هل يمكن للعالم المسلم أن يكون موضوعياً؟

179

تتلخص القضية التي أريد أن أطرحها للبحث والمحاورة في سؤال طرحه عليّ زميل كريم مهتم بالاقتصاد الإسلامي فقال: نحن في بحثنا في الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن نكون موضوعيين تماماً، بمعنى أنه لو طُلب مني كاقتصادي مسلم أن أبحث في قضية الفائدة المصرفية مثلاً؛ ما هي آثارها وعواقبها وما إلى ذلك، فنظراً لأنني أعلم الحكم الشرعي بأن الربا محرّم فأنا سلفاً أعرف النتيجة التي أريد أن أتوصل إليها، وهي نتيجة محددة دينياً، بالتالي كيف يمكنني أن أكون موضوعياً حقاً في بحث هذه القضية. بينما غير المسلم يقول أنا عالم حيادي، أبحث بدون قيود أو شروط وأحاول الوصول إلى الحقيقة، بينما أنتم متحيزون لأن بحثكم متمحور حول إثبات نتيجة محددة سلفاً، وأنا لست ملتزماً بالوصول إلى أية نتيجة حيث أدَعي البحث والاستقراء، والتفكير يقودني إلى الصواب وإلى الحقيقة.

وتكمن أهمية الإجابة على هذا السؤال في أنه لا يتعلق فقط بالاقتصاد ولكنه ينطبق على كثير من العلوم الاجتماعية. فمن ينظر إلى الأحكام الشرعية لا يشك بأن الأسرة هي إحدى المؤسسات الاجتماعية الرئيسة واعتبرت الشريعة وجود هذه المؤسسة أمراً بدهياً فطرياً فكيف يناقش المسلم بموضوعية من جاء يعترض على هذه المؤسسة وأنها قد لا تكون أفضل طريقة لتنظيم الحياة وتربية الأولاد؟ وكذلك في علم النفس، ينظر العالم المسلم إلى الشذوذ مثلاً وهو مستحضر للنظام الأخلاقي الإسلامي فكيف يناقش بموضوعية من جاء معترضاً على تسمية بعض الأفعال بالشذوذ قائلاً إنها اختلاف أذواق وأعراف ليس إلا. والحقيقة أن العالم المسلم متّهم بأنه غير قادر على المناقشة الموضوعية لاستحضاره الأحكام الشرعية المعروفة سلفاً. فالسؤال يبدو جوهرياً لأول وهلة وينبغي أن نبحث بجدٍّ عن جواب له.

ويتلخص الجواب في تصوري في عنصرين: ويبدو لأول وهلة أن العنصر الأول غير متعلق بالموضوع، لكن تظهر صلته بشيء من التأمل. تناول المتكلمون المسلمون والفلاسفة قضية الحسن والقبح وهل هما عقليان أم شرعيان. ويقصدون بذلك على وجه التقريب أن معرفة شيء ما: هل هو خير أم شر، صالح أم فاسد، هل هي مسألة يستقل بها العقل البشري أم أنها شيءٌ لا بد أن تأتي الشرائع وتخبر الناس عنه؟

وقد أجاب أكثر الفقهاء والمتكلمين بأن الحسن والقبح شرعيان ولا يستطيع العقل البشري وحده أن يهتدي إلى معرفة الصواب دون معونة الوحي. وقد تبنّى قلة من العلماء، لا يُشك في فضلهم وتمكنهم، الجواب الآخر وقالوا إن العقل يهتدي إلى الحسن والقبح والشريعة تأتي فتؤكد ما يعرفه العقل السليم. ومن أصحاب الرأي الثاني المعتزلة والشيخ العز بن عبد السلام في كتابه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”. وقد رد الإمام الشاطبي على آراء العز بن عبد السلام رداً شديداً دون أن يذكره بالاسم توقيراً له ولمكانته في العلم والجهاد.

