علوم النفس والاجتماع

145

عرفت الثقافة الإسلامية كتابات عميقة ومفيدة عن النفس البشرية وعيوبها ومداخلها وإصلاحها وتزكيتها، وذلك في إطار الكتابات التربوية التي نقلت عن المتصوفة والمربين. وقد انطلقت كتابات العلماء المسلمين عن النفس البشرية من الرؤية الكونية التوحيدية التي تضع الإنسان في موضعه الصحيح في الكون. فالإنسان في الرؤية التوحيدية هو مخلوق مكرم سخر الله له كل شيء في الكون وزوده بإمكانيات التسامي والارتقاء، وزوده بإمكانيات التردي والانهيار في حمأة الشهوات والأنانيات كذلك. والإنسان في الرؤية التوحيدية لم يُخلق عبثاً ولم يزود بالإمكانيات دون غرض، بل جعل الله الإنسان خليفة في الأرض مزود بحرية الاختيار لينال الأجر والثواب عند اختياره الحر أن يعيش حياة أخلاقية منضبطة بالهدي الإلهي، ويستحق الجزاء والنكال إن اختار بإرادته تنكب الطريق وغفل عن الغاية من الخلق فاستعمل مواهبه في اقتناص لذة عاجلة وعبادة للذات ونشر الظلم والفساد.

والناظر في الدراسات التربوية لأمثال الغزالي والمحاسبي والقشيري والسكندري وابن القيم وغيرهم يلاحظ بوضوح أن المعاني العميقة التي يسجلها هؤلاء الأئمة هي تأملات وخواطر تغوص في النفس البشرية بروح شفافة وبصيرة شرعية توحيدية فهمت عن الله بعض أسرار النفس ومعاني تزكيتها وترقيتها في معارج الكمال الانساني، وفهمت كذلك مداخل الشيطان على النفس البشرية ليزين لها العناد والصدود والركون إلى التافه من الاهتمامات والشهوات.

وكذلك عرفت الثقافة الإسلامية بعض الكتابات عن علم الاجتماع وقوانين العمران وما يتصل بحياة الجماعات البشرية. وكانت كتابات العلماء المسلمين في هذا الباب تنطلق كذلك من الرؤية التوحيدية التي تؤكد على وجود السنن الاجتماعية للازدهار أو الهلاك والدمار، وتؤكد على مسؤولية الإنسان في اكتشاف السنن والقوانين الاجتماعية سيراً في الأرض واعتباراً بالتاريخ وما آلت إليه أحوال الأقوام والشعوب.

ويعتبر ما كتبه ابن خلدون في مقدمته أوضح وأدق ما عرف في الثقافة الإسلامية في هذا الباب. فقد سجل ما لاحظه من قوانين العمران والنشاطات الإنسانية المختلفة ما هو حصيلة مشاهداته وتأملاته الذاتية التي استعمل فيها ذكاءه وألمعيته في محاولة كشف بعض السنن والقوانين التي أدرك فكرة ثباتها واستقرارها من خلال الفهم الشرعي التوحيدي والثقافة الإسلامية الواسعة ومن خلال التجربة الشخصية والمعاناة الذاتية.

وقد توقف العطاء الفكري للمسلمين عندما تركه الأئمة الأقدمون في هذا الباب، حتى إذا جاء العصر الحديث وأدرك المسلمون تخلفهم في العلوم وتخلفهم في فهم سنن الله في الكون بعد الغزو الاستعماري الغربي لديار المسلمين، اتجه المسلمون إلى الاهتمام بتحصيل العلوم والمعارف من الجامعات الغربية. وإذا كان الخطأ المنهجي الذي اتسمت به توجهات المسلمين لتحصيل العلوم التطبيقية قد أدى إلى البعد عن تحقيق الكفاية والعجز عن حل المشكلات اليومية في مجتمعات المسلمين، فإن الخطأ المنهجي في تناول علوم النفس والاجتماع هو أشد فداحة وضرراً. فإن نظرة سريعة لما تمخضت عنه شطحات وتخرصات وخيالات البحث عن الإنسان الطبيعي الذي يمثل البديل عن الإنسان المخلوق الخليفة المكرم، تبين بوضوح الرغبة الجامحة في تحقير الإنسان وسلخه من فطرته ودفعه إلى الاستغراق بالملذات والشهوات، انطلاقاً من التوجهات الإلحادية التي كانت تسوق وتوجه الدراسات النفسية والاجتماعية هروباً من الكنيسة وإله الكنيسة.

