اختلاف التجربة الدينية وسؤال التزكية

251

لعلّ ما ينفي عن الدين كونه تنظيرات فلسفية جامدة حول أصل الحياة ومصيرها ومعناها؛ أنه يفتح مساحة أخرى لوجوده في حياة الإنسان، وهي مساحة السلوك الشعائري من عبادات ونسك، ومساحة السلوك الأخلاقي والنفسي التي تتجلى في حركة الإنسان ضمن هذا العالم أو في معاملته للناس أو في اتجاهه نحو الخالق بقلبه وشعوره، وهذه المساحة هي ما يمكن أن نسميه بالتجربة الدينية.

يصف شلايرماخر التجربة الدينية بأنها تجربة شعورية بقوة مطلقة هي قوة الإله أو بمصدر متجاوز لهذا العالم هو الله، فهي ليست تجربة عقلية ولا معرفية بقدر ما هي تجربة نفسية، لكن يمكننا التعقيب على هذا التوصيف بأن العواطف في حقيقتها لا تخلو من مفاهيم وأفكار تؤسس للشعور وتوقده، لذلك لا يمكن الفصل بشكل كامل بين التجربة الشعورية والتجربة المعرفية.

ينظر بعض اللاهوتيين الغربيين وبعض الفلاسفة نحو التجربة الدينية على أنها تجربة فردية خاصة تحمل تركيباً من المشاعر التي تتدفق بشكل لطيف في نفس الإنسان مما يؤدي للاهتزاز والاهتياج أو قد يؤدي لحالات من نوبات اللذة والنشوة، وهذه النظرة الفردية نحو التجربة الدينية تمنع من البحث في سمات عامة أو جوهرية لها، وتجعلها مصانة بطابع ذاتي، فهي من الكثرة والتنوع والاختلاف بشكل لا يمكن أن نستنتج منها شيئاً جامعاً، لأنها أكثر انفتاحاً على التفسيرات الفردية من انفتاحها على التفسيرات الجمعية.

لكنْ هناك نظرة أخرى أعمّ تجاه التجربة الدينية، ولعلها نظرة أدقّ، فالنظرة السابقة تنظر نحو التجربة الدينية على أنها شيء محدّد قد يحصل مرة واحدة وبشكل ذاتي وفردي أشبه ما يكون بالأصوات والرؤى والإشراقات التي يشعر بها العارفون، لكنّ النظرة الثانية -التي أجدني أميل إليها- تنظر نحو التجربة الدينية على أنها حركة مستمرة في داخل الإنسان تعدّل بشكل دائم من نظرته تجاه العالم وتجاه الخالق، فهي تتحد بمساحة السلوك الأخلاقي والشعائري لتصبح مرادفاً من مرادفات مفهوم الدين، أي إنها تكون طريقة وشكلاً من أشكال الحياة، فتخرج من كونها حالة نفسية ذاتية إلى كونها حالة وجودية وعمومية.

 نحن كائنات اجتماعية بالضرورة، وكل تجربة دينية هي تجربة تتكوّن داخل ثقافة المجتمع وتاريخه ولغته، بل لا يمكن لأي تجربة دينية أن تقوم دون اللغة والثقافة أو دون المجتمع، وهذا ما يحيلنا إلى سؤال مهم: هل هناك تغيّر أو اختلاف في شكل التجربة الدينية عن زمن ما قبل الحداثة؟ هل الإنسان الحديث في علاقته مع الله تعالى أو مع المجتمع يختلف عن الإنسان في زمن ما قبل الحداثة؟

توصف التجربة الدينية السابقة لزمن الحداثة بأنها أشبه ما تكون بتجربة (الأبوّة والبنوّة) بمعنى أن الإنسان القديم في علاقته مع العالم كان شديد الخوف من المجهول شديد الخوف من الكوارث الطبيعية، وكان أقل تشكيكاً بما حوله من مفاهيم وتصورات، وكان يرى حاجته للإله في كل شيء من حوله وفي كل مخاض ونزاعات، لذلك يمكن توصيف تجربته بأنها شعور عالٍ بالانجذاب نحو هذه القدرة الإلهية المتعالية والمتجاوزة لبشريته الضعيفة، أما إنسان اليوم فإنه مع زمن الحداثة والتقدّم التكنولوجي والعلمي، أصبح أكثر امتلاكاً لنفسه وأقوى تديبراً لها وللعالم الخارجي من السابق، فمع استطاعته الوصول إلى دقائق في الفيزياء والجيولوجيا، واتساع قدرته الطبية ووصوله إلى حالة من الشعور المريح أن البشر قادرون على تدبير شؤونهم بمعزل عن الإله الخالق، ظهر في الإنسان نزعته نحو تغيبب صفات الإله أو محاولة تمثّلها بشكل ضمني دون تصريح، أو ما يسميه طه عبد الرحمن بـ”التسييد” أي نزوع الإنسان الحديث نحو امتلاك صفات الإله، أو بتعبير الغزالي منازعة الخالق سبحانه في صفاته.

