استعادة الوعي التاريخي: الاستعمار والاستشراق والتحديث الزائف

671

مقدمة

قد لا يجد المرء شبيهاً في التاريخ لصمود التيار الحضاري الإسلامي والمجتمع المسلم وأفراده تجاه محاولات الإقصاء والإلغاء والتشويه والعدوان.  ونقسّم مصدر هذه المحاولات إلى جهتين، خارجية وداخلية، كما سنقسم كلاً منهما إلى نوعين: ثقافي وسياسي.

تمثّل الإقصاء الخارجي في وجهه الثقافي في (الاستشراق) ومواقف الديانتين الكتابيتين اليهودية والمسيحية من الإسلام.  وفي وجهه السياسي تمثّل الإقصاء في ظاهرة (الاستعمار) الأوربي في شقّيه الغربي والشرقي/الروسيّ.

أما الإقصاء الداخلي في وجهه الثقافي فقد تمثّل في (الفكر الاستشراقي العربي) ودعوته إلى (العلمانية).  وكمرحلة أولى ظهرت فكرة العَلْمانية السياسية المقترنة بـ (الليبرالية العربية)، لتتبعها (الاشتراكية العربية) فيما بعد. وتمثّل الإقصاء السياسي الداخلي بـ (النظم العلمانية القمعية) والعسكرية منها خاصة.

سوف نقوم في الفصل الأول من هذا الباب برحلة في غمار الجهود الاستشراقية الغربية نعرّيها ونظهرها على حقيقتها، ونتابع في الفصل الثاني كشف اللثام عن الجهود الاستشراقية العربية التي مكّنت للإحلال الثقافي. أما في الفصل الثالث فنربط البعد الثقافي الفكري بالبعد الجيوسياسي لدى مناقشة الفكرة المتوسطية الفرنكفونية، لتظهر لنا بشكل جلّي أن ثمة نسق مواجهة حضارية منذ الأيام الأولى لظهور الإسلام وتمكّنه وإلى يومنا هذا بعد الثورة العربية. وأخيراً نقترب في الفصل الرابع من واقعنا المعاصر ونسلّط الضوء على محاربة اللغة العربية على الصعيد الثقافي ودعم الديكتاتوريات على الصعيد السياسي.

الفصل الأول: المبررات الاستعمارية

من الخطأ النظر إلى ظاهرة الاستعمار الأوروبي الحديث على أنها ظاهرة جديدة، ولا بدّ من النظر إليها في أصولها الثقافية والسياسية التاريخية للغرب.  وسيناقش هذا الفصل أبعاد المركزية الأوربية الغارقة في العنصرية.

1-    المركزية الأوربية

يمكننا أن نحدّد المسوغات التي أقنع الغرب بها نفسه في أربعة: دعاوى الامتياز القومي والعرقي والجغرافي والاقتصادي.

أولاً: مفهوم المُسْتَعْمِر والمستعمَر هو في الحقيقة استمرار لمفهوم اليوناني والروماني والمسيحي الأوروبي تجاه غيره.  كان من يستحق صفة (المواطن) الذي له حق التصويت أساس الديموقراطية الأثينية هو (اليوناني) حصراً أما (المقيم والرقيق فليس له هذا الحق وليس عليه واجب الخدمة العسكرية)، وكان مصطلح (أنثروبوس Anthropos) الذي يعني الإنسان هو الذي ينطبق على اليوناني حصراً.  ومن معاني هذا المصطلح (الناظر إلى أعلى) والذي مهمته تناول قضايا الفكر والتفرغ لها. وبالتالي كان لا بدّ له لأداء هذه المهمة من ناظر إلى أسفل يقوم بسدّ حاجاته الأخرى. وهنا يأتي دور المقيم والرقيق. لذلك كان لابدّ لكل يوناني من تملك رقيق يقوم على خدمته ولكل أسرة يونانية لا بد من عدد كاف من الأرقاء يقومون على خدمتهم خاصة الخدمات المنزلية. وكان من حق اليونانيين تداول الأرقاء كما تتداول الأشياء فالرقيق حسب أرسطو هو أشبه ما يكون بالحيوان الأليف، وبذلك كانت ديمقراطية (أثينا) ديمقراطية عبودية. وانعكس هذا التمييز على فلسفة أفلاطون السياسية فجمهوريته المثالية تؤكد ذلك إذ يقتصر الحكم فيها على (ملوك الفلاسفة) لهذا السبب اعتبره كارل بوبر([1]) مؤسس (المجتمع المغلق ودولة الاستبداد).

لننتقل الآن إلى الرومان لنجد أن فكرة المواطن هي (الروماني) واستعمل له مصطلح (Homo) أي الإنسان، أما الآخرون فهم إما قنّ (vera) أو عبد (servus)، والقوانين الرومانية التي يفتخرون بها لا تشمل هؤلاء، إذ ليست لهم شخصية قانونية. فالأول ملك شخصي للروماني الإقطاعي هو والأرض التي يعمل فيها والبيت الذي يسكنه وعائلته وحق الزواج حتى حق ممتلكات البيت وحق بيعه. وهو خاضع وعائلته للاستغلال الجنسي والتعذيب والإعدامات الجماعية. أما المستعمرات (colonias) فهي ملك للإمبراطور وينطبق عليها ما سبق وتنطبق على سكانها نفس التفرقة فهم برابرة. الخلاصة: إن هناك ثنائية بين الروماني وغير الروماني: الأول إنسان والآخرون أشياء.

وإذا انتقلنا إلى موقف الباباوية بعد سقوط روما 476 م، فنجد أنه استمرت نفس القوانين ونفس التفرقة بتحالف الباباوية مع الإقطاع. وأضيف إليها مصطلحان: الكافر خارج الامبراطورية والآبق داخلها. ويمكن أن نسمي هذا بالشرعية التاريخية التي خلعها الغرب على نفسه.

ثانياً: حق التفوق العرقي الذي يعطي العرق الآري المتفوِّق حضارياً الهيمنة على العرق السامي الناقص أي حق العقل الآري في الهيمنة على العقل السامي فهذه شرعية ثقافية تضاف إلى الشرعية التاريخية.

ثالثاً: وأضيف إلى ما سبق شرعية أخرى نشأت حديثاً عن نظرية مؤسس الجغرافية السياسية المفكر F. Razel وخلاصتها أن قوة الدولة هي بقدر مساحة اليابسة فيها. وبالتالي فإن الدولة ككائن حي لابدّ لها من أن تنمو، ولكي تستمر في الحياة فلها حق التوسع خارج حدودها. وعلى هذه النظرية قامت مدرسة هاوسهوفرHaushofer  التي أسست لإيديولوجية التوسع النازي من خلال مصطلح (المجال الحيوي) (Lebnsraum) للدولة. ولا ينطبق هذا على الدولة فحسب بل ينطبق على القارة الأوربية فهي اليابسة مقارنة بالقارات الأخرى صغيرة المساحة، لذلك كان لابدّ لكي تستمر بالحياة وتنمو من أن تسيطر على القارات الأخرى. وأقرب قارة لها هي أفريقية وعلى هذا فإن التوسع الأوربي واحتلال شمال أفريقية إنما هو امتداد جغرافي لأوربة من تحت البحر المتوسط يعطي فرنسا وإيطالية شرعية استعمار واستيطان هذه البلاد، وبذلك يضيفون لأنفسهم فوق الشرعية التاريخية والثقافية سابقتي الذكر شرعيةً جغرافية.