فهذا “توماس هوبس” يقرر في كتابه “الغول” أن طبيعة الأشياء ليس فيها جيد أو سيء، صحيح أو خطأ، عادل أو ظالم. وأن الإنسان مستقل عن المجتمع أو ظروفه الطبيعية يحيا بلا ضمير ومحكوم باللذة أو الألم ومدفوع بشراسة لتحقيق رغباته المنهومة. وإذا لم يكن هذا التعريف للطبيعة البشرية بالغ السوء إلى حد كافٍ فقد أضاف هوبس بعداً أمعن في الغواية وهو أن حقوق الإنسان هي ببساطة تساوي رغباته (مهما بلغت في القذارة والدناءة). فرغبتنا في أي شيء تعطينا الحق للحصول عليه بحكم الطبيعة. وعلى هذا يعتبر هوبس مؤسس الفلسفة المشهورة بأن للإنسان الحق في الحصول على ما يرغب ويشتهي كائناً ما كان في أهميته أو سخافته أو انحلاله الأخلاقي، ويضيف بأن من مهمة الحكومات أن تحمي هذا الحق.

أما ملهم الثورة الفرنسية “جان جاك روسو” فهو يتصور الإنسان الطبيعي على أنه دمث ومسالم وبريء ولا يعبأ بشيء وشهواني داعر بمرح. لقد قدّم لنا روسو آدم جديد يمارس الجنس لا الحرب، ويكون بهذا قد قدّم لنا النسخة الأصلية للمثال الاجتماعي الذي تبشر به حركات التحرر الجنسي. تصور روسو الإنسان الطبيعي في الحالة البدائية ليس لديه بيوت أو أكواخ أو ملكية من أي نوع، لقد كان الإنسان الطبيعي ليس أكثر من حيوان متطور قليلاً، بدون لغة يعتمد على حواسه وليس على منطقه، يميل إلى التوحد والانفراد. ولم يكن الحب أو الأسرة شيئاً طبيعياً، وكان الرجال والنساء يلتقون مصادفة بشكل يعتمد على الظرف والمناسبة والرغبة ثم يفترقون بمثل تلك السهولة. وقد بالغ روسو في خيالاته المدمرة للحب والأسرة إلى الحد الذي أنكر معه المحبة بين بالأمهات والأطفال وأن مفهوم الأبوة والمسؤولية الأخلاقية تجاه الذرية، حتى المحبة هي مشاعر غير طبيعية تورط فيها الرجال بعد أن انحلت عرى ارتباطهم بالحالة البدائية.

وأما “ماركس” فيختزل التاريخ الإنساني والطبيعة البشرية في عبارة واحدة: تاريخ كل المجتمعات الإنسانية هو تاريخ الصراع الطبقي، ويقرر أن وجود البشر ينحصر في وجودهم المادي، ويقرر أن التاريخ يتجه بعنف نحو إلغاء الأسرة، إلى غير ذلك من التخرصات التي وصل إليها بقراءة انتقائية لواقع بعض المجتمعات وعمم استنتاجاته وزعم أنها القانون الذي يحكم التاريخ البشري وتطور مجتمعاته.

وأما “دارون” فقد أوصلته دراسته في أصل الأنواع إلى أن الصراع من أجل البقاء هو القانون الذي يحكم البشرية وأن البقاء في هذا الصراع هو للأقوى أو للأشرس وأن هذا هو قانون الاصطفاء الطبيعي الذي يرقبه البشر دون أي حس أخلاقي. لم تكن استنتاجات دارون في دراسته لأصل الأنواع تقتصر على عالم الحيوان وسلالاتها وانقراضها وتطورها، بل كانت في جوهرها طرحاً ثقافياً لادعاءات التفوق العنصري ولإعطاء المبرر لتدمير الشعوب -التي لم تتكيف مع الثقافة المتفوقة – حيث قرر دارون أن على المجتمع ألا يتدخل في عملية الاصطفاء الطبيعي بحماية الضعيف من الدمار بوسائل اصطناعية. وبهذا يكون الإحسان للضعفاء أمر غير طبيعي وغير علمي. وعلى العكس، يجب على المجتمع أن يساعد على الاصطفاء الطبيعي ليأخذ مجراه ليستأصل الضعفاء بوسائل فعالة. وهذا هو علم تحسين النسل البشري كما طبقته النازية بامتياز.

