حفريات الحداثة في الحقل المقاصدي

1٬359

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،

فقد اعتنى الإسلام بالفرد وحاجاته وجاءت الشريعة مراعية لها مخففة من أعبائها، ولم يكن من مقاصد الشارع أن يلحق الضرر به أو يشق عليه، وتجلى ذلك في بناء الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد، بحثت هذه المقاصد تارة منفصلة بعنوان المصالح المرسلة، وتارة مدرجة في باب القياس في مسالك العلل “الذي يُدعى المناسب”، أما الإمام الشاطبي فقد أولاها جلّ اهتمامه وأفردها في التصنيف تحت مسمى المقاصد، ليتلقاها مجددو الأصول بالقبول والدرس والبحث وإعادة الإحياء.

ولم يُغفل كتّاب الحداثة المقاصد وأبدوا عنايتهم بالدرس المقاصدي القديم، وتجلت كتاباتهم ما بين التضخيم من جهة والانتقاص من جهة أخرى.

ثم بدأت مرحلة أخرى تبلور فيها مخيال مقاصدي مغاير للقديم تعتريه سيولة مفاهيمية وتأصيلية.

انطلق البحث من استشكال أسباب انتشار الكتابة في المقاصد وكيف نفهم تبني الجهات المتدينة لها من جهة والجهات اللبرالية من جهة أخرى؟ وما الغاية من وراء هذا الانتشار؟ وما الإيجابيات والسلبيات التي قد تنبني عليه؟

يحاول البحث الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تخصيص مبحث يتعلق بالمقاصد عند المتقدمين، ومبحث ثانٍ يناقش نظرة الحداثيين للمقاصد عند المتقدمين، ثم في مبحثين آخرين يتعرضان للرؤية الحداثية للمقاصد ثم تحليلها، وأخيراً يتعرض للإيجابيات والسلبيات الناجمة عن الإفراط في تناول المقاصد.

المقاصد عند المتقدمين

بدأت الكتابة المقاصدية منذ بدء الكتابة والتدوين الأصولي وتجلى ظهورها في كتابات الإمام الجويني وتلميذه الإمام الغزالي، واتسمت الكتابة المقاصدية حينها بالتأصيلية فتم تقرير الكليات الشرعية الخمسة وهي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وتم تقسيم مستويات تطبيق هذه الكليات بحسب أهميتها إلى ضرورية، وحاجية، وتحسينية، مع تعريف كل منها وذكر الفوارق بينها.

   وتطورت المقاصد بالإفراد والتوسيع على يد الإمام الشاطبي الذي عمد إلى تقسيم المقاصد إلى مقاصد للشارع وأخرى للمكلف، كما وقد قدم الإمام الشاطبي المقاصد على أصول الفقه في التحصيل، مخالفاً بذلك سابقيه من الأصوليين الذين جعلوا المقاصد مترتبة على التمكن من علم الأصول.

موارد الكتابات المقاصدية في كتب المتقدمين

برزت الكتابة المقاصدية معنونة ومدرجة تحت قسم القياس وبالأخص في مبحث العلة، فاعتبر المتقدمون المقاصد مسلك – مورد – من مسالك العلة ومسماه “المناسب”، إذ اعتبر الأصوليون المناسبة والتوافق بين الفعل وحكمه دلالة على العلية، وكذلك أدرجت المقاصد في مبحث المصلحة إذ تعتبر هي هي المصلحة، ولم تخلُ الأحكام الجزئية المبثوثة في الكتب الفقهية من النص على حكمة التشريع فيها، ولا تخلو كذلك مباحث دلالات الألفاظ من التعريض للمقاصد [مقاصد المتكلم في الاستعمال اللفظي] فترجيح أو اعتماد المعنى الإشاري أو الاقتضائي أو المفهومي في النص لا يتحقق إلا على أساس المقاصد.

حجية المقاصد

   حجية المقاصد(شرعيتها) وضوابطها جاء منصوصاً عليها من الشرع فقد تظافرت النصوص على نفي الضرر ورفع المشقة وجلب المصالح ودرء المفاسد، واعتبار المآلات، مما تعنيه وتُعنى به المقاصد.

