التعليم الديني: واقع وآفاق

524

هناك سمة مهمة في ثقافة وعقلية الشعوب الإسلامية لا يكاد الناظر إلى هذه الشعوب أن يخطئ هذه السمة ويدرك عمقها في تكوينها الثقافي والنفسي عبر التاريخ.

ويمكن تلخيص هذه السمة المهمة بأن هذه الأمة عندما تتعرض للأزمات والتحديات فإنها دائماً ترى الإسلام ذخراً ورصيداً لا تشك في قيمته وقدرته على مدّ الأمة بعناصر الصمود والحياة، وترى ‑بحق‑ أن أزماتها ومصائبها كانت نتيجة للتخلف عن تمثل وفهم وتطبيق الدين ومقتضياته، فيعكف أهل الرأي منهم على كشف الثغرات في فهم الدين وطريقة تنزيله وتطبيقه، في دورات متعاقبة من التجديد ومحاولات الإصلاح والنهوض وذلك في إطار إيمان لا يخالطه شك بمعقولية الدين وصلاحية تعاليمه وقدرتها على الإصلاح.

ومن خلال هذا الفهم للعلاقة بين فهم الدين وصلاح الواقع انطلقت حركات وقامت مؤسسات ودارت مناقشات وحوارات تتحدث عن التجديد وترسم معالمه وآفاقه وشروطه وضوابطه، وكان نصيباً مهماً من الحديث عن التجديد يتناول المعاهد والمدارس التي تتولى مهمة نشر علوم الشريعة وتعليمها.

وشهد كثير من البلاد الإسلامية قيام معاهد جديدة مثل دار العلوم في مصر وكليات للشريعة في الجامعات، وشهدت المؤسسات القديمة مثل الأزهر والزيتونة إصلاحات وتغييرات في المناهج وطرق التدريس. كل ذلك في حركة دائبة استمرت قرناً من الزمان وحال الأمة لم يشهد تغييراً نوعياً في مشكلاته ومعاناته واستمر الشعور بالأزمة حيث فشلت الأمة في تحقيق مستوىً مقبول من الحضور بين أمم الأرض يفرض الاحترام ويؤكد الاعتزاز بالنفس ويثبت الفعالية والقدرة على العطاء وتجاوز الضعف والتبعية والوهن.

ومن خلال هذا الفشل واستمرار الشعور بالأزمة تتابع الحديث عن التجديد في فهم الشريعة في محاولة للخروج من المأزق الذي يهدد وجود الأمة وكيانها.

وقد عثرتُ أثناء البحث في أدبيات التجديد على وثيقة مهمة تضمنت البحوث والدراسات التي قُدمت في مؤتمر علم الشريعة في الجامعات والذي عُقد في عـمّـان صيف 1994. وتكتسب البحوث المقدمة في هذا المؤتمر أهمية خاصة حيث قدمت من باحثين يعملون في مجال التعليم والتدريس لعلوم الشريعة في جامعات متعددة وبلاد مختلفة، ومن ناحية أخرى جاءت هذه البحوث تلخص تجربة قرن من عمر الأمة في ظروف مليئة بالمواجهات والتحديات والتغيرات الجذريّة على كل صعيد.

وقد بدا واضحاً أن ابتعاد علوم الشريعة عن الحياة وما يجري فيها كان الهاجس المخيم على البحوث والأوراق المقدمة والمقررات والتوصيات الصادرة عن المؤتمر. فقد تكررت قضية التعامل مع الواقع والعصر بشكل ملحّ حيث لم تخل فقرة من المقررات والتوصيات من التأكيد على أهمية استحضار هذه القضية والتعامل معها.

ففيما يتعلق بعلوم الشريعة وتطويرها نجد هدف المراجعة الواجبة لمضمون العلوم الشرعية يبدأ بتمكين الطالب من التعامل مع ما يستجد من الواقعات وما يكتنف المجتمعات المعاصرة في عالم اليوم من متغيرات.

وفيما يتعلق بالخطط والبرامج نجد هدف تأهيل الدعاة والقيادات القادرة على بحث القضايا المعاصرة. وفيما يتعلق بالمنهج الدراسي نجد ضرورة تحديد الأهداف التربوية التي من أجلها تدرس مواد علوم الشريعة، ونجد ضرورة تطوير المحتوى الدراسي للمواد لوصلها باحتياجات العصر والتفاعل مع مقتضيات العصر.

وفيما يتعلق بالبحوث والدراسات والإنتاج العلمي نجد ضرورة إيجاد منهجية للتعامل مع التراث الغربي باعتباره عاملاً مؤثراً في تشكيل عقل الإنسان المعاصر وثقافته، ونجد ضرورة إيجاد منهجية لبناء العلاقة بين معارف الوحي والعلوم الإنسانية والاجتماعية.

