خطاب التكليف وخطاب الوضع محاولة فهم معاصر

1٬715

توجه علماء الشريعة عند تعاملهم مع الأحكام العملية التي استنـبطوها من النصوص والروايات وفتاوى علماء خير القرون إلى صياغة مفاهيم كليّـة تندرج تحتها الجزئيات المتناثرة وآحاد الأحكام. ومن هذه المفاهيم الكلية مفهوم خطاب التكليف حيث تم تصنيف الأوامر والنواهي والوصايا والعهد وفتاوى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وغير ذلك إلى خمس مراتب من الوجوب والمندوب والمباح والمكروه والحرام. وقد قرر العلماء مرتبة كل حكم بناءً على نظر كـلّـي إلى الأدلة وقوتها وسياق الكلام في النصوص المتعلقة بفعل من أفعال المكلفين، وبناءً على النظر في مقدار المفاسد والمصالح المترتبة على الفعل ومقدار غلبة الظنّ بتحقـقها. فليس كل أمر يفيد الوجوب، وليس كل نهي يفيد التحريم، إذ لا بد من النظر الكلـي في موارد الأمر والنهي للوقوف على حقيقة المراد بالأمر من الإباحة أو الندب أو الوجوب أو حقيقة المراد بالنهي من الكراهة أو التحريم.

وخطاب التكليف كما أورده علماء الأصول جاء بدون تعريف وجاء مطابقاً لتقسيم الأحكام وذلك بقولهم خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة مع أن الأمر يحتاج إلى التوضيح والتفصيل، وهو ما نريد أن نسجل فيه بعض الملاحظات والتي نأمل أن تساهم في تحريك الأذهان لمزيد من البحث والدراسة.

أول هذه الملاحظات أن مفهوم خطاب التكليف جاء في جميع كتب الأصول بلا تعريف أو بيان حد أو غاية؛ إذ ينحصر خطاب التكليف بالأقسام الخمسة للأحكام وتأتي جميع الشروط والتفاصيل الأخرى عن التكليف في إطار الشرح لبعض الشروط الإجرائية للتكاليف مثل العقل والإيمان والبلوغ. وتأتي بقية التفاصيل في ثنايا بعض الأبحاث في كتب الفقه والأصول متناثرةً في بعض أبحاث العقيدة أو الحديث عن خطاب الوضع أو الرخص وغير ذلك. ويعجب المرء ويتساءل عن السبب الذي جعل الحديث عن مفهوم التكليف وشروطه ومجالاته لا يحتل المكان اللائق به في التربية الدينية أو التعليم الشرعي. وأحسب أن ضمور المقدمة الطبيعية لأبحاث الفقه والمتمثلة في شرح مفهوم التكليف وما يتعلق به قد يكون السبب في انتشار توجهات الغلو والحرفية والتعسف من جملة مظاهر الفكر الحـدّي الذي تغيب معه الصورة الكلية الإجمالية للأمور ويتضخم موضع الجزئيات ليصبح النظر إلى الأمور من وجهة نظر الشريعة ‑كما يفهمها الناس‑ حرام أو حلال، أبيض أو أسود، وبدون تفصيل أو فهم كـلي شامل.

والملاحظة الأخرى أن كثيراً من التفاصيل المهمة لمفهوم خطاب التكليف وشروط الدخول في الأعمال جاءت مغمورة متناثرة في كتب علماء أجلاء في سياق أبحاث مهمة قيمة لا تختص باسم خطاب التكليف ولكنها تقدم تحليلاً دقيقاً وتوجهاً حكيماً في عرض وشرح هذا المفهوم، فلا بد من إعادة الصياغة لما طرحه هؤلاء الأئمة الأفذاذ بما يكشف عن مساهماتهم التي طمسها البعد عن الترتيب المنهجي لآحاد الأفكار والمفاهيم.

إن ما ذكره الشيخ العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام” عن تفصيلات مراتب المصالح وامتزاج المصالح بالمفاسد ‑مثلاً‑ يُعد مقدمة مهمة في توضيح مفهوم التكليف، لكن الشيخ لم يشر إلى علاقة ما ذكره بمفهوم خطاب التكليف. وكذلك فإن جميع ما ذكره الإمام الشاطبي في كتاب “الموافقات” هو شرح وتفصيل لمفهوم خطاب التكليف. وأظن أن التسمية الأصلية للكتاب “التعريف بأسرار التكليف” كما أوضح الشيخ الشاطبي في مقدمته لكتاب الموافقات تدل على محتواه وموضوعه إلى درجة كبيرة. فالمقدمات التي افتتح بها الشيخ الشاطبي كتابه وشرح تفاصيل الدخول في الأسباب ووجوب مطابقة التسبب لمجاري العادات ‑السنن الكونية – أو ما ذكره الشيخ في كتاب “المقاصد” من وجوب مطابقة مقاصد المكلف عند قيامه بالأعمال لما قصده الشارع بالتكليف، أو ما ذكره من تفاصيل الدخول في المشقة، وكثير من تفصيلات الحديث عن الأدلة أو الاجتهاد داخلة في معنى التكليف وشرح ما يحف به من المعاني والمتطلبات.