   أما عن القيمة الأصولية للمقاصد فهي مما يُنهض للاستدلال بها عند تناهي النصوص، وبما تعم به البلوى (ينتشر ويعمّ بحيث يعسر على الناس تفاديه)، وبما تشتد حاجة الناس إليه مما قد يصادم قاعدة عامة للتشريع، وللترجيح عند التعارض.

الموقف الحداثي من مقاصد المتقدمين (الشاطبي)

تعددت أوجه الآراء التي تناولت مقاصد المتقدمين على العموم والشاطبي على الخصوص تتلخص بما يلي:

التضخيم الابستمولوجي لأعمال الشاطبي.

بينما اعتبر محمد الجابري أن الإمام الشاطبي شكل قطيعة ابستمولوجية مع الشافعي وكل الأصوليين من بعده؛ كونه دعا لبناء أصول الفقه على المقاصد بدل بنائها على استثمار الألفاظ([1])، ويعد هذا التضخيم للمقاصد ممهدًا لاعتبارها بديلاً للأحكام الشرعية، وأصلاً جديداً من الأصول، والتفسير الأعظم من بين أوجه تفسير النصوص. ولا يخفى على القارئ الحصيف أن يكتشف المغالطة في هذا التقييم الحداثي للمقاصد، فما وضعه الشافعي رحمه الله من ضوابط لغوية ومنطقية للتواصل مع النص القرآني لا يتعارض مع آلية المقاصد التي تعني الوعي بمآلات الأحكام وأثرها في الواقع الإنساني.

الانتقاص من أعمال الشاطبي

رأى جورج طرابيشي أن رأي الجابري بالشاطبي ما هو إلا تضخيمًا ابستمولوجيًا له، فما هو في الحقيقة إلا الشافعي نفسه، لكن العصر الذي صنف فيه الشاطبي كان أكثر انحطاطاً من العصر الذي صنف فيه الشافعي ثم يتأدب أخيراً مع الشاطبي ويلقبه “بشافعي عصر الاندثار”([2])؛ وذلك اعتمادًا على أن الشاطبي لم يراع المعاني والمقاصد كما ينبغي؛ ذلك لمراعاته أحياناً للنصوص بحرفيتها. ولا يخفى كذلك أن كلام الحداثيين عن التراث يعكس عجزاً عن فهم وظيفة علم الأصول كضابط لغوي ومنطقي في عملية الاستنباط من النص القرآني، وأن هذا لا يتعارض مع مفهوم المقاصد لصلته الوثيقة بتنزيل الأحكام وتزكية الواقع بها.

وقد تعددت أشكال الانتقاص في عدة وجوه منها:

اعتبار أعمال الشاطبي كرد فعل لظواهر اجتماعية عاصرها.

     لم تخلُ ثلاثية وائل حلاق عن التعريج لمقاصد الشريعة، وإيجاز أبرز ما ورد في التنظير لها وخاصة لدى الشاطبي، ومن زاوية أخرى يرى حلاق أن كثيراً من المباحث التي عقدها الشاطبي في المقاصد خاصة وفي الموافقات عامة ما كانت إلا رداً على الصوفية ومعتقداتهم بدءًا من نظريته في المباح الجزئي والكلي ومروراً بتقعيده للرخصة والعزيمة وتشديده على شرعية الرخص (التي ينبذها الصوفية غالباً) مما حدا بحلاق ليقول: “رأينا أن صوفيي زمانه [أي الشاطبي] أوْحوا له عقيدة الرخصة المتطورة جداً”([3])، منتهياً بالغاية من تقسيم الشاطبي المقاصد إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلف ومن ذلك قوله: “يبدو أن الصوفيين دفعوا الشاطبي إلى خطابه حول المقصد البشري”([4]). ويعلل ذلك؛ بتبديع الشاطبي لأصحاب الأعمال الذين ينتهكون العمل الشرعي من دون مناقضة مقاصده مع علمهم بانتهاكهم.