رابعاً: وهناك شرعية فرضتها الثورة العلمية التكنولوجية بالغرب بحيث أصبح بناء القاعدة الصناعية في الغرب بحاجة إلى المواد الأولية والطاقة واليد العاملة الرخيصة والأسواق الكبيرة لتسويق المنتجات. وكل هذه العناصر تقع خارج القارة الأوربية إذا أرادت التوسع، فمن أجل بناء الصناعة الأوربية والغربية يصبح استعباد زنوج إفريقية وتصديرهم كيدٍ عاملةٍ رخيصةٍ ونهب ثرواتها الطبيعية وغيرها من القارات والاستحواذ على الطاقة والتحكّم بالأسواق ضرورة لا مفرّ منها؛ فهذه شرعية اقتصادية تضاف إلى الشرعيات الثلاث السابقة.

كل هذه الشرعيات تسمح للأوربي استعمار غير الأوربي. لكن هذا الاستعمار يحتاج إلى قوة وليس غير المعرفة قوة لذلك كان لابدّ لكي نهيمن عليهم ونغيّرهم من أن نعرفهم أولاً. هذه المهمة يقوم لنا بها الاستشراق كتمهيد للاستعمار. من هنا علاقة الاستعمار بالاستشراق، وما مصطلحات جوبينو الفرنسي وتشمبرلن البريطاني إلا صورة فاضحة لهذه المعادلة سواء في (لون الأبيض) أو (الدم الأزرق) أو (الرأس الطويل) إلخ…

فبعد أن استلبوا الحضارة العربية الإسلامية على مدى أربعة قرون من القرن الثاني عشر (والذي وضعت فيه أسس النهضة كلها) حتى نهاية القرن الخامس عشر أعلنوا في بداية القرن السادس عشر أن حركة النهضة تعود في عودتهم إلى (العصر الروماني اليوناني) فيما يسمى حركة اليهومانزم/الإنسية، فكان هذا أول تزوير لتاريخ نهضتهم الحقيقي. إن الطفل الأوربي ينشأ على أن التاريخ والحضارة يتلألآن من أثينا ويمرّان على روما على وجه الخصوص ثم يختفيان فجأة من الوجود لمدة ألف سنة ثم يظهران من جديد في باريس في (حركة النهضة) أما قبل أثينا فليس هناك شيء في ذهن هذا الطفل المشحون بالكبرياء والاستعلاء الذي لا يرى بين أرسطو وديكارت إلا الفراغ.

ليست هذه هي المفارقة الوحيدة بل إن هناك مفارقة أخرى أشد عجباً. إن بين الحضارة اليونانية والشعب الجرماني تسعة عشر قرناً ومع ذلك ينسب الألمان أنفسهم إلى اليونان مع أنه لا يجمعهم بالثقافة اليونانية لا العرق ولا اللغة ولا التاريخ الأوربي الحديث ولا تاريخهم في أوربة الحديثة. أضف إلى ذلك أن هذا الانتساب يمر بالعهد الروماني، والجنس الألماني الجرماني غير الجنس الروماني اللاتيني، واللغة الألمانية غير اللغة اللاتينية، والكنيسة البروتستانتية الألمانية غير الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. والسؤال: كيف عبرت مصطلحات الفلسفة اليونانية كل هذه التسعة عشر قرناً لتصبح جزءاً من الثقافة الألمانية خاصة مع أنها تشوهت عن أصولها في العهد الروماني لولا توسط الثقافة الإسلامية عربية اللسان قبل اكتشاف الأصول اليونانية؟ من هنا هذا الاهتمام الكبير لدى الألمان بالتراث اليوناني وتقديسهم له رغبة في تجاوز الرومان من جهة وإثبات أنهم هم (يونان أوربة) الحقيقيون.

ونؤكد ما قلناه من أنّ إعلان الغرب أن حركة النهضة هي عودة إلى العصر الروماني اليوناني يعني فيما نحن بصدده: التمييز بين المستعمِر والمستعمَر في أصوله اليونانية والرومانية أو بين الشرق والغرب، مع أن ذلك يشمل موقف الأوربي إزاء الإنسانية بصفة عامة، إذ إنه في حالة انفصال عنها ونأى بنفسه عنها وملتفت عنها كأنه ليس منها بل يتربص بها الدوائر، كي يجعل منها (حاجة يملكها) و(شيئاً يغتصبه) عندما تدقّ ساعة الحملات الاستعمارية، فكل ما ليس بأوربي فهو (الأهلي المتوحش)، ولم يخرج عن هذه القاعدة في تاريخ الاستشراق الأوربي أحد.

2- العنصرية وفكرة التفوق العرقي

فكرة التفوّق العرقي تملّكت الشعور الأوربي ولا سيما في القرن التاسع عشر، فالعرق الغربي آريّ والعرق المشرقي (المسلمون العرب) ساميّ، وحسب قول إرنست رينان العرق الآري “عرق متفوق” والعرق السامي “عرق ناقص”، وبالتالي فهو غير قادر على الإنتاج العلمي أو الفني.  لقد جاءت (النظرية العرقية) من مقارنات لغوية بين اللغات الأوربية والسنسكريتية القديمة في الهند، وبُني عليها ما سُمّي بلغات (الهندوأوربية)، ثم جرى تحويل الماهية اللغوية إلى الماهية العرقية.  أي أنه جرى تحويل افتراضية لغوية لم تثبت أصلاً إلى نظرية عرقية اعتُبرت نهائية. 

كما زعموا أن التفوق العرقي المُدّعى يعطيهم الحق في أن يروا أنفسهم (حماة الحضارة)، وبالتالي يصبح من حقهم الهيمنة والتوسع واستعمار شعوب العرق السامي بقصد (تحضيرها).  وهكذا تحوّل مرة أخرى (ما هو عرقي) إلى (ما هو ثقافي)، وتحول هذا الأخير إلى (ما هو استعماري توسعي).

وضمن الفهم الأوربي، هناك مطابقة بين المسلمين كبشرٍ وبين الإسلام كدين، ونُظِر إلى الإسلام على أنه يختزل خصائص العرق السامي كلها([2]).

ولا يمكن فصل ربط السنسكريتية بالهنداوربية عن الخطة السياسية التي كانت ترمي إليها بريطانية في الهند في سياستها الثقافية لبعث التعصب الهندوسي تجاه الثقافة الإسلامية التي حجبت في نظرهم الثقافة الهندوسية. ويؤكد ذلك ما صدر من دراسات للمقارنة بين الديانتين الهندوسية والمسيحية وادعاء وجود مفاهيم مشتركة بينها، أحدها ما سُمِّي (بالتثليث الهندوسي). 