وما ذكره ابن خلدون من وجوب مطابقة وسائل التغيير لطبائع العمران أو ما يمكن أن نسميه ‑السنن الاجتماعية-، كل ذلك -وكثير غيره- له صلة أكيدة بشرح وتوضيح مفهوم التكليف وطبيعته، وشروط الدخول في الأعمال والتكاليف من وجهة النظر الشرعي، ولكن هذه المساهمات القيمة منثورة مبعثرة في سياق موضوعات كثيرة متشعبة، فلا بد من جمعها وتبويبها وتنسيقها واستثمارها لبلورة مفهوم التكليف، ولا بد كذلك من إضافة البعد الجماعي لمفهوم التكليف وما يتضمنه ذلك من إعادة لصياغة مفهوم فروض الكفاية وما يحف به من المتطلبات. وبعد ذلك لا بد من إدراج هذه الأمور -بترتيبها الجديد- في صلب علم الأصول وطريقة تدريسه وتوظيفه.

وأما المفهوم الكلي الآخر الذي صاغه العلماء في محاولتهم لتبويب وتصنيف الأحكام الشرعية وما يتعلق بها فهو ‑خطاب الوضع-. وقد عبر بعض العلماء عن وعورة هذا المصطلح وصعوبة فهمه، وتجاوز الأكثرون ذلك وقفزوا فوق التعريف وبيان الحدّ إلى القول إن خطاب الوضع هو الأقسام التي ينقسم إليها من أسباب وشروط وموانع وغير ذلك، كما فعلوا من قبل عند الحديث عن خطاب التكليف إذ عرفوه بأقسامه.

وعند التأمل في مناقشات العلماء وما أثاروه من قضايا حول هذا المفهوم تبين لي أن ‑خطاب الوضع‑ هو مفهوم غنيٌّ وعميق لا بد من سبره واستثماره لمحاولة فهم أدق لطبيعة النظر الشرعي إلى الأحكام كما رآها علماء الأصول.

وأول ما يجب تسجيله في محاولتنا لفهم مصطلح خطاب الوضع هو علاقة هذا المصطلح بالتعامل مع الظروف والأوضاع العملية بما يتعلق بالواقع أو ما يترتب على أمور واقعية خارجة عن التحكم بها أو ضبط حدوثها. فالإمام الشاطبي في “الموافقات” يفتتح حديثه عن خطاب الوضع بقوله: “الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع من أجلها أو توضع ضربان: أحدهما خارج عن مقدور المكلف …”، فعلى هذا يترشح أن يكون خطاب الوضع محاولة لتأصيل منهجية في التعامل مع الأفعال الواقعة في الوجود والخارجة عن مقدور المكلف.

أما الإمام القرافي في كتابه “الفروق” فقد ميّز خطاب الوضع عن خطاب التكليف بقوله: “واعلم أنه يشترط في خطاب التكليف علم المكلف وقدرته على الفعل وكونه من كسبه”، وبهذا يترشح أيضاً أن خطاب الوضع يتناول أموراً لا تتعلق بقدرة المكلف ولا علمه ولا كسبه.

وكذلك بيّن الإمام الشاطبي عند الحديث عن الشروط المعتبرة شرعاً أن الشروط الراجعة إلى خطاب الوضع ليس للشارع قصد في تحصيلها أو عدم تحصيلها من حيث هي شروط، فإبقاء النصاب حولاً حتى تجب فيه الزكاة، مثلاً، ليس بمطلوب الفعل ولا مطلوب الترك. وكذلك قرر الشاطبي عند ذكر الموانع أنها ليست بمقصودة للشارع؛ بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها أو رفعها، ولكن متى حدث أو وقع المانع ترتب عليه أمور. وكذلك اعتبرت الرخص من خطاب الوضع نظراً للوضع الاستثنائي للمرض والسفر والمشقات التي تخرج عن المعتاد ودور ذلك في التيسير ورفع الحرج. فأسباب الرخص ليست مقصودة التحصيل للشارع ولا مقصودة الرفع لأنها موانع لترتب أحكام العزائم.

