من هو الفقير شرعاً؟

2٬312

محاولة في تحرير معنى الغنى و الفقر و علاقته بالزكاة الواجبة

فرض الله سبحانه و تعالى الزكاة و جعلها حقاً لازماً يرتبط به و بأدائه تحقيقُ معنى الإيمان و صحة الانتساب إلى أمة الإسلام . قال تعالى: {وويلٌ للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة و هم بالآخرة هم كافرون} ، و قال تعالى: {وفي أموالهم حقٌّ معلوم للسائل و المحروم}، و قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانُكم في الدين}.

و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم الزكاة من أركان الإسلام و جعلها قسيم الشهادة و الصلاة فقال: “بُني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و إقام الصلاة ، و إيتاء الزكاة و صوم رمضان و حج البيت من استطاع إليه سبيلاً . و بيّنَ رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أجمله القرآن فحدّدَ مقادير الزكاة و نسبها و بيّنَ أن الزكاة ” تُؤخذ من أغنيائهم و تُردُّ على فقرائهم ” (رواه البخاري في كتاب الزكاة من حديث معاذ رضي الله عنه) .

 

و قد رَوى البخاري عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – قوله : الزكاة حق المال . وشرحَ علماء الأمة و مجتهدوها أن المعنى المُعتبر في هذه الفريضة هو المواساة لمن قُدِرَ عليه رزقه فلا يجد ما يحتاج إليه من سداد العيش. فالإمام أبو حنيفة – رضي الله عنه – جعل الزكاة معللةً بالمالية الصالحة لإقامة حق الفقير ، و الإمام الشافعي – رضي الله عنه – يُقرّرُ – فيما نقله عنه الإمام الزنجاني – أن الزكاة مؤونةٌ ماليةٌ وَجَبَت للفقراء على الأغنياء بقرابة الإسلام على سبيل المواساة و معنى العبادة فيها تَبَع. (تخريج الفروع على الأصول – ص110).

بعد هذه المقدمة ، نرى أن من الواجب إعادة طرح السؤال: من هو الغني الذي يدفعُ الزكاة ، و من هو الفقير الذي يستحقها اليوم؟ و هذا السؤال على بساطته و واقعيته ليس له جوابٌ بسيط واضحٌ ميسر . فقد ابتعدت الإجابات الجاهزة في كتب الفقه عن الاستجابة للمتغيرات الاقتصادية إلى درجةٍ يخشى معها المرء أن يفقدَ هذا الركن وظيفته الاجتماعية الخطيرة في حياة المسلمين.

يقررُ الفقهاء أن الزكاة تجبُ في مال المسلم الذي ملَكَ نصاباً زائداً عن حاجاته الأصلية و حالَ عليه الحول . و كأنّ هذا التقرير – حسب ما يُفهم و يُطبّق – يحصرُ الزكاة الواجبة في ما يدّخرهُ المسلم و يوفرهُ كائناً ما كان دخلهُ و مستوى المعيشة الذي يتمتع به بشكلٍ تغيبُ معه معاني وقيم المواساة و التكافل التي تُمثِّلُ مقصدَ الزكاة و رُوحها ، الأمر الذي يفرض علينا إعادة فتح هذا الملف بُغية دراسته والبحث فيه ، وصولاً إلى رؤيةٍ اجتهاديةٍ مقاصديةٍ مؤصَّلةٍ تُمكِّن هذه الفريضة الكبرى من تحقيق تلك المعاني والقيم .

و سنحاول في هذا البحث عرض ما أحاط بهذا الأمر و ما وصلت إليه جهود العلماء و الباحثين على مستوى الدراسة و التحليل و اقتراح التطبيقات العملية في حياة الأمة.

النّصاب:

ربط الفقهاء معنى الفقر بالقصور عن إمكانية تغطية الكفاية من الحاجات الأصلية للمكلف و من يُعيله من أفراد أسرته . و قد نقل الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه “فقه الزكاة” عن حجة الله البالغة الإمام الدهلوي أن التشريع في عهد النبوة نظر إلى الكفاية فيما قرره من النصاب الشرعي في الأموال المختلفة فقال : “إنما قدّر من الحبّ و التمر خمسة أوسق لأنها تكفي أقل أهل بيت إلى سنة . و ذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالثٌ – خادم أو ولد بينهما – و ما يضاهي ذلك من أقل البيوت . و غالبُ قوتِ الإنسان رطلٌ أو مُدٌّ من الطعام ، فإذا أكل كل واحدٍ من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة ، و بقيت بقيةٌ لنوائبهم أو إدامهم”. وفي موقعٍ آخر يقول: “و إنما قدر من الورق خمس أواقٍ (أي مئتي درهم) لأنها مقدارٌ يكفي أقل أهل بيت سنة كاملة إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار، و استقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص و الغلاء تجد ذلك”. وفي موضعٍ ثالثٍ يقول: “و إنما قدر من الإبل خمسة ذود و جعل زكاته شاةً … وإن كان الأصل ألا تؤخذ الزكاة إلا من جنس المال… وكان البعير يُسوّى في ذلك الزمان بعشر شياهٍ و بثمان شياه و اثنتي عشرة شاة كما ورد في كثير من الأحاديث ، فجعل خمس ذود في حكم أدنى نصاب من الغنم و جعل فيها شاة”.

وبعد هذه النقول عقّب الشيخ القرضاوي بقوله: “و الحكمة في اشتراط النصاب واضحةٌ بيّنة ، و هي أن الزكاة إنما هي ضريبةٌ تُؤخذ من الغني مواساةً للفقير و مشاركةً في مصلحة الإسلام و المسلمين. فلا بد أن تؤخذ من مالٍ يحتمل المواساة ، و لا معنى لأن نأخذ من الفقير ضريبةً و هو في حاجة إلى أن يُعان لا أن يُعين”. (فقه الزكاة ص151) و كذلك فقد استصحب الفقهاء مقاصد الشريعة و روحها عندما قرروا أن الكفاية قد لا ترتبطُ بمقدار النِّصاب الشرعي ( أي المقدار المقرر للنصاب في عهد النبوة ) فيجوز إعطاء الفقير كفايته و لو بلغت نُصُباً. و قد نقل الشيخ القرضاوي عن كثيرٍ من العلماء أن الغنى هو ما تَحصلُ به الكفاية ، فإن كان الرجل محتاجاً حلّت له الصدقة و إن مَلَكَ نصاباً أو نُصُباً. ( انظر إن شئت – فقه الزكاة – ص 550 – 556 ).

و هنا يصل بنا البحث إلى الإشكال القائم في النظر إلى النصاب الشرعي في الزكاة. فمن جهةٍ يؤكد النظر أن النصاب المفروض في عهد النبوة كان مناسباً لتحقيق الكفاية لأوسطِ أهل بيتٍ من العرب ، و من جهةٍ أخرى يؤكد الفقهاء في القرن الثالث أن هذه الكفاية ابتعدت عن أن تتمثل بالنصاب الشرعي المقرر في عهد النبوة. فكيف ننظر إلى النصاب الشرعي الذي تتعلق به فريضة الزكاة في البيئات المختلفة و الأزمان المتعاقبة ؟

يطرح الدكتور القرضاوي هذا التساؤل في أكثر من موضع ، فيقول : هل من سبيلٍ إلى معيارٍ ثابت لنصاب النقود ؟ ثم يتابع كلامه قائلاً: “من المعروف لدى دارسي التاريخ و دارسي الاقتصاد أن قيمة النقود لا ثبات لها و أنها تتحول صعوداً و هبوطاً من عصرٍ إلى آخر و من قُطرٍ إلى آخر. و القيمة الحقيقية للنقود إنما تتمثل في قدرتها الشرائية و لا سيما في عصرنا الذي أصبح السائد فيه هو النقود الورقية ، لأن الناس لا تأكل النقود و لا تلبسها بل تشتري بها ما يلزمها من حاجات. و قد رأينا كيف هبطت قيمة النقود الفضية إلى حدٍ أصبح النصاب الشرعي لا يساوي شيئاً يُذكر بجانب الأنصبة الشرعية الأُخرى من الذهب أو الأنعام و غيرها. و لكن ما الحل إذا انخفضت قيمة الذهب أيضاً و أصبح العشرون ديناراً أو ( بعبارة أخرى أصبحت85 غراماً) لا توازي أو تقارب الأنصبة الاخرى ؟ إن هذا التساؤل يَرِدُ كذلك إذا ارتفعت في عصرٍ ما قيمة النقود و تضاعفت قوتها الشرائية إلى حد غير معقول. هل من سبيلٍ إلى وضع معيارٍ ثابت للغنى الشرعي الذي جعله الإسلام مناط وجوب الزكاة ، فإنها لا تجب إلا على غني ..” ثم يتابع الشيخ القرضاوي حديثه قائلاً: “و لقد قال العلامة ولي الله الدهلوي في كتابه القيم (حجة الله البالغة): (إنما قدر النصاب بخمس أواق من الفضة لأنها مقدار ما يكفي أقل بيت سنة كاملة إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار) فهل نجد الآن في أي بلد من بلاد الإسلام أن خمسين أو نحوها من الريالات المصرية أو السعودية أو القطرية أو الروبيات الباكستانية أو الهندية و نحوها تكفي لمعيشة أسرةٍ – أيّ أسرة – سنةً كاملة أو شهراً واحداً أو حتى اسبوعاً واحداً ؟ إنها في بعض البلاد التي ارتفع فيها مستوى المعيشة – كبلاد النفط – لا تكفي بعض الأُسر المتوسطة لنفقات يومٍ واحد فهل يُعدُّ من مَلَكها غنياً في نظر الشارع الحكيم ؟ هذا بعيدٌ غاية البعد”. ( فقه الزكاة ص 265 )