إن ثمة رغبة نفسية عميقة لدى الأوربي في أن يعيش في عالم (خال من البشر) لا يكون فيه إلا هو وحده. إن هذه الرغبة هي نوع من الإعدام النفسي للآخرين والتي بلغت لدى الصهيونية اليهودية الأوربية القمة في شعار (أرض بلا شعب) في وصفهم لفلسطين تمهيداً لإبادة الشعب الفلسطيني وذلك تأكيداً لشعار روما “لا بد أن تُحطّم قرطاجة”… لقد نشأت هذه الرغبة بسبب الانتماء الحضاري الروماني اليوناني وخاصة الروماني منه، لأن الثقافة الرومانية هي التي مكّنت لهذه الازدواجية (التابع) و(المتبوع)، ولأن الشعور بالتبعية عند المستعمَر هو المتمم لشعور المستعمِر بالتفوق. إن هذا لا يقتصر فقط على المصالح المادية بل يتصل بشكل عميق باللذات النفسية التي تنشأ لدى المستعمِر عن هذه التفرقة، وهي تفسّر لذة الرومان وهم يرون الوحوش تأكل العبيد في مسارحهم كما تفسّر الشعور العميق بالسادية التي أسست لكل أنواع التعذيب الوحشي بدءاً من محاكم التفتيش في الأندلس حتى عصرنا هذا حيث نرى تفنُناً في تكنولوجيا التعذيب التي تنتجها الصناعة الأوربية وتستخدمها معتقلاتهم السرية والعلنية في (أبو غريب)، (غوانتنامو)، و(باغرام) وغيرها الكثير.

إن معادلة التابع والمتبوع تتجاوز الفرد إلى المجتمع فهناك المجتمع التابع والمجتمع المتبوع، وتتجاوز المجتمع ــ فيما يخص الحضارة الإسلامية- إلى الثقافة وإلى الدين نفسه الذي يمثِّل في خيالهم التابع مقابل اليهودية والمسيحية والثقافة الغربية التي هي المتبوع كإحدى صور الإعدام الثقافي للأديان والثقافات الأخرى.

الفصل الثاني: المواجهة الثقافية

 محاولة الاختراق الثقافي تمثّلت في (الاستشراق) ومواقف اليهودية والمسيحية من الإسلام.  ويقوم هذا الفصل في بيان تهافت دعوى عدم استفادة النهضة الأوربية من الإنجاز الحضاري الإسلامي، ثم يقوم بتفنيد منهج البحث الإستشراقي، ويختم بعرض البديل المنهجي الإسلامي.

1- الإنكار الثقافي

إنكار الإسهام الثقافي يعبّر عنه بوضوح رأي الفيلسوف أرنست رينان حول العقل السامي وعجز العقل العربي عن التفكير الفلسفي والعلمي، وأن الفلسفة العربية الإسلامية لم تكن إلا الفلسفة اليونانية مكتوبة بحروف عربية. ويمكن إجابته بالقول إن الفلسفة الغربية الحديثة لم تكن إلا الفلسفة العربية الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي مكتوبة بحروف لاتينية. ويطرح هنا السؤال عن جذر الفلسفة الغربية الحديثة وأصلها في الفلسفة اليونانية التي يسمونها المعجزة اليونانية. فهل الفلسفة الغربية الحديثة هي معجزة جديدة مقارنة بالمعجزة اليونانية؟ ونذكّر بأن أوربة ما فتأت تستفيد من الإسهام الفلسفي للمسلمين، وإلا من أين استقى هذا الفكر الحديث مصادره الأولى على مدى عدة قرون كان يحتكّ فيها ويتفاعل مع التراث الفلسفي والكلامي الإسلامي. لقد استقوه ليس فقط من خلال الرشدية (ابن رشد) والسيناوية (ابن سينا)، وإنما أيضاً بتأثيرات الفلاسفة الآخرين بما في ذلك الغزالي والمعتزلة والأشاعرة؟

وكما اكتشف الأوربيون حقيقة أن نشأة العلوم الطبيعية في الغرب الحديث قامت على نهايات بحوث العلوم الطبيعية الإسلامية، وبدأ الفكر الغربي الحديث يتابع من خلال المخطوطات والأبحاث هذه النشأة يساعده في ذلك إدراكه لعلاقة العلم الحديث بتاريخ العلم وتاريخ فلسفة العلم، فمن باب أولى أن يتابع الفكر الغربي الحديث نهايات ما وصلت إليه الفلسفة عند المسلمين وعلم الكلام وأثرهما على بدايات الفكر الفلسفي الغربي الحديث. وهنا أيضاً لا بدّ من الكشف عن الترجمات الأولى من مخطوطات الفلاسفة العرب المسلمين وعلماء كلامهم من جهة، وتطور المصطلح الفلسفي الحديث في الغرب من جهة أخرى.  ويمكن أن نسمي هذا المشروع بعلم (المفاهيم والمصطلحات الفلسفية المقارن)، الذي يبدأ من القرن الحادي عشر الميلادي المعاصر للقرن الخامس الهجري – مهد النهضة الفلسفية – وحتى نهاية القرن الثامن عشر، بما في ذلك حركة الإصلاح الديني في أوربة. وعندئذ سينكشف أثر الفكر الفلسفي والكلامي الإسلامي على الفكر الفلسفي والديني الغربي الحديث، كما انكشف أثر العلم الطبيعي الإسلامي على نشأة العلم الطبيعي الغربي الحديث. وإلا فهل يعقل ألا يكون ديكارت قد اطّلع على (الشك) الغزالي، وألا يكون هيوم قد اطلع على (نقد العلّية) للغزالي، وألا يكون لايبنتز قد اطلع على فلسفة ابن سينا وعلى فكرته حول (الأنا المطلقة) أو (الأنا التامة)، ولنا أن نحقّق من أين أتاهم مصطلح (المتعالي transcendental).

وافتراض أن مثل هذه التحولات جاءت نتيجة معجزة يعني قطع تواصل الفكر الإنساني وقطع تواصل استمرارية تاريخه. وننبّه هنا إلى أننا لا نقصد أن ثمة تطابق بين النتاج الفلسفي الذي بناه المسلمون والنتاج الفلسفي الغربي الحديث، بل العكس هو الصحيح، فالتباين بينهما تباين كبير. كلّ الذي نقوله إن ادعاء إعجاز الفلسفة الأوربية وإنها لم تستفد من التطورات الفلسفية للحضارات الأخرى زعم لا تقوم به الحجّة.

وعلينا أن نبحث عن الإجابة لسؤالين. الأول ما الذي انتقل إلينا من الفلسفة اليونانية، وماذا انتقل إليهم منا وكيف؟ والسؤال الآخر – وهو الأهم – هو التالي: إنهم يسمون فلسفتهم بالفلسفة الغربية الحديثة ونحن نسأل لماذا سمّوها حديثة؟ ولماذا تحدّث ديكارت عن الطريقة الحديثة via moderna وعن الطريقة القديمة via antiqua؟ أي لماذا هي حديثة؟ هم يجيبون بأنها قطعت مع التفكير الأرسطي وتحولت في مسألتين فلسفيتين مهمّتين: (1) من الفكر الصوري إلى الفكر الرياضي الاستقرائي؛ (2) ومن المفهوم المجرّد إلى التجربة؛ ومثّل الأولى ديكارت ومثّل الثانية بيكون. والسؤال الثاني: ولكن إذا كانت هي حديثة بهذين التحولين فما مصدرهما؟ يمكن أن يُجاب بأن الفلاسفة الغربيين جاؤوا بهذه المفاهيم.  ولكن الدليل قائم أن المصدر كان حقيقة الفكر الفلسفي والكلامي الإسلامي، بغض النظر عن كيف تمّ تطويره أو تحويره.

