أمثال القرآن
درج علماء اللغة والتفسير عند الحديث عن أمثال القرآن على اعتبار المعنى المراد من الأمثال محصوراً في الصورة الإجمالية المرسومة بالمثل، وأن العبرة تكمن في مطابقة حال من يضرب لهم المثل للصورة الإجمالية الكلية للتشبيه أو المثل. ويذهب علماء اللغة والتفسير إلى أبعد من مجرد تقرير القاعدة فيؤكدون أن أجزاء المثل وعناصر صورته ليست مقصودة ولا معتبرة في تعيين المعنى واستنباط الحِكَم والعِـبَر.
وقد صرح الإمام الزمخشري في الكشاف عند شرح المثلين الأولين في سورة البقرة بهذه القاعدة فقال: والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل، بيانه أنّ العرب تأخذ أشياء فرادى، معزولاً بعضها من بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً، بأخرى مثلها. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيره شيئاً واحداً، فلا.
وعند استعراض تفاسير القرآن وما قرره المفسرون عند شرح أمثال القرآن نجد أن المفسرين قد التزموا بهذه القاعدة التي يقررها الإمام الزمخشري إلى حدٍ بعيد.
وقد لفت نظري عند تناول بعض أمثال القرآن بالشرح والتفصيل أن بعض العلماء المحدثين تناولوا بعض أمثال القرآن وعرضوا معانيها ودروسها بمنهج آخر لا يقف عند حدود الصورة الإجمالية بل يتجاوزها إلى أجزاء وتفاصيل صورة المثل ليستـنتج من كل جزء من أجزاء المثل عبرة وحكمة أو معنىً تربوي أو أخلاقي معرضين في ذلك عن تقرير علماء اللغة والتفسير.
فقد شرح الأستاذ البهي الخولي في كتاب “تذكرة الدعاة” المثل القرآني {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] وعقد مقارنات لطيفة بين عناصر المثل وجزئيات صورته وبين دلالاته التربوية والأخلاقية وجاء في ذلك بالكثير من المعاني الطيبة التي ترتبط بشكل وثيق بالجزئيات وعناصر المثل ضمن مرجعية لغوية وقرآنية حديثية رصينة.
وكذلك شرح الدكتور عبد الله دراز في كتاب “النبأ العظيم” المثل القرآني في أول سورة البقرة {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [16] والمثل {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [19] وجاء في شرحه لهذين المثلين بالمطرب المعجب من عجائب ارتباط جزئيات المثل وعناصر صورته بالعبر والحكم التربوية والأخلاقية، كل ذلك بمنهج رصين يستند إلى اللغة ويربط معاني الآيات بما يماثلها في آيات أُخر وأحاديث نبوية ترشح وتقوي ما ذهب إليه من دلالات المثل وعبره ودروسه.
والناظر إلى ما قدمه الأستاذ البهي الخولي والشيخ عبد الله دراز يرى طريقتهما في تناول الأمثال وبيان دلالاتها تـفترق عن ما عرف بالتأويل أو التفسير الإشاري حيث يقفز صاحب التفسير الإشاري فوق ضوابط اللغة ودلالات الألفاظ ويتحدث عن مواجيد وأذواق ومشاعر من باب “الشيء بالشيء يذكر” والتي لا تصلح منهجاً جاداً لبيان معاني القرآن.
وهنا لا بد من طرح سؤال مهم يتعلق بمنهج النظر على أمثال القرآن:
هل هناك من مانع من اقـتـفاء أثر الشيخ الخولي والدكتور دراز في شرح أمثال القرآن واستجلاء دلالاتها الأخلاقية والتربوية؟
وهل نستطيع القول أن ما قرره المفسرون وعلماء البيان بشأن الأمثال هو كلام صحيح إذا تعلق بكلام الناس وأعمالهم الأدبية، أما القرآن الكريم فقد يكون من إعجازه وتفرده أن الأمثال فيه قد أحكمت وفصلت لتكون عناصر الأمثال وجزئيات صورها مقصودة ومناسبة لاستنباط المعاني واستخراج الدلالات؟
وقد يكون من المفيد أن نذكر أن هذا التوجه في شرح وتناول أمثال القرآن قد مضى على تداوله أكثر من خمسين عاماً دون أن نسمع – على حد علمي – باعتراض على هذه المنهجية في الاستفادة من الجزئيات والتـفاصيل. بل على العكس، فإن كثيراً من العلماء والدعاة استعملوا هذا المنهج في شرح أمثال القرآن في كثير من المناسبات مستفيدين من معطيات علوم الطبيعة والنبات والحيوان وغيرها، وجاؤوا في هذا بمعانٍ طيبة التي تلقاها الناس والعلماء بالثناء والقبول.
وقد وجدت من خلال محاولة فهم بعض أمثال القرآن أن مراعاة جزئيات وعناصر المثل تسهم في حل بعض الإشكالات التي تورط فيها بعض المفسرين وأطالوا في الاعتذار عن هجنة ما ذهبوا إليه بما لا يشفي الغليل.
ونجد ذلك التوجه أوضح ما يكون في شرح المثل القرآني: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 71]. فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المثل يمثل حال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه للمشركين وإعراضهم عن دعوته بحال من ينعق ببهائم لا تفهم ولا تعقل. وقد استشكلت وصف كلام النبي الكريم بأنه ينعق فليس في هذه العبارة ما نرضاه من الأدب الواجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أطال المعتذرون عن إثبات هذا المعنى وهم يشعرون أنه غير لائق بمقام النبوة ولم يزيدوا على تكرار ما ذهبوا إليه من أن المثل هو صورة إجمالية وأن أجزاء الصورة وأفراد مكوناتها غير مقصودة.
وقريب من هذا الشرح الذي يتضمن إشكالاً يند عن الأدب الواجب شرح أكثر المفسرين للمثل الأول في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} حيث أثبتوا أن مستوقد النار هو المنافق.
وقد قدم الدكتور عبد الله دراز كلاماً لطيفاً متوجهاً في شرح المثل وجاء بما يزيل الإشكال ويقدم صورة متوازنة.
وفي كلا المثلين وجدت أن العناية بتناسق معنى أجزاء المثل ومفردات صورته مع حال من يضرب لهم المثل أعانت على كشف كثير من المعاني والحكم والعبر التي لم تكن ممكنة مع تجاهل هذا التوجه في دراسة الأمثال. وأعانت كذلك على التخلص من الإشكالات وما وقع فيه المفسرون من إثبات معانٍ غريبة مستهجنة.
فالمطلوب هو عمل باتجاهين:
1 – تحقيق منهجية شرح الأمثال ووضع ضوابط تنأى بالشرح عن الرمز والإشارة.
2 – النظر في أمثال القرآن وتناولها بالشرح والتفصيل ضمن ما تأصل من منهجية تعتمد ضوابط اللغة والنقل ومرجعية النصوص من القرآن والحديث.
ولعل هذا التوجه يفتح من أبواب الفهم لكتاب الله وإثبات تفرد أمثال القرآن بخاصية لا تشاركها فيها أمثال الناس وكلام الفصحاء والبلغاء. وفي هذا فتح لباب من أبواب الإعجاز القرآني الذي ادخره الله تعالى لمن يبذل فيه الجهد والدأب والروية.