بين التدين الطقوسي والتدين المدني

394

إن نظرةً – ولو خاطفةً – إلى الواقع الاجتماعي للمسلمين لتُشير بوضوح إلى الإشكاليات العديدة التي يتّصفُ بها ذلك الواقع. من الفوضى وعدم المسؤولية إلى الاعتباطية في اتخاذ القرارات، إلى مستوى النظافة المُتدنّي وعدم تقدير الآخرين، إلى المشاحنات الجزئية السخيفة وإهمال مكارم الأخلاق ومُستوجبات الذوق…

و ما كان للإنسان أن يعجب ممن يقوم بمثل هذه التصرفات لولا أن أصحابها أنفسهم لربما يفتخرون بكمالِ الدين وقدرته على إصلاح كل ما هو فاسد مما ضربنا عليه الأمثلة قبل قليل. والنتيجة أن يظهر في حياتنا ذلك الفصامُ الذي يقف الناس عاجزين عن تفسيره، اللهم سوى بترديد عباراتٍ مُبهمةٍ من مثل القول بأننا “لا نتّبعُ ديننا كفايةً”. والمُراد في هذه المقالة أن نُلقي الضوء على طبيعة التدين (وهو ممارسةٌ بشرية) التي تعجز عن جعل الدين (المُطلق) مُصلِحاً للواقع.

إنّ أحداً لا يُنكر أن الدين انفصل – على مستوى الممارسة والتطبيق – عن الواقع وأنّه حُنّط في طقوسٍ لا تُصلح الحياة الدنيا (ولا الآخرة بطيعة الحال). وقد آل بنا الأمر بحيث صرنا ننظر في الواقع فنجد آلاف الممارسات السقيمة التي يُعمد إلى إخفائها وسترها بينما يتم في الوقت نفسه التغني برفعة الدين والمثل العليا، وكأن ممارسات الناس واقعةٌ في فراغ، وكأن الفصل بين تلك الممارسات وبين الشعار الذي يُرفع فوقها يحلُّ الإشكال مع أنّ هذا غير ممكنٍ عملياً، لأنه إما أن تُوجّه أصابع الاتهام إلى ذلك الشعار أو تُثار الأسئلة حول القيم المُدَّعاة إذا كان مقتضاها تصرفاتٌ سيئة ومرفوضةٌ قطعياً، أو تصرفاتٌ مُشكلة تحتاج إلى تأويلٍ والتماسٍ للأعذار حتى تُقبل.

وهذه هي الحالة التي يجب أن تُطرح للبحث والـمُدارسة والنقاش لمعرفة كيف تُفضي الشعارات والقيم الأصيلة المرفوعة إلى ما هو فاسدٌ أو مُشكلٌ في السلوك البشري. وهذه الكلمات إنما تمثل دعوةً إلى محاولة اكتشاف طبيعة التدين الغالبة على المسلمين اليوم (وهو ما أُسمّيه التدين الطُّقوسي) وكيف أدى بكثيرٍ من المسلمين إلى أن يكونوا على ما هم عليه. إنها دعوةٌ إلى تفحّص طبيعة التفاعل مع الدين ومحاولة وضع اليد على بعض مكامن الخلل في هذا التفاعل. فما دام الأصل سليماً والناتج غير سليم، فلا بد أن يكون الإشكال في عملية التفاعل والاتصال بينهما، أي لا بد أن يكون هناك إشكالٌ في طبيعة التوجّه نحو الدين. إن طبيعة التوجه نحو الدين هي التي يمكن أن تجعل منه مجموعةً من الممارسات التي يُعتبر ذاتُ تنفيذها كافياً بغضّ النظر عما يجب أن يترتب على ذلك التنفيذ. كأن يكون أداء الصلاة بحد ذاته (وأقول بحد ذاته وليس بحد ذاتها، ضميراً عائداً على الأداء لا على الصلاة) يُغني عن نهيها الفحشاء والمنكر، أو أن الستر بحد ذاته يُغني عن الطهر، أو أن إلقاء السلام بحرفِهِ ونغمتهِ يُغني عن نيَّة اللقاء بالصفاء والسلامة.

والأمثلة على هذه التصرفات أكثر من أن تُحصى، من ذاك الذي يخرج من صلاة الجمعة فيسير بالسيارة مسرعاً وكأن الناس ذباب، إلى ذاك الذي يحمل حذاءه بيده ويتخطى الرؤوس حتى يصل إلى الصف الأول (وينال كما يتوهم الثواب العظيم)، إلى ذاك الذي لا يعتبر أن لقمامة بيته علاقةً بإيذاء الجيران، إلى الآخر الذي لا يعتبر الوقوف في الدور مَكرمةً ولا يعتبر خرقه مَنقصةً في عرف الدين … وغيرها من التصرفات على مستوى الأخلاق الفردية البسيطة.