وما دام الفكر الغربي الحديث اعترف بالجانب العلمي الطبيعي فأصبح مقتنعاً بأنه لولا ابن الهيثم لما كان نيوتن، ولولا ابن الشاطر لما كان كيبلر، فلماذا لا يريد أن يعترف بأنه لولا مبدأ الغزالي (من أن الشك هو الموصل إلى اليقين) لما كان الشك الديكارتي، مع العلم أن ديكارت اطلع على هذا الفكر وقرأ هذا النص وعلّق عليه بعبارة “ينقل إلى منهجنا”، وهو مثبت في مخطوطته الخاصة([3]). ولولا (شك) الغزالي في مبدأ (العلّية)، أي أن الاقتران بين السبب وما يُعتقد مسبباً له ليس اقتراناً ضرورياً كما جادل الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، لما كان شك هيوم، وهو الآخر قد اطلع على ترجمات نصوص الغزالي.

لماذا لا يستبعد الفكر الغربي فكرة (المعجزة اليونانية) ويسلّم بالتواصل العقلي في تاريخ الفكر الإنساني؟ ونحن لا نريد أن ننسب إلى إسهام المسلمين ما ليس لهم، وإنما نريد أن لا يُنسب لغيرهم ما هو لهم.  ولكي تتمّ عملية التحرّي فالخطوات التالية مطلوبة لفهم مسالك الانتقال:

  1. حصر المخطوطات العربية الأصلية المترجمة إلى اللاتينية بنصها العربي الأصلي.
  2. حصر تاريخ الترجمات الأولى لهذه المخطوطات ونصوصها مقارنة له بالمخطوط الأصلي.
  3. رصد تطور المعاني المترجمة.

وهذه الخطوات الثلاث تمهّد إلى وضع (معجم تاريخي) فلسفي اصطلاحي: عربي ــ لاتيني، يضع المصطلح العربي ومُقابله الترجمة العلمية المعتمدة بعد النقد والترجيح، ونعني (بتاريخي) التسلسل التاريخي([4]).  عند ذلك فقط تنفتح الدراسات المقارنة بين المصطلح العربي الأصلي والمصطلح اللاتيني المنقول.

الدراسات الاستشراقية في أصل نشأتها لم تكن دراسات أكاديمية تلتزم بالمعايير العلمية، فالاستشراق أنشئ لغايات سياسية طغت على الغايات المعرفية الخالصة. ويكتب الأوربيون التاريخ من منطلق (المركزية الأوربية) التي تبدأ بإبراز وحدة واستمرارية التاريخ الأوربي من اليونان إلى الرومان إلى اليهودية-المسيحية إلى العصور الحديثة. فلأوربة ضمن هذه الرؤية تاريخ واحد على مدى تسعة عشر قرناً، وهذه الصورة هي صورة إنشائية لا تنطبق مع واقع التاريخ الأوربي الممزق والمتناحر والمنعزل عن بعضه بعضاً. فكرة تاريخ أوربي واحد تتجاهل (التفاوت الكبير) بين شعوب أوربة واختلاف الأجناس واللغات والأديان ومستويات التحضر، وما اقتربت من صورة التوحّد إلا بعد تسعة عشر قرناً، وإلا فقد كان هناك أودية فاصلة بين اليونانيين في أثينة والألمان في برلين والفرنسيين في باريس والبريطانيين في لندن والإسبان في مدريد.

ولا تكتفي المركزية الأوربية بذلك بل ينقلب هذا التاريخ الأوربي فجأة ليصبح (تاريخ العالم) بحيث يصوّر ما هو خارجه هوامشَ لا قيمة لها لشعوبٍ بلا تاريخ أو شعوبٍ ذات تاريخٍ من السهل اعتباره مجرّد ملحقٍ بالتاريخ الأوربي؛ وهذا هو الموضع الذي يعطونه لتاريخنا الإسلامي، وتاريخنا الإسلامي العربي بخاصة لأنه اكتنف التجربة الأولى وكتبت علومه بلغة القرآن التي تضبط معانيه وتطهّره بعيدة عن المؤثرات الحضارية الأخرى.

وما يهمنا هنا أن الهوية الأوربية الحديثة تتجاهل دور التاريخ الإسلامي – خاصة الفلسفي والعلمي – في أصل بنائها. فبناء الهوية الأوربية الحديثة بدأ من أواخر القرن الحادي عشر وظهر في القرن الثاني عشر، واستمر من خلال حركة الاحتكاك المسيحي بالتراث الإسلامي والمجتمع الإسلامي في الأندلس، مما أدى إلى دخول الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي إلى أوربة من ناحية، والعلم الطبيعي التجريبي الذي طوّرته الحضارة الإسلامية إلى الغرب من خلال حركة الترجمة من العربية مباشرة أو من العبرية. هذ الذي شكل أساساً في بناء الهوية الأوربية الحديثة من خلال نهضة القرن الثاني عشر ــ وهي النهضة الأم ــ التي يجب أن نميّزها عمّا سمي فيما بعد (عصر النهضة/ Renaissance) في القرن السادس عشر وما بعد، والتي أرّخ لها يعقوب بورك هارت في إيطالية. هذه النهضة تشكّلت بالتفاعل مع معطيات الحضارة الإسلامية. وإن تقديم نهضة القرن السادس عشر على النهضة الأم في القرن الثاني عشر والثالث عشر هو تزوير للتاريخ الأوربي وتجاهل لإسهام الحضارة المسلمة في حفز هذه النهضة.

كانت حركة النهضة الأوربية في القرنين 12 و 13 الميلاديين (حركة الهيومانيزم) حركة بعثٍ أو إحياءٍ للتراث الأدبي الروماني أولاً ثم اليوناني. وكان سبب الاهتمام الشديد باللغات القديمة خاصة اللاتينية والعبرية هو ترجمة النصوص العربية إلى هاتين اللغتين، وزاد هذا الاهتمام وصول الأصول اليونانية من القسطنطينية بعد سقوطها عام 1453م. لقد كانت هذه الحركة نقطة التحول نحو التراث الروماني والاتصال معه، وفي الوقت نفسه لحظة القطع مع التراث الإسلامي وحجبه تماماً.  وبعبارة أخرى لم يكن بعث الآداب الرومانية واليونانية هو السبب في نهضة القرن الثاني عشر بل جاء بعدها لا قبلها، ولذا نقول إن استمراريتها قد قُطعت عن التراث الإسلامي وحُجبت عنه تماماً ووُصِلت بالتراث الروماني اليوناني وصلاً.

لم يشمل تجاهل دور الثقافة الإسلامية في الأندلس فحسب، بل شمل أيضاً إقصاء أثر الثقافة الإسلامية في الهند خلال أكثر من ستة قرون، وكذا إقصاء الثقافة الإسلامية في القارة الأفريقية خارج العالم العربي قبل الاستعمار. ووصل الأمر إلى درجة انتزاع تاريخ الثقافة الإسلامية لشعوب القارة الآسيوية لقطعها نهائياً عن أصولها كما يفعل ذلك الاستشراق الروسي، ويصدق ذلك أيضاً على شعوب القوقاز، وذلك باصطناع تاريخٍ لهم مزوّر ووعي تاريخي مزيّف.

