حضور النفس البشرية في بناء الحجّة القرآنيّة

222

توسّعت دائرة الحِجَاج حديثًا وتعدّدت أساليبه، ولعلّ ذلك بسبب تداخله الكبير مع فروع معرفية مختلفة كالفلسفة وعلم النفس والبلاغة واللسانيات، وهذا ما جعل من دراسة تقنياته دراسة متعددة الجوانب وتحتمل زوايا نظر مختلفة، وارتبط الحِجاج بعلم النفس، لأننا في بناء الحجة نعتمد على ثلاثة مصادر كما يرى “ليونيل بلينجر”؛ نعتمد على ثقافتنا وتاريخنا، وعلى طريقة تفكيرنا من خلال المنطق، وعلى خاصيتنا الانفعالية أي العواطف والأحاسيس، وبهذا المعنى يكون الحجاج ممارسة نفسية ومنطقية معًا، بل إنّ الحجاج برأي “بلينجر” انتقل من الفيلسوف إلى عالم النفس، وأصبح شأنًا من شؤون التواصل يدبّره بالأحرى علماء النفس أكثر مما يدبّره المناطقة، والأسلوب النفسي قديمًا كان يصنّف تحت التصديقات الصناعية كما يسميها أرسطو.

إن القرآن الكريم عَنيَ بأسلوب الحجّة اعتناءه بالحجّة نفسها، وهذا ما جعل حجاجه مختلفًا عن الحجاج المنطقيّ المجرّد، فكان بذلك يشير بوضوح إلى أننا لا يكفي أن نعرف ما ينبغي أن يقال، بل يجب أن نقوله كما ينبغي.

ونجد في تراثنا من تحدّث عن الأثر النفسيّ بوضوح وجعله وجهًا من وجوه الإعجاز؛ كما نرى عند الإمام “الخطابيّ” في رسالته “بيان إعجاز القرآن”، فرأى هذا الأثر النفسي وجهًا غائبًا عن الناس ولا يعرفه إلا قليلهم، ومعنى الأثر النفسيّ للقرآن عند الخطّابيّ؛ ما يصنعه القرآن في قلوب الناس من اللذة والحلاوة، والروعة والمهابة، فتستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظّها من ذلك تغشّاها الخوف والقلق. ويضرب الخطابيّ لذلك أمثلة عن حال العرب الذين تحوّلوا عن عنادهم للدين الجديد عند سماع القرآن، وآمنوا به كعمر بن الخطاب، أو كالذين حاروا وذهلوا وبدا ذلك على وجوههم كالوليد بن المغيرة الذي أرسلته قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من سورة السجدة، فلما رأته قريش عندما رجع قالت: أقبلَ الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

وهنا قد نستشكل أنّ من المغالطات المنطقيّة ما يسمّيه المناطقة بـ”الألفاظ المفخّخة أو الملقّمة” وهي الألفاظ التي تحمل شحنات انفعالية لتحدث تأثيرات في المتلقي ترهيبًا أو ترغيبًا دون استدلالات عقلية سليمة، فالكلمة الملقّمة مثل البندقية الملقّمة بالذخيرة، والمعنى الانفعالي هو الرّصاصة التي تطلقها.

ولكن ليست كل لغة مشحونة بالانفعال النفسيّ هي لغة مغالطة بالضرورة أو لغة بعيدة عن العقل والحقيقة، وإلا لصار الأدب والشعر ركامًا من المغالطات، وفي الأصل لا يمكن التعبير عن أي فكرة بشكل يخلو مطلقًا من اللون العاطفي، والانفعال العاطفي واقع في أي جملة على اختلاف درجته، بل إنه لا تكاد تخلو جملة مهما كان حظها من الابتذال؛ دون أن يخالطها عناصر انفعالية، وهذا ما تكلّم عنه فندريس في كتابه “اللغة” بقوله: “وإذا استثنينا اللغات الاصطلاحيّة واللغة العلميّة منها بوجه خاص –تلك التي تعدّ خارج الحياة بطبعها- أمكننا أن نقول بأنّ التعبير عن أية فكرة لا يخلو مطلقًا من لون عاطفيّ.