فإذا أضفنا إلى هذا هلوسات “نيتشه” و “فرويد” وغيرهما في المحاولة العقيمة لفهم الإنسان بعيداً عن هدي خالقه، نجد أن علوم النفس والاجتماع في الثقافة الغربية هي محاولات يائسة وخيالات بائسة لكشف طبيعة الإنسان في مجاهل الماضي السحيق للوصول إلى الجنة الأرضية والسعادة الغامرة في المستقبل بعيداً عن الإله وجنته وحسابه وعقابه.

ومن هنا فإن نقل مناهج ونتائج علوم النفس والاجتماع من الثقافة الغربية التي تستبعد الإله وتتعامل مع الإنسان في بعده المادي وحاجاته المادية فقط هو خطأ منهجي تعوزه البصيرة. وبالإضافة إلى هذا لا يخفى على الدارس البصير أن تدمير نظام الأسرة والفوضى الجنسية والتفوق العنصري الغربي كانت محاور أساسية في كل ما تفتقت به العبقرية الغربية في فهم الإنسان. ولهذا فقد تبنى المفكرون والكتاب المسلمون الملتزمون بالرؤية التوحيدية موقف الرفض المطلق لمعطيات ومنهجية علوم النفس والاجتماع الغربية، فإذا ساغ نقل الفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم الطبيعية عن الغربيين، فليس بسائغ نقل ما يتعلق بموضوع الدين في أصل تنزله، هداية للنفس وبيان حقيقتها ومركزها في الكون وعلاقتها بربها والكائنات من حولها.

ورغم وضوح الفرق بين الرؤية التوحيدية الإنسانية والرؤية الغربية المادية الإلحادية العنصرية، يبقى التفوق في الإدارة والتنظيم والتعليم واكتساب المهارات والتوجه العملي في حل مشكلات الاجتماع الإنساني بشكل فعال، تحدياً قائماً يثير الاحترام والإعجاب ويدع المرء في حيرة عند المقارنة بما آلت إليه مجتمعات المسلمين. وقد اختار عدد من الكتاب الطريق السهل عند محاولتهم الإجابة عن السؤال: لماذا تأخر المسلمون ونهض غيرهم، فاختاروا طريق التقليد والتغريب دون تفريق أو تمييز.

وأشاع كثير من الدارسين في الغرب المقالة الساذجة أنهم رؤوا في مجتمعات الغرب إسلام بدون مسلمين بينما يعيش الشرق بمسلمين دون إسلام.

وهنا لا بد من ذكر مقدمة نافعة عن العلوم ومجالاتها حتى ترتفع الفتنة بمظاهر التفوق والتمدن ويمتلك المرء معيار الانتقاء والاختيار لما هو من المشترك الإنساني ببصيرة ووعي واستشعار لمسؤولية التفكير والتعلم والاتقان بعيداً عن شعور الاستخذاء والضعف والهوان.

       يتجلى النشاط الذهني ونشاطات التفكير الإنساني في مجالات متعددة. فهناك التفكير الذي يركز ويتمحور حول المنتجات والبضائع والخدمات بأنواعها وذلك لتغطية الحاجات والتطلعات والأذواق التي تميز ثقافة المجتمع وطبيعة الحياة فيه. ويتوجه التفكير في هذا المجال إلى دراسة أنواع البضائع والخدمات وكيفيات الإنتاج وأساليب التجهيز والترويج والتوزيع بما يضمن تغطية الحاجات والأذواق التي تعطي المجتمع صبغته الثقافية وتوجهاته الفردية والجماعية.

