أنماط التديّن: عرض نظري

662

هل التديّن هو ذاته الدين؟ أم أنه شيء زائد على الدين؟

وهل يمكن اعتبار التديّن مولود من لحظة التسليم بالإيمان؟ أم أنه سلوك لما بعد الإيمان؟

دراسة الدين في مساره التاريخي ليس إلا دراسة لأنماط التديّن الفعلية كما جسدتها الخبرة التاريخية، وهي دراسة تتميز عن دراسة الدين نفسه في بنيته النسقية.

فالتديّن هو تطبيق بالدرجة الأولى لما هو نظري أساساً في الإيمان؛ أي أنه سلوك وليس قول أو تصور، وهذا السلوك هو غاية النظرية العقدية.

الدين كمقولة نظرية مجردة ومعزولة عن إسقاطات ممارساتها الميدانية هو أقرب إلى الفرضية الفلسفية منه إلى الدين ذاته.

فقيمة الدين تتجسد في الجسور الواصلة بين القول والفعل، مما يجعل التماهي بينهما خطراً قائماً يهدد قدسية الدين المتعالية وذلك لأن التطبيق وهو تنزيل بشري لما هو متعالي بالمصدر يستبطن الرؤية النسبية المتفاوتة من شخص إلى آخر في إدراك الكلية، وهذا إن تثبت فى وعي الناس فإنه يلغي خصوصية التديّن ذاتها كاجتهاد بشري لكل فرد في تفاعله مع المقدس لصالح تجربة وتديَّن متعين في الظرف التاريخي السابق.

والتديّن يصح وصفه بأنه نمط تعددي داخل الوحدة الدينية، لأنه يستحيل التماثل بين الناس المتعددة في الانفعال والتفاعل مع الدين، فلكل خصوصيته وتجربته الخاصة، وهذه التعددية تشكل قضية عقلية مجردة، لا تجريبية، لعلة واحدة تتمثل في ارتباط التعددية بالرؤية الكونية العقدية التي لا تخضع للفحص التجريبي والاختبار.

وهنا المفارقة التي تتمثل بأن التديّن تطبيق وتجربة معاشة لما لا يمكن فحصه تجريبياً، وللدقة بأن الفحص التجريبي والمختبري للكليات العقدية للدين يكمن في الممارسة التطبيقية للتديّن، وقد يبدو هذا القول شاذاً ومتناقضاً، ولكن ظاهرياً فقط؛ ففي العمق البرهان لا يتعلق بصحة المقولات والعقائد تجريبياً، بل بما تكشفه تجربة التديّن من فاعلية وتأثير ونجاعة اجتماعية تنعكس في وعي الناس إلى تسليم ويقين بصحة المقولات والعقائد التي أفضت إليها بغض النظر عن متانة وإحكام نسقها.

وهذا ثابت فى حق كل النظريات والتصورات التي تنجح في تشكيل واقع جذاب ومميز وناجح رغم عدم القدرة على الربط أحياناً كثيرة بين النجاح والأثر الاجتماعي وعقيدة وتصور العامل.

في بعض المذاهب والأديان تكمن قضية الخلاص الأخروي في مجرد الإيمان، وهنا تتميز بعض الديانات عن بعض على هذا الصعيد، كالإسلام مثلاً، الذي لا يجعل النجاة قرينة لمجرد الإيمان التسليمي بل إنها تتحدد بالوظيفة المنوط بها تجسيد هذا الإيمان واقعياً في شكل التزام بالإلزام الشرعي .

فالتطبيق الذي هو تنفيذ للأوامر والنواهي الشرعية، هو ما يجسد حقيقة الإيمان؛ أي أن التديّن كالتزام شخصي يشتق قيمته وشرعيته من الدين ذاته، وللدقة من التزام أحكامه عملياً كصورة عاكسة لجوهر التصور الإيماني وطبيعته، على الإقل في الإسلام بالذات.

فالإيمان أكبر من مجرد التصديق الخبري؛ إنه تصور ينتج بالضرورة عملاً على منواله ليكون للإيمان مصداقية، ونلاحظ بناء على ذلك أن تعريف الإيمان النظري له تعلق بشطر العمل كجزء يجب أن يتوفر لصحة التعريف الدال على الجنس المراد، وهناك تعريفات أخرى مخالفة للتعريف أعلاه يترتب عنها صور ومخرجات عملية حتى وإن أسقطت العمل كشرط لصحة النظر.

فمن هذه التعريفات تعريف الإيمان كمجرد تصديق قلبي كافي بذاته، حتى مع غياب حقيقته واقعياً، ونحتار أيهما أسس للآخر؟ هل التعريف هو من أوجد صورة العمل الملائمة له، أي نمط معين من التديّن، أم أن التعريف مشتق من واقع العمل، أي أن التعريف هو تعبير عن ما هو كائن لا عن ما يجب أن يكون !