يقرّر “باسكال” وهو أحد المشتغلين بالحجاج الحديث، أنّ “للقلب حججه التي لا يعرفها العقل”، وهذا ما يعطي الحجاج بُعدًا نفسيًا سيكولوجيًا، والحجّة وحدها -برأي بلينجر- لا قيمة لها ما لم تتمّ معالجتها من خلال المعارف النفسية والسيكولوجية، فالفرد هو الذي يملك مفتاح القدرة الاقناعية للحجة، إنّ اختلاف التقنيات الحجاجية حسب نوع الخطاب ذكره “بيرلمان” في قوله: “إنّ كل مجال يتطلّب نوعًا خاصًا من الخطاب، إنه لمن المضحك اكتفاء الرياضي بالحجاجات المعقولة، كما أنه من المضحك أيضًا اعتماد الخطيب على البراهين الرياضية”.

وإذا كان الخطاب القرآني خطابًا عامًا لكلّ الناس فإنّ اكتفاءه بالأدلة المنطقية الرياضية قد يقلّل من مساحة تأثيره لتقتصر على من يفهمها، ولأنه خطاب هداية وتأثير فإنّ أدواته وتقنياته متعدّدة، وإنّ تسخير الطاقة الانفعالية والخيالية في خدمة الحقيقة أمرٌ لازم، وهذا ما فعله القرآن في توجيه الناس إلى معاني الربوبيّة والوحدانيّة وإقامة أحكام الشريعة.

وصفَ الله تعالى المعرِض عن القرآن بأوصاف نفسيّة كثيرة؛ لأنه يعارك ما في نفسه أولًا، فوصف الكافرين بأوصاف الكبر والعناد، بل كانت هي الغالبة على وصفهم، قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًّا} [النمل: 14]، ولعلّ قصة الوليد بن المغيرة في آيات سورة المدّثر خيرُ تجسيد لهذا الصراع النفسيّ، التي نزلت بعد سماعه القرآن من النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وللإمام الرازي وقفة لطيفة مع هذه الآيات، وخصوصًا عند قوله تعالى: {ثم عبس وبسر* ثم أدبر واستكبر* فقال إن هذا إلا سحر يؤثر* إن هذا إلا قول البشر} يقول الرازي: “قوله عبس وبسر يدلّ على أنه كان عارفًا في قلبه صدق محمّد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان يكفر به عنادًا… ظهرت العبوسة في وجهه، ولو كان معتقدًا صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه”.

وهنا نسأل بحذر هل معاني القرآن مستودعة في نفوسنا؟ هل خوطبت النفس بمعاني القرآن من قبل؟ هل كان ذلك سببًا لتكرار أوصاف العناد والكبر للكافرين؟

لا يمكن الجزم بهذا بالضرورة، لكن يمكن القول إنّ الإيمان كما هو معلوم فطرة مكنونة في كل نفس {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30]، والفطرة كما يراها الفيلسوف طه عبد الرحمن تحفظ الصلة بعالم الغيب، وهذه الصلة هي الذاكرة الروحية لها، يقول: “يقضي مبدأ الفطرة بأنّ قدرة الإنسان على التشهيد تأتي من كونه خلق أول ما خلق على هيئة تحفظ صلاته بعالم الغيب، بحيث تحمل روحه قوة خاصة أشبه بذاكرة سابقة على ذاكرته التي يملكها في العالم المرئي، وهذه القوة الروحية التي تحفظ ذكريات عالم الغيب أو قل هذه الذاكرة الغيبية أو الأصلية، اختصت في الإسلام بمصطلح الفطرة… إذ معاني الدين لا تعدو كونها الحقائق الروحية التي تحفظها الذاكرة الأصلية، لهذا لا يمكن أن يكون الدين بالنسبة للإنسان أمرًا طارئًا يعرض من خارج حياته”.

وهذا المفهوم عند طه عبد الرحمن له أدلته من القرآن؛ كقوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} [الأعراف: 172]، فالله تعالى خاطب النفوس البشريّة وأشهدها على ربوبيته ووحدانيته، وشهدوا هم بذلك، قال القرطبيّ في معاني الآية: “وقيل: إنّه سبحانه أَخرجَ الأَرواحَ قبل خلقِ الأَجسادِ، وأَنّه جعل فيهَا من المعرفةِ مَا عَلِمَتْ به مَا خاطَبها”.

والنصّ القرآني إنما جاء يخاطب هذه الفطرة يستخرج مكنونها إذا صَفَتْ، أو يجليها إذا تشوّهت، لذلك إذا قرأت النفسُ البشريّة النصَّ القرآنيّ فإنما تقرأ ما أودع في نفسها وتستظهر المعاني المخبأة في ذاتها، وهذا أبلغ في حجاجها وإقناعها والتأثير بها، إنْ صحّ هذا فهو قد يفسر سبب ارتباط أوصاف الكافرين بالعناد والكبر.