وقد لخص الدكتور عدنان زرزور في بحثه الذي قدمه في المؤتمر الأزمة التي يعاني منها تدريس علوم الشريعة وأصاب جوهرها عندما قال: “ولطالما راود كثيراً منا شعور بأن جزءاً ضخماً مما يلقونه على أسماع طلابهم أو يطالبونهم بحفظه أو تحضيره يقع في دائرة التاريخ أو أنه مبتوت الصلة بالواقع الذي يعيشونه والحياة التي سوف يخوضون غمارها. لقد أدت علوم الشريعة في عصر النشأة وظيفتها الاجتماعية بوجهٍ عام، ولكن هذه العلوم لم تعد بعد إلى أداء هذه الوظيفة. . . وذلك يعود في المقام الأول إلى عجزنا نحن عن ربط هذه العلوم بحياة الفرد والجماعة. وفي وسعنا حين نطور هذه العلوم بهذا الاتجاه أن تعود مرة أخرى إلى أداء هذه الوظيفة الاجتماعية، ويكاد يكون فحوى هذا التطوير: نفي الطابع التاريخي عن هذه العلوم. والمنهجية الإصلاحية لا يكفي فيها التطعيم أو الإضافة لبعض المقررات والبحوث المعاصرة ‑قلّت أم كثرت ‑ بل لا بد من إعادة النظر في محتوى أو مفردات علوم الشريعة وفي كيفية أدائها لوظيفتها الاجتماعية، وتفعيل هذا الأداء، أو إعادة بث الروح فيه مرة أخرى بعد أن أخلت هذه الوظيفة أو تنازلت عنها لما يسمى العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى حد كبير”.

ومن الواضح أن المهمة التي يجب أن يتصدى لها علماء الأمة ومفكروها هي على قدر كبير من التشعب والخطورة وتتطلب أوقاتاً وجهوداً لا تسنح غالباً في زحمة الأعباء والمسؤوليات.

وفي هذه الورقة سأحاول تتبع بعض الإرهاصات والبدايات الطيبة لبعض العلماء والباحثين ومحاولاتهم في تطوير مضمون العلوم الشرعية وإعادة صياغتها. ولا شك أن محاولة تطوير مضمون العلوم الشرعية يتطلب الكثير من الصبر والكثير من الشجاعة، فالذين يتشبثون بما انتهت إليه علوم الشريعة منذ قرون ولم يحسوا بعد بضرورة التطوير سيصابون بالفزع وسيفهمون محاولات التطوير بأنها عبث بالشريعة وعلومها وثوابتها. فلا بد من الصبر والدأب والثبات والبعد عن استفزازات الانتصار للنفس، ولا بد أن يدرك الجميع أن التطوير إن لم يأت من خلال جهود العلماء والمفكرين الذين يغارون على الأمة وهويتها ورسالتها الكونية والذين يفكرون ضمن رؤية منهجية رصينة، فسيأتي التغيير مفروضاً من وصايات المصالح السياسية بكل ما تملك من الإمكانيات والوسائل للتمويه والتشويه والتزوير.

وقد كانت مشاركة ومساهمات العلماء في تجديد الفكر الديني تسير في وجهتين متكاملتين:

  1. تهتم الوجهة الأولى من البحوث بتفاصيل القضايا وتفاصيل المسائل في فروع علوم الشريعة.
  2. وتهتم الوجهة الثانية منهما بكليات المسائل الشرعية وتأصيل منهجيات البحث ابتداءً بتقرير المرجعية المطلقة للقرآن الكريم وإعادة السنة إلى موضعها الطبيعي بياناً للقرآن ومثالاً عملياً لتفعيل كليات القرآن في ظروف التنزيل، ومنهجية القراءة المتوازنة المتكاملة لسنن الكون من خلال إعادة الاعتبار لطبائع العمران وثبات السنن ومعقولية التعامل مع القضايا الاجتماعية والإنسانية، بالإضافة إلى منهجية مقاصد الشريعة التي تنطوي على كمون خصيب لا بد من استثماره وتوظيفه لإعادة صياغة مفردات علوم الشريعة بما يكفل ردم الفجوة بين التوجه التاريخي الذي جمد على قضاياه ومسائله وتصنيفاته وبين التوجه الواقعي الذي يعيد صياغة قضايا الشريعة من خلال استحضار خصائص الشريعة العالمية الخاتمة ويحاول فهم الواقع من خلال التمكن من التعامل مع آليات فهم الواقع والتي تولت العلوم الاجتماعية والإنسانية دراستها والتفصيل فيها.

ونظراً لأهمية المنطلقات المنهجية للتجديد والتطوير فقد غلب على الإنتاج العلمي الحديث عن هذه المسائل المنهجية إيماناً من المساهمين بأولوية تأصيل المنهج وتأسيس القواعد، وإيماناً منهم بأن التطوير والتجديد سيكون شكلياً عديم الفائدة ما لم يستحضر الكليات والأصول بما في ذلك الواقع بثقله وتعقيده لأنه يمثل هدف التزكية من ناحية، ويمثل معيار النجاح لتنزيل وتطبيق الأصول والمبادئ من ناحية أخرى.

