الفقيه ونطاق المعرفة

378

تصدر الفتاوى بين الفينة والأخرى تجاه بعض المستجدّات، وينقسم أهل النظر بين معجبٍ بمواكبة المتكلّمين باسم الدين للتطوّرات الحياتية وبين مستدركٍ يرى أنّ تلك الفتاوى قصُرت عن المراد، بل ربما حادت عن الصواب وشوّشت مجال تحرّك مفاهيم الدين في الحياة. ويرجع هذا الإشكال إلى أمرين: منهج الفتوى وطبيعة الواقع الذي تعالجه.

ومن ناحية تاريخية، نرى أن الفقه عالج مختلف الأحوال الواقعة في الحياة، وقال قولته مستدرّاً مقتضى النصوص وفحواها، ومُعملاً أدوات الاجتهاد مثل القياس أو غيره بحسب المذهب. وتُعتبر مسألة الفتوى مسألةً خاصةً أو استثنائيةً في المجال الفقهي، لأن مبرّرها هو طروء غير المعتاد. ولا غرابة إذاً أن تأخّر ظهور المصنّفات بعنوان “الفتاوى”. وتمتاز كتب الفتاوى بوعيها إلى تغيّر الحال وتقلّب الزمان والحاجة إلى قولٍ يستجيب إلى ما تقتضيه تلك التغيرات من قولٍ جديدٍ، أو إلى تعديلٍ واختيارٍ في أقوالٍ قديمة. وينصبّ الهمّ في الفتاوى على التأكّد من تحقيق المناط، وربما يقوم الفقيه المتمكّن بمراجعة تنقيح المناط من النصوص. ولكن الغالب هو القيام بعملية المقارنة مع المسائل المشابهة والمناظرة المسطورة في كتب الأقدمين.

تحدّيان

التحدّي الذي يواجه الفتوى اليوم من نوعين: أنّ ما يُطلب الفتوى فيه هو تطوّرات تتفتّق في سياق حضارةٍ ذات توجّهٍ غير إسلامي، وأن التغيّرات قد تكون نوعية لا سابق لها.

وتجاه المسألة الأولى نلاحظ أن بعض التغيّرات المعاصرة إنما تولّدت نتيجةً للمسيرة الخاصّة للحضارة المادّية المعاصرة. وعندئذٍ يحقّ لصاحب الرأي أن يرفض إعطاء جوابٍ وفتوى باعتبار أنّ المشكلة ليست مشكلة منظومته. ومثال ذلك أنه لا يُطلب من النظام الاشتراكي أن يحلّ مشاكل التسريح والإضراب في النظام الرأسمالي، والعكس بالعكس. ومثاله أيضاً أنّ منظومة حكمٍ نيابي ليست قادرةً على حلّ مشكلةٍ خاصّةٍ بالحكم الرئاسي، ومثاله أنّ قطعةً تُحسِّن أداء محرّك الديزل لا تُحسِّن أداء محرِّك البنزين ضرورة، ومثاله أنّ مداواة مرضٍ بين الأطفال قد يكون مختلفاً عن مداواة المرض نفسه بين الكبار.

والموقف الديني حرجٌ في هذا الأمر. فمن ناحية منطقية، يمكن للخطاب الديني أن يتنصّل من أيّ مسؤوليةٍ ويرفض إعطاء جوابٍ بناءً على أنّ ما يُطلب القول فيه ليس من طبيعة الاجتماع الإسلامي. غير أنّ عدم الإجابة قد يوقع الخطاب الديني في غربةٍ عن واقعٍ مفروض. وعند ذلك تتراوح أصالة الجواب بين ذلك المساير الذي يعلوه همّ عدم الظهور بمظهر النشاز، وبين الجواب الذي يتفحّص جذر المسألة ويجيب بجرأةٍ في أنّ أصل المطلب مرفوضٌ أو أنه يصطدم مع ثوابت أخلاقية في الطرح الديني. مسألة أطفال الأنابيب مثالٌ عامٌ على هذا، حيث يمكن الاعتذار عن الإجابة بسبب غالب الداعي إلى ذلك، ويمكن الإجابة في أنّ الحالات بين الزوجين هي وحدها التي تقع ضمن اهتمام المسلمين وفقههم.