ومن الفوارق أيضاً بين الإنسان الحديث والإنسان في زمن ما قبل الحداثة، أن الإنسان الحديث كما يراه “إريك فروم” مخدوع بكذبة الخلاص الإنساني والسعادة الدنيوية، وهو أيضاً شديد الوعي بضرورة كسر القيود الخارجية التي تحدّ من حريته، لكن غير واعٍ بالقيود الداخلية التي تقيّده، وهذا ما يوهمه أنه حرّ، إضافة لذلك فإن الإنسان الحديث يسير وفق قاعدة “لا جهد لا ألم”، فهناك حالة من الرهاب تجاه الألم، والمقصود بالألم هنا ليس الألم الجسدي بل الألم النفسي أو الجهد الذي يورثه التعلم مثلاً، أو التعب الذي يورثه بناء العلاقات بشكل هادئ من خلال المواقف والأحداث، أو الصبر على مشاكل الحياة الزوجية، لذلك نرى في الإنسان الحديث أنه أسرع إلى القطيعة مع كل هذا، وأسرع إلى تجنب الألم والصبر النفسي تجاهها، وخصوصاً مع وجود الوسائل الحديثة للتواصل الاجتماعي التي تستطيع بها أن تلغي علاقة كاملة بالضغط على زر الحجب مثلاً! وبالتالي يصبح الإنسان الحديث أشد تفرّداً واستقلالية وأقلّ تأثّراً ووعياً بالأوهام التي تحيطه، وهذا كله يؤثر على تجربته الدينية في علاقته بالله التي تحتاج إلى جهد عملي في الشعائر وجهد نفسي في تدريب النفس ومجاهدتها، أو حتى في الإحساس بألم الذنب والمعصية، ويؤثر أيضاً على علاقته بالناس في تحمل الاختلاف والأذى وفي جهد الصبر على ديمومة العلاقات وإنضاجها.     

هذه الفوارق وغيرها بين الإنسان القديم والإنسان الحديث لا بدّ أن تختلف معها التجربة الدينية، بل إنّ بعض الفلاسفة يزعم أنّ الإنسان الحديث أقلّ تجربة دينية من الإنسان القديم، والقصد بكلمة أقلّ ليس الكمّ، فالتجربة لا تقاس عموماً، بل المقصود هو قلة حضور هذه التجربة الدينية في حياة الإنسان، وهذه في الحقيقة حالة مخيفة يبرز معها سؤال التزكية وإمكانيته في الزمن الحديث، للتخفيف من حدّة النشوة العلمية والغرور الإنساني.

لعلّ الخيط الذي يربط بين التجربة الدينية وسؤال التزكية هو انفتاح كل منهما على النفس، واتجاه كل منهما نحو الداخلي والجواني أو نحو إدراك حقيقة الأنا، ولا شكّ أن التزكية محاطة بأوهام جاهزة أيضاً في أذهان بعض الناس، من قبيل تصوّرها على أنها نشوة صوفية أو سلبية أو على أنها انسحاب من الواقع، وهذا ابتعاد عن مفهوم التزكية الحقيقي، فالتزكية تقوم على فكرة إزعاج الذات ومواجهتها بمشكلاتها التي تؤثر سلباً على علاقتها بالله أو بالناس، ثم على دفعها نحو الخير، فهي ليست لحظات انسحاب الذات من الواقع بقدر ما هي جهد نحو اكتمال الذات وإنضاجها في سبيل اختلاطها بالواقع بشكل سليم، فالتزكية كما يرى إقبال لا تنكر الذات بل تثبتها، ولا تنقصها بل تكملها، وهي سبيل من سبل تحقيق الاستخلاف في الأرض، وإذا نظرنا إلى مسائل “الغرور والعجب والكبر والجاه والشهرة وآفات القلب واللسان” لوجدنا أنها مسائل تعالجها كتب التزكية بأمثلة حيّة من الواقع وبإدراك حقيقي للإنسان، كيف يفكر وكيف يتعامل، فهي تتجه نحو الإنسان وعينها نحو الواقع، ومن هنا تصبح العلاقة بين التزكية والإنسان والواقع علاقة تفاعلية.

إنّ سؤال إمكانية التزكية في الزمن الحديث سؤال ملحّ، وتزداد أهميته مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي تفتح أبواباً كثيرة من الآفات النفسية والاجتماعية، وتعزز من فردانية الإنسان الحديث ودورانه حول ذاته، وهذا ما قد يحجبه عن رؤية الأوهام والمشاكل، وقد يحجبه عن خالقه أيضاً.

