تصنيفُ العلومِ عندَ العامريّ ومنهجه في علم الأديان

1٬511

ظهر علمُ الأديان في ظل الحضارة الإسلامية، فقد اعتنى العلماء المسلمون بدراسة الأديان وفق مناهج مضبوطةٍ ومعايير محددة، ولم يكتف العلماء بدراسة الأديان السّماوية فقط بل كان الحال منهم أنْ درسوا الأديان الوضعيّة كذلك، في حين لم يعرف الفكر الغربي علم المقارنة إلا في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر.

وقد روى ابن النّديم في فهرسته بأن بعض المتكلمين حكى عن يحيى بن خالد البرمكي أنه بعث رجلاً إلى الهند ليأتيه بعقاقير، ويكتب له عن أديانهم. كما أقام البيروني في الهند ثلاثين سنة أو أكثر وتعلم لغاتهم ليكتب عن أديانهم بموضوعية وصدق.

وقدْ أفردَ علماء المسلمين كتبًا في علم المقارنة؛ ككتاب “الْفصل في الملل والأهواء النّحل” لابن حزم، وكتاب “الملل والنّحل” للشّهرستاني، والبيروني في كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة” والعامري في كتابه”الإعلام بمناقب الإسلام”. هذا غير الموسوعات التّاريخيّة التي لم يكن أصحابها من علماء مقارنة الأديان على وجه التحديد، فنجدُ الطّبري قد تحدث عن الأديان في كتابه “تاريخ الرّسل والملوك” والمسعودي أيضًا في “مروج الذهب”.

ولما كان الاهتمام في الْحديث عن العامري شحيحًا فقد آثرتُ في هذه المقالة الكتابة عن حياته ونشأته، ومنهجه في تصنيف العلوم، ليكون ذلك بوابة لفهم منهجه في دراسة الأديان. وتجدر الإشارة إلى أن العامري كان أكثر فيلسوف مغبون في تاريخ الفلسفة الإسلامية كما يقول سعيد الغانمي، وقد ظل مجهولاً حتّى أَظهر عبد الحميد غراب كتابه “الإعلام بمناقب الإسلام”. ويُرجّح الغانمي السّبب في عدم الاهتمام بمثل هذا الفيلسوف إلى القراءة الاستشراقية التي لا تهتم بفلاسفة الشّرق إلا بقدر ما يكونون صدىً وتكرارًا لفلاسفة الغرب، ويبدو لي هذا السبب بعيدًا وغير موضوعي؛ إذ يشير تعليل الغانمي إلى أن بقيّة فلاسفة المسلمين لم يكونوا إلا صدىً وتكرارًا للفلاسفة اليونانيين، كما أن المطلع على مؤلفات العامري يجده قد استفاد من الفلسفة اليونانية حتى كانت واحدة من المصادر التي أفاد منها، بل إن كتباته تبين عن تأثره بالأفلاطونية المحدثة.

العامري، مولده ونشأته

هو أبو الحسن محمد بن أبي ذر يوسف العمري النيسابوري، عدّه الشّهرستاني من مصاف فلاسفة الإسلام المتأخرين في القرن الرابع الهجري، وعده أبو حيان التوحيدي في “المقابسات” من أعلام عصره، ويقول عنه الزركلي: عالم بالمنطق والفلسفة اليونانية، من أهل خراسان، أقام بالري خمس سنين، واتصل بابن العميد (الوزير الكاتب) فقرآ معًا عدة كتب، وأقام ببغداد مدة، ثم عاد إلى بلده، له شروح على كتب أرسطو.1

وهذه الجولة والصولة في حياة العامري للبلاد أكسبته ثقافة واسعة، كما كانت السبب في مخالطة أصحاب الملل والنحل الأخرى، فمدينة مثل بغداد والري كانتا من أهم المدن في عصره؛ فقد كانتا مركزًا للتجارة، وملتقى العلماء والمفكرين يتناظرون ويتباحثون في مسائل وقضايا مختلفة.

وكان للعامري العديد من المؤلفات ذكر منها في كتابه “الأمد على الأبد” وفي ثنايا كتب أخرى، كما أوعز كلٌ من أبي حيان التوحيدي وابن مسكويه إلى مؤلفات أخرى، ومن هذه المؤلفات: الإبانة عن علل الديانة، الأبصار والمبصر، إنقاذ البشر من الجبر والقدر، النسك العقلي والتصوف الملي، الإعلام بمناقب الإسلام، السعادة والإسعاد.