وتصادم الشاطبي مع الصوفية في كتابه ناجم عن حضورهم الاجتماعي الفاعل في زمنه وهذا التصادم نشأ عنه الكثير من تهم الصوفية التي ألقيت عليه من قبلهم فيما بعد؛ فعمد في كتابه الاعتصام إلى دحضها([5]).

وينتهي أخيرًا إلى أن الشاطبي مع أهمية ما تعرض له في تنظيره للمقاصد إلا أنه لم يتحرر من قيود حرفية النصوص الجلية في فروع الفقه المالكي التي أقرها الشاطبي وتبناها، متفقاً بذلك مع طرابيشي. وهنا أيضاً نرى أن الطرح الحداثي يسيء فهم المفاهيم الشرعية التي استقرأها الإمام الشاطبي من مجمل جزئيات وكليات الشريعة، وذلك بإقحام الخلاف مع الصوفية في سجال التأصيل للمقاصد. فإنكار الشاطبي على غلاة الصوفية لم يمنعه من تقرير نسبية المشقة في حق أصحاب الأحوال خلافاً لما يعتبر مشقة في حق عوام المكلفين.

اعتبار مقاصد المتقدمين تعزز الاتجاه الجزئي في الفقه

     يعتبر نصر حامد أبو زيد أن الضرورات الخمس التي اتفق عليها الفقهاء المتقدمون هي مبادئ جزئية إزاء مبادئ ثلاثة يقترحها: “عقل، حرية، عدل”، ويرى أنها تضم ما نص عليه الفقهاء من كليات([6]).

   وإذا ما انتقلنا إلى أوساط بحثية أكثر اتزاناً بدءًا من د. طه جابر علواني الذي يرى أن المنظومة المقاصدية التي صنعها المتقدمون لم تولد منظومة من الأحكام التي يُحتاج إليها في تغطية المستجدات، بل ودعّمت من الاتجاه الجزئي في النظر الفقهي([7])، وحاول علواني أن يسد هذه الثغرات من خلال الدعوة إلى المقاصد العليا وأهمية تقعيدها ثم جعلها أسساً منهجية وأصولاً كلية قطعية ومن ثم غربلة الفقه بغربالها([8]).وقد سبق إلى هذا الطرح الشيخ ابن عاشور عندما اعتبر أن المقاصد هي قانون الأمة.

النسبية و[التاريخانية] في مقاصد المتقدمين

حيث اعتبر هناك خلل في “دينامية” هذه المقاصد باعتبار أنها لم تخلو من إيحاءات الأزمنة التي تولدت فيها هذه المقاصد، وبالتالي فعلينا ألا نتعامل معها على أنها مسلمة وينبغي علينا اليوم أن نجد المقاصد التي تصلح للتداول في زماننا([9]). وهنا يبدو الخلط الذي يمارسه الحداثيون بقصد أو غير قصد بين المفاهيم الشرعية الثابتة المؤصلة وبين تطبيقاتها وتنزيلها في أزمنة وأحوال مختلفة.

الرؤية الحداثية للمقاصد

         توّجت الكتابات المعاصرة المقاصد الشرعية وجعلتها على رأس الأدلة الشرعية كون المقاصد الشرعية تكشف عن المرمز والمراد من النصوص التأسيسية، وتمت إعادة إنتاج ميكانيزمات مقاصدية تناسب مبادئ الحداثة؛ وذلك بقصد بلورة قطيعة ابستمولوجية مع التراث. حيث وسمت المقاصد بأنها:

تشكل الضمانة لفاعلية التشريع، فالمقاصد بدلالتها الغائية مضاهية للدلالات اللفظية، وهي الحامية والمنافحة عن الوحي والرسالة لمحافظتها على روح التشريع ومناقضتها للتدليس والتحيل باسم الشرع([10])، وضمان الفاعلية عبر المقاصد لا تقتصر عليه كتابات اليسار الإسلامي فحسب بل يمكن ملاحظة كمونها في كتابات المتدينين الإحيائيين منهم والمجددين المقاصديين، مثل طه عبد الرحمن الذي جعل من علم المقاصد علم الأخلاق الإسلامية التي يتعلق الفقه الائتماني بها، ومن أبرز سمات الائتمانية عنده أنها لا يمكن الاستغناء عنها، كما وينبغي تقديم ما جعله المتقدمون متأخراً في أولوياتهم ويقصد بذلك الفقه الائتماني والأخلاق الإسلامية([11]).