       ومن ناحية أخرى هناك النشاط الذهني والتفكير الذي يعتني ويبحث ويسجل ما يتعلق بكل ما في الكون من معادن وأحياء وظواهر أجسام وطاقات، لمعرفة طبيعة تصرفاتها وتفاعلها واستجاباتها للظروف والأحوال المختلفة وذلك لكشف القوانين الطبيعية التي تحكم إمكانيات التسخير. فتسجيل المعلومات ونتائج الأبحاث والدراسات بعد التأكد من ثباتها واطرادها هو المجال الواسع لتطور العلوم الطبيعية والتجريبية بما في ذلك علوم الفيزياء والكيمياء ووظائف الأعضاء والطب والزراعة والحيوان وغير ذلك من العلوم والمعارف. وكذلك فإن دراسة وملاحظة السلوك الإنساني وطبيعة الاستجابة للظروف والأوضاع المتغيرة، تعتبر من المجالات المهمة للنشاط الفكري الذي يكتشف ويسجل تأثير العوامل المختلفة على سلوك الإنسان. وذلك مثل نظام الحوافز والمكافآت وأثر ذلك على العمل والإنتاج، أو تأثير طريقة التدريس والتعليم على فهم التلاميذ واستيعابهم وتنمية استعداداتهم، أو دراسة نماذج تنظيم المدن وأثر ذلك على البنية الاجتماعية وأخلاق الناس ومزاجهم، أو طريقة ممارسة السلطة وأثرها على الحياة.

       أما المجال الثالث للنشاط الذهني والفكري فهو الذي يبحث في الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تتعلق بالرؤية الكونية وطبيعة الحياة وغايتها ومصدرها ونهايتها حيث يتناول الفلاسفة هذا الموضوع بشكل نظري وبتجريد لا يستطيع أكثر الناس متابعته وفهم تفصيلاته. ولكن النتائج العملية والثقافية للطرح الفلسفي يستطيع الناس تمثلها لتترك أثراً مهماً في سلوكهم الفردي والجماعي وذلك كما قدمنا عن مساهمات روسو وماركس ودارون في صياغة الضمير الغربي في العصر الحديث.

ويمكن أن نلخص ما قدمنا عن مجالات النشاط الفكري بقولنا: يتجلى النشاط الذهني والفكري في أي ثقافة أو حضارة في ثلاثة مستويات:

  • مستوى الدراسات العملية والتسويقية (الطرح التجاري)؛
  • مستوى الدراسات النظرية والتطبيقية (الطرح الدراسي/ الجامعي)؛
  • مستوى النظريات الكلية الكبرى والرؤية الكونية (الطرح الفلسفي).

فعند تناول العلوم ونتائج النشاط الذهني والفكري للاقتباس والنقل، يجب الوعي للمجال الذي نخوض فيه. فنتائج النشاط الفكري تتأثر بالبيئة الثقافية والحضارية في طرفي مجالات طرحها. أعني في طرحها الفلسفي وطرحها التجاري بشكل خاص. فالطرح الفلسفي الغربي مرفوض جملة وتفصيلاً لأنه يقوم على رؤية كونية مادية إلحادية. ففي علم النفس مثلاً هناك افتراضات تفارق الرؤية الإسلامية التوحيدية مفارقة كاملة، سواءً تلك التي تعتبر الإنسان مخزن شهوات وعدوان أو تلك التي تعتبره مسلوب الإرادة يخضع سلوكه للمؤثرات والمهيجات مثل كلب بافلوف أو الدولفن في حديقة الحيوانات. وفي علم الاجتماع يتنكب الطرح الغربي الرؤية الإنسانية التوحيدية عندما يفترض المجتمعات طبقات متصارعة متعادية عداءً مطلقاً وأنها كائنات وظيفية لا مكان للقيم فيها. وفي علم السياسة الغربي هناك إشكال كبير في سلب المرجعية من المجتمعات ومن الحيز المدني واحتكارها في الدولة. وفي علم الاقتصاد تنطلق الرؤية الغربية من افتراض الندرة وتطبيع الاستغلال الربوي وإعلاء شأن التكاثر ومعاظمة الأرباح. وفي كل هذه الأمثلة تتأثر نتائج البحث والفكر بالمنطلقات النظرية وتحمل صبغتها وهويتها.