ومن جملة هذه الإشارات والتوضيحات نستطيع أن نقول إن خطاب الوضع -كما قرره العلماء- هو مفهوم يتعلق بالتعامل مع الواقع وما يجري فيه؛ هذا التعامل الذي يأخذ الواقع -كما هو‑ بعيداً عن الاستغراق بالتقييم الأخلاقي أو المعاناة الشعورية. فما يجري في الوجود من الأفعال التي ‑لا قصد للشارع في تحصيلها أو رفعها‑ هي أمور تأخذ مداها في الواقع وينظر إليها المسلم كأسباب لوجوب أشياء ما كانت واجبة، أو موجبات لشروط تحدد طبيعة التعامل مع الأمور أو موجبات ومقتضيات لموانع ترفع أحكاماً مستقرة أو واجبات مقررة.

إن فهم خطاب الوضع بهذا الشكل يعطي القدرة على معالجة الواقع وتحليله وفهمه بعيداً عن هاجس إعطاء الموافقة أو هاجس الإقرار بما ليس مرغوباً فيه أو هاجس الإذعان لما هو منهي عنه ومحكوم ببعده عن الصواب في الظروف العادية.

إن خطاب الوضع هو الرد على الخطاب المثالي الذي يعالج الأمور بالرفض والإنكار والادعاء أن كل شيء على ما نحب أن نراه ونتمناه، هذا الخطاب المثالي الذي يقفز فوق معطيات الزمان والمكان ولا يلتفت إلى الأفعال الواقعة في الوجود ليؤصل الرد المناسب عليها والتصرف الملائم تجاهها.

إن خطاب التكليف هو الخطاب بما يجب على المكلف فعله أو تركه من مراتب الأحكام في الظروف الطبيعية عندما يكون المكلف في سعة من أمره بشأن الخيارات المتاحة، أما خطاب الوضع فهو أشبه بمعالجة إصابةٍ بحادث في غرفة الإسعاف حيث توضع الآليات في ترتيب معكوس لرعاية الأولويات، إذ لا نستطيع التحكم في طبيعة الإصابات ولكننا نستطيع أن نحدد خطة لوقاية المريض من مضاعفات يمكن تفاديها ودرء خطرها.

وفهم خطاب الوضع بهذا الشكل يعطي الفرصة للخروج من التصور ‑الحـدّي‑ الذي يختزل الحياة وتشعباتها إلى حرام أو حلال، بينما تتنوع الأفعال الواقعة في الوجود إلى طيف من الاحتمالات لا تنسجم مع ذلك الحصر. فحيث تـقـع أمور ليس للشرع مقصد في تحصيلها أو منعها لا بد من تحلـيـل هذه الأمور في سياقها وعلاقاتها بالقرائن وبعد هذا النظر الكـلي يمكن النظر فيما يتسبب عن هذه الأمور أو فيما توجب من شروط أو يترتب عليها منع أو تعليق لأمور مقررة.

فخطاب الوضع كمفهوم طرحه الفكر القانوني الإسلامي هو مفهوم عملي حركي يدرس الأفعال الواقعة في الوجود كما هي، ليقيم نتائجها وانعكاساتها بعقلية واقعية تتناول الأمور دون آراء ومواقف مسبقة تغري بالإهمال أو التجاوز والإلغاء أو أي شكل من أشكال القفز فوق الحقائق.

ولكن الناظر في الأمثلة التي ساقها العلماء والفقهاء على خطاب الوضع تصيبه خيبة الأمل. فقد كانت الأمثلة في أغلبها من باب العبادات أو بعض صور فقه المعاملات ولكنها في مجموعها لا تعطي التصور لمدى حيوية هذا المفهوم وإمكانيات استثماره. فدخول الوقت سبب للصلاة، وستر العورة أو استقبال القبلة شرط في الصلاة، والحول شرط في وجوب الزكاة، والسرقة سبب في وجوب القصاص، والحيض والنفاس من موانع الصلاة… وغير ذلك. فهذه الأمثلة تحصر خطاب الوضع في حوادث كونية أو أمثلة تاريخية يصعب تجاوزها والبناء عليها أو الإضافة إليها.

وهنا أريد أن أستعرض بعض الأمثلة التي أشعر أنها تمكّن الناظر في أحوال الأمة من استثمار منهجية خطاب الوضع لاقتراح توجهات في المعالجة الواقعية والتخريج القانوني والنظر الديني.