و مايستغربهُ المرءُ بعد هذا التحليل لمعنى النصاب أن يجد الدكتور القرضاوي وقد عاد ليقترح طريقةً في حساب و تقدير النصاب الشرعي تتمثل بحساب نصف قيمة خمسةٍ من الإبل في بلدٍ متوسط الغلاء ، و هو بهذا يحيلنا إلى شبه المجهول في كثيرٍ من البلاد التي لا تعرف الإبل و لا تتعامل بها . فإذا ثَبَتَ بُعدُ النِّصاب محسوباً بقيمة الفضة أو الذهب عن أن يعتبر ميزاناً للغنى ، فلتكن الإبل هذه المرة ، و مع بالغ الاحترام فإننا نجد أن هذه محاولةٌ لا تخلو من التكلف .

من هنا نصل إلى القضية الجوهرية في النظر إلى حد الغنى . فمن جهةٍ يرتبط الغنى و الفقر بتغطية الحاجات الأصلية ، و هذا النظر واسعٌ يتعلق بتغير البيئات و الزمان و المكان و الأحوال . و من جهةٍ أخرى يميل الفقهاء إلى حمل النصوص الواردة في مقادير النصاب على معنى تعبدي توقيفي و كأن الظروف السائدة في عهد النبوة و فيما عرفه ذلك الزمان من وسائل الكسب و الارتزاق و الحاجات لن تتغير إلى قيام الساعة . و في هذا النظر المتأرجح بين المعنى العرفي المقرر للغنى و الفقر و ارتباطه بالحاجات الأصلية ، و بين المعنى التعبدي التوقيفي لمقادير ما تجب فيه الزكاة من الأموال ، ما زالت فريضة الزكاة تعاني من البعد عن الحياة العملية لجماهير الأمة . إن حمل مقادير ما تجب فيه الزكاة علىمعنى تعبدي يتناقض مع خلود الشريعة و خاتميتها . و رحم الله الإمام ابن عاشور حيث يقول في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية): “فإن كثيراً من أحكام المعاملات التي تلقّاها بعض الأئمة تلقيَ الأحكام التعبدية قد عانى المسلمون من جرائها متاعب جمة في معاملاتهم و كانت الأمة منها في كبد” .

إنً من المفهوم أن تكون النسب المفروضة للزكاة ثابتةً مثل العشر أو نصف العشر أو ربع العشر فهذا أمر لا بد من التوقيف فيه و لا يملك أحدٌ أن يزيد فيه. أما ما هو الحد من الحاجات الضرورية و التي تجب المواساة في كل ما زاد عنه ، فهو أمر عرفيٌ لا بد للفقهاء أن ينظروا فيه إلى الواقع ليفهموه و يقدروه و لا يغني عنهم وقوفهم عند نصوص تحدثت عن واقع آخر و زمان آخر.