وعلى الرغم من قلة البحوث التي تتناول موضوع تطوير مضمون العلوم الشرعية لأن هذا الموضوع بطبيعته يحتاج إلى جهود جماعية وتشاور وتناصح للخروج بما يشبه الإجماع، فسأحاول في هذه الورقة عرض بعض ما عثرت عليه مما يمكن اتخاذه أسوة وقدوة من بحوث رائدة يتهيب الخوض فيها كثيرون.

*           *           *           *

العقيدة

في بحث قدمه الدكتور عبد المجيد النجار بعنوان “دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية” (مجلة إسلامية المعرفة العدد الأول)، عرض إلى نشأة علم الكلام وكيف كان مدلول العقيدة يشمل مساحات من القضايا تزداد حسب ما كان يتعرض له المسلمون من التحديات الخارجية من قبل أهل الأديان والثقافات الأخرى أو تحديات داخلية من قبل تفاعلات الحياة الاجتماعية. وبمرور الزمن أصبح كثير من متأخري المسلمين يقع في نفوسهم الظن بأن مدلول العقيدة الإسلامية إنما هو محدود بحدود المسائل التي انتظمها علم العقيدة وانغلق عليها بحكم توقفه عن النمو قروناً طويلة.

ولو تأملت أوضاع المسلمين من حيث مدلول العقيدة في أفهامهم كما انتهى إليه الأمر منذ قرون وكما هو معلوم عند عامة المسلمين بل عند كثير من خاصتهم المتعلمين وعند بعض المتخصصين في علوم الدين، لو تأملت لوجدت أن هذا المدلول يُركز على القضايا الأساسية في العقيدة وهي الإيمان بالله والنبوة والوحي والملائكة واليوم الآخر والقدر وما هو مندرج ضمنها، وأنه لا يتسع لمسائل أخرى ذات معانٍ عقدية أيضاً يُـدخل التصديق بها في دائرة الإيمان ويُـخرج التكذيب بها إلى دائرة الكفر ومن أمثلتها مسألة حاكمية الشريعة الإسلامية وموالاة الكفار، والروح كجزء من التركيب الإنساني، ومهمة الخلافة في الأرض كغاية لحياة الإنسان، والعدالة الاجتماعية كقاعدة في بناء المجتمع، فهذه المسائل وأمثالها رغم ما لها من مدخل في تحقيق الإيمان وعدمه إلا أنها لا تدخل اليوم ضمن دائرة المدلول العقدي عند كثير من المسلمين وإنما هي عندهم مسائل شرعية لا ترقى إلى درجة الاعتقاد ولا تراها تدرج في اهتماماتهم التعليمية والدعوية ضمن المؤلفات والبيانات العقدية.

وقد أدى هذا الانحسار في مدلول العقيدة في الذهنية الإسلامية إلى نزوع هذا المدلول منزعاً تجريدياً ابتعد به عن وجوه الحياة العملية حيث أصبحت الأذهان تنصرف في تحملها للعقيدة إلى عالم الغيب دون وصل له بعالم الشهادة من واقع الحياة الجارية، وكان لذلك انعكاس سيء على الحياة العملية للمسلمين إذ تقاعست الحياة عن الاندفاع نحو التعمير في الأرض باستثمار الكون وترقية الإنسان بالحرية والعدالة والسعي الدؤوب لتحقيق الخلافة، فهذه مسائل خارجة في دائرة الوعي عن أن تكون مسائل عقدية.

وقد دعا الدكتور النجار في بحثه إلى ترشيد مدلول العقيدة وما يستلزمه من إدخال العديد من المفاهيم في الوعي العقدي للأمة لإعادة الأمور إلى نصابها والوضع الذي كانت عليه في النصوص. وتتنوع القضايا التي يجب إدخالها إلى الوعي العقدي إلى قضايا ذات بعد استخلافي وبعضها ذات بعد اجتماعي وآخر ذو بعد كوني ورابع تشريعي وهي في عمومها ذات صلة ببعضها وتبلغ مبلغ التداخل.

والقضايا ذات البعد الاستخلافي تشمل حقيقة خلافة الإنسان في الأرض باعتبارها المهمة التي خلق الإنسان من أجلها، وتشمل أيضاً حقيقة الإنسان في نفسه وفي تركيبه من مادة وروح، وفي قيمته الذاتية ومنزلته في الكون، كما تشمل أيضاً شهادة الأمة الإسلامية على الناس باعتبارها المهمة التي أناطها الله سبحانه بها إزاء الأمم تبليغاً للدعوة إليها وإنقاذاً لها من الضلال وتنويراً لها بالعلم والدين وقياماً إزاءها بالقسط والعدل.

والقضايا ذات البعد الاجتماعي تشمل حقيقة العدالة الاجتماعية وحقيقة التكافل بين أفراد الأمة وكفالة الأمة لأفرادها وحقيقة الحرية الشخصية والعامة بضوابطها وحقيقة حق الإنسان في التكريم المادي والمعنوي.

وقضايا ذات البعد الكوني تشمل قضية تسخير الكون للإنسان وأنه معدٌّ لأجله ومنفتح لعطائه وممهد له لينجز مهمته التي خلق من أجلها، وقضية الرفق بالكون والحفاظ عليه من الفساد والتدمير.