ويتميّز العامري بإدراكه العميق لروح الدين الإسلامي وسماحته، فنرى أنه لا يقصر الثقافة الإسلامية على العلوم المليّة فقط، بل يجعلها تشمل العلوم والثقافات الإنسانية التي تفيد المجتمع الإسلامي، ونراه تقدميًّا يؤمن بقضية الرأي والاجتهاد في الفقه، ويؤكد أن الاجتهاد ضرورة يحتمها التطور، ويؤيد استعمال العقل، ويهاجم التقليد سواء في البحث العلمي أو في مسائل العقائد والإيمان.2

وينتمي العامري إلى مدرسة الكندي فلسفة وفكرًا، فقد كان العامري تلميذًا عند الفيلسوف والجغرافي المشهور أحمد بن سهل البلخي، ومن أهم ما تتميّز به مدرسة الكندي وتلاميذ مدرسته -ولا سيّما البلخي والعامري- أنهم جمعوا إلى جانب الثقافة الإسلامية ثقافات أخرى عديدة ولا سيما اليونانية منها، وقوموا هذه الثقافات من وجهة نظر إسلامية، فاستفادوا من الحكمة التي فيها، وفنّدوا ما بها من جهالات وأخطاء من جهة أخرى.3

فقد أرادت مدرسة الكندي والبلخي والعامري كما يقول إبراهيم الزين التعبير عن الإسلام بنسقٍ فلسفي، ولكن ليس مثل مدرسة الفارابي وابن سينا التي أرادت أن تدخل الميتافيزيقا الأرسطوطاليسية بميتافيزيقا الإسلام، هذا ما جعل العامري في كتابه “المناقب” يقوم بداية بالتعبير عن نظرية المعرفة؛ كيف لنا أن نعرف؟ وكيف يمكن تصنيف العلوم؟4

تصنيف العلوم عند العامري

تتميز فلسفة العامري بالنظرة التكاملية والشاملة للعلوم، فهو يقسم العلوم إلى علوم ملية وحِكمية وينظر إلى أنها لا تتعارض فيما بينها، ويُذكر هذا المنهج بما دأب فلاسفة الإسلام على تأكيده، وتقديم الحجج والبراهين ليؤسسوا الاتصال ما بين الحكمة والشريعة. فعلماء الإسلام عرفوا المنهج وكتبوا فيه قبل عصر النهضة، وإنه بواسطة هذا المنهج تتآخى الحكمة والشريعة، ويمتلك المفكر ومن ثم الحضارة الموقف المتوازن، الذي لا يستغرق في قطب وطرف واحد كما يقول محمد عمارة، ثم إن الكشف عن هذه المميزات والقسمات الحضارية لمعينة على الجمع والتأليف بين عناصر القوة والتقدم، سواء كان مصدرها العقل أو النقل.5

إذ لما درس فلاسفة الإسلام دينهم الإسلامي وحصّلوا علومه فهداهم إلى معرفة الحق، ثم درسوا الفلسفة الوافدة وخاصة اليونانية منها فوجدوا أن فلاسفتهم أيضًا قد وصلوا إلى الحق في مسائل جزئية لكن بغير طريق الوحي، فكان ذلك دافعًا لهم بأن يقوموا بالتوفيق ما بين الحكمة والشريعة، بعد الاقتناع بأن العقل أو النقل محال أن يكون بينهما تعارض.6

وتصنيف العامري للعلوم مرده راجعٌ إلى اعتبار مصدرها ووسيلة تحصيلها؛ فالعلوم الملية مستندة إلى الوحي، وأربابها هم الأنبياء المصطفون، والعلوم الحكمية تُستمد من العقل وأربابها هم المرتضون من الحكماء، ويقرر كذلك أن كل نبي حكيم، وليس كل حكيم نبيًا.7

وهنا نجد أن العامري استخدم مصطلح “العلوم الحكمية” فالحكمة ضالة المؤمن، ولم يسمها فلسفة، ثم ذكر تقسيم العلوم الملية:8

– العلم المعتمد على الحس، وهو علم الحديث، فالمحدّث يجمع الأشياء ويستخدم حواسه، ومن هذا المعنى نجد أن أداة هذا العلم هو الحس.

– العلم المعتمد على العقل، وهو علم الكلام، فهذا علم يستخدم المقدمات المنطقية، إذ هو علم عقلاني لا يستخدم الحس.

– علم يجمع بين الحس والعقل، وهو علم الفقه، فالفقيه يحتاج لاستخدام حواسه، ويريد ترتيب ما يصدر عن هذه الحواس بنظر عقلي واستنتاجات عقلية.

– واللغة عند العامري عبارة عن صناعة وهي تنزل منزلة الآلة بالنسبة للصناعات الثلاث.