فالظواهر الإجتماعية مثلاً هي من الأفعال الواقعة في الوجود ولا بد من النظر إليها من زاوية خطاب الوضع، فارتفاع نسبة الطلاق في بلد من البلدان ‑بالغاً ما بلغ كرهنا وغضبنا من وقوعه واستفحال أمره- لا بد أن يحملنا على إلغاء أو تعديل فهم جرى العمل عليه في خطاب التكليف، وقد يحملنا على اشتراط أشياء في العقود أو إجرائيات توثيقها وإبرامها أو فسخها غلب على ظننا أنها تقلل من احتمال وقوع الطلاق أو أنها تقلل من الضرر الواقع أو المتوقع على أحد الزوجين. أما النظر إلى ما جرى عليه العمل بشأن تفاصيل عقود الزواج والطلاق وكيفيات إبرامها كأمر ثابت مقرر ‑لا يمكن تعديله- بغض النظر عن ما يجري في الواقع الاجتماعي، فهو النظر المثالي الذي يؤكد فصل الدين عن الحياة وفتح الطريق للعلمانيين للتحكم بتفاصيل النظام الاجتماعي بعيداً عن مقاصد الشريعة وتزكيتها للحياة. وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى تحذيرات الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في قضية التشدد في إيقاع الطلاق، وأن مواقف المتشددين تفتح باب الفتنة لتنصير قوانين الزواج.

والظواهر الاقتصادية من وجوه الاكتساب وتأمين الكفاية هي من الأفعال الواقعة في الوجود ولا بد من النظر إليها من زاوية خطاب الوضع. فانتشار البطالة والفقر مثلاً قد يكون سبباً في تدابير اقتصادية غلب على ظننا أثرها الطيب في التقليل من هذه الظاهرة ولو كانت هذه التدابير باتجاه معاكس لتوجهات تشريعية وقانونية معروفة ومستصحبة لفترات طويلة.

فمعالجة الملكية للأراضي الزراعية مثلاً ووضع سقف لهذه الملكية وتوزيع الأراضي على من يستطيع استثمارها بشكل يؤمن كفاية الغذاء للأمة ويؤمن فرص العمل أو غير ذلك من التدابير الاستثنائية التي كان سببها وضعاً اقتصادياً مختلاً تصبح من الواجبات التي سببها الوضع.

وهنا يجب التنبيه إلى أن التدابير التي يتم اتخاذها لمعالجة وضع مختل لا بد فيها من الأناة والحذر ومشاورة أهل الخبرة والاختصاص والتجربة؛ فالنظر الشرعي إلى أي أمر تابع لغلـبة الظن بتحصيل المنافع والمصالح ورعاية المقاصد، ولا ترقى آحاد النصوص والتوجيهات لتكون الحكم النهائي في أية مسألة دون اعتبار النظر الكلي لنوع المصالح التي تندرج تحتها النصوص والتوجيهات.

ومسألة الغلاء والتضخم هي من الظواهر الواقعة في الوجود ولا بد من النظر إليها من جهة خطاب الوضع. فالنظر إلى سبب الغلاء وارتفاع الأسعار هو الذي يحدد طريقة المعالجة، والنظر إلى سبب الندرة وإمكانية التحكم بها أو التأثير فيها بالتسعير أو منع التصدير أو ضبط الاستهلاك أو غير ذلك من الوسائل، هي من الأمور التي كان الغلاء فيها سبباً لأمور تشرع أو تفرض أو تشترط، أو مانعاً من تصرفات كانت مباحة أو تقع في مرتبة العفو في الحالات العادية ولا بد من معالجتها بروح واقعية تعالج المشكلات ولا تتجاهلها، وتقلل الضرر وترعى مقاصد الشارع في تحقيق الكفاية من السلع والخدمات ورفع العسر والحرج.

والتخلف العلمي وسوء الأداء المهني وكل ما يؤدي إلى تخلف الكفاية في جميع مرافق الحياة هو من الأمور التي تضرب جيلاً من الأمة ولا بد من النظر إلى هذا الوضع وما يستوجبه من تصرفات أو أحكام أو تكاليف سببها -الوضع- أو ما يترتب عليه من الشروط التي نتجت عن تخلف الكفاية، أو من الأمور التي تمنع رغم الإباحة الأصلية وذلك لتعلق المصلحة العامة ومقصد تحقيق الكفاية بمنعها ولو إلى حين.

وقد يكون من الأفعال الواقعة في الوجود والتي غيرت وجه العالم، الثورة الهائلة في وسائل الاتصال والمواصلات إذ غدا العالم قرية صغيرة حيث يعلم الناس ما يجري في الطرف الآخر من العالم لحظة بلحظة دون تأخير. فكيف لا يكون مثل هذا الحدث الهائل سبباً في إيجاب بعض الأمور أو تعديل شروط في كثير من الأمور لتكون على خلاف ما كانت عليه قبل هذا الواقع، أو مانعاً من إثبات حكم من الأحكام على الصورة التي كان عليها قبل هذا الواقع الجديد.