والقضايا ذات البعد التشريعي تشمل كل أحكام الشريعة من حيث الإيمان بحقيقتها حيث يفضي جحودها والتكذيب بها إلى الانحلال من الإيمان وانتقاضه.

وقد عقد الدكتور النجار في بحثه فصلاً خاصاً عن إحياء المدلول العملي للعقيدة بمعنى الوصل بين العقيدة والشريعة وذلك بجريان الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة. ولذلك فإننا نعد علم مقاصد الشريعة علماً واصلاً بين علم العقيدة من جهة وعلم الفقه الذي يضبط الأعمال من جهة أخرى. ومن مظاهر الخلل المتمثل في ضعف الصلة بين العقيدة والعمل في واقع الأمة الإسلامية ما يلقاه هذا العلم الجليل من زهادة فيه وتهميش له ضمن الثقافة العامة للمسلمين، وذلك ما يدعو في الوقت نفسه إلى إحيائه والاهتمام به في نطاق الترشيد العقدي كعامل من عوامل الدفع إلى التحضر. وقد جاء بحث الدكتور النجار عملاً رائداً يصلح بداية طيبة لتخليص علم العقيدة من ما علق به من أوضار الخلافات التاريخية التي أخرجت هذا العلم عن دوره ووظيفته.

ومن جهة أخرى أشار الدكتور عدنان زرزور في بحثه الذي قدمه في مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات إلى بعض مجالات تطوير علم العقيدة عندما أضاف نقطة مهمة تجدر الإشارة إليها وهي أن أحد أسباب انطفاء فاعلية العقيدة في نفوس المسلمين يكمن في التعامل المغلوط مع أسماء الله الحسنى، فلا بد من إعادة صلتنا بأسماء الله الحسنى وصفاته إلى وضعها الصحيح والقائم على البحث عن علاقتنا نحن المكلفين ‑في ساحة العمل والابتلاء‑ بهذه الأسماء والصفات، بدلاً من جدل المتكلمين العقيم الذي دار حول الطرف المقابل من هذه المعادلة وهو علاقة الذات بالصفات والذي لا نملك أداة البحث فيه لأنه من أمور عالم الغيب. إن سر التنوع والتعدد في الأسماء والصفات هو أنها تقابل وتشمل حركة الإنسان جميعاً من غير استثناء ليتعلق الإنسان بها في جميع حالاته التي تعرض له في واقعه ودنياه.

أصول الفقه

أثبت الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في مقدمة كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” تقييماً شاملاً لعلم أصول الفقه أكّد فيه الطابع التاريخي لنشأة وتدوين هذا العلم عندما قال: “وقد دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيت من عسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها يذعن إليها المكابر ويهتدي بها المشبه عليه”.

وقد يظن ظانّ أن في مسائل علم أصول الفقه غنية لمتطلب هذا الغرض، بيد أنه إذا تمكن من علم الأصول رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النظار، مستمر بينهم الخلاف في الفروع نظراً للاختلاف في الأصول، وإن شئت فقل قد استمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع، إذ كان علم الأصول لم يدون إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين، ولذلك لم يجعل علم الأصول منتهىً ينتهي إلى حكمه المختلفون في الفقه وعسر أو تعذر الرجوع بهم إلى وحدة رأي أو تقريب حال.

 على أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد لفظية تمكِن العارف بها من انتزاع الفروع منها أو من انتزاع أوصاف تؤذن بها تلك الألفاظ يمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثاً على التشريع فتقاس فروع كثيرة على مورد اللفظ منها. . . وبعبارة أقرب تمكن تلك القواعد المتضلع فيها من تأييد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول لتكون تلك الفروع بواسطة تلك القواعد مقبولة في نفوس المزاولين لها من مقلدي المذاهب.

ومن هنا نجد أن الدعوة إلى تطوير وتجديد علم أصول الفقه لها ما يبررها وخاصة إذا كان المطلوب هو إيجاد ضوابط الفهم عن الوحي لتزكية الواقع لا لتبرير ما وصل إليه علماء السلف فيما اجتهدوا فيه لرفعه إلى منزلة الوحي المعصوم.

وفي هذا المجال قدم الدكتور محمد الدسوقي في مؤتمر علوم الشريعة بحثاً عن تطوير علم أصول الفقه ضمنه بعض التوصيات لتجديد هذا العلم والكتابة فيه وذلك في أربعة محاور:

  1. إلغاء ما ليس من علم الأصول؛
  2. تدريس المقاصد الشرعية بصورة وافية؛
  3. تطوير مفاهيم بعض الأدلة؛
  4. ربط القواعد بالفروع التطبيقية ما أمكن. 

فلا بد من إعادة النظر فيما يدخل في علم الأصول وذلك من خلال معيار عملي قدمه الإمام الشاطبي في مقدمات الموافقات حيث جعل الصلة بالعمل هو معيار ما يمكن اعتباره من الأصول.