وقد بلغ إنكار إسهامات المسلمين ذروته في الحركة الصهيونية التي تسعى إلى إلغاء التاريخ العربي الإسلامي في محاولة لتهويده ضد حقائق علم اللغات والآثار والتاريخ الذي لم يرتبط به اليهود في فلسطين إلا لفترةٍ محدودة جداً كغرباء على التاريخ.

كذلك يركز الاستشراق على النزاعات السياسية المختلفة بين المسلمين وشعوب أوربة ويبالغ في تصويرها مع أنها لا تكاد تشكل نقطة في بحرٍ مقارنة بما جرى داخل البيت الأوربي. فمثلاً في حروب الثلاثين عاماً في أوربة من عام 1818م إلى عام 1848م بين الكاثوليك والبروتستانت الذي ذهب ضحيتها من ألمانيا وحدها أكثر من ثمانية عشر ألف بلدة أو قرية وأكثر من 1500 مدينة وذهب ضحيتها نصف سكان ألمانية (ثلاثة عشر مليوناً) بحيث اضطر رجال الدين المسيحي إلى السماح بتعدد الزوجات تعويضاً عن الرجال الذين فقدوا في الحرب. ولا تساوي النزاعات في تاريخنا ما حصل في (حرب المائة عام) بين فرنسا وبريطانية في النزاع الكاثوليكي البروتستانتي. وبالمقابل، لم يحصل في تاريخنا حروب بين السنة والشيعة أو بين المسلمين والمسيحيين أو بين المسلمين واليهود أو بين المسلمين والأعراق الأخرى، وما حصل من نزاعات سياسية وحروب محلية لا تتجاوز ضحاياها الآلاف.

أما عن عكس صورة الفتوحات فحدّث ولا حرج عن مقولات انتشار الإسلام بالسيف وعن الحروب المقدسة رغم أن جميع المجتمعات التي شملتها الفتوحات قد اعتنقت الإسلام مبكراً، ومن ذلك الأمازيغ الذين تولّوا هم فتوحات الأندلس وكذلك الترك في آسيا والمغول الذين اعتنقوا الإسلام وتولّوا قيادة الفتوحات.  أي أن علينا أن نميز بين امتداد المنظومة السياسية التي تبنّت مفاهيم الإسلام وبين انتشار الإسلام نفسه كدين.

2-    الإشكال المنهجي للاستشراق

لن ندخل في سجال مع الاستشراق التاريخي كما تعمدنا أن تجنّب هذا السجال مع الاستشراق الفلسفي فقرة الإقصاء العقلي. لن نردّ على المستشرقين أو نتصدى لاتهاماتهم، بل نواجه هذا الاستشراق من داخله دون هوادة.

حينما نتناول مسألة كتابة التاريخ فإننا نسأل ما التاريخ؟ وكيف نكتبه؟ ولماذا نكتبه؟ وكيف يمكن أن نضبط تدوين وقائعه وتوثيقها (علم التأريخ). وكيف يمكن أن نضبط صحة تفسير تلك الوقائع بحيث يشكل تفسيرها وحدة واستمرارية تاريخية، وكيف يمكن أن نتحرّى دقة استعمال المصطلح التاريخي كي لا تضيع الدلالة بينه وبين ما وضع له أصلاً.

وقد وُضعتْ لكل ذلك معايير علمية نقدية يعرفها المؤرخون باسم (المنهج التاريخي) تلتزم بها الدراسات الأكاديمية مثلما يلتزم علم الاجتماع بالمنهج الاجتماعي للبحث والتفسير وكما هناك منهج للدراسات اللغوية، وهكذا سائر الدوائر البحثية.

والسؤال الآن ما موضوع علم الاستشراق؟ الجواب: هو (الشرق) وهو مفهوم صنعه الاستشراق نفسه وحدده قاصداً به (عالم الإسلام). ثم ما هو المنهج والجواب هو (المنهج الاستشراقي) المرتبط بهذا (الشرق). المشكلة أن هذا المنهج الاستشراقي يتجاوز كل ما ذكرناه من مناهج متخصصة في حقولها، وهذا هو الفرق بين (الجامعة) و(معهد الاستشراق)، ومن جرّب الانتقال بينهما يدرك أي مأساة تواجه المعرفة على يد الاستشراق. والسبب في ذلك أن الاستشراق ينطلق من مسلّمات إيديولوجية مسبقة تمثّل موقف اليهودية والمسيحية من الإسلام. وليس تاريخ الاستشراق إلا إثباتَ هذه المسلمات بتكثير البراهين عليها بصرف النظر عن تطور المسائل المعالَجة ومناهجها في الثقافة الغربية نفسها.

ونودّ فيما يلي الإشارة إلى بعض الصعوبات التي تواجه المستشرق في كتابة التاريخ الإسلامي كتابة موضوعية:

  1. استحالة الوصول إلى تصوّرٍ واحد لمصطلح (التاريخ الإسلامي) لأن هذا التاريخ من الشمول والتنوع العرقي واللغوي والجغرافي والسياسي مما تصعب الإحاطة به (من خارجه) وبالتالي فقد تعددت المصطلحات حوله وتغيّرت.
  2. إن هذا التعدد للمصطلح التاريخي سيؤدي إلى اختلاف (التحقيب التاريخي) وبالتالي تحديد (نطاق الدراسة) زمانياً. واختارت كثير من دراسات المستشرقين تحقيباً مرتبطاً بتاريخ أوربة وليس له صلة بتاريخنا.
  3. إن اتساع نطاق الدراسة قاد كثيراً من الدراسات إلى تعميمات جائرة.
  4. إن عدم التزام الاستشراق بتحديد منهج الدراسة وفق التقسيم الأكاديمي في الجامعات فتح الباب واسعاً لدخول النزعات الإيديولوجية في تناول التاريخ الإسلامي.

الدراسات الاستشراقية في أصل نشأتها لم تكن دراسات أكاديمية تلتزم بالمعايير العلمية، لا من حيث توزيع التخصصات ولا من حيث أصول المنهج العلمي الذي يهدف إلى غاية محددة هي تحصيل معرفة موضوعية خالصة لا معرفة منحازة، مما يشكّل الفرق بين (معهد الاستشراق) و(الجامعة الأوروبية)، فالاستشراق أُنشئ لغايات سياسية طغت على الغايات المعرفية الخالصة. بعبارة أخرى، المعرفة في الاستشراق (معرفة مشروطة) وهي (معرفة سلطة) تحولت فيما بعد إلى (سلطة معرفة) في مواجهة (عالم الإسلام) كما بيّن ذلك إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق.

ولم تقتصر جهود الاستشراق على دراسة التاريخ الإسلامي وإنما دراسة التاريخ المسيحي في ديار المسلمين وخاصة البلاد العربية وعلى الأخص ما كان تحت حكم البيزنطيين (بلاد الشام ومصر وشمال إفريقية)، لكن الأكثر خصوصية وأهمية هي فلسطين. وقد شملت هذه الدراسات ما يلي:

      (الآثار البائدة والقائمة)، وتم مسح الآثار الباقية مسحاً تاماً يشمل الكنائس والأديرة والحصون ما كان منها قائماً قبل الفتح الإسلامي أو بعده بما في ذلك الآثار الصليبية

      الاهتمام بـ(اللغات القديمة) وحضارات شعوب ما قبل الإسلام والتي لقيت الأهمية القصوى لكونها ما تزال اللغة الحية للكنائس الشرقية، وكذلك اللغة القبطية. وتمت دراسات وتخصصات في هذه اللغات معاجم فيها ومؤلفات في آدابها.