وبعد هذه المقدمة أضيف أمراً آخر عرض لي عندما كنت أناقش موضوع اقتصاديات الرفاه، وهذا عموماً بحث في اقتصاديات المصلحة الاجتماعية وكيف تفضل وضعاً اقتصادياً على وضع آخر. وقد حاولوا الإجابة على السؤال التالي: هل يمكن أن نفضل بطريقة موضوعية لا تستند إلى قيم مسبقة أحد الأوضاع الاقتصادية على وضع آخر؟ فمثلاً التجارة الخارجية الحرة أو فرض الرسوم الجمركية وحماية الصناعة الوطنية أيهما أفضل؟ فهذه القضية يمثلها السؤال الجوهري الذي دوّخ الاقتصاديين طيلة القرن الماضي وهو: هل يمكن الوصول إلى معايير موضوعية محضة لا تستند إلى قيم مسبقة ولا تختلف فيها الأنظار، يمكننا بها بشكل علمي كامل أن نفضل وضعاً على وضع؟

وقد كان الاقتصاديون في محاولاتهم لصياغة اقتصاد بعيد عن هيمنة الدين والأخلاق والقيم يراودهم الأمل والحلم الكبير أن يصبح الاقتصاد كعلم الفيزياء مثلاً، حيث لا تخضع فيه تصرفات المادة لثقافة الدارس وقيمه وميوله. ففي سعيهم نحو ذلك كانوا يفتشون عن طرق موضوعية لتفضيل وضع على وضع.

والحقيقة أنه بعد أكثر من نصف قرن من البحوث والدراسات وصلوا إلى نتيجة تُعد موضع اتفاق بين كل الاقتصاديين المتعمقين، وهي أنه لا يمكن تفضيل وضع على وضع آخر استناداً إلى علم الاقتصاد وحده، بل لا بدّ لعملية التفضيل من استيراد قيم من خارج مجال هذا العلم. وقد أصبحت هذه النتيجة مسلّمة، ولا يتسع المجال لاستعراض الحجج التي أوصلتهم إلى هذه النتيجة ولكن دون تردد يُنظر إلى الاقتصادي الذي يماحك في هذه النتيجة على أنه غير متعمّق وغير مطّلع.

فلو تأملنا لوجدنا أن هؤلاء يبحثون عن الحسن والقبح ولكن بمسميات وطريقة نظر مختلفة. وجواب الاقتصاديين عن هذه المسألة يشبه جواب الفقهاء والمتكلمين ويخالف جواب أمثال العز بن عبد السلام الذين ذهبوا إلى أن الحسن والقبح عقليان إلى حدّ بعيد إلا في قضايا قليلة مثل العبادات.

فعند استيراد قيم من خارج علم الاقتصاد وإضافة المعرفة الاقتصادية بعلاقاتها السببية إليها يمكن تفضيل وضع على وضع. ولتوضيح الأمر نضرب مثالاً بعيداً على سبيل المبالغة، فلو أردنا أن نرفع مستوى الدخل القومي في بلد ما، فقررنا القضاء على جميع العجزة وغير القادرين على العمل، فمثل هذا العمل سيرفع الدخل القومي ودون أي تعديل آخر لأن هؤلاء لم يكونوا في دورة الإنتاج بل كانوا مستهلكين. فإذا قلنا إن هذا العمل وحشيّ ولا إنساني ولا أخلاقي، نكون قد أدخلنا على بحثنا شيئاً من خارجه فالكلام عن الإنسانية والأخلاقية هو كلام في القيم. والحقيقة أن الوصول إلى جواب علمي لا علاقة له بالقيم هو أمر غير ممكن. فقيمنا المسبقة تضع الحياة الإنسانية كشيء مقدس وهذه قيمة من خارج العلم، وعند استدعائها نقول إن هذا الحل مرفوض وغير مقبول. وبإمكاننا القول إن الاقتصاديين المعاصرين انتهوا بتفكيرهم المستقل إلى مقولة شبيهة بما قرره المتكلمون والفقهاء من أن العقل لا يستقل بتقرير الحسن والقبح ولا بد من مصدر آخر تُستدعى منه القيم، وهو عندنا (الشرع).

وكذلك لو تدرّب إنسان ليكون ملاحاً جوياً ماهراً ثم واجهناه بسؤال بسيط: هل الأفضل أن نسافر إلى هذه البلد أو تلك، فسيكون عاجزاً تماماً عن الجواب لأن خبرته بالملاحة الجوية لا تمكنه من اختيار وجهة المسير. ولكن إذا قررنا من خلال رغباتنا وقيمنا وتقديرنا للأمور أن نسافر إلى وجهة معينة استطاع بخبرته أن يصل إليها بسهولة. فالقرار الاجتماعي وتفضيل حالة على حالة لا يستطيع العلم أن يبتّ فيه إلا بعد استعارة قيم من خارج إطاره ومجال دراسته.