وأما الاهتمام بالمقاصد الشرعية فهو الضمان لتحقيق الارتباط والوصل بين الأحكام المستنبطة من مدلول النصوص وبين تزكية الواقع بالشريعة. فالتشريع الإلهي منوط بمقاصد وحكم لتحقيق مصالح وإبطال مفاسد، فالمنهجية التي يؤسس عليها النظر الاجتهادي المقاصدي تتحرى حصول المقاصد من الأحكام وتقوم على معرفة المقاصد العامة للشريعة بما في ذلك خصائصها وأوصافها، ومعرفة المقاصد الخاصة بأنواع التصرفات وبعد ذلك لا بد من تحليل الواقع المراد علاجه تحليلاً علمياً لمعرفة عناصره وعوارضه وخصوصياته وقرائنه، بما في ذلك النظر في مآلات الأفعال الذي يضمن الواقعية والبعد عن الحرفية والشكلية. ثم يجري اختيار الوسائل التربوية والقانونية والسياسية العملية التي تضمن حصول المقاصد في الواقع المراد تزكيته. ولا بد من الحذر من الوقوع في التبسيط والاختزال عند الحديث عن الشريعة والذي يختزل الشريعة إلى حرام أو حلال أو تطبيق الحدود.

وأما تطوير مفاهيم بعض الأدلة فضرورة عملية وخاصة للقضايا التي تواجه الأمة في حاضرها وجوانب حياتها العامة والواجبات الكفائية. فالإجماع كدليل شرعي لا بد من تطويره للخروج به من معناه التاريخي وقضاياه النظرية البحتة لجعله وسيلة للاتفاق والخروج برأي جماعي ملزم. ولعله من المفيد أن يراجع في تحرير المعنى العملي للإجماع إلى ما كتبه الدكتور قطب سانو في العدد الحادي والعشرون من “إسلامية المعرفة” حيث أعاد فكرة الإجماع إلى أصل نشأتها كوسيلة للتشاور في القضايا العامة للوصول إلى قرار يمثل قدرة الأمة على مواجهة ما يعتريها من ملمات وتحمل المسؤولية وتوحيد الكلمة.

والقياس كذلك لا بد من التوسع في مفهومه وخاصة من خلال تفعيل مفهوم المناسبة الذي قرره علماء الأصول ليكون تحقيق المصالح هو ميداناً للاستنباط والاجتهاد. وقريب من هذا ما ذهب إليه الدكتور الترابي من استنباط مقاصد الدين من جملة النصوص أو استنباط مصلحة معتبرة من مصالحه ثمّ نتوخى ذلك المقصد وتلك المصلحة حيثما كان بوسائل تتناسب مع الظروف والحادثات الجديدة. وهذا يقربنا من فقه عمر بن الخطاب لأنه كان فقه مصالح عامة يتحرى مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى ويحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة المعاصرة.

ولعل مما يضبط التوسع في مفهوم بعض الأدلة حتى يتخذ ذريعة للقول في الدين دون دراية وفقه، هو الجمع بين الجانب النظري والجانب العملي التطبيقي وذلك حتى لا تصبح دراسة القواعد غاية في ذاتها وحتى يتدرب المتعلم كيف يستثمرها في استخراج حكم أو توجيه رأي أو دفع شبهة. وكلما كانت هذه الفروع من الواقع المعاصر كان لها – في جعل المنهج الفقهي أكثر ملاءمة لاجتهاد عملي‑ دوراً كبيراً مما لو كانت هذه الفروع تاريخية تراثية.

علم التفسير

أوجز الدكتور عدنان زرزور في بحثه المقدم في مؤتمر علوم الشريعة الشروط التي تعين على تطوير علم تفسير القرآن بأربعة شروط:

  1. استحضار الغرض الأساس الذي نزل القرآن الكريم من أجله، أو انطلاقه من هذا الغرض وتأسيسه عليه، والمتمثل في إخراج الأمة الوسط (النموذج أو المثال) التي تشهد على الناس (سائر الأمم) الأمر الذي يتيح للمفسر أو يفرض عليه الشهود الحضاري الدائم (وليس الغياب التاريخي المذهل). ولا يتحقق مثل هذا الشهود بغير اطراد حركة التفسير، من جهة، وبغير الإلمام بحياة الناس أو الأمم الأخرى القائمة من حول المفسر ‑أو في عصره‑ والوقوف على ثقافاتها، وبخاصة الأمم السائدة على مسرح التاريخ، أو تلك التي نازعت المسلمين حق الغلبة والسيادة من جهة أخرى.
  2. يشترط في التفسير المعاصر ملاحظته للموضوع الأساس للقرآن، وهو الإنسان وليس الطبيعة. أي الثقافة وعلوم الإنسان وليس العلم التجريبي أو علوم الكون. فموضوع القرآن هو الإنسان، وإن الحديث عن الطبيعة جاء في هذا السياق (توجيه الإنسان إلى الطبيعة والكون فهماً وتجاوباً وتسخيراً). وتأسيساً على هذه الملاحظة أو القاعدة فإن المعاصرة الحقيقية في تفسير القرآن تقتضي الوقوف الطويل ‑والمقارن‑ أمام حقائق الاجتماع الإنساني التي جاءت بارزة في القرآن وممتدة بدءاً بالحديث عن النفس الإنسانية التي كشف القرآن عنها للإنسان، ووقفه على سبل صلاحها وفلاحها، وسبل غوايتها وضلالها، ومروراً بعد ذلك بالأسرة وروابطها الأخلاقية والاقتصادية، وانتهاءً بعوامل قيام المجتمعات وسقوط الأمم والحضارات.
  3. وأخيراً فإن من أبرز شروط التفسير المعاصر: محاولته تجاوز عصر الخلاف، أو عصر المذهبية الفكرية في تفسير القرآن التي وقع أصحابها في خطأ المقرر الفكري المسبق. إن معظم المفسرين القدامى دخلوا النص القرآني بمثل هذا المقرر، تأثراً أو استجابةً لنزعة كل منهم الكلامية أو المذهبية. لقد عمدت الفرق الكبرى في الإسلام أو المدارس الكلامية إلى بعض أجزاء صورة الموضوع الواحد، فجعلتها أصلاً كاملاً أو مقرراً فكرياً مسبقاً، الأمر الذي اضطرت معه إلى إدخال سائر أجزاء صورة الموضوع الواحد في باب التأويل.
  4. ومن هنا فإن أي تفسير أو خضوع مباشر للمدلولات القرآنية، وعلى النحو الذي ينفي عن آيات القرآن الخلاف أو التعارض، يعد من أبرز ما يناط بنا من أصول التعامل المعاصر مع القرآن، وصولاً أو عودة بهذه الأمة الممزقة إلى عصر الفهم الذي يكون الخلاف فيه خلاف تنوع لا خلاف تضادّ. وإذا صادف أن وجدنا أن المعنى أو المدلول الذي تشير إليه آيات الموضوع الواحد، بعد الجمع والتصنيف، وملاحظة السياق والسباق، ومقاصد الشريعة وقواعد الكتاب. . . إلخ سبق أن قال به أو ذهب إلى مثله معتزلي أو أشعري مثلاً، فهذا تفسير للقرآن، والذي يذهب إليه من المفسرين والشّراح في أي عصر لا يسلكه في عداد الأشاعرة أو المعتزلة، ولا يجوز أن يجعل منه ‑أي المفسر‑ مكلفاً محسوباً على تلك الفرق التاريخية أو منتمياً إليها. ولا يجوز لنا بحال أن نؤول معاني الآيات أو مدلولاتها لأننا وجدنا هذا المعنى أو المدلول مطابقاً لما ذهب إليه أحد رجالات تلك الفرق، كأن كل هؤلاء معصومون عن الصواب أو متعمدون لمخالفة الكتاب، أو كأن موافقتهم التي جاءت من خلال هذا المنهج السديد في الفهم تحرم ولا تجوز.

الـفـقـه

يكاد الفقه أن يكون العلم الشرعي الوحيد الذي يحظى تطويره وتجديده على الإجماع بين المشتغلين بالعلوم الشرعية نظراً لصلته الوثيقة بالحياة ومتغيراتها. وقد كتب كثير من العلماء والباحثين في هذا الموضوع ولكني وجدت أن ما كتبه الدكتور جمال عطية في “حوارات لقرن جديد” يصلح أن يكون ورقة عمل ودليل بحث لتطوير الفقه الإسلامي.

وقد عرض الدكتور عطية ملامح التجديد الفقهي المنشود من خلال اثني عشر ملمحاً رئيساً رأى أنه لا بد للدراسات الفقهية أن تستحضرها وتستصحبها:

  1. الملمح الأول ويتعلق بالمادة الفقهية حيث يطلب تقديم اجتهادات جديدة في المسائل القديمة بما يتفق مع تغير الزمان والمكان بما يحقق مقاصد الشريعة. وقد ضرب الكثير من الأمثلة على المسائل التي يتوجب الاجتهاد فيها لعدم مناسبة الأحكام القديمة لما جدّ في حياة الأمة.
  2. الملمح الثاني ويتعلق بمصادر المادة الفقهية، فبالإضافة إلى مراجع الفقه التقليدية لا بد من الاعتناء بمصادر أخرى تتمثل في كتب النوازل وكتب الفتاوى وكتب الأقضية التي تلقي الضوء على كيفية تنزيل الأحكام على الوقائع. وبالإضافة إلى هذا لا بد من الاعتناء بالأبحاث والدراسات الجامعية والأبحاث التي قدمت في المؤتمرات والندوات وما تصدره المجامع الفقهية من القرارات والتي تعد صورة من صور الاجتهاد الجماعي.
  3. الملمح الثالث ويتعلق بضرورة توثيق الآراء الفقهية من مراجعها الأصلية وبيان الأدلة التي يستند إليها الفقيه.
  4. الملمح الرابع ويتمثل في بث الروح في الكتابات الفقهية وعدم الوقوف عند شكل العبادات وتجاوزها إلى المضامين الجميلة للشريعة في أحكامها وحكمة تشريعها واشتمالها على المصالح كما فعل الإمام الغزالي في “إحياء علوم الدين”.
  5. الملمح الخامس ويتعلق بأهمية إجراء الدراسات المقارنة بين المذاهب بما في ذلك المجتهدين الذين اندثرت مواهبهم، ومناقشة الأدلة التي يستند إليها كل مذهب وذلك لتدعيم الوحدة التي أضر بها التقليد والغفلة عن الأسباب الموضوعية للخلاف.
  6. الملمح السادس ويتعلق بضرورة إجراء المقارنة بين الفقه والقوانين الوضعية في مسائل المعاملات وذلك لمعرفة نقاط الاتفاق والاختلاف وما ينبني على ذلك من العناية بصياغة الفقه وإدارة المعترك السياسي والاجتماعي الخاص بتطبيق الشريعة.
  7. الملمح السابع ويتعلق بضرورة الاهتمام بالجانب التنظيري من الناحية الكلية كنظرية عامة في الشريعة ومن الناحية الجزئية في مقدمة كل باب وفصل، وذلك لمتابعة المحاولات الرائدة لعلماء الأمة الذين كتبوا في الأصول والقواعد والمقاصد، وذلك لتيسير التعلم وتقديم الإسلام كمنظومة مترابطة المقدمات والنتائج وتسهيل مهمة المجتهدين والقضاة في سد الفراغات التشريعية بالاعتماد على القواعد والاستنباط من الفروع والمقاصد.
  8. الملمح الثامن يتمثل في تصنيف المادة الفقهية تصنيفاً جديداً يُراعى فيه ربط الفقه بالعقيدة والأخلاق والآداب والسياسة الشرعية وضوابط العلوم الطبيعية والإنسانية، مع مراعاة الوزن النسبي لمختلف الأقسام والأبواب حسب أهميتها والحاجة إليها.
  9. الملمح التاسع ويتعلق بتخطيط البحوث لتغطية الاعتبارات المشار إليها في ملامح هذا البحث ولإحلال النسق الإسلامي محل النسق الغربي في ترتيب العلوم والكتابة فيها.
  10. الملمح العاشر يتعلق بتيسير وتبسيط الكتابة في الفقه بلغة مبسطة وأسلوب سهل بعيداً عن وعورة المصطلحات التي لا يفهمها إلا المتخصصين مع الاستفادة من وسائل الإيضاح الممكنة.
  11. 11.   الملمح الحادي عشر يتمثل في ربط الفقه بالواقع وذلك باستبعاد المباحث والأمثلة التي لم يعد لها وجود في حياتنا المعاصرة، والتوسع في أحكام الشركات لتشمل أنواع الشركات القائمة حالياً. وكذلك التوسع في زكاة الأموال المتداولة حالياً وعدم الاقتصار على ذكر المقادير الشرعية في مجال الطهارات ونصاب الزكاة ومقدار المهر والدية وترجمة ذلك إلى مقادير يفهمها ويتعامل معها أهل العصر.
  12. 12.   الملمح الثاني عشر ويتضمن مخاطبة المستويات المختلفة من الناس مراعاة للتدرج في تحصيل العلوم مما يناسب العامة والمراحل التعليمية المختلفة.

ومن خلال هذه الملامح يتمكن المدرِّس والمتعلم من امتلاك المعيار العملي للنظر إلى التراث والاستفادة منه بتكامل وتوازن مع النظر إلى الواقع لمعرفة ما يصلحه ويزكيه من وسائل وإجراءات لتحقيق المقاصد وحكمة الشريعة في إخراج الأمة النموذج القدوة.

السيرة النبوية

يشكِّـل تدريس السيرة النبوية حلقة مهمة في تكوين الفهم المتكامل لهدي القرآن الكريم. فحياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي مفتاح الفهم العملي لنموذج الإنسان الرباني والأمة الوسط التي يريد القرآن أن يبنيها في كل جيل لتقوم الحجة ويتوفر للإنسانية البديل الذي يستنقذها من المعاناة والتيه.

فسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تشـكِّـل الإطار التاريخي والمنظور الكلي الذي يعين على تفسير كل الجزئيات من الأحاديث والروايات لوضعها في مكانها وحجمها الصحيح من هدي النموذج القدوة الذي يتجاوز ويمتد إلى ما وراء عصر التنزيل. فالسيرة من هذا الوجه هي محاولة النبي الكريم تنزيل وتطبيق هدي القرآن الكريم المطلق في ظروف إنسانية لها خصائصها ومقوماتها البشرية النسبية. وقد كان علم الله سبحانه وتعالى محيطاً بمقدمات الإمكان لنشأة المجتمع الأسوة في زمان التنزيل فجعل الرسالة في بيئة يتوفر فيها هذا الإمكان “والله أعلم حيث يجعل رسالته”.