وكذلك العلوم الحكمية قسمها إلى ثلاثة أقسام:

– قسم معتمد على الحس، وهي العلوم الطبيعية.

– قسم معتمد على العقل، وهي العلوم الإلهية.

– قسم معتمد على الحس والعقل، وهو صناعة الرياضيين.

– والأداة المستخدمة في هذه المعارف الثلاث هي أداة المنطق.

وعند تتبع العامري نجده قد أسس لقواعد يمكن أن نتبين منها نظريته في التوفيق بين الصنفين من العلوم، وهي:9

– أن الله قد خلق العباد محبين إلى العلم بحسب فطرتهم، ثم كانت الجبلة الإنسانية لا تتقوى على تحصيل كل تلك العلوم، فلذلك جعل الله بين أطباع البشر وبين أصناف العلم علامة خفية ومناسبة ذاتية فينجذب كل واحد إلى نوع من العلوم فيتأكد إلفه له، ويقوي شغفه به.

– يُبطل العامري القول بأن العلوم الحكمية مضادة للعلوم الملية ومنافية لها، وأن من يميل إليها يخسر دنياه وآخرته، ويؤكد أن ما يوجبه العقل لن يكون بينه وبين ما يوجبه الدين مدافعة ولا عناد.

– إن من تمكن من ضبط العلوم الحكمية فإنه سيسعد باستكمال الفضيلة الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات، ويخلص إلى مواقع الحكمة فيما أنشأه الله، ويكون قادرًا على إقامة البرهان على الدعوة المسموعة والتخلص من التقليد.

وفي دفاع العامري عن العلوم الحكمية -التي كانت تشمل في عصره إلى جانب الإلهيات العلوم الرياضية والتجريبية؛ مثل علوم الحساب، والهندسة والفلك، والعلوم الطبيعية وعلم الطب- أهدافًا منها: أن الإسلام يدعو إلى العلم النافع بكل أنواعه، فنرى الآيات القرآنية تحث النظر إلى آيات الله في خلق الكون والإنسان، ويستشهد العامري في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].

ثم إن دراسة هذه العلوم التجريبية والرياضية تبين أن خلق الكون وتدبيره لا يقوم على الصدفة أو الفوضى أو العبث، إنما يقزم على النظام والحكمة، وعلى قوانين لا تتخلف، ومن ثم تُعين هذه العلوم كما يقول العامري على ” الخلوص إلى مواقع الحكمة فيما أنشأه الصانع من أصناف الخليقة، والتحقق لعللها ومعلولاتها… وما تتصف به من النظام العجيب، والرصف الأنيق.10

وفي كلام العامري عين الشبه بما قدمه الكندي بالاستعانة بعلم الرياضيات في التدليل على وجوده تعالى، وكذلك في دليله الخامس على وجوده تعالى، وهو الدليل المستند إلى فكرة الغائية والنظام والتضامن المشاهدة في العالم، يقول الكندي في رسالته بعد شرحه لسجود الجرم الأقصى وطاعته لله: فهذه التي ينبغي أن تحس بها عظم قدرة الله جل ثناؤه، وسعة جوده، وفيض فضائله، وإتقان تدبيره، وأن يتعجب منها ذوو العقول النيرة.”11

ويرى العامري كذلك أن العلوم الحكمية تُربي في النفس العقلية الناقدة، التي لا تقبل قضية بغير برهان ودليل. ويذكر أيضًا فوائد هذه العلوم على وجه تفصيلي، فلولا علم الهندسة مثلاً “لما قدر الحُسّاب على استخراج الجذور الصم، ولما قدر المساح على معرفة أشكال العقارات. ويقول عن الميكانيكا: “بها يتوصل إلى استنباط المياه المستكنة في بطون الأرض، وإساحتها على وجهها.” 12

أما في فضائل العلوم الملية فيرى العامري بأنها أفضل من العلوم الحكمية، إلا أن التفاضل بين العلوم يجب أن يؤخذ بنظرة تكاملية حتى يتحقق الهدف العام منها، وعليه فلا ينبغي الازدراء أو تقليل شأن بعلم من العلوم. ويقرر أن شرف العلوم الملية في أنها موصلة إلى الزلفى، وأنه يتعين معرفة الأوامر والنواهي لنيل طاعته تعالى ولا يكون ذلك إلا بمعرفة دين الحق دون ما سواه من العلوم، وأن الأديان يقصد بها المنفعة الكلية، أما العلوم الأخرى فلا تعد أن تكون فضيلة للأفراد، فلو أن لبيبًا أعرض عن انتقاءها لم يلحقه عتب، ثم إن العلم الديني تُبنى عليه سائر العلوم، فهي صادرة من الوحي الإلهي ولا يعتريها الشك.13