إلا أن ما يجب أن ننتبه إليه هو أن الأمر لا يقف عند الخلق الفردي الذي قد يبدو للبعض أن آثاره وانعكاساته تنحصر في الشخص نفسه، بل إن الدين انفصل عن الحياة على مستويات أخرى فأصبحَت مثلاً ممارساتُنا وأخلاقنا الاقتصادية فاسدةً أو مُفسدة، كعادات اتخاذ الحليّ والمبالغة فيها حتى أنك ترى كثيراً من البلاد النامية والفقيرة يتجمّد فيها الذهب في أساور في أيدي الناس ولا تُستثمر فيما يعود على الجميع بنفعٍ عام. وإذا حُظر استيراد بضاعةٍ كمالية لقلّة العملة الصعبة انزعجت الناس وكأن الاستقلال الغذائي وعدم التبعية ليس له علاقةٌ بالدين وبمفاهيم العزة والكرامة التي وصف بها الباري سبحانه المؤمنين. بل إن المُذهل أن نرى تلك المواقف التي يشاهدها المرء من معارف و إخوةٍ يسكنون ما يُسمّى بدول العالم الثالث حين يتكلمون عن البضائع، فترى الفرد منهم يفخر بأن في بلده كل ما يخطر بالبال من فتات البضائع الاستهلاكية، والمزعج حقاً أن يُقدّمَ هذا الكلام برهاناً ودليلاً على أن بلادنا بخير، فها هو حطام البضائع يتراكم في بلادنا دليلاً على التقدم والتطور..

فإذا كان هذا الفصام النّكدُ واقعاً، ما هو السبيل إلى المخرج ؟ بطبيعة الحال أن هناك من يقول بعدم الحاجة إلى الدين، ولن أجيب على هذا الطرح هنا لتهافته وسطحيته البالغة. ولكن هناك طرحاً آخر يجب مناقشته ويتمثل في دعوة البعض ومحاولتهم لإجراء عملية إحالةٍ وتقطيرٍ وتطويرٍ للدين بحيث ينسُجُ حلَّةً على قدِّ مسائل معاصرة مخصوصة ومحددة، ويُبعدَ شمولية الدين التي يعتقدُ أنها لم تُثمر في معالجة هذه المسائل. فيجعلَ هؤلاء – على سبيل المثال – الخطابَ الديني رسالةً محددةً وخطاباً محصوراً في مسائلَ معاشيّة كنظافة الحي من القمامة وتكرير فوارغ البيبسي والوقوف بالدور أمام المخبز وفي الدوائر الحكومية. ويُصبح المندوب عند هؤلاء بعدها – وهذا أمرٌ حَصلَ ويحصلُ في بعض البلاد وليس من باب الفرضيات – التضرعُ بإشراقيةٍ روحية إلى المولى كي يُلهمنا ويُعيننا على مثل تلك القضايا !..

والسؤال المهم الذي ينبغي الإجابة عليه بهدوء ورويةٍ هنا هو: إذا كان لبعض الممارسات المعاشية المعاصرة علاقة بالدين، هل يصحُّ أن يُختزل الدين فيها ويُرتهن إلى متعلقاتها الظرفية الخاصة بمكان وزمانٍ معينين؟ إن من أخصّ خصائص هذا الدين شموليته الغامرة وهيمنته على كل مناحي الحياة. وهناك فرقٌ شاسعٌ بين إدراج شيءِ وجعله من جملة ما أمر به المولى من إصلاح الحياة وعمارة الأرض، وبين جعل مسألةٍ خاصة تنفعُ في الدنيا محور الدين ومدار التعبد، فهذه درجةٌ أدنى بكثير وإذا آتت أُكُلها في مجال فإن هذا يحدث على حساب مجالٍ آخر. فكيف إذا تدنّى الخطابُ أكثر من ذلك إلى درجةٍ يُنسخ فيها معنى التعبد ويُستبدل بمجموعةٍ من آداب التعامل والتصرفات التي هي مطلوبةٌ بحد ذاتها (كاحترام الآخرين والحفاظ على البيئة) ولكنها تفتقد الناظم الديني الذي يضعها في إطارها المناسب ويعطيها القيمة الحقيقية.