المسألة الثانية هي حيال التغيّرات النوعية التي لا سابق للبشرية بها. ودعنا نسلِّم ابتداءً بأنّ التطوّر والتبدّل هو من طبيعة مسيرة التاريخ، ويتبع ذلك أنّ التجديد هو الذي يُمكّن من مخاطبة الحياة والمساهمة في إصلاحها بحسب ما آلت إليه الأمور. فالنشاط الإنساني حراكيّ ديناميكي، ما يلبث أن يراكم خبراتٍ واكتشافاتٍ وتجارب تضيف إلى الحياة شيئاً جديداً. إنّ الأمر الذي يفرض تحدّياً حقيقياً على الخطاب الديني هو أن الجديد قد لا يكون مجرّد امتدادٍ للقديم أو تعديلٍ فيه، وإنما إنشاء مستحدث ليس له قبيل. الحاسوب الالكتروني وتطبيقاته والاتصالات مثالٌ على ذلك، وكذا كثيرٌ من أوجه الاقتصاد ومصادر الدخل والمعاملات المالية، مثل المحاماة والاستشارة أو شركات النقل والسفر أو معامل التصنيع. والمسائل السياسية أيضاً حلّت فيها تطوّراتٌ نوعية، سواء من ناحية قدرة النظام الحاكم التحكّم بالساكنين في الدولة، أو في علاقات الدول بعضها ببعض باعتبار الهجرات، أو الاعتماد المشترك على بعض الموارد، أو ظهور سلاح الفتك الجماعي. ومثلاً، كان حجم الجيوش هو العنصر الحاسم، لكن هناك اليوم عوامل أخرى أكثر حسماً وأصبح ممكناً لدولةٍ صغيرةٍ بجيشٍ متفوّقٍ في عتاده أن تفرض نفسها على المسرح العالمي السياسي. 

إنّ التغيرات المعاصرة لم تعْد تغيراتٍ كمّية بمعنى زيادة الحجم وكثرة الورود فحسب، وإنما تغيراتٍ نوعيةٍ انقلبت فيها طبيعة الأمر فأضحى من فئة جديدةٍ ويتحرّك في الاجتماع البشري على نحوٍ جديد، وله ارتباطات جديدة مع باقي أوجه الحياة.

خياران للفقه

كون التغيراتِ نوعيةً هو عقدة الموضوع الذي نحن بصدده. فما هو دور وواجب الفتوى في عصرنا الحالي المتسّم بتغيّراتٍ مفارقة لسِجلّ الخبرة التاريخية للمسلمين؟ وتجاه ذلك نحن بين خيارين: إما أن نقول إنّ على الفقيه توسيع اطلاعه على ما حفِلت به الدنيا من أجل إصدار الرأي الشرعي في المسائل المستحدثة (من باب المعاصرة)، أو نقول إنّ على أهل العلم والخبرة في شتّى الحقول والاختصاصات (طب، هندسة، إدارة…) أن يضطلعوا بفهم مراد الشريعة اضطلاعاً كافياً يمكّنهم من الإجابة بأنفسهم (من باب جمهورية خطاب المقاصد).

والغالب في هذه الأيام هو الموقف الأول وطلب إعطاء الجواب من الفقه في شتى الأمور. وسواء أكانوا أفراداً من الفقهاء المتميّزين أم كانوا مجالس فقهية، تحكي طبيعةُ الأجوبة مدى الاطلاع على الحقل الذي تصدر فيه الفتوى. والأمر يتراوح بين اعتقاد المفتين أنّ الذخيرة التراثية حافلةٌ وحاويةٌ على حالاتٍ مناظرة، وبين الاستنجاد بقواعد فقهية أصولية عامة إلى جانب قيام المفتين باطّلاعٍ عَرَضيٍّ على ظروف الأمر المستحدَث.