من ناحية أخرى فإن دراسة الدين كصيرورة اجتماعية تمكننا من فهم أنماط التديّن الاجتماعية على ضوء فهم الدين تاريخياً كعملية تمايز للمقدس عن ما هو دنيوي، وهذا التمايز ولد من داخل الدين ذاته؛ فنصوص الدين تجعل الذات الإلهية متعالية ومباينة للعالم الوجودي كله، ومع الوقت تشكلت في المخيال الشعبي هوة هائلة بين المتعالي والدنيوي، كان لها دور في تحديد ما يناسب كل مجال من أعمال وسلوكيات دينية، لهذا يميل كثير من الباحثين إلى دراسة الدين من خلال فهم صيرورة التمايز بين المجالات والوعي بها، وهذا التمايز هو بالضبط ما يجعل للتديّن قيمة إضافية .

فإذا كان الدين ببنيته العقدية يجعل الإله خارج الدنيا، أي أنه يميز بين الوجود الدنيوي والوجود الأخروي؛ فإن التديّن يشكل عودة الوصل للفصال، فهو يموضع المقدس داخل قلب الدنيوي، لا بذاته ولكن بصفاته وأحكامه.

طبعا تشذ المسيحية عن هذه القاعدة لأن المسيحية لا تَخَلق التمييز بين الإله والدنيوي؛ فالتجسيد أي حلول الإله في جسد الآدمي، هو حضور للمتعالي مباشرة في العيني، وعلى منوالها وجدت مذاهب وتيارات تقول بالحلول والاتحاد في كل الأديان والعقائد وليس فقط مجرد التجسد، كمذهب وحدة الوجود الذي فيه وحدة تامة للموجودات كلها في الواحد.

لكن من يعتمد الفصل، فإنه يضطر إلى القول بالتوسط والواسطة، بمعنى أن هناك واسطة بين الإله والعالم تتمثل في النبوة أو الإلهام والوحي في التلقي عن المتعالي.

لا يمكننا حصر أنماط التديّن كافة، في صيغها التاريخية أو حتى الواقعية الراهنة منها، ولكن الذي يمكننا فعله هو دراستها وتحديدها وفق الصيغ التي برزت أثناء سيرورة التوسط النبوية كآلية تقيم جسور العبور بين التمايزات القائمة داخل بنية الدين، بين الدنيوي والأخروي، فيغدو ما ترك للآخرة حاضر بقوة في عمق التديّن أثناء الحياة الدنيا على شكل إنجاز فوري بالنيابة عن الله في الدنيا.

ويجب توسعة الواسطة وعدم حصرها في النبوة بل يصح شملها لكل من يشكل حلقة اتصال وربط بين العالمين في ذهن تابعي هذه الواسطة بمعزل عن صدقية دعواه، فما يهمنا هو وظيفة الربط الاجتماعية لا حقيقة الزعم .

بالملاحظة التاريخية، نجد أن كل دين ينتج فرق دينية داخله، وعندي أن هذا تديّن في أصل منشأه تخطى الحالة الفردية نحو الحالة الجماعية بفعل تداخل مجالات التمايز الدينية في الخطاب بين الغيب والشهادة، وبالملاحظة والتتبع نجد أن هذه الفرق قد تصبح مع الوقت دين ينابز الدين الذي تأسست داخله.

هنا ننتقل إلى استدعاء الوقائع الحاضرة لفحص التديّن وعلاقته بالدِّين، فالسياق العالمي الذي تحكم المنظومة الرأسمالية السيطرة عليه وتسيره تحت عنوان العولمة والتي هي بدورها سيرورة قيد التشكل، وحد بين الناس في مختلف الأصقاع على صعيد الاستهلاك وثقافة السوق، مما حدا ببعض السوسيولوجيين إلى اعتبار عودة الدين إلى التأثير ولعب أدوار مهمة مرده التمييز فيما بينهم تحت سقف الوحدة الاستهلاكية؛ بمعنى أن سيرورة العولمة في توحيدها للمجموع تنتج سيرورة ارتجاعية للدين كمميز وفارق بين الأشكال الاستهلاكية الواحدة .

فالتمايز الذي كان قائماً في الخطاب الديني بين الغيب والحضور عرف زحزحة من مستواه ذاك نحو تمايز داخل النمط الاستهلاكي، بالضبط داخل الدنيوي؛ فالمادي الطاغي هو من استدعى الغائب الغيبي ليوازن به ذاته داخل المنظومة المادية بما يخدمه مادياً، فيتشكل الاستدعاء للغيب وفق هيمنة وعمل المادي فينا.