أما الطرح التجاري فمرفوض كذلك عندما يستخدم العلوم لإرضاء شهوات أو رغبات أو حاجات تنبع من الكيان الثقافي ولا تتعلق بالمشترك الإنساني من الحاجات والخدمات. فنقل نتائج النشاط الفكري في هذين المجالين على علاته دون وعي أو تمحيص يساهم بشكل كبير في تدمير ثقافة الأمة وموازينها للضروري وتقييمها لأولويات الاهتمام والانفاق.

أما الطرح الدراسي الذي يلاحظ ويصف ويقيس الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية فليس هناك من مانع لنقله والاستفادة منه، وذلك قبل أن ينتقل إلى مرحلة التفسير والاستنتاج والتي تتعلق حتماً بالطرح الفلسفي أو التجاري. فإذا كنا لا نرفض القوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء، وإن كان من مقتضيات أو مقدمات هذه القوانين عند الغربيين الإلحاد والمادية، كذلك فإن مخالفتنا لأصول الطرح الفلسفي لعلوم النفس والاجتماع عند الغربيين يجب أن لا تحملنا على رفض القوانين والسنن التي اكتشفتها أبحاث هذه العلوم.

وبهذا التمييز بين العلوم وإطارها الثقافي تمكن الاستفادة من العلوم الاجتماعية التي خطت خطوات هائلة باتجاه الموضوعية والدراسات الحقلية. فلم تعد هذه العلوم نظريات مجردة انقدحت في أذهان بعض العلماء، بل أصبحت تعتمد على الدراسات والاحصائيات الحقلية التي تتابع وتناقش مختلف مجالات النشاط الإنساني والدوافع وترتيبات المعاش والعوائق والحوافز والترتيب السليم للعلاقات الإنسانية والتي لا بد من هضمها هضماً إسلامياً وإخراجها بشكل يتناسق مع معطيات الثقافة الإسلامية وواقع البيئات الإسلامية حتى تؤتي أكلها وتمكن الاستفادة منها.

فالنقل لمعطيات وتطبيقات العلوم الإنسانية كما هي في إطارها الثقافي الغربي يحمل بلا شك الآثار المدمرة التي تفوق ما عانت منه الأمة من جراء الخطأ المنهجي الذي تناولت به العلوم التطبيقية. أما الرفض المطلق لمعطيات علم النفس والاجتماع في الجوانب التي تمثل المشترك الإنساني فلا أظن أن ذلك سيأتي بخير إلا أن يكون اعترافاً منا بالعجز عن النقل الواعي الذي يستحضر معطيات الثقافة الإسلامية ويستطيع أن يكمل عملية الهضم الثقافي على بصيرة ووضوح. فعلم النفس يمكن أن يدلنا على كثير من أقنية التفكير السليم أو الاستجابة البشرية للمؤثرات، وعلم الاجتماع يمكن أن يدلنا على كثير من الشروط الموضوعية لتغير المجتمعات، وعلم السياسة يمكن أن يدلنا على كثير من وسائل مشاركة الناس في اتخاذ قرار أو تأمين صيغة تراضي لتحقيق السلم الأهلي، وعلم الاقتصاد يمكن أن يدلنا على كثير من الوسائل لرفع كفاءة العمل والإنتاج. وفي كل هذه المجالات لا يخفى أن التوجه الثقافي للمجتمع يمكن أن يضع نتائج هذه العلوم في إطار بعيد عن تحقيق الخير والنفع لجفع الناس في طريق الاستغلال والغواية والتضليل.

وإذا عدنا إلى ما ذكرناه عن ابن خلدون وكيف استنتج من تدرج الكائنات وتسلسلها من البساطة إلى التعقيد والتركيب، ما أثبت به الوحي والنبوة في الوقت الذي توصل به داروين وأمثاله من بعض الملاحظات المشابهة إلى نفي التدبير وإنكار الصانع، فإن هذا المثال يبين بوضوح أن المسلم لا يرفض تفاصيل المشاهدات وما أخرجته المخابر والمعامل والاحصاءات، ولكنه لا يترك أمر الاستنتاج والتحليل لغيره، فللمسلم رؤية كونية تزوده بمنهج آخر في فهم الطبيعة والكون والحياة، وهذا هو عين ما نريد إثباته في قضية العلوم الاجتماعية والنفسية.