ولعلّ التفكر في كثيرٍ من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُنبِّهنا إلى هذا الأمر. حيث أنه أُعطي جوامع الكلِم لكي لا ينحصر اهتمام الدّاعي بمسألته الخاصة بل يدعو دُعاءً عاماً (أنضجَ عقلياً) من الدعاء الأناني أو الطفوليّ إن صحّ التعبير. حتى أنه عليه الصلاة والسلام حين كان يُخصِّصُ في الدعاء سرعان ما يعود لربطه بمصلحةٍ عامةٍ أو أمرٍ شامل.

والجدير ذكره أن فكرة الأخلاق المنقطعة عن مصدرٍ علوي نبتت منذ ما يُسمّى بعصر التنوير في الغرب حين طرح الفكر الغربي انتفاء الحاجة إلى الدين وانتهاء دوره الإنساني بعد أن استُبدل بالعقلانية الحديثة التي فصّلت علومُها كل إجابةٍ لمجتمعٍ سعيدٍ في غنىً عن كل ما هو مادي. وبدأ منذ تلك اللحظة الحلم الذي يهدف إلى صياغة مجتمعٍ “مدنيٍ” قائمٍ – إلى حدٍ كبير – على فكرة الحقوق التي ينظمها قانونٌ وضعي يتفق عليه الناس من خلال مشاركتهم في صياغة هذه القوانين. وشيئاً فشيئاً أخذت طريقة الحياة هذه أهميةً أخلاقيةً وقيمةً معنويةً تفوق صلاحيتها العملية وتفترض عالميتها وأبديّتها حتى أُطلق عليها اسم الدين المدني (civil religion).

لكن الواقع يُثبت أن مثل هذه الأخلاق المنقطعة عن المصدر العلوي ربما تكون قد حققت بعض النجاح على مستوى المحلّة الصغيرة، ولكنها فشلت على المستوى الاجتماعي الشامل حتى في الغرب. وأحسب أنه يصعب المراء اليوم – عند المتابعين – في انهيار جوهر تلك الديانة المدنية. لقد فشلت الأخلاق الحضارية (أو على الأصح الممارسات الحضارية) أشدّ الفشل لا لأنها شرٌ بحد ذاتها، بل هي خير، ومما أُمرنا به، وإنما مصدر الفشل بالضبط هو افتقاد المرجعية و الإطار العلوي.. كالوردة المقطوعة ليس لها غذاء الشجرة المستمر، ولا هي متسقةٌ مع غيرها من الورود والأوراق الخضراء. بل إن ممارسات التحضر أصبحت إما بروتوكولات شكليةٍ نفاقية أو وروداً يُتاجر بها وتُوضع كواجهات خداعية لممارسات فاسدة في حقيقتها أو في مآلاتها.

إن الابتعاد عن الدافع والمحرك والناظم الديني وإسقاط الإسلام (بمفاهيمه وأهدافه الواسعة) عند رؤيتنا لكثيرٍ من القضايا المعاصرة إنما تحجيماً للإسلام وإصراراً على حرمان مبادئه و توجيهاته الرحيبة من أن تُظلِّلَ المساحات الجديدة التي امتدَّ ويمتدُّ إليها النشاط البشري. وإن هناك من أصابت نظرتهم للغرب ما يُمكن أن نسميه “عوارض السائح” أو “Disney Land Syndrome” التي تدفع أصحابها إلى النظر إلى الغرب وأمريكا بوجهٍ خاص نظرةً سطحيةً لا تتجاوز ظاهر جماليَّاتها إلى حقائق ما يجري في الأعماق.

وإني لا أدري ما هي الحاجة إلى (حمل السلّم بالعرض)، فهل هناك مشكلةٌ في توسيع دائرة النصوص حتى تشمل الممارسات اليومية التي نبغي إصلاحها. بل وقبل ذلك، أليست هناك نصوص ومفاهيم إسلامية تُخاطب هذه المسائل تحديداً؟ من إماطة الأذى عن الطريق إلى ذمِّ الإسراف (وواجبنا هو توسيع مفهوم الأذى والإماطة، وتحديد أنواع السَّرف و مدِّ مساحاته)، وهل ضاقت المصالح المرسلة ومقاصد الشريعة عن شيء حتى نضيق ذرعاً بالأصيل المأثور ونستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وأوسع وأشمل وأعم لجميع مستويات الفهم والثقافة، وهو في نفس الوقت المتوازن والمتجدد والقادر على الخطاب المستمر والمتصل مع التاريخ والمستقبل.

جمادى الآخرة 1419 هـ / 10-1998 م