و مما يزيد هذا الأمر وضوحاً أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسل معاذاً إلى اليمن و أوكل الأمر إلى تقديره في معرفة الغني و الفقير في البيئة التي أرسله إليها ولم يحدد له حدَّ الغنى و الفقر ليرجع إليهما . أما النصوص التي تحدثت عن حدّ الغنى ، فمن المعروف أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يُسأل عن أمور متماثلة و كان يعطي الجواب في كل مرة بما يناسب حال السائل و ما يصلح له . فإذا تركنا جانباً ضعف الأحاديث التي تحدثت عن حد الغنى بمائتي درهم مرة ، و خمسين درهم مرة أخرى, و عشاء ليلة في حديث آخر ، فإن هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجيب كل سائلٍ بما يناسب حاله و يعلّمهُ أدب السؤال و مزية التعفف و سوء عاقبة استشراف النفس لما في أيدي الناس .

الحاجات الأصلية:

نقل الشيخ القرضاوي عن الإمام النووي قوله ( قال أصحابنا : المُعتَبَرُ المطعم و الملبس و المسكن و سائر ما لا بد له منه – على ما يليق بحاله – بغير إسراف و لا إقتار، لنفس الشخص و لمن هو في نفقته ) . و قرر الشيخ القرضاوي في موضع آخر: “و الذي ينبغي الالتفات إليه أن مستوى المعيشة للشخص لا يمكن تحديده تحديداً صارماً ، لأنه يختلف باختلاف العصور و البيئات و باختلاف ثروة كل أمّةٍ و مقدار دخلها القومي . و رُبَّ شيءٍ يكون كمالياً في عصرٍ أو بيئة يصبح حاجياً أو ضرورياً في عصر آخر أو في بيئة أخرى . و من الفقهاء من أضاف إلى شرط النماء في المال أن يكون النصاب فاضلاً عن الحاجة الأصلية لمالِكِهِ – كما قرر ذلك الحنفية في عامة كتبهم – لأن به يتحقق الغنى و معنى النعمة .. و إنما قلنا الحاجة الأصلية لأن حاجات الإنسان كثيرة و لا تكاد تتناهى ، وخاصةً في عصرنا الذي تكاد تصبح فيه الكماليات حاجيات و الحاجيات ضروريات ، فليس كل ما يرغب الإنسان فيه يُعدّ حاجة أصلية لأن ابن آدم لو كان له واديان من ذهب لابتغى ثالثاً و لكن الحاجات الأصلية ما لا غنى للإنسان عنه في بقائه كمَأْكلِهِ و مشربهِ و مسكنهِ و ما يعينه على ذلك من كتب علمه و فنه و أدوات حرفته و نحو ذلك .. والذي نراه على كل حال أن الحاجات الأصلية للإنسان قد تتغير و تتطور بتغير الأزمان و البيئات و الأحوال ، و الأولى أن تُترك لتقدير أهل الرأي و اجتهاد أولي الأمر”. ( فقه الزكاة ص 151 ) . و لكن كيف يُقدِّرُ أهل الرأي و أولي الأمر هذا الموضوع و على أي أساس ، فهذا ما لم يجب عنه الشيخ القرضاوي ، مع أن أداء فريضة الزكاة على وجهها يتوقف على هذا التقدير . وهذا ما نعتقد أن الدكتور محمود أبو السعود أجاب عليه إجابةً شافيةً كما سنرى بعد قليل .

الحول:

يقرر الدكتور القرضاوي فيي “فقه الزكاة” أن السَّنةَ هي الوحدة الزمانية في نظر الشارع و لهذا كان اعتبار الحول في الزكاة ، أما أن يكون المعنيُّ بالحول أن يستقر النصاب في مُلك المكلف سنة كاملة حتى تجب عليه الزكاة فهذا ما استبعده الدكتور القرضاوي بشدة قائلاً: “رُوي اشتراط الحول عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أربعة من الصحابة هم علي و ابن عمر و أنس و عائشة ، ولكن هذه الأحاديث كلها ضعيفة لا تصلح للحجة” . ثم يتابع نفيه لإشتراط الحول بقوله: “إن القول باشتراط الحول في المال المستفاد انتهى إلى تناقض يأباه عدل الإسلام و حكمته في فرض الزكاة . من ذلك أن الفلاح الذي يزرع أرضاً مستأجرة يؤخذ منه على المُفتى به في المذاهب السائدة العشر أو نصف العشر من غلة الأرض إذا بلغت خمسين كيلةً مصريةً بمجرّد حصاد الزرع و تصفية الخارج . أما مالك الأرض نفسه الذي يقبض في ساعة واحدة مئات الدنانير أو آلافها من كراء هذه الأرض فلا يُؤخذ منه شيء – على المُفتى به في المذاهب السائدة أيضاً – لأنهم يشترطون أن يحول الحول على هذه المئات أو الآلاف في يده و قلّما يكون . و كذلك الطبيب و المهندس و المحامي و صاحب سيارات النقل أو صاحب الفندق .. الخ . و ما أدى إلى هذا التناقض إلا التقديس لأقوال فقهية غير معصومة انتهى إليها اجتهاد علماء يُؤخذ من كلامهم و يترك . و ما يدرينا أنهم لو أدركوا هذا العصر و شهدوا ما شهدنا لغيروا اجتهادهم في كثير من المسائل ؟ كما هو معلوم من سِيَرِ الأئمة رضي الله عنهم” .( فقه الزكاة ص 508 ).