لا أستطيع تقدير لم التمييز الفردي حاجة وضرورة في الوحدة الجماعية إلا بتأويل الدوافع النفسية والتكوينية، لكن التمييز الديني بهذا الشكل تحت النمط العولمي هو أكبر من مماثلة للتمييز الفردي؛ إنه نزوع للطمأنينة بالتقوقع على الدين الذاتي المحتكر بالوراثة دفعاً للاضطراب والقلق الناجم عن الاشتراك في الحقائق الدينية المختلفة والمتعارضة فيما بينها بما يستحيل الجمع بينهم جميعاً على مستوى واحد من الصحة.

نفهم مما سبق أن “سيكولوجية الحقيقة” لدى المؤمن البسيط معرفياً تكمن في تفردها وخصوصيتها الحصرية – اعتقاداً أو انتماءً – به ولا تستقيم مع كونها مشاع عام مشترك بين الجميع كل حسب نصيبه من التحصيل والتنقيب.

فليس هناك دين يعتقد أهله بحقانيته وصوابه الذاتي يسلم بالاشتراك مع الآخرين في الحقيقة؛ بمعنى أن الدين يرفض التعددية في الحق من خارج الدين، في حين أن التديّن كما قررنا سابقاً وهو تطبيق ناجم عن تأويل وفهم بشري يقبل التعددية في الحق من داخل الدين، إلا أن التديّن يفضي بالتراكم التاريخي إلى أن يصبح ديناً داخل الدين.

ولأن الدين كان خروجاً عن قهر التوحد العولمي بالعودة إلى رموزه وأصوله، فهو عندئذ معبر عن الهوية أكثر مما هو تعبير عن عقيدة دينية، فهو معني بالرموز التعبيرية الجلية عياناً للخلق؛ أي فلكلور ثقافي هوياتي، من اللباس إلى اللحية إلى بقية الصور التي يجب أن تكون ذات دلالة على (نحن)، وهذا بدوره يقتضي القسر والإكراه، فلا تسامح مع منكر الهوية، مما يفضي بالتديّن أن يكون له استقلالية ذاتية تميزه عن الدين داخل الدين، ولأن الهويات مسيسة بطبعها وهي متحيزة بالمعطى الطبيعي، لهذا يكون التديّن ذا أيديولوجية تعبر عن الهوية الجمعية بالإكراه على خلاف الإيمان الذي هو طوعي ولا إكراه فيه البتة على الدين.

فليس الإكراه والجبر نتاج الخطاب الديني الحرفي بالقدر الذي هو حصاد الهوية في تقرير ذاتها بتوسط اللغة الدينية.

في التديّن المعاصر تدرك جرح الهوية التاريخية بوضوح، ولأن الدولة كمكون حديث في السياق الغربي هي بالضبط من سلب بمرور الزمن صلاحيات وصفات الإله المتعالي لتجعلها صفات وصلاحيات لها من خلال التمايز والفصل التدريجي بين الدولة والدين؛ بل إن هذا التمايز هو من أسس لحصر الدين في الجماعة والمجتمع وإبعاده عن الدولة لنعود من جديد مع أشكال جديدة من التمايز ولكن على صعد مختلفة، فالتمايز هنا يصبح بين الفرد والجماعة، وبين المجتمع والدولة وهذا يولد أشكالاً مختلفة من التديّن عن السابق، ولأن هذا العنصر -الدولة – غاب عن السياق العربي بالذات، فلا الدولة بحق وجدت، ولا المجتمع بقي موحداً وقوياً كما كان على أسس عقدية وشرعية، برزت أنماط من التديّن هي بديل بذاتها الجمعية عن المجتمع الذي تنتمى إليه، وكل إشكاليتها وتمايزاتها موجهة تجاه الدولة؛ فالتديّن في الحاضر تمايز واعي مع الدولة بمنطق الدولة، في صراعه للظفر بالدولة ولو على حساب المجتمع.

ولأنه يعمل داخل وحدة الاستهلاك العولمي، مما يضطره لاسترداد المقولات والمفاهيم النظرية كجزء من بضاعة معلبة ثاوية في البضائع والمنتجات المدنية، غافلاً عن شروط تحققها التاريخية في سياقاتها الغربية والمفقودة في سياقه، كشرط إنجاز أرضية الهوية التي ترفع عليها بقية قضايا العمل الاجتماعي والسياسي، تصبح تلك المقولات والمفاهيم عوائق بنيوية تعيق رفع البناء؛ فما يصلح للزينة لا تقوم عليه أعمدة الرفع وأسسه، لا لعدم صلاح المفهوم بل لعدم ملائمته للحاجة والظرف والرتبة، والغريب أن نمط التديّن هنا يحقق هذا العائق بنوع من الافتخار والتباهي دون وعي منه أن قضية الرموز ومفاهيم الترف المستوردة على شكل ضروريات هو عوائق وعوامل تعطيل للبناء.

وهذا أحمق أنواع وأنماط التديّن الشائع.

‏19‏/01‏/1438 هـ / 18-10-2016 م