ولقد فصّل العامري في بيان هذه العلوم العالية المرتبة، ورفيعة الدرجة، فذكر أن علماء الحديث هم المعنيون بمعرفة التواريخ العائدة بالمنافع والمضار، وهم العارفون لرجال السلف بأنسابهم وأماكنهم، وعد غير ذلك من فضائلهم، وأشاد بالمتكلمين لأنهم يقومون بتوضيح العقائد الإسلامية، والدفاع عنها، وإثباتها بالبراهين والأدلة. 14

وفي النهاية، نخلص إلى أن العامري لا يرى تعارضًا ولا معاندة بين العلوم الملية والحكمية، بل كلاهما حق، والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له كما قال ابن رشد. وأنه ينتهج النظرة التكاملية للعلوم، وأن العلوم الملية أشرف من العلوم الحكمية من حيث أنها الأساس التي تبنى عليه سائر العلوم، ومن حيث أن ثمرتها عامة للخلائق.15                 

وبذلك يمكن لنا القول بأن العامري على دراية بأهمية الدين للناس بشكل عام، وأهمية الدين الإسلامي على وجه الخصوص، وقد أشار إلى أهمية الدين في قوله: “إن الدين كريم الصحبة، يعزُّ من لجأ إليه، ويستر عيوب من اتصل به، مع ما يذخر له في عاقبته من الغبطة الأبدية.” وقد عقد مقارنة بين الإسلام والأديان الأخرى على معايير وأسس معينة، وذلك ما يمكن تتبعه في كتابه “الإعلام بمناقب الإسلام”.

منهج العامري في مقارنة الأديان

يُعد أبو الحسن العامري من أوائل العلماء الذين اهتموا بدراسة الأديان وفق المنهج الظاهراتي-الفينومينولوجي، والتي تمثل المنهج الوصفي التحليلي، ولم يكتف بهذا المنهج بل تعدد إلى استخدام المنهج التاريخي، والمنهج الاستقرائي، والمنهج الغائي. وقد جعل دراسته المقارنة في كتابه الإعلام بمناقب الإسلام على الأديان الستة التي وردت في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17] فهي الإسلام، واليهودية، والنصرانية، والصابئة، والمجوسية -الزردشتية، والشرك- عبادة الأصنام.16

ثم يُبين أنه ما من دين إلا ويشتمل على جانب الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والمزاجر، فما من دين إلا وله:

– اعتقاد بشيء يجري سعيه إليه.

– منهج في العبودية يتحرى بالتزامه إقامة الطاعة.

– أوضاع في المعاملات ينتظم بها معاشه.

– رسوم في المزاجر يتحصن بها من البوائق والأشرار.

إذًا فموضوع المقارنة يتناول العناصر الرئيسة للدين، ويسميها أركان الدين، ومن ثم تشترك فيها أو يجب أن تشترك فيها جميع الأديان. وتضاف إلى هذه العناصر الرئيسة وتتكامل معها عناصر أخرى مثل؛ النظام السياسي، النظام الاجتماعي، الإنجاز الحضاري، الإنجاز الثقافي. ومن الواضح أن العامري قد استمد العناصر هذه من الإسلام؛ لأنه الدين الذي تتمثل فيه -وفيه وحده- كل عناصر الدين الكامل.17

وأما القواعد والأسس المنهجية التي اتبعها في دراسته المقارنة للأديان فهي كالآتي:

– ألا يوقع المقايسة إلا بين الأشكال المتجانسة، فلا يعمد إلى أصل من أصول دين فيقابله بفرع من الدين الآخر. فيلتزم أن يقارن العناصر المتشابهة، أو ما يسميها بالأشكال المتجانسة، فيقارن الأصل بالأصل والمهم بالمهم، كأن يقارن العقائد بالعقائد، والعبادات بالعبادات.

– والقاعدة الثانية كما يقول العامري: “ألا يعمد إلى خلة موصوفة في فرقة من الفرق.” كأن يقارن بين عقائد المذهب الشيعي أو الإباضي، أو المعتزلي، مع المذهب النصراني على أنها عناصر المسلمين التي تمثل كافتهم، أو بالعكس مع الأديان الأخرى. 18

– اتخذ العامري منهجية عرض العقائد على العقول، ليتبين صدقها من كذبها، لأنه من القائلين بأن العقل السليم والنقل الصحيح لا يتعارضان، يقول: من الواجب على الإنسان أن يعرض جميع ما يسنح لقوته المخيلة من الأبواب الاعتقادية على قوته العاقلة؛ ليأمن بها آفات الكذب.