      دراسة أحوال (الأقليات) المسيحية (المحلية) وتعهد شؤونها الدينية التعليمية وإحياء الوعي التاريخي لها بتراثها ما قبل الإسلام وبعده.

ونشأت عن هذه الجهود مراكز أبحاث وموسوعات ومعاجم لغوية ومجلات ومؤتمرات ومجموعات من الوثائق ذات أهمية قصوى لتأريخ هذه الفترة، بالإضافة إلى وجود مقرات دائمة لهذه الرهبانيات مع فروع لها في البلاد العربية، خاصة بفلسطين ولبنان ومصر وتونس والمغرب، وتميزت أنشطة الرهبانية الدومانيكيونية بنشاط ثقافي واجتماعي خاص نذكر منه نشاط الأب جورج قنواتي ولوي جارده.

إن الهدف الرئيس من الإقصاء استبعاد منازعة الإسلام للمسيحية حول الحقيقة الدينية، ومنازعة الحقيقة التاريخية في دور الحضارة المسلمة في تشكّل أوربة الحديثة، إذ ليس من المتوقع بعد هاتين المنازعتين أن يفسح الفكر التاريخي الغربي مكاناً واسعاً للتاريخ الإسلامي -لا في تاريخه الخاص ولا في تأثيره على تاريخ العالم- بل المتوقع أن يضيّق المساحة التاريخية للإسلام ما أمكن:

      بحيث لا يظهر الإسلام في التاريخ كـ (دين مستقل) ينافس الديانتين اليهودية والمسيحية اللتين يجمعه بهما تراث واحد في أصل الحقيقة الدينية، بل المتوقع أن يعمل الاستشراق عكس ذلك في (دمج) عقيدته في التراث اليهودي المسيحي وأن (يُدرِج) تاريخه بتاريخ الكنيسة المسيحية كـ(فرقة ضالة)؟

      وبحيث لا يظهر أثر حركة الترجمة للتراث الإسلامي والفلسفي والكلامي والقيمي في النهضة الأوربية الحديثة وردود الفعل تجاه ذلك والأثر في تشكّل (الأنا الأوربية الحديثة).

      التعتيم على (تاريخ حروب الاسترداد) في الأندلس فيما يتصل بإكراه شعوبها المسلمة على اعتناق المسيحية، والتعتيم على تاريخ محاكم التفتيش وأخيراً التعتيم على اقتلاع شعب بكامله خارج موطنه. ودعك من التعتيم على أثر الثقافة العربية الإسلامية على الحياة الاجتماعية والثقافية على المجتمع الإسباني ما بعد الاسترداد والتي نلمس آثارها حتى الآن.

على أساس هذه الرؤية التاريخية يتشكل الوعي التاريخي والذاكرة التاريخية للطفل الأوربي منذ نشأته. ذاكرة العداء للإسلام وعالمه. تشهد بذلك مناهج التربية الأوربية كلها. حتى إذا ارتقى هذا الوعي إلى مستوى السياسة بنيت عليه تجاه المسلمين ومجتمعاتهم (الاستراتيجية الثقافية) لهذه السياسة والتي يتمّ على ضوئها التخطيط الاستراتيجي لها. يشهد بذلك تاريخ الاستعمار الأوربي تجاه البلاد المسلمة حتى بلغ ذروة تطرفه في إنشاء (الكيان اليهودي الصهيوني في فلسطين).

إن ما يجمع كلّ ما ذكرناه هو النقطة التالية: إن إقصاء هذا التاريخ من خلال اعتماد مناهج الاستشراق يحول دون إمكانية الفهم والتفسير بحيث يظل التاريخ الإسلامي مجموعة انقطاعات لا تجمعها وحدة واستمرارية، ومما يجعل إدخاله تاريخ العالم أمراً صعباً، أننا لا نجد لدى جميع المستشرقين المؤرخين لا وحدة منهجية تجمعهم ولا وحدة اصطلاحية ولا وحدة تحقيب ولا وحدة تجانس في التفكير.  وبلغ هذا الإشكال مداه في التطرف في دراسة تاريخ السيرة النبوية خاصة في القرون الخمسة الأولى من تاريخ الاستشراق في ما يسمى (البحث التاريخي)، وبلغ حدّ العبث التاريخي والسفه التاريخي.  والغاية النهائية التي تلتقي عندها جميع هذه الدراسات هي (تغريب) العقل التاريخي الإسلامي من خلال الثوابت الثلاثة المكونة للثقافة الأوربية (اليونان والرومان واليهودية -المسيحية)، وادعاء أن ثمار العقل الإسلامي ما هو إلا أثر الفلسفة اليونانية وما يخصّ الفقه الإسلامي ما هو إلا أثر القانون الروماني وأن ما يخصّ العقيدة ما هو إلا أثر التراث اليهودي المسيحي. 

إن استلهام حركة النهضة التي استُهلت في القرن الرابع عشر ميلادي يعني في الطرح الاستشراقي عودة إلى العصر الروماني اليوناني. يعني فيما نحن بصدده التمييز بين المستعمِر والمستعمَر في أصوله اليونانية والرومانية أو بين الشرق والغرب، ويتجاوز لذلك ليمثّل موقف الأوربي إزاء الإنسانية بصفة عامة، إذ إنه في حالة انفصال عنها ونأي بنفسه عنها كأنه ليس  من هذا السياق الإنساني بل يتربص بالآخر الدوائر، يجعل منه  (حاجة يملكها) و(شيئاً يغتصبه) عندما تدقّ ساعة الاستعمار، فكل ما ليس بأوربي هو (الأهلي المتوحش)، ولم يخرج عن هذه القاعدة في الاستشراق الأوربي القديم أحد، وحتى ماركس صاحب الدعاوى العالمية الذي ينكر القومية رفض ألا تضاف هذه الصفة إلى آسية عندما ذُكرت أمامه أوربة.

ومن الجدير بالذكر أن الغالبية العظمى من طليعة المستشرقين كانوا إما رجال لاهوت رسميين أو خريجي الكليات اللاهوتية أو من (المستشرقين الرهبان). ومستشرقو الرهبانيات يتحدرون من الفرق التالية: الرهبان البندكتونيون؛ والرهبان الفرنسيسكانيون والذين جاؤوا بالأصل عام 1219 م إلى المشرق واستقروا فيه لـ(حراسة الأراضي المقدسة في فلسطين) وأُعلِن إنشاؤها رسمياً عام 1335 م ولرعاية المسيحيين من الأجانب -دبلوماسيين وتجاراً ونزلاء- ثم تجاوزوهم إلى الطوائف المسيحية المحلية؛ والرهبان الكبوشيون وتفرعوا عن الفرنسيسكانيين؛ والرهبان الكرمليون؛ والرهبان الدومينيكيون -وهم من أهم الرهبانيات- وعدد مستشرقيهم أربعة عشر أشهرهم في البلاد العربية الأب جورج قنواتي؛ والرهبان البيض وكان نشاطهم بشكل خاص في شمال إفريقية وعلى الأخص تونس والجزائر؛ والرهبان اليسوعيون وعدد مستشرقيهم ثمانية وخمسون أشهرهم في العالم العربي الأب لامنس (1862 ــ 1937) والمعروف بتعصبه الشديد ضد الإسلام؛ والرهبانية اللبنانية.