وإنْ صحّ هذا فهو يعطي للنفس قيمة كبيرة في صياغة آيات القرآن، فالقرآن الكريم في بناء حججه وألفاظه وتراكيبه ساير النفسَ البشريّة؛ فأتى لها بكلام يحمل أنفاسَها، ويرتبط بأفكارها ومشاعرها، وهذا له أمثلة كثيرة، من ذلك مثلًا، الترتيب بين المعطوفات حسب الخصيصة النفسية التي تقتضي ذلك، وهذا أيضًا له مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: {يوم يفرّ المرء من أخيه* وأمّه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرى منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 34-37] إلى جانب قوله تعالى: {يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه* وصاحبته وأخيه* وفصيلته التي تؤيه* ومن في الأرض جميعًا ثم ينجيه}  [المعارج: 12-14].

الآيات الأولى رتبت المعطوفات حسب عاطفة الحبّ وتدرّجها في النفس البشريّة، فالإنسان يهرب من الأباعد أولًا حتى ينتهي بأقربهم إليه، والأخ أبعدُ المذكورين فبدأت به، والابن أقرب المذكورين فانتهت به. أما الآيات الثانية فقد رتّبت المعطوفات حسب مقام حيرة النفس البشرية وبحثها عن ملجأ، فالإنسان في بحثه عن ملجأ يبدأ بأقرب الناس إليه ثم الأبعد فالأبعد، لذلك بدأت الآية بالابن لأنه الأقرب ثم الزوجة ثم الأخ ثم العشيرة ثم عموم البشر، ولعلها لم تذكر الأبوين لأن النفس عادة لا تطلب منهما العون في مواقف الخطر؛ فهما مظنة العجز والشيخوخة.

تتفاوت النفوس في الإحساس بالمعاني وتتباينُ استجابتها للنصوص المثيرة، تبعًا لصفاء هذه النفوس، وتبعًا لقدرة النصوص على جذبها، وإدراكُ هذا الأمر ثم تجاوزه لا يكون إلا بعد معرفة هذه النفوس معرفة دقيقة، وبالتالي معرفة انفعالاتها وتوجيهها، وهنا يتوجه معنى الحجاج للمؤمن وغير المؤمن، والتربية القرآنية في حجاجها لهذه الانفعالات لا تدعو إلى إماتة هذه الانفعالات ولا إلى قهرها، وإنما تدعو إلى حسن رعايتها وتوجيهها للسلوك المقبول وتدريب النفس على ضبطها.

ويمكن أن نشير إلى مثال تربوي من القرآن يركّز على تربية الانفعالات بالحوار، والحوار فرع من فروع الحجاج والجدل، وقد استعمله القرآن في كثير من آياته وسوره؛ وكان هدفه أن يضع القارئ في تجربة هذا الحوار مع المتحاورين، ليعيش الانفعال نفسه والأزمة نفسها، ويظهر هذا جليًا في قصة يوسف مع امرأة العزيز، وهو يواجه انفعالات مختلطة من خوف تهديد امرأة العزيز له بالسجن إن لم يفعل ما تريد {قالت فذلكنّ الذي لمتنّني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما أمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين} [يوسف: 32]، ومن رغبة فطرية في نفسه يؤججها إغراء امرأة العزيز له، فهو بين أمرين متعاكسين، بين السجن الذي هو غاية ما يكره الإنسان، وبين إغراء امرأة العزيز له وهو غاية ما يطلبه الإنسان، لكنّه اختار السجن والتجأ إلى الله ليصرف عنه كيدهنّ، فتغلّب على انفعالين اثنين في نفسه، قال تعالى في تصوير هذا الحوار بين امرأة العزيز والنسوة، ثم بين يوسف وربّه: {قال ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهنّ أصب إليهنّ وأكن من الجاهلين* فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهنّ إنه هو السميع العليم} [يوسف: 33-34] .

إن البعد النفسي ظاهرٌ في خطاب القرآن وجزء من نظمه المعجز، وهو الكتاب الذي يعالج الكينونة البشرية بكلّيتها عقلاً ونفساً في صياغة فريدةٍ للكتاب الخالد.