– انتقد العامري التقليد في مسائل العقائد والإيمان، رافضًا التعصب لمعتقد الآباء والأجداد، وداعيًا المتدين إلى: “أن لا يكابر ما أوجبه العقل الصريح، لمحبة التقليد، وخصوصًا لمن لا يشهد له بالعصمة، فإن الحق لا يعرف بالرجال، بل يعرف بنفسه.” 19

وهنا نجد أن العامري لم يدرس تاريخ الأديان فقط، وإنما اعتنى كذلك بدراسة فلسفتها؛ فقد امتاز بالثقافة الدينية الواسعة، والخبرة الفلسفية المعمقة، والتجارب التي اكتسبها من خلال سفره جعلته على احتكاك مباشر بأهل الأديان، والتعرف عن قرب على اعتقاداتهم.20

وتتجلى موسوعيته وثقافته عندما استخدم شتى العلوم في دراسته المقارنة للأديان، كالتاريخ، والإنجاز الحضاري، والإنجاز الثقافي، والعقيدة، والعبادات، والمعاملات، والقانون، والحدود، ومقاصد الشريعة وعلم الكلام… إلخ.

وإن هذه المنهجية التي اتبعها العامري في دراسة الأديان ومقارنتها تبين سماحة الإسلام، وحثه على الموضوعية، والحوار الهادف، وتلقّف الحكمة أينما كانت، وتؤكد جهود علماء المسلمين القدماء في جانب الأديان بأنه علم قائم على أسس ومنهجية موضوعية. وأخيرًا فإن العامري كان من أوائل من أسس للمنهج الظاهراتي في دراسة الأديان. 

الهوامش

1- انظر: عبده، مصطفى محمد، فلسفة الإمام أبي الحسن العامري في بيان مناقب الإسلام، ص93.

2- انظر: العامري، أبو الحسن، الإعلام بمناقب الإسلام، (النص المرفق من تحقيق أحمد عبد الحميد غراب)، ص59.

3- انظر: المرجع نفسه، ص8.

4- انظر: محاضرة إبراهيم زين، بعنوان: شرح كتاب الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن العامري.

5- انظر: ابن رشد، فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من اتصال، (النص المرفق من تحقيق محمد عمارة في المقدمة)، ص ب.

6- انظر: عبده، مصطفى محمد، فلسفة الإمام أبي الحسن العامري في بيان مناقب الإسلام، ص99.

7- انظر: المرجع نفسه، ص98.

8- انظر: محاضرة إبراهيم زين، بعنوان: شرح كتاب الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن العامري

9- انظر: عبده، مصطفى محمد، فلسفة الإمام أبي الحسن العامري في بيان مناقب الإسلام، ص 99.

10- انظر: العامري، أبو الحسن، الإعلام بمناقب الإسلام، (النص المرفق من تحقيق أحمد عبد الحميد غراب)، ص17.

11- الكندي، أبو يوسف بن إسحاق، رسالة الكندي إلى أحمد بن المعتصم في الإبانة عن سجود الجرم الأقصى وطاعته لله عز وجل، ص92.

12- انظر: العامري، أبو الحسن، الإعلام بمناقب الإسلام، (النص المرفق من تحقيق أحمد عبد الحميد غراب)، ص18.

13- انظر: عبده، مصطفى محمد، فلسفة الإمام أبي الحسن العامري في بيان مناقب الإسلام، ص104.

14- انظر: العامري، أبو الحسن، الإعلام بمناقب الإسلام، (النص المرفق من تحقيق أحمد عبد الحميد غراب)، ص21.

15- انظر: عبده، مصطفى محمد، فلسفة الإمام أبي الحسن العامري في بيان مناقب الإسلام، ص104.

16- الدوسكي، أمين حجي، مقارنة بين مناهج علماء المسلمين القدماء والمعاصرين في دراسة الأديان في ضوء إشكالية الموضوعية، ص12- 14.

17- انظر: العامري، أبو الحسن، الإعلام بمناقب الإسلام، (النص المرفق من تحقيق أحمد عبد الحميد غراب)، ص22- 23.

18- الدوسكي، أمين حجي، مقارنة بين مناهج علماء المسلمين القدماء والمعاصرين في دراسة الأديان في ضوء إشكالية الموضوعية، ص16.

19- انظر: العامري، أبو الحسن، الإعلام بمناقب الإسلام، (النص المرفق من تحقيق أحمد عبد الحميد غراب)، ص181-191.

20- انظر: أبو زيد، منى أحمد، العلاقات بين الأديان عند العامري والبيروني، ص60.