فإذا تمّ الركون إلى أنّ التراث يحوي على إجاباتٍ، تجري عملية بحثٍ عن الأشباه والنظائر. بمعنى أنه يجري البحث عن حالاتٍ قديمة تشترك مع الحالات الحديثة في أكثر الوجوه أو في بعض الوجوه فحسب. فإذا كانت مسألة طبّية، جرى البحث عن حوادث ماضية شبيهة أو مناظرة قال فيها الفقه قولته، باعتبار أنّ الأمراض أمرٌ ملازمٌ لحياة البشر. وكذا إذا كان الأمر أمراً في السياسية أو الاقتصاد أو غير ذلك من مجالات الحياة.

وثمة خيارٌ آخر للفقيه، وهو عدم التركيز على وجود مماثلٍ ومشابهٍ ونظير، وإنما التركيز على قواعد عامة تُمكّن من تخريج قولٍ في الطارئ الجديد. ومن أشهر هذه القواعد: الأمور بمقاصدها، واليقين لا يزول بالشك، والمشقة تجلب التيسير، والضرورة تقدّر بقدرها، والمصلحة تقدّر بقدرها، ولا ضرر ولا ضرار، والعادة محكّمة.

وقد يحاول الفقيه تقليب النظر في العلّة الموجبة للقول بقولٍ ما في سابق الزمان، وتحكيم بعض القواعد الأصولية العامة مثل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخففهما، إذا تعارض المانع والمقتضي قدِّم المانع… وكما ترى، القواعد الأصولية هي في آنٍ قواعد عقلية/شرعية/أخلاقية صالحة للتطبيق على أي أمرٍ وحادثة.

وقد يفاجأ القارئ بهذه القواعد القادرة، ذاك القارئ القريب الذي تغمره ثقافة الدروشة الدينية، أو ذاك القارئ البعيد الذي ينفر من الدّين لأنه بظنّه يحرّم عملية التفكير. فثمّة انطباعٌ أنّ تنزيل الأحكام قضيةٌ غيبيةٌ ليس للعقل دور فيها، أو أن المعالجة الدينية للحياة تنحصر في ثنائيةٍ صلدةٍ بين حرامٍ وحلالٍ ليس فيها فسحة للموازنة.

غير أنه لا يخفى أنّ صحّة استعمال القواعد ترتهن إلى فهمٍ قويمٍ للواقع.

الواقع وقدرة الفقه على الإحاطة

بيّنت الفقرات السابقة الكمون الكبير للتراث الفقهي. فصحيحٌ أنه حفِل التراث بتفصيلاتٍ جزيئة في أمورٍ كثيرة فيها اختلافٌ واسعٌ يصل أحياناً حدّ التقابل النافي، لكن هناك كلّيات عليها إجماع، وهي ممّا يُمثّل مدخل الرؤية الإسلامية للتعامل مع الواقع. وبما أنها كلّيات عقلية يدخل فيها التقدير، فهي قادرة على تحليل حالاتٍ مستجدّة. لكن تفعيل القواعد يُفيد بقدر ما نستطيع فهم الواقع الذي نطبّق عليه القاعدة.

وعلينا مصارحة أنفسنا بأن اطلاع المجتمع الفقهي على الواقع اطلاعٌ عن بُعدٍ في غالب الأحيان. وكثيراً ما يجري تزيين الجواب ببعض اللفتات التي تحاول تأكيد اطلاع الفتوى على الواقع برغم أنّ الدراية الوافية به غير متحصّلة. ونضرب على ذلك مثالين معاصرين.