3- البديل المنهجي الإسلامي

شكّل ظهور الإسلام نقداً عميقاً لطرح المسألة الدينية في الديانتين المسيحية واليهودية، فقد نقل الإسلام الدين من مركزية القبيلة في اليهودية أو مركزية الشخص في النصرانية إلى مركزية المفهوم.  وهذا يعني بالنسبة لليهودية والمسيحية ما يلي:

  1. رفض فكرة تماهي الإله (الله) في الشعب اليهودي، وذلك في رفضه لفكرة الشعب المختار.
  2. رفض تماهي الذات الإلهية (الله) في الشخص البشري فيما يتصل بالمسيحية.

وجاء الإسلام لتصحيح هاتين الفكرتين بالمساواة المطلقة بين البشر، وبالتوحيد. واعتبر الإسلام أن مصدر هاتين الفكرتين التحريف والتصحيف في المصادر اليهودية والمسيحية. ونحن نحيل المسألة إلى النقد التاريخي الذي يتناول صحة المصادر اليهودية والمسيحية فيما يسمى اليوم (النقد المصدري)، ومنذ فلهاوزن والشك في المصادر التاريخية مازال قائماً.

ويمكن تلخيص الطرح الإسلامي بما يلي:

  1. رفض فكرة التجسد وفكرة الخلاص الذي بنيت عليها فكرة الخطيئة الأصلية في المسيحية، وتأكيد مفهوم الفطرة في طبيعة الإنسان، ورفض فكرة الشعب المختار بالنسبة لليهودية التي بنيت عليها فكرة الأغيار، وبالمقابل طرح الإسلام فكرة عباد الله المتساوين أمام العدل الإلهي.
  2. تركيز الإسلام على النقد العقلي بالنسبة للمسيحية والنقد الأخلاقي بالنسبة لليهودية. إذ من خلال مفهوم الخطيئة الأصلية تظلّ طبيعة الإنسان (ناقصة) تحتاج إلى شيء ما ليكمّلها وبالتالي إلى سلطة ما تَحُدّ من فكرة العقل والحرية. حرية الإنسان في اختياره وحريته العقلية في تفكيره… وفكرة (الأغيار) التي تترتب على مفهوم الشعب المختار تخلّ بفكرة العدل الإلهي، وتنشئ أخلاقاّ تتعارض مع هذا العدل.
  3. تأكيد الإسلام على فكرة وحدة مصدر الدين واستمرار الرسالة بالمعاني التالية:

أ‌.       وحدة الوحي الإلهي فهو سلسلة متتابعة ولا انقطاع في تاريخ النبوة ولا معنى لذلك.

ب‌.    وحدة الحقيقة الدينية لا تعدّدها.

ت‌.    وحدة المعرفة الدينية من خلال حرية العقل والإرادة دون أي قيد غير العقل نفسه.

ث‌.    وحدة القصد الإلهي في جميع رسالات الأنبياء وهو التوحيد المطلق والتنزيه المطلق لوجود مطلق على اختلاف الأزمنة واللغات والشعوب.

  1. أحادية الدين عند الله واختيار لفظة الإسلام بمعنى الاستسلام لإرادة الله:

أ‌.        فما اليهودية والمسيحية الأصلية إلا جزءٌ من تاريخ الإسلام بمفهومه الواسع.

ب‌.    اعتبر الإسلام نقده لما آلت إليه اليهودية والمسيحية تصحيحاً لانحرافاتها وليس رفضاً لأصلها، وبالتالي فقد أحال المسألة إلى مجال النقد التاريخي للمصادر وللصيرورة التاريخية.

ت‌.    الإسلام بمعناه الخاص هو إرادة الله أن يكون هناك وحي أخير خاتم، فكان طبيعياً وبسبب وحدة المصدر أن يكون (مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه) أي متمماً ومصححاً، وهو يؤكد الوحدة التاريخية لدين الله واستمرارية الرسالة من ناحية، ومن ناحية ينسخ تفرّق السبل للرسالات السابقة ويؤكد حفظ مصدر الرسالة الخاتمة (القرآن) بعدما استوت الظروف الموضوعية لحفظه ولإمكان تمكين تحقّق الدين الخاتم في واقع الحياة ” ليظهره على الدين كله “.

  1. حقيقة ختم النبوة والتي يترتب عليها نقطتان:

أ‌.       حرية العقل والتفكير للفرد وتحمّل مسؤولية هذه الحرية، إذ لم يعُد بعد ختم النبوة غير الوحي المكتوب سلطةً مباشرةً معرفيةً أو أخلاقيةً أو سواها.

ب‌.      وحدة الأمة التي هي أيضاً أصبحت لها حرية إدارة شؤونها، إذ أصبحت هي وحدها مصدر السلطات، إذ إن ختم النبوة وانقطاع الوحي ينقل ضرورةً سلطة النبي إلى الأمة المستخلفة في الوحي المحفوظ والسنة المبيّنة الشارحة.

إن طرح الإسلام للمسألة الدينية نقلها من دائرة (الأسرار الغامضة) إلى دائرة (الأسئلة المفتوحة). لذلك كان المجتمع الإسلامي الأول مجتمع أسئلة أجاب عنها الإسلام إجابات محكمة واضحة منطقية من ناحية وفطرية من ناحية أخرى، تلك الأسئلة حول خلق الإنسان والروح والنفس والإرادة والعقل والمصير (الحياة الآخرة) إلى جانب أسئلة وجود الكون (السماوات والأرض)، وإلى جانب معنى التاريخ وطبيعة النفس الإنسانية. وقد أُضيفت إليها أسئلة المجتمع والسلطة وغيرها من مسائل الحياة الاجتماعية.

تنكّرت المرجعية اليهودية التاريخية والمرجعية المسيحية التاريخية لدراسة هذا النقد والنظر في درجة صوابه، وكان ردّهما هو محاولة احتوائه، ولم يكن هناك مقابل هذا النقد أي رد فلسفي أو تاريخي بل كان رداً لاهوتياً ينشغل بمحاولة تحوير النص القرآني من أجل تهويده أو تنصيره بدءاً من ابراهام كايغر Abraham Geiger في كتابه (ماذا أخذ محمد من اليهودية؟) وحتى رودي باريت Rudi Paret في تفسيره الأخير للقرآن، ضمن محاولة الادعاء بأن الإسلام ليس إلا تكرار لمسلّمة لاهوتية يطلب من الفكر اللاهوتي لدى الديانتين تكثير البراهين عليها.  وعليه اعتُبِر الإسلام فرقةً ضالةً وحرص الاستشراق على دراسة الإسلام بدءاً من عقيدته إلى شريعته إلى علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم الفقه وعلوم أصول الفقه، وإلى علوم اللغة العربية فقهاً ونحواً وصرفاً وبلاغة وإملاءً وخطاً وأدباً حتى أدق التفاصيل، بالإضافة إلى علوم التاريخ والحياة الاجتماعية والسياسية إلى المسلمين حتى هذا اليوم.  لم تكن هذه الدراسات جهوداً من أجل معرفة الحقيقة بل من أجل إثبات الرؤية الاستشراقية أو الدينية التي أشرنا إليها بغرض الهيمنة على الإسلام وعالمه حتى وصل الأمر إلى قبول استعمال القوة للهيمنة على الآخر، كما بيّن ذلك إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق.