والعنصر الثاني من الجواب يكمن في النظر إلى قول الله تعالى: {يسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]. فالله سبحانه وتعالى يقول لأشد الأمور تحريماً أن فيه منافع، فعند تحريم شيء فيه منافع يكون الله تعالى قد منعنا وحرمنا من هذه المنافع، ولكنه قال: “وإثمهما أكبر من نفعهما” فالعملية إذن هي موازنة.

وقد قرر الإمام الشاطبي والعز بن عبد السلام ومن قبلهما الإمام الغزالي أنه لا يوجد في الحياة شيءٌ هو خير خالص أو شرٌ خالص، أو مصلحةٌ محضة ومفسدةٌ محضة. وأن الله تعالى جعل في كل المسائل مزيجاً من هذا وهذا للابتلاء. وأن الشريعة عندما تُحرم شيئاً فإنها تعطي الحكم للأثر الأغلب؛ فالخمر حرامٌ مع التنصيص على أن فيها منافع مرجوحة وكذلك الميسر حرام لأن مفاسده أكبر. وللشيخ العز بن عبد السلام كلامٌ صريح في أن هذه القضية لا تتخلف، فكل الأشياء فيها نفع وضرر.

فإذا جمعنا الحقيقتين إلى بعضهما نصل إلى جواب ملائم للسؤال المطروح: هل يمكن للعالم المسلم أن يكون موضوعياً حقاً تجاه الأحكام الشرعية؟ فكما يقرر القرآن الكريم فإن الأمر بشيءٍ لا يعني أن المأمور به ليس فيه بعض الفوت السلبي لنفعٍ ظاهريّ، وأن النهي عن شيء لا يعني أن المنهي عنه ليس فيه بعض فوت إيجابي لنفعٍ ظاهري؛ بل الشريعة تقرر أنه يمكن أن يحصل هذا وهذا. فأنا كعالم مسلم لم تحظر عليّ الشريعة أن أعترف بالنفع الظاهري اللحظي لما هو محرم. وهذا الموقف متطابق مع منطق القرآن الكريم في قضية الحق. فالله سبحانه وتعالى هو الحق وخلق السماوات والأرض بالحق. فالتأكيد على الحق يعني أنه إذا كان هناك شيء موجود خلقه الله سبحانه في الكون لم يطلب الله منا أبداً أن ننكره بل بالعكس، إنكاره مصادم لمنطق الحق. والكافر سمي كذلك لأنه غطى على الحقيقة وموّه ومنع الناس من رؤيتها. ومما يشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [المائدة: 135]. فليست هناك حالة طلبت منا الشريعة أن ننكر أمراً ثابتاً، بل المطلوب منا أن نعترف به ونخضعه للقيم التي أنزلها الله وأمر بإقامتها. ولذلك قال الله تعالى في معرض الحجاج: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، أي أنني لا أماحك فيما قام عليه دليل. ولبّ المسألة التي يجب التأكيد عليها أن الحقيقة لا تنحصر في أمر جزئي واحد بل هناك حقائق يتشكل من مجموعها فكرة وموقف مختلف تماماً عن موقف مبني على حقيقة جزئية منعزلة. ولا يمكن أن تختزل الـ “حقيقة” إلى حقيقة جزئية، بل الحقائق تتكامل لتعطي الصورة الإجمالية المعتدلة المتوازنة.

إن القرار الاجتماعي وتفضيل حال على حال لا يمكن للعلم أن يبتّ فيه إلا باستعارة قيم. فالاقتصاديون أقروا بهذه النتيجة وهم يقولون إنهم يأتون بهذه القيم من خارج علم الاقتصاد. ونحن كمسلمين ليس لنا مصدر للقيم نعترف به إلا الوحي. فليس المسلم هو الوحيد الذي يستعير القيم حتى يُطعن في موضوعيته، بل كل قرار اجتماعي لا يمكن الوصول إليه إلا بهذه الاستعارة، فالصراحة والصدق خير من التمويه والتدليس.

08- 1421 هـ / 11-2000 م