مثال مؤسسة الاستخبارات

جرى في غضون الثورات العربية طلب الفتوى في التعامل مع قوى الاستخبارات التي تقوم بالتنكيل، وفي الذين يُستأجرون من السفلة الأشرار من أجل إيذاء الناس. فوجدنا متكلّمين باسم الدين يعودون إلى التراث فيجدون في الفقه مبحث (الصائل). وبحكم دربة الفقيه في التقليد والنبش عن الأشباه والنظائر، يحاول مقايسة أو مطابقة أمرٍ من الماضي مع الحاضر، فيرون أنّ الصائل يعتدي وربما يسرق ويجرح ويقتل، لذا فهو نظير جهاز الاستخبارات فيفترضون أنّ الأحكام التاريخية للصيال تنطبق على الواقع المعاصر.

وجه التشابه الظاهري موجود، لكن مؤسسة الاستخبارات مؤسسةٌ حديثةٌ مختلفة نوعياً عن “العيون” التي عُرفت في التاريخ. لقد أضحت مؤسسة الاستخبار ركناً من أركان الأنظمة الحديثة، الديكتاتورية منها والديمقراطية. وخواص هذه المؤسسة ومدى تعقيدها وتراكيبيّتها مختلفة بالكلية عن الماضي. والاختلاف اختلافٌ نوعيٌ، فالعسف الذي تقوم به مؤسسات الاستخبارات مغايرٌ في حقيقته وأعماقه لظاهرة الصيال، بسبب مدى التحكّم ووفرة الموارد وأوجه الحياة التي تسيطر عليها.

وفي البلاد الديكتاتورية، يتجاوز تأثير مؤسسة الاستخبارات مهمتها الأساسية كما هي موصوفة في اللوائح، وفي كثير من الأحيان تكون هذه المؤسسة هي القوة الحاكمة إلى جانب الجهاز العسكري، فأين ذلك من الصائل والصيال. وثمة بُعدٌ آخر، وهو أنّ الصيال ظاهرةٌ فرديةٌ أجدر بوصف الجريمة، في حين أنّ العسف المخابراتي سمةٌ مؤسسيةٌ منظوماتية. كما أنه قد يكون لمؤسسات الاستخبار في الدول التابعة تواصل مع أعداء الأمة، وقد يكون بعض أفراد هذه المؤسسة موظّفون رسميون عند الدولة الكبرى المسيطرة عالمياً. وكل هذه فروقٌ نوعيةٌ حاسمة.

فلا عجب إذاً أنّ استجرار فتاوى الصائل وتطبيقها على قوى الاستخبار تظهر على أنها فتاوى محنّطة، في ظاهرها الصحّة والقدرة على الجواب وفي حقيقتها عجزٌ عن الاستجابة الوافية. بل الأمر أخطر من ذلك، حيث أنّ مثل هذه الفتاوى تحوي على التناقضات، فتشوّش فهم الشعب نحو واجبه في القول والعمل وفق مقتضى الرؤية الإسلامية.

مثال فيروس القرن

الفتوى في مسائل الرعاية الصحية تجاه جائحة هذا القرن مثالٌ جديرٌ بالتفصيل. ولقد حيّر هذا الجرثوم الفيروسي مراكز البحث التي يحتشد فيها عشرات ومئات الخبراء، فكيف بمجلس فقهي افتراضي ليس عنده أبحاث وتخصّصات أن يفتي على التفصيل في الأمر. فالقول في التعامل مع هذا الحدث الطارئ يستند إلى عشرات الأوجه، ولعلّه يمكن ضمّها في الأبواب التالية:

  • وجود الدواء المخفّف أو الفاعل من عدمه.
  • توافر الدواء في المحلّ.
  • جهود تطوير المصول الواقية والبدائل عنها، وإطارها الزمني.
  • توافر طواقم الأطباء المتخصّصين في معالجة المرض الجائح خصوصاً وطواقم الممرّضات وطواقم الدعم الإجرائي، إضافة إلى الأطباء من كافّة الاختصاصات الذين عندهم دربة تُقرّبهم من قدرة التعامل مع الوباء.
  • توافر المعدّات الطبية وتوزّعها في البلد بين الولايات والنواحي والمدن والقرى.
  • اجتهادات علماء الأمراض الذي يدرسون سلوك الفيروسات والجراثيم، والذين ينقسمون إلى متخصّصين في الجامعات يقومون بالبحوث والدراسات وإلى مَن يشتغل في مؤسساتٍ على صعيد الإدارة الصحية في البلد.
  • طبيعة المؤسسة الصحية في البلد المعيّن، وعلاقة ذلك مع الترتيبة السياسية وكونها مركزية أو لامركزية، وإذا كانت لامركزية هل هي لامركزية فدرالية شديدة في استقلالية الوحدات وصلاحياتها، أو لامركزية تفويضية لا تملك الوحدةُ صلاحيةَ الخروج عن خطة المركز.    
  • مستوى ضبط السجّلات الصحيّة في البلد، بحيث يستطيع الدارس الاطمئنان إلى سلامة الصورة الرقمية المرسومة.
  • القدرة الاقتصادية للبلد.
  • طبيعة اقتصاد البلد وكونه يعتمد على القوة الشرائية أم التصدير أم ركاز المواد الطبيعية، حيث يؤثر هذا على إمكانية توقيف الأعمال والاختلاط احتياطاً للعدوى.
  • قدرة الصناعة في البلد على التحوّل من ناتجها المعتاد إلى منتجات جديدة تناسب الحاجة الصحية الملحّة.
  • القدرة التواصلية في البلد لنقل المعلومات والمشاركة بها.
  • ثقة الشعب بالحكومة وبمؤسسات الدولة.
  • نضوج اللوائح الصحية الإجرائية لحقل العناية الصحية وممارسة المستشفيات والمستوصفات.

ولعل ثمة أبعاد أخرى مهمة. النقطة هنا أنّ على الفتوى المبصرة الإحاطة بهذه الأبعاد.

وينفع بعض التفصيل في البند الأخير، وهو أن النظم الصحيّة الناضجة تتبنّى لوائحَ إجرائية تتضمّن ضوابط تقديم الخدمة الصحية. وهذه الإجراءات إجراءات فنّية بحتة يتصدّى لها أهل الصنعة بناء على تراكم الخبرات. ولكن لا يعني هذا أنه ليس لها أبعاد أخلاقية على المستوى التجريدي. وإذاً، لا بدّ من معرفة توجّه هذه اللوائح وفيما إذا كانت تغلب عليها النزعة المادية والفلسفة النفعية أم لا. ويذكر هنا أنّ حقل أخلاقيات الطبّ حقلٌ جادٌّ تدخل فيه الفلسفات. وافتراض أن لوائح الخدمة الطبية خالية من البعد الأخلاقي افتراض غير صحيح، مع العلم بأن ذلك البعد الأخلاقي قد يكون إشكالاً من وجهة النظر الإسلامية وقد لا يكون. وهناك أمر آخر، وهو أنّ في اللوائح الإجرائية استصحاباً غير مباشرٍ للواقع العملي للبلد، وهو الأمر الذي ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، فما يقدر عليه بلدٌ موفور القوى لا يقدر عليه بلدٌ آخر.

وبناءً على ما سبق، ليس ثمة شكّ في أنّ الفتوى مؤهلةٌ للبتّ في العموم الأخلاقي فحسب، وليس شيئاً من الإجرائي. وحتى مسألة تقديم مصابٍ على آخر التي قد تبدو للفقه مسألةً بيّنة، هي أعقد من ذلك وينبغي أن تُحجم الفتوى عن الخوض فيها. وإذا كان الحدّ الأخلاقي يتجاوز الأفراد والمؤسسات، وهو كذا عادة وتصوغه مؤسسات منفصلة، إلا أنّ التقدير لحظة التطبيق منوطٌ بالطبيب وطواقم المستشفى. وإذ يبدو أنه لا مفرّ للفتوى من الإحالة إلى اللوائح الطبية، إلا أن الإحالة إلى مجهولٍ لا تستقيم، إلا إذا جرى الارتياح إلى أنّ مفاد هذه اللوائح منسجمٌ مع الثوابت الأخلاقية للشريعة. وأحياناً تجري الإحالة مع اشتراط عدم معارضة الشريعة، وعندها تكون إحالةً لا تضيف شيئاً غير التذكير، تضع المسؤولية على كاهل الطبيب والمهنيّ الذي يمارس الصنعة. والأمر على كل حالٍ تحصيل حاصل، فعقد المهني مبنيّ على فرض اتباع أصول المهنة.