و بعد هذه الجولة في بعض ما يتعلق بتعريف الحد الشرعي للغنى الذي يوجب الزكاة ، نجد أن الأمر ما زال يحتمل الكثير من التحقيق و الدراسة . و أرى أن الكلمة الفصل في هذا الموضوع قد وفق الله لها قلم الدكتور محمود أبو السعود – رحمه الله – في كتابه “فقه الزكاة المعاصر” إذ قال: “و الذي نراه أن يوجد معيار واحد للزكاة .. ليس هذا المعيار إلا ما يكفي أهل بيت واحد لسنة كاملة .. و هذا أمرٌ أصبح من اليُسر بمكان في زماننا الراهن ذلك أن تقدم العلوم الاقتصادية و الإحصائية مكّن الحكومات من حساب ما يسمونه – حد الفقر – أو حد الكفاف حساباً دقيقاً . إذ ينظر أولو الأمر في الطيبات الضرورية لإعاشة فردٍ واحد أو أسرةٍ واحدة (سنة كاملة) ، و تُسمَّى “السلّة الاستهلاكية” . و تتضمن هذه السلة ما تحتاجه الوِحدة المستهلِكة (الفرد أو الأسرة ذات الطفل الواحد أو الأسرة ذات الطفلين ..) من سلعٍ و خدمات كالمأكل و المشرب و الملبس و التعليم و العلاج و السكنى .. ثمّ تُقيَّمُ هذه الحاجات الأصلية بالنقود بالسعر السائد في آخر كل عام ، و يعتبر مجموع قيمتها هو النصاب ، فمن لم يبلغ ماله (أي دخله السنوي) هذا القدر فلا زكاة عليه ، و من زاد ماله عليه ففي ماله زكاة ، و من نقص ماله عنه فقد استحق الزكاة . و معلومٌ أن حدّ الفقر أو حد الكفاف أصبح اليوم أمراً مقرراً في جميع الدول ، و هو يختلف بطبيعة الحال من دولة إلى أُخرى حسب الأحوال الاقتصادية في كل قطر ، فحدُّ الفقر في الولايات المتحدة الأمريكية أو سويسرا قد يصل إلى أضعاف حد الفقر في الهند أو تنزانيا . و حين نفهم النصاب بهذا المعنى و نضفي عليه هذا الوصف فإن ذلك يُغني عن شرط “الحاجة الأصلية ” إذ يُقصد به أن يُزكَّى من المال ما فاض عن الحاجات الأصلية للفرد و من يَعُول . و إذ يتقرر إعفاء “الحد الأدنى من المعيشة” فلا وجه لاشتراط توافر الحاجات الأصلية كما قال به الفقهاء الأقدمون إلا تقرير إعفاء ما يستعمله الفرد من “أصول” تتطلبُها حياته و يقتضيها معاشه من واجب الزكاة . ( فقه الزكاة المعاصر ص 74 ).

و ختاماً ، تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الإسلامي في شمال أمريكا (ISNA) اعتمد طريقة الدكتور أبو السعود – رحمه الله – في ترتيب جدول حساب الزكاة في أمريكا الذي وزع منذ بضع سنوات . و نرى أن هذا الجدول يصلح مثالاً يُقتدى في غير أمريكا من بلاد المسلمين ، لتسهيل فهم فريضة الزكاة عند تعديل حدّ الفقر بما يناسب حال كل بلد من البلاد و أوضاعها الاقتصادية و الاجتماعية.

 

جمادى الآخرة 1419 هـ / 10-1998