وقد وقع المسلمون في دراسة سيرة نبيهم في أخطاء منهجية كثيرة حرمتهم الاستفادة منها في توجيه حياتهم وبنائها بهدي القرآن:

–  فمن ناحية وجدت نماذج من الغلو الذي يكاد يجعل النبي شخصية لاهوتية أو في نطاق اللاهوتية. فلا بد من التحري للروايات التي تولع بالغرائب والمعجزات للوقوف في هذا الشأن عند ما تقرره وتشهد له آيات القرآن الكريم أو السنة الصحيحة.

– ومن ناحية أخرى لم تدَرس السيرة في إطار سنني يضع أفعال النبي الكريم في إطار الممكن الإنساني في زمان التنزيل وبيئة صحراء العرب لبيان حكمة النبي في معرفة هذا الممكن واستثماره إلى أبعد مدى كما تقتضي ذلك الرؤية السننية الصارمة. وهذا التوجه يجعل أسوة النبي الكريم من خلال مقاصد تصرفات النبي ومراميها وآثارها في تنزيل الهدي وليس من خلال عين التصرفات والمواقف إلا فيما يثبت وجوب أخذه حرفياً من شعائر وعقائد وعبادات.

– وقعت بعض دراسات السيرة في اختزال السيرة الغنية الزاخرة بدلالاتها وإيحاءاتها إلى أحد عناصرها وكانت النتيجة فهماً أحادياً يتجاهل دلالات العناصر الأخرى من حياة النبي الكريم.

– اهتم علماء الحديث بضبط المرويات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اهتمامهم منصباً على النواحي التشريعية من حلال وحرام. وقد تساهل العلماء في شروط قبول المرويات المتعلقة بالتاريخ والأخبار فكانت النتيجة أن حوت كتب السيرة على كثير من الأخبار الواهية التي تحتاج إلى الضبط والمراجعة والتنقيح باستعمال شروط المحدثين في قبول الروايات المتعلقة بالأحكام.

– اعتمدت كتب السيرة المجرى الزمني في تقسيم الأحداث إلى الأيام والسنين بما عرف في كتابة التاريخ باسم الحوليات، وقد أضر هذا المنهج أحياناً في جعل القصة الواحدة قطعاً متنافرة متناثرة لا يضمها إطار واحد لفهم أبعادها ومراميها وسائر جوانبها.

وقد كتب كثير من العلماء في السيرة محاولين تصحيح ما وقع من أخطاء أو قصور في الفهم وحاول الكثير أن يمد آفاق فهم السيرة لتكون قادرة على التجاوب مع الظروف والحادثات الجديدة. ويبدو أنه لا يغني كتاب عن كتاب ولا توجه عن آخر، خاصة إذا فُهم الأمر من باب التنوع والتكامل في عرض دروس السيرة وتمثيلها للهدي القرآني.

فقه التنزيل

دعا عدد من العلماء إلى جعل فقه التنزيل مقرراً جديداً في العلوم الشرعية. ويتناول مثل هذا العلم دراسة الشروط الاجتماعية لتنزيل أو تطبيق الأحكام بما في ذلك مسألة مرحلية الأحكام المتعلقة بالدولة وعلاقاتها بالدول والمجتمعات الأخرى غير الإسلامية.

ويتعلق فقه التنزيل بمعرفة الواقع انطلاقاً من تقرير كليات النظر إلى النفس الإنسانية والمجتمعات البشرية وكيفية التعامل مع التنوع والاختلاف، وكيفية النظر إلى خصائص المجتمعات والأعراف والتقاليد ومزاج القبائل والشعوب.

إن فقه التنزيل ومعرفة وسائل توجيه السلوك الإنساني ليحقق المقاصد العامة للشريعة والمقاصد الخاصة للتصرفات ووجوه المعاملات يؤول عند النظر إلى الدراية بآليات سبر الواقع ومعرفته والإلمام بقرائنه وما يحف به من أمور وما يؤثر في سلوك الناس وعواقب التصرفات على المدى البعيد والقريب.

وقد ينفع في بيان هذا الأمر النظر إلى ما قرره ابن القيم في “إعلام الموقعين” في تعليقه على رسالة عمر بن الخطاب في القضاء حيث قال: “فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له”، قال ابن القيم: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع  الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثمّ يطبق أحدهما على الآخر”.

وهنا لا بد من التنبيه أن فقه الواقع بهذه السعة وهذا الشمول لا يستقل به علماء ودارسو الشريعة وخاصة أننا نعيش عصر التخصص وثورة المعلومات.  ومن هنا لا بد أن يكون فقه التنزيل مهمة جماعية يتولى فيها علماء الشريعة استنباط المقاصد والتوجهات العامة بما في ذلك ترتيب الأولويات وتترك تفصيلات التقنين وضبط الوسائل والإجراءات إلى المختصين الذين يعلمون من واقع مهنتهم ومآلات الأفعال والتصرفات فيها ما لا يستطيعه سواهم. وبهذا يكون فقه التنزيل مشروعاً جماعياً للأمة بكل فئاتها وخبراتها بعيداً عن عقلية الوصاية والتنطع والاختزال.

والحمد لله رب العالمين

01-2007