إن تجاهل انعكاسات تطور وسائل الاتصال والمواصلات هو فتنة للناس عن دين الله سبحانه وتعالى، تجعل الدين مرتبطاً بزمان ولى وعهود المجتمعات المتناثرة المتباعدة التي لا يدري كل منها ما يجري في الطرف الآخر، فلا ضرر إذا فهمت الأمور على نحو فردي لا مركزي مفتوح. أما استصحاب كل أحكام ذلك الزمان وإنكار أن يكون للوضع الجديد تأثير على مجريات الأمور أو على كيفية تنزيل الأحكام، فهذا هو مصدر الاضطراب والحيرة والحرج في دين الله.

ولا تكاد تنتهي الأمثلة، فمواقع الأفعال في الوجود لا تنحصر ولا بد من النظر الواقعي إلى كل سياق ومقدماته ونتائجه للخروج بنظر شرعي مقاصدي متوازن.

أما أن تنحصر الدنيا بخطاب التكليف وتختزل التكاليف إلى لائحة من الممنوعات والمحرمات، وتترك الأمور في ما وراء ذلك لتكون عملياً خارج إطار الدين وتكاليف الشريعة -وخاصة إذا وقعت هذه الأمور خارج التجربة التاريخية للعلماء الذين دوّنوا فهمهم للشريعة بما قرروه من أحكام مناسبة لحوادث عصرهم-، فإن هذا بعينه هو ما يؤدي إلى علمانية متبجحة بالعقل والمنطق العملي، تحصر الدين في إطار ضيق من العبادات والطقوس وتطرده من الفضاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعلمي. وعندها تتمكن الحرفية -التي لا تعجز عن إخراج نص أو حادثة من جعبة التراث- من تصوير الأمور مهما كانت مناقضة لمقتضى النظر الشرعي المقاصدي وكأنها تمثل الرؤية الدينية الأصيلة.

وهنا أود أن أضرب مثالاً عملياً واقعياً لبيان الفساد الذي يعم البلاد والعباد عندما يكون النص الجزئي في مسألة ما هو الذي يطغى على النظر العملي العلمي في مسألة خطيرة مثل مشكلة التصحر.

ففي دراسة لفريق من خبراء الأمم المتحدة لمعالجة مشكلة التصحر، توصلت الدراسة إلى أن إعادة العافية إلى البوادي وإعادة الحياة الطبيعية وكل عناصر البيئة من نباتات وحياة حيوانية مرتبطة بها تكمن في إعادة العمل بنظام “الحِـمى” والذي كان معمولاً به طوال عهود ما قبل الاستعمار الأوربي الحديث. ونظام الحِـمى يخصص مناطق الرعي ويوزعها على القبائل بشكل متوازن، وقد عمل هذا النظام على حماية البادية من ظاهرة الاستئصال بالرعي المسرف الذي يفوِّت الفرصة على إمكانية دوام البيئة واستمرار الحياة فيها.

وقد أثبت الخبراء نجاعة هذا التوجه بتجارب عملية ناجحة أجريت على بعض المناطق في بادية الشام وبوادي الأردن، فعادت هذه المناطق كتلك البوادي الجميلة التي وصفها شعراء الجاهلية وتغنوا بها وهم يصفون مغامرات الصيد والفروسية.

ولا ينتهي العجب من الحال التي وصل إليها المسلمون في فهم شريعتهم وعلاقتها بالحياة عندما يعلم أن من الذين وقفوا في وجه تطبيق نتائج الدراسة لخبراء الأمم المتحدة، ممثلو الكتلة الإسلامية في البرلمان الأردني وكان سلاحهم في موقف الرفض حديث نبوي “الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار”، حيث يغيب الفهم الكـلي الإجمالي في هذه القضية كما يغيب في غيرها من القضايا، ويغيب الفهم للحديث الذي رواه البخاري “لا حِـمى إلا لله ورسوله” والذي يفهم منه إقرار مبدأ الحِـمى للمصلحة العامة كما روى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وأن عمر حمى السَّرف والـرَّبذة.

فعندما لا يكون هناك أي قيمة للواقع العملي وآثاره المدمرة على البلاد والعباد، فأيّ فتنة في دين الله تزيد على تسمية التجاهل لآلام العباد ومعاناتهم ديناً ودفاعاً عن الشريعة.