ومن التحدّيات الإضافية التي تواجهها الفتوى هو تحدّي المخاطب. والمخاطب ليس فئةً واحدة، وهو على الأقلّ ثلاث مجموعات: عامّة الناس، والمتديّنون، وبعض المؤسسات التي لها اهتمامٌ بالمسألة أو أن قول الفقه يؤثّر عليها.  وإذا استبعدنا الفتوى التي يغشاها الهاجس السياسي، هناك هاجس عام للفتاوى تجاه شريحةٍ صادحة، ألا وهي شريحة المتفيقهين الغلاة هواة التفسيق. وهكذا يداخل الفتوى اعتباراتٌ محلّية للمخاطب واحترازٌ من سوء الفهم وجرّ الفتوى إلى غير ما أريد منها. ويمكن أن نعدّ هذا من معضلات الخطاب العام الذي لا يقتصر على مخاطبة شريحة المتخصصين في أمرٍ ما. وبدون الاحتراز يُساء الفهم، لكن كثرة الاحتراز تُبدّد الفائدة وتُنقص من فائدة الرسالة الأساسية للفتوى.

ولو صارحنا أنفسنا وأخذنا ما سبق بالاعتبار لتساءلنا: هل نحن بحاجة أصلاً إلى فتوى في الأمر؟ فهل تملك الفتوى إلا التأكيد على أنّ حفظ الحياة مطلبٌ شرعيٌ أكيد، وعلى أنّ المحاباة بسبب المال أو الجاه محرّمةٌ قطعاً. ويكون الأمر عندها ليس فتوى لها بعد عملي تنفيذي، بقدر ما هو تذكير بالموقف الديني الأخلاقي، وهذا أمر طيّب.

وتلزم الإشارة إلى أنه حتى الواضح أخلاقياً البيّن الظاهر ليس من السهل البتّ في مسيرته العملية في الواقع. فمثلاً إذا أطلقنا العمل بحفظ الحياة وتمّ إنفاق كلّ المقدّرات على مرضٍ واحدٍ أو في فترةٍ قصيرة، لسبّب ذلك قصوراً في الموارد لمعالجة أمراضٍ خطيرة أخرى وفي فترة لاحقة. ولو استنفدنا الجهد والموارد في محاولة حفظ حياةٍ غير مرجوةٍ لمرضٍ نادرٍ لانعكس هذا عجزاً عن الاستجابة لحالاتٍ أخرى مرجوة الشفاء وكثيرة الطروء؛ بمعنى أنّ حفظ حياةٍ واحدةٍ قد يكلّف المخاطرة بعشر حياواتٍ أو زهوقها.  كما أنّ المحاباة ليست مسألة فردية فحسب، بل هي هيكلية، حيث يتمتّع الموفور مالاً وجاهاً بميّزاتٍ غالباً هي غير متوافرة للفقراء والمهمّشين. وعلينا تذكّر أنّ من العوائق التي تعترض القول الفقهي كون معظم تركيز الفقه هو على المسائل الفردية، برغم أنه يتعرّض لمسألة عموم البلاء. ولا مراء في أنّ فقهاء اليوم ليس عندهم ارتياض في المسائل الجماعية.

