العمران والحضارة عند ابن خلدون

7٬550

لم يعد الحديث عن أزمة العالم محور جدل اليوم ، بل صار محور تلاقٍ لمختلف التيارات الفكرية في كل البلاد . كما أن تلك الأزمة بحد ذاتها أصبحت إشكالاً يُمثلُ – للمفارقة – عاملَ توحيد بين مختلف الأمم المتواجدة على الساحة العالمية في هذا العصر .

وفي هذه اللحظة الخانقة من تاريخ البشرية ، تُطرح “العالمية” أو “العَولمة” على أنها مشروع لحل أزمة العالم اليوم بمختلف أجناسه وشعوبه . ويتجسد طرح العولمة في صورٍ مختلفة ، فهي مرةً “نهاية التاريخ” ، وهي مرة أخرى “توحيد الأسعار وفتح الحدود” ، ومرة ثالثة هي “الإنترنت” ، مرورا بـ “كوكلة” العالم (حيث يشرب العالم كله الكوكاكولا) على حد تعبير الدكتور المسيري . ويغيب عن بال البعض أن تلك العولمة هي في حقيقة الأمر – بشكلها الحالي – تعبيرٌ عن الأزمة أكثر من أن تكون حلاً لها .

إلا أن الشكل الذي تُطرح به العولمة لا يجب أن يحجب عنا المظاهر العديدة التي تجعل منها واقعا مُعاشا . فهناك تداخل العلاقات الدولية إلى حدٍ يستحيل معه أي قرار داخلي دون اعتبار الآخر الخارجي ، وهناك سرعة انتقال المعلومات وتجاوزها الطبيعي للحدود الدولية ، وهناك عالميةُ مشكلة البيئة ، وعالميةُ مسألة الهجرة ، وعالمية التجارة كمُعطى وليس كخيار .. والوعي المشترك والمتزايد للبشرية بوحدة مصيرها ، ومدى التأثير العالمي على الأحداث الداخلية (راوندا ، البوسنة ، أفغانستان …) . كل هذا وغيره يجعل من الضروري لمن يريد أن يفكر في مصير البشرية اليوم من موقع المسؤولية أن يتفكر في شأن مفهوم العالمية في شكل من الأشكال .

وفوق ذلك ، فالعولمة أو العالمية عند المسلمين فكرة ذات مستوى معرفي ، وذات بعد ديني في الوقت نفسه ، وذلك لارتباطها عندهم بفكرة الخاتمية . الأمر الذي يجعل مسؤولية المسلمين في هذا المجال مزدوجة ، ويدعوهم لجعل فكرة الخاتمية تلك ممكنة على صعيد الواقع والنظرية على حد سواء .

من هنا ، وسواء طُرح الإسلام كبديلٍ أو كشريكٍ حضاري ، فإن من غير الممكن الاستغناء عنه في بناء حضارة عالمية تُمكِّنُ العالم من تجاوز أزمته . إلا أن أي محاولة للإسهام في هذا الأمر من قبل المسلمين كطرفٍ عالمي تتطلب فهما وبحثا معرفيا عميقا لمفهومين أساسيين هما : العمران والحضارة . ذلك أن الموجود إلى الآن في تاريخ المسلمين المعاصر لا يمثل سوى محاولاتٍ لترجمة ما عند (الآخر) من عطاء ثقافي يتعلق بهذين المفهومين .

وقد قصدنا الحديث عن التاريخ المعاصر ، لأننا نجد في تاريخ المسلمين ما قبل المعاصر أن عبد الرحمن بن خلدون طرح مسألتي العمران والحضارة كظاهرتين بشريتين بشكل متكامل . فابن خلدون الذي ولد في تونس سنة 1332 للميلاد عاش لحظة أزمة عالمية تتطلب التفكير العميق في التحول الحاصل من جرائها ، فهاهو يقول “وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد ونشأةٌ مستأنفةٌ وعالَمٌ مُحدَث”1 . ولذا تبرز مسؤوليته في إعادة كتابة التاريخ كضرورة ، يقول “فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق والأجيال والعوائد والنِّحل التي تبدلت لأهلها ويقفو مسلك المسعودي لعصره”2 .