لعلّ الإنسان الحديث في حاجة إلى ما يسميه إريك فروم “العين الثالثة” التي تكون بوابة الدخول إلى النفس والوعي بها، ومن ثم يكون وعيه تجاه الخالق وتجاه المخلوق، أو كما يقرأ بعض المفسرين قوله تعالى {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد: 8] بأنها العين الجارحة والعين التي يبصر بها الإنسان نفسه وعيوبه، أي يكون بها يقظاً، ولعل هذا ما يفسّر لنا كلام النفري في المخاطبات “من سألك عني فسله عن نفسه فإن عرفها فعرفني إليه، وإن لم يعرفها فلا تعرفني عليه فقد أغلقت بابي دونه”.

أظنّ أنّ أهمّ تزكية تنفع الإنسان الحديث أن يدرك أن المعرفة الإنسانية لا يمكنها أن تعلو إلى ما وراء حدود هذا العالم، وأن هناك خطاً من الانكسار في المعرفة البشرية تمثّل قديماً بطلب موسى من ربه أن يراه بالعين البشرية، فكان الردّ أنْ أغمي على موسى حين نظر للجبل ولم يستطع بحواسه وأدواته أن يحيط بالخالق {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنينَ} [الأعراف: 143]، وأظنّ أيضاً أنّ من أهمّ المراتب التي ينبغي للمتزكي المؤمن أنْ يصل إليها رتبة الممنونية كما يسميها “طه عبد الرحمن”، وهي رتبة يرى فيها العبد أنّ المنن الإلهية رزق من الله لا يستحقه، وأنه لولا خالق الأسباب سبحانه لما وصل الإنسان لهذا الرزق، علمًا كان أو معيشة، لذلك ينسب كل شيء لله، وتصبح علاقته مع الله علاقة شهودية، يُشهد اللهَ تعالى على كل عمل عمله أو علم وصل إليه، ويبصر عجز نفسه في استحقاقها لهذا الرزق، وإذا وصل العبد لهذه الرتبة من التزكية نسَبَ هذه التزكية أيضًا لله تعالى، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]، وبذلك يتحقق له في تعريفه لذاته أنه عبدٌ بالله ولله.

إن التزكية التي تسهم في حضور التجربة الدينية لا يمكن أن تقدّم في مقال أو كتاب فقط، ولكنها حالة من الحضور والشهود والانجذاب نحو الخالق، وحالة من المجاهدة المستمرة، وإن تغيّر أو تصحيح مسار التجربة الدينية وإعمال التزكية مرتبط بالإحساس بالمعاناة والقلق تجاه النفس، وهذه المعاناة ربما تتجلى في الاختبارات الصعبة كاختبار إبراهيم وهو ينفّذ أمر الله تعالى بذبح ابنه، أو كتفويض يعقوب أمره لله عند فقده يوسف، أو كصبر أيوب على مرضه، وربما تتجلى فيما هو أقل من ذلك من يوميات عادية وتفاصيل حياتية علينا أن نلحظ فيها كيفية حضور النفس أي الوعي بالذات وكيفية حضور الخالق فيها أي الوعي بالخالق، وبدون مخاطر أو بدون خضوع للاختبار أو بدون قلق تجاه التفاصيل واليوميات لا تتجلى الروح ولا تتّصل ولا تتكشّف لنا المشكلات، ثم بعد ذلك عند الإيمان بالمخرج من هذه المشكلات لا بدّ من تقبّل فكرة العلاج باتباع طرائق وأساليب معينة تصبّ في باب التزكية.

ربما كان سؤال التزكية سؤالاً عملياً أكثر من كونه سؤالاً نظرياً، لأنه يعتمد على المجاهدة والمكاشفة كحال الأخلاق تماماً، لكنه بلا شك بحاجة إلى أسس نظرية ما زالت لم تخدم بشكل جيد في حياتنا المعاصرة، بسبب النظرة القاصرة تجاهها أو بسبب ظننا بكفاية التزكية التراثية التي تركها لنا أمثال الغزالي والجنيد والجيلاني والحارث المحاسبي والقشيري، دون النظر إلى الضرورات المستجدة في عصرنا والمختلفة عن العصور السابقة، ودون النظر إلى اختلاف حال الإنسان نفسه واختلاف أدواته الفكرية والعلمية والحياتية التي تؤثر على تجربته الدينية وجوداً أو عدماً، لذلك لا بدّ أن نستحضر أن التزكية بنت وقتها وأن الحضور مع الله تعالى لا بدّ أن يكون من جنس اللحظة المعاصرة، وأن العيش في الأوهام الحالية أو في اللحظات الماضية لا يورّث تزكية ولا تجربة مثمرة، وهنا نستذكر كلمة الإمام الجنيد عندما سُئل عن حضور العارف مع الله تعالى فقال: “لون الماء لون الإناء” وقصد بذلك أن تجربة العرفان والحضور مع الله متولّدة من الإناء الذي يحويها أي من الزمن الذي تولد فيه.