أساس الإصلاح في التراث، فالمقاصد تعتبر من أهم ما يمكن الاعتماد عليه في الإصلاح المنظومي للتراث كونها تفيض من داخل النص وليست دخيلة عليه مما يضفي عليها وعلى نتاجاتها الشرعيةَ والحقيةَ المطلوبة لاستساغتها من قبل المتزمتين أو النصوصيين([12]).

   كما وقد اعتبر فهمي هويدي الكتابة في المقاصد أول محاولة لرسم خريطة الحل الإسلامي([13])؛ لدعوتها للاجتهاد في الحوادث وفق المصالح، ولحدها من التقليد المذموم، وتعتبر هذه النقطة كسابقتها من حيث اشتراكها بين المتدينين واليساريين وتسهل ملاحظتها في كتابات نور الدين الخادمي وجاسر عودة والريسوني وغيرهم.

التوطئة لانفتاح أكبر في التعامل مع التراث

   ففي الكتابات الأكثر إيغالاً في المقاصد تعتبر الكتابة المقاصدية مجرد تعبئة واستثمار للوقت في ظل قوة حضور وامتداد الحالة الإسلامية بل وتهديدها للسلطات في كثير من البلدان، في ضوء التقلبات في موازين القوى([14])، مما يجعلنا نقف وقفة المخمن لنتساءل ماذا لو ضعفت الحالة الإسلامية ولم يعد أحداً يشعر بالأهمية تجاهها؟ هل ستنتقل الكتابات حينها لنبذ النصوص جملة وتفصيلاً.

ربط مستوى فهم النصوص التأسيسية بمستوى المقاصد

“حيث اعتبرت السلطة المرجعية في القرآن ليست في نصوصه وأحكامه التفصيلية الجزئية وإنما هي في مستوى المقاصد والكليات الكبرى بخلاف ما ذهب إليه الخطاب الأصولي القديم والخطاب الإحيائي المعاصر”([15]).

الإعلاء من موقع المقاصد بين الأدلة الشرعية

اعتبر بعض الكتاب في المقاصد أن المقاصد أصلاً لأصول الفقه كله([16])، كما وقد غيّر حسن حنفي من تراتبية الأدلة الشرعية التي اعتمدها الفقهاء فآثر البدء بالرؤية المباشرة وبالواقع فإن لم يجد ضالته ينتقل حينها إلى الإجماع والسنة والقرآن([17]). (وذلك ما اعتاده أصحاب الفهم الحداثي المنكوس الذين يجعلون الواقع الإنساني حاكماً على نصوص الوحي لا العكس).

الانعتاق من حرفية النصوص

ففي الكتابات الحداثية تضاهي المقاصد النصوص التأسيسية، بل وتقوض من صلاحياتها حيث يقتصر الاحتجاج بهذه النصوص ضمن الإطار المقاصدي لا في إطار الأحكام التفصيلية([18])، مما يضاعف أهميتها في الحد من “التعلق المَرَضي بحرفية النصوص ولا سيما النص القرآني وإيلاء المقاصد المكانة المثلى في سن التشريعات الوضعية التي تتلاءم وحاجات المجتمع الحديث”([19]) كما يرى عبد المجيد الشرفي (وأمثاله من هواة التمييع والتضييع لحرمة النص القرآني والاتكاء في هذه المغالطة على الإشادة بآليات الفهم والاستنباط وآليات تنزيلها).

تحليل منطق المقاصد عند الحداثيين

في هذا المبحث سننطلق بدءاً من سيمياء الحداثة؛ لأجل التأمل في مدى توافق مبادئها مع المقاصد واستنتاج مفهوم المقاصد المعني عند إطلاقه من قبل الحداثيين.