ومن هنا ، يتبين السبب الكامن وراء إعادة قراءتنا للفكر الخلدوني متمثلا في استقلاله عن غيره من المسلمين عند تحديد مفهومي العمران والحضارة من وجهة نظر معرفية إسلامية ، وذلك من واقع وعيه بالأزمة من داخلها ، وشعوره بالمسؤولية للخروج منها . وربما تُساعد مشاركة ابن خلدون على إقامة حوار تعارف مع الحضارات الأخرى من منطلق انتمائها الحضاري الأصيل ، بعكس كثيرٍ من المساهمات التي لا تُمثّلُ سوى الآخر مترجما ، ذلك لأن الشريك غير المترجم دائما في حوار الحضارات …

العمران عند ابن خلدون

يقدم ابن خلدون الإنسان على أنه كائن اجتماعي لا تصح حياته بدون مجتمع “فالاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يُتخيل وجودهم وما أراد الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم”3 ، كما أن الإنسان نفسه مهيأٌ خَلقيا للعيش مع الآخر ، وهو يحتاج يده “المهيأة للصنائع”4 وذلك لجعل حياته ممكنة . والملاحظ هنا أن العمران يكتسب معنا معرفيا عميقا حيث يصبح مرتبطا بغاية خلق الإنسان ، وتصبح خلافة الإنسان في الأرض مسؤولية كل فرد على تحقيقها في ذاته أولا ، بحيث تكون من هذا الوجه مسؤولية فردية ، ثم على تحقيقها اجتماعيا داخل العمران الإنساني كمسؤولية جماعية .

وكذلك فإن ابن خلدون يؤكد على أن الإنسان هو صاحب مصيره، وهو المسؤول عنه ، على عكس الحيوانات الأخرى ، وذلك “لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها”1 . وربما كان من المناسب أن نقف هنا وقفة صغيرة عند إشارة ابن خلدون للحيوانات بـ “التكوين” وإشارته المقابلة للنوع البشري بـ “العمران” ، وعلاقة تلك الإشارات بمسألة “الاختيار” و “الحرية” فيما يتعلق بالمصير البشري . فوجود الحيوانات على هذه الأرض ومصيرها فيها إنما هو وجودُ “تكوين” محدد المصير والوجهة والهدف والغاية ، ولذلك تضع بعض الحيوانات بيضها في مكان ما ثم تمضي بعيدا في عمق الحياة دون عودة إلى ذلك المكان ودون قلق على مصير الذرية . بينما يبلغ الولد العشرين من العمر في التجربة البشرية وهموم مصيره ومآله ومستقبله تلاحق الأب وتؤرق الأم . لأن الأمرَ أمرُ اختيارٍ للمصير ، لا يطمئن الوالدان إلا بعد استيقان صوابه ورشاده وفق مقاييسهما أياً كانت .

أما الخلافة في كلام ابن خلدون فإنها تأخذ شكل الهيمنة ، التي وإن كانت تتربع على أعلى موقعٍ في سُلَّم المخلوقات ، إلا أنها هيمنةٌ مسؤولةٌ دورها الأساسي هو المحافظة على الحياة أولاً ، ثم الوصول إلى أكمل صورة ممكنة لها في هذه الدنيا . ذلك أن من الممكن أن يصل الإنسان إلى نوع من السيادة المطلقة في هذا العالم ، ولكن هذه السيادة تكون سيادةَ شرٍ وعدوان واستغلال كما هي الأمثلةُ صارخةٌ على ذلك في هذا العصر .

والأمر الآخر الهام في الطرح الخلدوني هو تأكيده على ضرورة وجود “الوجهة” كأمرٍ لابد منه لكي يوجد العمران ويتحرك ويتكامل . وكلما ارتقى الإنسان في تحديد وتمييز تلك الوجهة ، بحيث تكون وجهةً إلى الحق ، ازداد تكامل العمران البشري على هذه الأرض . وحيث أنه يقسم العمران إلى درجات ، تبدأ بالعمران البدوي الحاجي الأولي ، وتنتهي بالعمران الحضاري الكمالي التكاملي ، فإن شرط التحول والانتقال من العمران البدوي إلى ما بعده إنما هو وجود تلك “الوجهة” التي تعني الغاية والهدف والطريق الذي يحرك الإنسان في هذه الحياة .

