة التقدم والرقي أن ترسخ. ولا يمكن تحقيق هذا إلا بعد أن نعولم عاداته وذوقه وطرق لباسه ومعاشه، فنحن نريد أن يعمّ ما وصلنا إليه الجميع.

قال الثاني

لن أخفي عليكم أني لا أستسيغ شيئاً مما قاله فيلسوف الزمان، وفي الدين غنى عن التعقيد المتعب. بل إن مثل هذا الكلام ليلهينا عن مهمتنا الكبرى في إصلاح أنفسنا واستعادة أمجادنا. لقد صلحت نفوس أجدادنا فصلح حالهم. إن خطر العولمة يتحدد بالذات في أنه يهدد إيماننا ويحاربنا بالفضائيات والأفلام والموسيقى.

إن واجبنا الأكيد أن نحمي أنفسنا من هذا الأخطبوط. أن نغلق المنافذ الشيطانية التي يدخل علينا منها، وأن نبني مجتمعنا من خلال التربية السديدة في حلقات العلم. إن علينا أن نحيي تراثنا ونفتخر به… وهل يمكن لأمة أن تنهض إذا لم تغترف من تراثها الأصيل.

لكن أرجوا ألا تسيئوا فهمي… إن التقدم الذي أحرزه الفرنجة تقدم باهر… وإننا نحن المسلمون الواثقون لا يخيفنا هذا التقدم فقد حققنا مثله في تاريخنا. ثم إن في الغرب نفسه أمراض تكاد تفتك به، وتعرفون قصة الأمراض الجنسية عندهم… والأرض لله يورثها من يشاء، ولا بد أن تسقط حضارته لقمة سائغة في أفواه أهل الله يوماً ما، ونسأله تعالى أن يعجّل في هذا. وعلى كل حال لا يهمنا ما سـيحدث في حياتنا القصيرة، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة.

أعود فأؤكد أن الخطر هو في تربية الفرد والمجتمع بشكل لا ينبهر فيه بالإنجازات الحضارية الغربية، ولابد لنا من أن نحمي أنفسنا من سلبيات الغرب وأن نستفيد من إيجابياته. وهذا لا يتم إلا بتطوير الضوابط والأحكام اللازمة لهذا العصر. إن الشريعة الباهرة استطاعت أن تعيش أربعة عشر قرناً وهي غنية بالأقوال والمذاهب وتتسع للتغيرات. إن الذنب ذنبنا في عدم فهم الشريعة فهماً عصرياً وعدم تأصيل مواقفنا وفق أصول فقهنا المجيد. إن علينا أن نغربل آثار العولمة السيئة لتصبح متماشية مع الشريعة.

قال الثالث

اعذروني يا إخوتي… فإن كليكما يتكلمان في خيال لا يتصل بالواقع الذي نعيش فيه، ولا يمكن أن يرفع أمتنا الجريحة مما ابتليت به. ربما يصح بعض الذي تقولون، ولكن لا يهمني هذا. إن الذي يجب علينا أن نفعله هو ((العمل))؛ نعم العمل من خلال هذا الواقع المفروض وتسخير كل الوسائل في إحداث تغيير في واقع الناس المرّ.

إن العولمة يا أخوة تحدٍّ وفرصة… إنها تحدٍ لأن وراءها إمكانات ضخمة وشركات ومؤسسات. ولكن من قال إنه لا يستطاع فعل شيء؟! ولماذا نتناسى أن عند المسلمين إمكانات ضخمة علينا أن نعرف كيف نسخرها لمصلحة بلادنا ولمصلحة المسلمين. إن علينا الانتقال من التغني بالمبادئ إلى الجهاد في البرامج. ولن ينفعك إذا صورت العولمة وحشاً مخيفاً أو وسيلة مفيدة. إن الذي ينفع هو وضع الخطوات العملية للتأثير فيها. وها هي أقوام أخرى واجهت التحدي وتقدمت نسبياً. إن علينا أن نكون أذكياء ونعرف كيف نخترق الحواجز من خلال الثغرات الموجودة في أي منظومة مهيمنة، وإن الباب الذي تتصورونه أصماً موصداً ليس كذلك. وإن تضارب المصالح واختلاف المآرب بين الأقوياء يدع فرصة للضعيف أن يعمل بفاعلية تفوق قوته بآلاف المرات.

إن علينا الثقة بأنفسنا والتوكل بالمباشرة بالعمل… ولن يغنينا مزيد فلسفات فقد شبعنا منها، وإنه لو افترضنا أنها بلسم سحري فإن عامة الأمة تئن في جراحها ولا يمكن أن تسمع لمن لا يستجيب إلى شكواها المباشرة. إن حالتنا إسعافية لا تحتمل التأمل وتقليب وجهات النظر… فلنهبّ جميعاً للعمل في حاجات المسلمين. ولنكن صرحاء، فإنه لن يحل مشاكلنا صلاح النفوس، وإن كان ذلك يسرنا ويباركنا… وكم من قوم ملأتهم الذنوب ووصلوا إلى ما يبغون بالعمل المنظم وبالتخطيط الاستراتيجي. إن الرؤية الاستراتيجية هي تلك التي تكتشف مواقع القوى ونقاط التأثير. وما دامت جهودنا محدودة فإن أولى بها أن توظف في تلك المواطن الحساسة.