معلوم أن الحداثيين ينطلقون في حفرياتهم المعرفية من المناهج اللغوية، ولا يخفى أن المناهج البنيوية والتفكيكية المعتمدة لديهم لا تبدي أية اهتمام لغايات المؤلف من تأليفه أو المعاني التي يرمي إليها. ويطلق ‑رولان بارت‑ على ذلك “موت المؤلف” وعليه (فتنقطع صلة المؤلف بنصه في اللحظة التي يفرغ فيها من كتابة النص) وهذا الموت سينجم عنه ولادة في الطرف الآخر، وهو القارئ الذي سيستبيح النص ويكون صاحب الكلمة النهائية حول مرادات المؤلف. أما المعاني التي من الممكن أن تُستفاد من النص فهذه المعاني لم تنبعث من صاحب النص بل من القارئ وبدون أية شروط تذكر، ومعلوم أيضًا أن الحداثيين يطبقون المناهج اللغوية على النصوص الشرعية، فيتبين لنا أن المقاصد التي دعا لها الحداثيون ليست مقاصد صاحب الشرع وإنما مقاصد قارئه.

إذا تبين ذلك، فإن المقاصد المرحب بها من قبل الحداثيين هي المقاصد البشرية المبنية على المصلحة والمنفعة لتصبح المقاصد إسلامية باسمها ومادية براغماتية بحقيقتها، وخطورة البراغماتية في الدين والتشريع أنها توازي الذاتية([20])، إذ يُنسب كل شيء إلى الفكر وحده حيث النسبية، والاعتبارية المتَجاوَزَة.

أما ما ينجم عن هذه النسبية فهو الفوضى في التشريع فيفقد التشريع حينها أهم سماته الخادمة للبشرية وهي الإلزام والضبط ليبقى الهوى وحده ملزمَ كلٍّ منهم، وأنّى للأهواء أن تتوافق.

رأينا فيما سبق أن أحد الدواعي لحديث الحداثيين عن المقاصد هو محاولتهم الانفكاك من النصوص. لكن هل هناك تلازم بين العمل بالمقاصد وترك النصوص؟ وهل يلزم من العمل بالنصوص ترك المقاصد؟ ومعلوم أنه من خلال التطبيقات المقاصدية تبين لعلماء الشريعة إمكانية أن يُعمل النص ويُعمل المقصد معاً، وحين يترك أحدهما يكون الداعي لذلك إعمال آليات الترجيح والتي تعني ترك الدليل المرجوح وإعمال الدليل الأقوى، خلافاً للقراءة الانتقائية المزاجية لأصحاب التوجهات الحداثية.

الإيجابيات والسلبيات من انتشار الكتابة المقاصدية

نظرا لتباين الكتّاب وتباين مراميهم من الكتابة المقاصدية، يبدو أثر ذلك التباين على النتائج المشهودة والمتوقعة لانتشارها، ما بين سلبيات وإيجابيات.

الإيجابيات: من أهمها تلك التي تعمل المقاصد والدراسة المقاصدية على تدعيمها من وجهة نظر المؤلفين في السياق المقاصدي:

-انتشار التعليلات وبيان أسرار التشريع؛ مما يعمق من إيمان الفرد بدينه ويحفزه على تطبيق أوامره واجتناب نواهيه.

-توسيع نطاق الاجتهاد والحد من التقليد المذموم.

-إعادة النظر في الشروط الواجب توفرها للمجتهد؛ للسعي في تحصيلها في الفرد وعدم استعصائها.

-الحد من التحيُّلات المناقضة لروح التشريع.

-تعبئة منطقة الفراغ التشريعي والحد دون خلو الوقائع المستجدة من حكمٍ لله فيها.

ومن هذا يمكن القول إن التوسط في استخدام المقاصد، والدعوة إليها في ضوء النصوص الشرعية ومراعاة المقاصد التي اعتبرها الشارع في شرعه، سيحقق هذه الإيجابيات مع المحافظة على ما لا بد منه لاستبقاء أساسيات الدين ورؤيته الكونية التوحيدية الكلية.

السلبيات: إن الإفراط وعدم الانضباط في الكتابة المقاصدية من شأنه أن يجر الوبال إلى المنظومة الفقهية عامة وإلى المصادر التشريعية خاصة ومن سلبياته:

-التهرب من النصوص، والخروج على الإجماعات وما جرى عليه عمل الأمة.