إلا أن ابن خلدون يلفت انتباهنا إلى تأثير نمط الحياة المعين على المآلات المستقبلية “فاختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو اختلافُ نحلتهم من المعاش … فمن كان معاشه في الزراعة مثلا كان المقامُ به أَولى ، وهؤلاء سكان القرى والمدن والجبال وهم عامة البربر والأعاجم ، ومن كان معاشه من السائحة مثل الغنم والبقر فهم ظُعَّنٌ في الأغلب … وهؤلاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة ، وأما من كان معاشهم من الإبل فهم أكثر ظعنا وأبعد في القفر مجالا … وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزنانة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق ، إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون على القيام بالإبل فقط ، وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها ..”1 وهنا نجد كيف يتحول العمران عند ابن خلدون إلى مصطلح متحرك ، يرتبط لزوما بنمط حياة المجموعة البشرية ونمط حركتها على الأرض . فالقيام برعي الإبل – على سبيل المثال – يتطلب التوغل في الصحراء عند العرب ، وهذا بدوره يجعل الاجتماع مغلقا غير قابلٍ للاتساع ، أي يجعل العمران راكدا حاجيا بسيطا في الإجمال .

ولكي يكتمل الحديث عن الاجتماع والعمران فإن من الضروري الإشارة إلى تعريف ابن خلدون للعصبية . ذلك أن هذه “العصبية” هي ما يجعل الاجتماع البشري ممكنا ، بحيث يقود ذلك الاجتماع فيما بعد إلى إمكانية قيام العمران . فالتسلسل عند ابن خلدون يصبح كالتالي :

عصبية ===> اجتماع بشري ===> عمران

ولقد تعددت الأقوال في تحديد رؤية ابن خلدون للعصبية وتعريفه لها عند الباحثين العرب والمسلمين من جهة والغربيين من جهة أخرى ، الأمر الذي لا يتسع بحثه في هذا المقام . إلا أن ما لا يمكن تجاوزه هو الإشارة إلى المنهجية التي يجب اتباعها عند محاولتنا تحديد ماهية ذلك المفهوم عند ابن خلدون . والخطوة الأولى في هذا المجال تتمثل في ربط مجمل الأمثلة التي يطرحها بعضها بالبعض الآخر لاستخراج فهمٍ أوليٍ لها ، ثم ربط ذلك الفهم الأولي ببقية المصطلحات التي يطرحها مثل العمران والاجتماع الإنساني والغاية والوجهة بقصد تعديل ذلك الفهم الأولي واستخراج فهم أكثر تحديدا للمراد من مفهوم “العصبية” .

وباتباع تلك المنهجية نجد أن رؤية ابن خلدون للعصبية تجعله مفهوما متساميا على النسب والولاء والحلف والقرابة ، ولكنه في نفس الوقت ليس مستقلا عنها . والمسؤولية الإنسانية المنبثقة من الخلافة هي التي تعطي للعصبية طابعها المعين في زمان معين ومكان معين . فإذا تحققت تلك المسؤولية عند المجموعة البشرية ساهمت العصبية في إقامة العمران ، أما إذا غابت فإن دورها لا يصبح محايدا فقط ، بل إنها يمكن أن تتحول إلى عامل تدمير وتخريب للعمران .

ويلاحظ ابن خلدون أن العصبية البالغة القوة عند القبائل المتوغلة في الصحراء كانت قاتلةً لكل انفتاح اجتماعي ممكن ، بحيث أصبح أصحابها أبعد الناس عن العمران والحضارة . فالقضية هنا ليست قضية غياب العصبية ، وإنما في عدم قدرتها على الإبصار . بمعنى أن الاجتماع البشري يصبح خاضعاً لها مُستلَباً أمامها ، فاقداً للقدرة على وضعها في موضعها . وفي مثل هذه الحالة بالضبط تبرز بكل وضوح رؤية ابن خلدون لدور الدين من ناحية قدرته على توظيف “العصبية” وإعطائها قوة “الإبصار” بحيث تعود الحركة لتتوجه نحو تكامل العمران . والأمر الذي ينبغي الانتباه إليه أن الدين بهذه الرؤية إنما هو عاملٌ مؤثرٌ في العصبية وموجهٌ لها ، وليس أصلا لها كما يُفهم في بعض الأحوال .

أما تحليل ابن خلدون لدور الدين بذلك الشكل فإنه يشرحه بقوله عن العرب “… وأنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة ، فقلَّ ما تجتمع أهواؤهم . فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خُلُق الكبر والمنافسة منهم ، فسهُل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس”1 . وواضحٌ أن المسألة هنا لا تتعلق برفض الهوى ابتداءً ، وإنما بالقدرة على التحكم فيه وتوجيهه إلى الحق ، أي في وجود “الوجهة” المطلوبة .