إن من شأننا أن نتعلم المهارات الحديثة ونتقن العلوم ونصل إلى أعلى المراتب في المنظومة العالمية وأن نبني المؤسسات الموازية. وهذا عين الواقعية، ولا يفل الحديد إلا الحديد. إن علينا أن نبني مؤسسات على طراز حديث يناسب العصر ومنطقه. ولقد أشار الأخ الفقيه إلى خطورة الإعلام، ولا يخفى على أحد أثر صناعة الأفلام وما شابهها. إنها الخطاب الذي يصل كل بقعة في العالم ويشكل ويصوغ أذهان وعواطف الصغار والكبار. وهذا مثال جيد على جبهة حساسة يمكننا المواجهة فيها بشكل قوي.

بل دعني أشير إلى أن التفكير الاستراتيجي يذهب إلى أكثر من هذا بحيث يموقع نفسه ليستفيد من حركة الغير ولو لم يكن صديقاً، ويترقب القوى التي تمشي إلى طريق الارتطام لتسنح فرصة التسلل إلى مواقع أعلى والقفز إلى مشارف لم يكن يُطمع بها. ولنتذكر أولاً وآخراً أن هذه الدنيا لا تسير وفق حسن النيات ولا شطحات العقول وإنما تدفع بالحرب والمكر والخديعة.

قال الرابع

مهلاً يا إخوتي، ولماذا تختلفون بهذا الشكل؟ وإني لطالب علم أحاول أن أجد في طرح كل منكم ما يمكن الاتفاق عليه؟ إن النظرة التاريخية تفتح العيون وتحرك العقول حقاً، فلا بد أن نفهم العولمة ضمن منظور زمني ممتد يحيط بأبعاد هذا المشروع الحضاري المحكوم برؤية كلية وتصور وفهم مخصوص للوجود والكون.  وبالطبع فيجب أن لا ينقلب هذا الكلام العميق إلى سبحة تعفي من العمل المبصر بعيد الرؤية.

وأما أنت محبّ السياسة فبارك الله بفألك وتطلعك، لكن يلزم بعض التوضيح كي لا تنقلب النيات والإمكانات إلى شعارات. وذلك لأن الاقتناع بضرورة العمل والتوجيه نحوه لا يعني بالضرورة أن نتاجه سوف يكون في صالح الشعار المرفوع! ويحدث ذلك عندما لا نتدبر ملياً الآثار بعيدة المدى ولا ندرس تبعات آليات الوصول. إن الفخ الكبير الذي يمكن أن يقع فيه هذا الطرح هو أنه يفترض نفسه مسبقاً أنه يفهم الإشكال والحل بآن واحد، وأن ليس عليه إلا المباشرة بالعمل. والكلام في الاستراتيجيات يمكن أن يتحول إلى شعار يُرفع ليبرر حركات رد الفعل والاستسلام للواقع المفروض. إذ أنه كيف نضمن أن لا ينقلب تصور العمل الاستراتيجي إلى براغماتية مستعجلة ليس عندها الصبر على طول الطريق؟

ثم إن المقابلة بالمثل قد تجر إلى إخفاق محقق بسبب التفاوت الكبير في القدرات. ولنأخذ مثال الأفلام الذي ضرب، فهل بالاستطاعة إنتاج أفلام موازية لإتقان أفلامهم وهي تكلف الملايين؟ وهل يمكن إخراج أفلام ناجحة بلا أدب أصيل؟ إن الأدب المتين المستند إلى قاعدة فكرية سليمة هو الذي يمكّن من الإنتاج النوعي؛ والعكس بالعكس. وإني لأفهم أن الرؤية الاستراتيجية هنا هي التي تعطي الأولوية لـ(الحركة) على مستوى الأدب، لا الـ(حركة) العملية البحتة. فالهرع نحو إخراج أي فيلم واعتماد الترجمة والتقليد و(دبلجة) إنتاج الآخر تحت شعار الانفتاح والإيجابية يغلب أن يعطي نتاجاً ذا نوعية ثقافية متدنية بغض النظر عن نجاحه.

بل لعله يصح القول بأن مواجهة الغالب بغير ما غلب به هو الأقرب للصواب. يعني مواجهته بغير أدواته، لأنه لن يبرح ألا يكون متفوقاً فيما أتقنه وطوره. ثم إن المقابلة بالمثل قد تنتهي عملياً بأن يتحول المخالف إلى جزء لا يتجزأ من تلك الحركة الضخمة. وذلك أنه إذا اتبعنا وسائل الغير بحذافيرها وتحركنا ضمن منظومته فسوف نجد أنفسنا تحت حاجة حركية وضرورة واقعية أن نعمل من خلال تلك الآليات ذاتها وأن نقبلها وأن ندخلها ضميرنا وأن نخترع لها المسوغات الفكرية، لأنه بدون ذلك لا يمكن أن يكون لنا فاعلية في التعامل معها. والخلاصة أني أرى بعض الصواب في فكرة العمل الاستراتيجي، لكن أخشى أن يفرّغه الاستعجال من معناه.

وأخيراً ألا يلزم أن يستحضر الطرحَ الفقهيَ بأن القضية ليست مشكلة فردية تنحصر بإصلاح النفوس.  إن التحدي الذي يواجهنا ليس تحدي أفراد بل هو تحدي منظومة قوية تلتهم ما تجده أمامها وتحوله إلى وقود يزيد في قوتها. وإن دعوى التأصيل يمكن أن تتحول إلى تبرير للواقع، مع الإعراض عن الواقع والعيش –مع الرضى أو التذمر- وفق الشروط المفروضة من منظومة كبرى. ولا يعدو النشاط المطلوب حينذاك أن يكون تخريجاً للحيل الشرعية للتعايش مع ما ُيدّعى بأنه مرفوض.

وساد صمت قطعه سلام الانصراف، فما رأيك أخي القارئ الكريم؟

11-1421 هـ / 03-2001 م