ولذا لا مناص لمجلس فتوى يوقّع باسم الشريعة ويحرص على أن لا يعتسف أقوال الفقه أن يقتصر على تقرير كلّيات الشريعة، وربما تخريجها وتنقيح مناطها في المسألة المعينة.  ولا بدّ له إلى جانب ذلك أن يحيل إلى أهل العلم في الاختصاص الدقيق. ومن غير ذلك فإن الفتوى ستكون متهافتة وتسيء إلى صورة الإسلام. وهذا ليس سدّاً على الفقيه لباب التعلّم والمران في علوم تطبيقية زيادةً على ما عنده من علمٍ شرعي، وإنما تعاملاً مع الواقع الحال. ولو تثقّف الفقهاء في علوم المجالات التي يريدون الإفتاء فيها لصار لهم اقتراب أعمق من المسائل العملية. ونشير إلى أن ثمة مَن هم في مهنة المحاماة ويتخصّصون في المسائل الطبية أو مسائل الإنشاءات والأبنية أو غيرها، وذلك من أجل المرافعة والدفاع القانوني. وكذلك بين الصحفيّين مَن يتخصّص بنقل أخبار البحوث الطبية، حيث أن لغة هذه البحوث خاصّة وتحتاج دربةً لفهمها ودقة عرضها. يعني لا يصحّ لأحدٍ أن يوصد الباب على الفقهاء ويمنعهم من التعرّض الوافي للوصول إلى درجة ارتياضٍ تؤهّلهم المشاركة في السجال العلمي الأخلاقي في حقلٍ من الحقول والفتوى فيه.  

وحين نتفحّص الفتاوى التي تصدرها المجالس الفقهية بين الفينة والأخرى، نجد فيها تمام ما تمّ التنبيه إليه: نجد فيها الصواب في الإحالة إلى كلّيات الشرعية ونجد فيها الأخطاء المحرجة في الافتاء في جزئياتٍ لم تُحط بها وإن توهّمت ذلك. وعلى ذلك شواهد في حقول شتى. وتتأكّد غربة الفتاوى وخطأها بسبب مناهج التدريس الشرعي، ناهيك عن المزاج العلمي الذي يعيش في مخيالٍ تاريخيٍ وكأنّ أحوال الدينا لم يصبها التقلّب.

خاتمة

يقودنا ما سبق إلى ثلاثة نتائج خطيرة.

الأولى، هو أنّ طلب اضطلاع المفتين بالشؤون العلمية والمهنية التفصيلية قد يمثّل دعوةً إلى ثيوقراطية المعرفة.

ثانياً، إمكان المتخصّص في علمٍ ما (الطبيب في حالتنا هذه) إدراك الكلّيات الشرعية واعتبار ذلك جزءاً من المسؤولية المهنية. وعلينا التأكيد على أن المتخصّصين ليسوا عامّة وطَغام، وعند الجادّ منهم القدرة على تفهّم ما هو خارج اختصاصه. ثم إن عموم الخطاب القرآني ورسالته هو ميسّر لمَن أراد أن يَدّكِر. وبالعبارة الأصولية، إذا كان مجال الفقيه هو حكم التكليف، فإن حكم الوضع أصبح مجال المتخصّص في حقله.

 ثالثاً، وجوب تشرّب المناهج التدريسية روح الإسلام وفكرته الأخلاقية ومرتكزاته التصورّية الفلسفية، من أجل أن يستصحب المتخصّصون انعكاسات ذلك في شتى الحقول، ويطوّرون التطبيقات في ظلّها. وكان هذا ما دعا إليه العلّامة إسماعيل الفاروقي.

ونحن في النهاية بين خياراتٍ ثلاثة: هضم المتخصّص لخصائص التصوّر الإسلامي وأسسه الفلسفية من أجل القَومة والنهضة الراشدة وترسيخ نسقٍ حضاري تحضر فيه الرؤية الإسلامية وتشعّ أنوارها وتنضج ثمارها، أو خيار الثيوقراطية المعرفية على الطريقة الكنَسيّة للعصور الأوربية، أو خيار الانفصامية العَلمانية التي تُحكِّم الوجودية والنفعية الأنانية المطلقة في الحياة وتزوي بالدين والتدين في هوامش المجتمع.

والله أعلم

30 رمضان، 1441هـ/23-05-2020م