ولذلك يلاحظ ابن خلدون أن الدعوة الدينية تزيدُ الدولة قوة فوق قوة العصبية التي كانت لها ، والسبب في ذلك “أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرِّد الوجهة إلى الحق ، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم ، وهم مستميتون عليه ، وأهل الدولة التي هم طالبوها [أي الدولة التي يواجهونها] وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل ، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل ، فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعالجهم الفناء بما فيهم من الترف والذل”2 .

والعصبية التي تلعب ذلك الدور الهائل ، والتي تشكل عصب المجموع، تتمثل في ميدان الواقع من خلال التنافس في الخلال الحميدة “وخلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وُجدت له العصبية . فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي والأمم ، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله ، من الكرم والعفو عن الزلات والاحتمال من غير القادر والقري للضيوف وحملِ الكلِّ وكسب المعدم والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء والعاملين لها .. والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه .. والتدين بالشرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد”1 .

وظاهرٌ ما في تلك الصورة من تحقيقٍ للمسؤولية الإنسانية المنبثقة من الخلافة . فالاستخلاف يضع البشر على أعلى رتبة في سلم المخلوقات ، بشرط أن يصاحبَ البقاءَ في ذلك الموقع الشعور الدائم بالمسؤولية التي تتطلبها أمانة الاستخلاف .

ثم تأتي عند ابن خلدون مرحلة الدولة كغايةٍ للعصبية ، وكضرورةٍ لدخول العمران البشري مرحلة الكمال “فالدولة دون العمران لا تُتصور والعمران دون الدولة والمُلك متعذر”2 . وطريق العصبية إلى الدولة سالكٌ عند ابن خلدون ما لم تعترض العصبية في طريقها إلى المُلكِ عوائق مثل : حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم ، أو المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم .

وكما ينتقل العمران من العمران البدوي إلى العمران الحضري فإن الدولة هي الأخرى تنتقل من البداوة إلى الحضارة “فطور الدولة من أولها بداوة ثم إذا حصل المُلكُ تبعه الرَّفهُ واتساع الأحوال . والحضارة إنما هي تفننٌ في الترف وأحكام الصنائع المستعملة ..”3 . وفي هذه المرحلة يلوح خطر طغيان عالم الأشياء . لأن قوة الدولة تزداد وحصول الاستيلاء يتمُّ وعِظَمَ واستفحال المُلكِ يتفاقم “فيدعو إلى الترف ويكثر الإنفاق بسببه ، فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر ، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة ، ثم يُعظَّم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية”1 . ويبدأ الاجتماع البشري في التوجه إلى لحظات أزمةٍ خانقة ، لا يحلها على الإطلاق زيادة الإنتاج ، بل إن تلك الزيادة تساهم في تعفين الأجواء وتعميق الأزمة .

إن هذه اللحظة هي لحظة الاكتمال الطاغي للعمران الناتج عن لحظة سيادة عالم الأشياء (أي المنتجات والماديات) ، وذلك عبر مثلث جهنمي متناقض يتمثل في طغيان توفر الأشياء من جهة ، وشدة البحث عنها من جهة أخرى ، والضعف المتناهي للتحكم فيها والقدرة على وضعها موضعها من جهة ثالثة . وبدلاً من أن يمتلك الإنسان الأشياء في هذه اللحظة ، يصبح هو – عملياً – مُلكاً لها ، لأن امتلاكها صار محور حياته وحركته ، وصار هو “الوجهة” و”الغاية” .

ولذلك تصبح المفارقة في مثل هذا العالم أن موت الإنسان من الجوع – وهو ما يحصل كثيرا ، وبشكلٍ يشينُ كل حضارة إنسانية معاصرة – لا يعود مرتبطا بفقدان عالم الأشياء .. وإنما من تحقق عالم الأشياء وتكدسها ، وما ينتج عن ذلك التكدس من مناهج في الحياة والتفكير والتعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان .

وفي هذه اللحظة تستحيل “الوجهة” التي أنتجت الحضارة عبر تحرك العمران نحو تحقق عالم الأشياء ، ثم تفقد “العصبية” القدرة على توحيد الأهواء باتجاه تلك الوجهة وتبدأ هي أيضا في التلاشي ، ليكون تلاشي العصبية أخيرا مُفضياً إلى تلاشي الدولة كليا “إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفيء والله مالك الملك ومدبر الأكوان لا إله إلا هو”1 .

وهنا ينتهي تجوالنا مع ابن خلدون في تتبّعهِ لرحلة قيام العمران البشري وسقوطه ، لننتقل في ختام هذا البحث إلى تحديد واستخلاص بعض المعالم الأساسية التي يمكن أن تُستفاد من هذه التجربة الخلدونية .