-التكلف في استنتاج المقاصد، وتحميل الشريعة ما لا تحتمل.

-التوسع في دعوى الضرورة بلا ضابط.

-وضع الكثير من خصائص التشريع والمفاهيم الشرعية العامة محل الضرورات الخمس، ومن ثم البناء والتفريع عليها بشكل مزاجي.

-فتح باب الاجتهاد على مصراعيه دون تحقق أدنى الشروط اللازمة فيه.

-التقليل من مدى ذاتية المصادر التشريعية.

-تشويه مفهوم القياس والمصلحة بما يتواءم مع البراغماتية المادية.

-تجعل السمت العام للشريعة هو النفعية المادية، وإن بقيت بالاسم إسلامية.

الخاتمة

لم يدخر الإنسان جُهداً في تحقيق مصالحه الدنيوية كما أنه سعى دائماً للسلام والاستسلام لله في تجربته الدينية. حاول أن يطيع خالقه كما حاول تبرير المعاصي التي وقع فيها وهو يسعى لتحقيق مصالحه. يرى كثير من المؤلفين أن توجه رعاية المقاصد سيساعد الإنسان أن يعيش بسلامٍ في زمكانه الذي يعيشه دون أن يفض سلامه مع خالقه ودون تأثير على الأساسيات التي تُبقي على الهيئة العامة الفاعلة للدين من جهة أخرى، نجح في ذلك تارة واستأنف المحاولات تارات أُخر، أما المقاصد التي دشنها الحداثيون فقد تبين من البحث فيها ما يلي:

-تعد المقاصد عند المتقدمين فرعاً من فروع علم الأصول ولا يُعْمد إليها بشكل رئيس.

-استقرار الآراء الحداثية فيما بعد الجابري على الانتقاص من مقاصد المتقدمين وذلك بأوجه متعددة.

-انتهاز الحداثيين للمقاصد بقصد بلورة قطيعة ابستمولوجية مع التراث؛ لأجل التماشي مع متطلبات الحداثة.

-ابتعاد المقاصد عن المجال الديني، وتجلي البراغماتية المُقــنّعة المادية.

-لا يخلو توجه إعمال المقاصد بعمومها من الإيجابيات، إلا أن أشد ما يجب الانتباه إلى خطورته هو محاولة الحداثيين إهمال وتجاهل ذاتية النص الشرعي.

هذا والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين.


[1] مقال بعنوان “إعادة تأصيل الأصول”، محمد عابد الجابري.

[2] وحدة العقل العربي، جورج طرابيشي، ص 319.

[3] تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام، وائل حلاق، ص 240.

[4] المرجع السابق، ص 246.

[5] المرجع السابق، ص 254.

[6] معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، محمد عمارة، ص 14.

[7] آفاق التجديد، جمع عبد الجبار الرفاعي، مقال بعنوان “مقاصد الشريعة للدكتور طه جابر علواني”، ص 84.

[8] مقاصد الشريعة، طه جابر علواني، ص 167.

[9] المقاصد الكلية والاجتهاد المعاصر.

[10] أزمة العقل المسلم، عبد الحميد أبو سليمان، ص 96.

[11] تجديد الدرس المقاصدي في فكر طه عبد الرحمن، أحمد غاوش، youtube.com/watch?v=prvkl3lflam

[12] مقاصد الشريعة، جاسر عودة، ص 21.

[13] التدين المنقوص، فهمي هويدي، ص 68.

[14] المقاصد الإسلامية بين ابن عاشور وعلال الفاسي، صلاح الدين الجورشي، ص 1.

[15] الاستدلال الشرعي الفاسد، محمد هشام اغبالو، ص 398. (نقلاً عن كتاب خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر).

[16] مقاصد الشريعة، جاسر عودة، ص 10.

[17] الاستدلال الفاسد، محمد هشام اغبالو، ص 413. (نقلاً عن التراث والتجديد).

[18]الحداثة والإسلام، عبد المجيد الشرفي، ص 155.

[19] لبنات، عبد المجيد الشرفي، ص 162.

[20] وائل حلاق، تاريخ النظريات، ص 298.