وأول ما نلاحظه في هذا الصدد أن ابن خلدون كان – وهو يحاول أن يفهم أزمة حضارته – مضطرا خلال عمليته التنظيرية إلى تأصيل مفاهيم جديدة تتجمع وتتكامل داخل النسق المعرفي الإسلامي ، فهو لم يخرج على الدوائر العامة الكبرى للتصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون ، ولكنه – في الوقت نفسه – لم يجد نفسه مُلزما باستعمال نفس الأدوات والمصطلحات والتعابير ، ولا حتى المنهجية الفكرية التي كانت شائعة في العالم الإسلامي في عصره أو ما قبل عصره ، حين رأى أن تلك المصطلحات أو المنهجية لن تمكنه من القيام بواجبه ، ومن أداء دوره الخاص والمتميز . بل إن هذا الأمر بالذات هو ما مكّنهُ من تقديم عطائه المبدع بشكل جعله بحق أول من حاول بشكل متكامل إيجاد تصورٍ إسلاميٍ معرفيٍ للحضارات وللاجتماع الإنساني وحركته على وجه الإجمال . وفي هذا عبرةٌ بالغة لكل من يحاول اليوم قسر مسيرة الإنتاج العلمي والفكري والبحثي على سلوك المنهجية الفكرية التقليدية ، أو على استخدام نفس مصطلحاتها وأدواتها ومواضيع بحثها في كل زمان ومكان …

أما الأمر الآخر الذي يمكن استخلاصه فإنه يتمثل في قيمة العطاء الخلدوني في عملية الحوار والتعارف الحضاري المطلوبة . والجدير بالذكر هنا أننا لم نعمد – قاصدين – في هذا البحث إلى مقارنة المفاهيم الخلدونية كالعمران والحضارة بمفاهيم civilization أو culture الشائعة ليس خوفاً من عدم معاصرة ابن خلدون ، وإنما لرأينا بأن قيمة التصور الخلدوني إنما تكمن ابتداءً في أصالته واستقلاله وتكامله . فقيمةُ طرحهِ ليست في اختلافه أو توافقه مع الآخر ، وإنما في تحركه كوجودٍ أصلي وفعلي يستطيع أن يقيم علاقة حوار وتعارف مع الآخر . وهذا يختلف جذريا عن الحوار المبني على ترجمة ما عند الآخر ، أو بتعبير ثانٍ “الآخر محرَّفاُ” . حيث لا يمكن لمثل هذه المشاركة أن تقيم تعارفاً ، وإنما تعطي – في أحسن حالاتها – تسامحا . وهو تسامحٌ يكون مُلكا للآخر وهو يتعامل مع من يريد مشاركته عبر ترجمته .

هذا فضلا عن أن أسلوب المقارنات الذي يبحث عن الاتحاد في الآخر وربما الفناء فيه ، أو عن نفيه وإلغائه وتغييبه ، هو أسلوب قاتلٌ للتعارف ، لأن التعارف يستلزم أولا وقبل كل شيء إيمانا بحقيقة التعلم من الآخر ، حتى في حالة تعليمه .

والأمر الثالث الذي يجب الانتباه إليه هو أن مفهومي civilization و culture ، تماما مثل مفهومي العمران والحضارة ، وسواها من المفاهيم ، ليست مفصولة بحال عن التجربة التاريخية والرؤية الكونية للأمة التي تُبحث هذه المفاهيم فيها . بحيث تصبح عملية المقارنة عبر الترجمات مدعاةً للتشويه والتشويش ، أكثر من كونها مجالَ حوار وتعارف .

وأخيرا ، فإن المشاركة الخلدونية تستمد قيمتها البالغة اليوم من واقع قدرتها على المساهمة في تحليل الأزمة العالمية المعاصرة ، التي تتمثل أيضا أكثر ما تتمثل في طغيان وسيادة عالم الأشياء ، الذي انبثق من وصول الحضارة الغربية الغالبة اليوم إلى ما يمكن أن يكون لحظة اكتمالها كتجربةِ اجتماعٍ بشريٍ راهن ، شكَّلَ البحثُ عن تَحقُّقِ عالم الأشياء محورَ وجهتها ، حيث ارتبط خلاص الإنسان بمفهوم الرفه المادي . وبهذه الرؤية فإن ابن خلدون – الذي تحدث عن هذا الواقع وتنبأ بحدوثه كلما توافرت شروطه – يمكن أن يكون معاصرا أكثر بكثير من بعض مفكري اليوم في الشرق والغرب سواء ، ممن لا يمتلكون النفاذ إلى أعماق الأزمة البشرية ، وإنما ينحصر عملهم في بحث الظواهر والأعراض الخارجية ومحاولة علاجها …

إن خلاص البشرية عند ابن خلدون لا يمكن أن يكون عبر مزيدٍ من الإنتاج ، أو عبر مزيدٍ من التأكيد على الرفه المادي الناتج عن الثورة في عالم الأشياء . وبالتأكيد فإنه لا يمكن أن يتم عبر مزيد من الاستهلاك . والمفارقة أن عدم القدرة على مقاومة الاستهلاك كانت هي ابتداءً – بقدر الله – سبب خروج الإنسان من الجنة ، حين ضعف عن مقاومة “مُنتَجٍ” وحيد فقط من كل “المنتجات” الموجودة في الجنة والمُحلَّلةِ له . فكيف يمكن له أن يعود إلى الجنة عبر عملية الاستهلاك نفسها تلك ؟؟ …

إن أهمية الطرح الخلدوني في هذا الباب تكمن في رؤيته الدقيقة وتمييزه المحدد للعلاقة الحساسة بين العمران والحضارة . ومن المهم أن يركز الإنسان في فهمه لهذه المسألة . فالعمران عنده “يتحرك” دائما ، وهو يتحرك وفق “وجهة” معينة . وحين تأخذ “حركة” العمران “وجهة” تحقق عالم الأشياء والرفه المادي كغايةٍ تُمكنُ الإنسان من الخلاص تتحقق لحظة الحضارة . ولذلك يربط ابن خلدون نهاية العمران وخروجه إلى الفساد بلحظة تحقق الحضارة عبر غياب “الوجهة” التي تحرك الاجتماع البشري نحو الحق . وذلك حين تنحصر تلك “الوجهة” منذ اللحظة الأولى وتتحدد في بحثها عن النجاة عبر تحقيق عالم الأشياء ، وحين ينسى الإنسان خطورة الاستلاب أمام ذلك العالم ، ويغفل عن ضرورة بناء المنظومة الاجتماعية بشكل يتم فيه تنمية الرفض الاجتماعي المتوازن لعالم الأشياء ، رغم العمل – في الوقت نفسه – على توفير ذلك العالم وإيجاده . وفي هذا المعنى بالذات يأتي القول العظيم المأثور : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبد ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .

إن التصور المعرفي الإسلامي لا يحمل عداوةً أساسية وأصيلة لعالم الأشياء . فالدلالات على “الحياة الطيبة” وعلى تسخير الكون لراحة الإنسان في هذه الدنيا ، ومعالم الحض على العمل والسعي والإنتاج في الأرض ، أكثر من أن تُحصى أو تُعدّ في مصادر التصور الإسلامي . وإنما يتمثل التحدي في كيفية التمكن من تكاملٍ متوازن للعمران ، يتحكّمُ في عالم الأشياء ويستعمله لخير الإنسان ، دون أن يجعله هو المتحكم في مصير الإنسان من ناحية ، ودون أن يلغيه بشكل كامل من ناحية ثانية .

ولا يكون ذلك التكامل إلا عبر الوسطية التي تمثل البديل الوحيد من طرفي النقيض الآخرين أمام الاجتماع البشري ، المتمثلين في الرهبانية المطلقة أو المادية المطلقة . وهو ما سنتحدث عنه في مقال قادم بعون الله .

وأخيرا ، تتضح من هنا عَظَمةُ وأهمية فكرة “الخاتمية” ، من حيث كونها مصدر تلك الوسطية ، ومن حيث كونها القادرة – في المستوى الاجتماعي – على تحويل الحضارة إلى شهادةٍ على البشرية ، تتحقق عبرها كل المعاني الممكنة في الآية الكريمة {إني أعلم ما لا تعلمون} .

1 مقدمة ابن خلدون ، ص 36 .

2 المقدمة ، ص 36 .

3 “وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعا لهذا العلم” . المقدمة ، ص 47 .

4 المقدمة ، ص 47 .

1 المقدمة ، ص 45 .

1 المقدمة ، ص 134 .

1 المقدمة ، ص 166 ، 167 .

2 المقدمة ، ص 174 .

1 المقدمة ، ص 157 .

2 المقدمة ، ص 416 – 417 .

1 المقدمة ، ص 190 .

2 المقدمة ، ص 328 .

1 المقدمة ، ص 329 .