وهنا لا بدّ من إضافة الملاحظات التالية لكي لا يُفهم أننا ننفي إمكانية التفاهم:

      إن نقد العقائد والمصادر هو عمل علمي بحت يخصّ العلماء وهو لا يحول دون الجدال بالتي هي أحسن.

      تأسيساً على ما ذُكر فإن هذا النقد لا يدعو إلى الصدام المجتمعي، بل يمكن أن يؤسس لوحدة مجتمعية حقيقية مصدرها اعتراف كلٍّ بالآخر، ولا يؤدي ضرورةً إلى الخلاف بل يعبّر عن حق الاختلاف. ومن هنا جاءت خاصية المجتمع الإسلامي بالتنوّع المجتمعي.

      مفهوم (أهل الكتاب) في الإسلام يعبّر عن حق هذا الاختلاف، ويؤكد مبدأه في أن (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، ولقد التزم المسلمون في تاريخهم بحماية هذا الحق.

      من ناحية السجل التاريخي، أكدت ممارسات المسلمين فكرة الدفاع عن حرية أهل الكتاب (وهي حتى الموت عند بعض الفقهاء([5]))، ولهذا لم يحصل صراع داخل المجتمعات الإسلامية بين المسيحيين واليهود من جهة والمسلمين من جهة أخرى، بل العكس كان هناك تعاون في شتى المجالات سواء في المشرق أم في الأندلس، وسواء في الثقافة العربية كحقل الترجمة بوجه خاص، أم في السياسة والإدارة. وإن النهضة الحقيقية للعلوم الدينية والمسيحية تمّت في ظلال العيش بين المسلمين وتحت الحكم الإسلامي، وظلّ هذا قائماً حتى مجيء الاستعمار.

4- خلاصة

      مثّلت جهود الاستشراق، دأب الغرب على التمحور حول نفسه وادعاء مركزييته المطلقة النابذة للإسلام وعالمه، وخلّف مكتبة كاملة من الدراسات ومراكز الأبحاث والمؤتمرات وغيرها التي لم تترك جانباً من ثقافتنا أو حياتنا الاجتماعية إلا وغطّته لتكون مرجعية لهم للنظر إلينا وإلى تاريخنا نظرة خاصة مجحفة ناكرة ومشوِّهة.

      من المفيد التمييز بين (المستشرق) و (الاستشراقي)، فلا شك في أن المستشرقين أصحاب خبرة عميقة ولا مراء في أن نتاج الجيل اللاحق من المستشرقين تميّز بتبحّره ومحاولات الإبداع والخروج عن النسق القديم المتحيز تحيز العدو الناكر؛ وهذا لا ينفي أن الاستشراق بعمومه بقي حبيس خياره الحضاري. أما الاستشراقي فنقصد به المُقلِّدين من العرب الذين ينتقون أسوأ ما في نتاج المستشرقين القدامى، فمقابل أن الأول هو (خبير) الثاني هو (وسيط) للفكر الغازي.

      نحن لا نملك الآن مثل هذا الجهاز لا لمعرفة أوربة ولا لمعرفة أنفسنا، وجهازنا القديم قد تهدّم والحديث لم يقم بعد. وبالتالي كانت المهمة الأولى أمام العقول المفكرة لشبابنا هي تحقيق (الأمن الثقافي) فهو فوق كل أنواع الأمن وقبلها.

      إن أخطر ما حدث خلال ما سمي (الفكر العربي الحديث) قيام نخبة تحولت إلى تيار يتبنّى الرؤية الاستشراقية ويعتبرها مرجعية له بينما يقطع مع مرجعيتنا التراثية. وهيمنت هذه الرؤية على مثقفينا، بما في ذلك بعض الطروحات الاعتذارية التي تعتمد الخلط وتسكب المعطيات الإسلامية في المفاهيم الغربية. والنتيجة أننا أصبحنا نرى أنفسنا من خلالهم، فالمتخيل الاستشراقي يتابعنا في كل ما نفكر فيه. وكمثال على ذلك الشرك الذي وقع فيه بعض الناس في الاقتصار على الوجه السياسي لتاريخنا ناسين الأهم: الوجه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي منه.  ونتساءل، ما الذي يجمع بيننا اليوم، أليست الثقافة والاجتماع، أليست أسسنا الثقافية الاجتماعية هي التي توحدنا رغم كل التمزقات السياسية؟

      لابدّ من معرفة تاريخنا من منظورنا. والسؤال عندئذ: من خلال أية رؤية؟ والجواب هو من خلال العنصر الذي شكّل وحدة تاريخ المجتمع المسلم واستمراريته إلى اليوم وهو الرباط الأخلاقي القيمي للشريعة الإسلامية، فهي التي ضبطت مسيرة هذا المجتمع وحافظت على توجهه خلال القرون وفي كل ما نصطلح عليه (دار الإسلام)، بمعنى البلدان التي استقرّت فيها الثقافة الإسلامية وغدت هوية المجتمع رغم كل التنوعات العرقية واللغوية والجغرافية والسياسية.

      ولا بد من معرفة تاريخ الآخر من منظور قويم.

الفصل الثالث: الاستعمار والتحديث العربي

تمثّل الإقصاء في وجهه السياسي بظاهرة الاستعمار الأوربي في شقّيه الغربي والشرقي، وكان له نظير ثقافي كما بيّنا في الفصل السابق. لقد كان هذا هدفاً استراتيجياً للثقافة الغربية وللحكم الاستعماري المسيطر ألا يستمر الإسلام كمنافس حضاري بعد أن ظل منافساً مقتدراً على مدى تاريخه حتى بداية النهضة الأوربية الحديثة، ومثّلت الحملة الفرنسية على مصر أول مواجهة مباشرة في أرضٍ استقرّت فيها المنظومة الإسلامية وأثمرت. وعلى صعيد الواقع، كان التحديث مدخلاً عملياً للتراجع الحضاري، شاركت فيه جهود من داخل مجتمعاتنا المسلمة. ومن هنا ومع تطور (التحديث) إلى (تغريب)، اتضح وجود تيارين مختلفين في النظر إلى مسألة النهضة، وهذا ما سنناقشه بالتفصيل.

1- سؤال النهضة والتحديث بين فريقين

هناك اتفاق على أن الحملة الاستعمارية الفرنسية على مصر بقيادة نابليون عام 1798 م كانت تمثل تحدياً لعالم الإسلام. ليس تحدياً سياسياً وحسب بل تحدياً ثقافياً أيضاً يتمثل التعامل مع ما أنجزته أوربة الحديثة من ثورة علمية وصناعية وإدارية مرافقة لها. وظهرت عندها إشكالية مسألة النهضة التي بها يبدأ التاريخ العربي الحديث.

وحينما جاء الغزو الذي مثّل الصدمة الأولى كانت المرجعية العربية الإسلامية التراثية هي السائدة والتي يمكن الرمز لها بالأزهر. وفي نهضة محمد علي وبداية ما اصطلح عليه بـ(التحديث) ولدت نواة مرجعية أخرى لم تتضح معالمها بعد، لأن محمد علي كان همه الأول استيراد الأشياء لا الأفكار، وتثبيت سلطة مستبدة لا نشر المعرفة وتعميق الرؤية. وكل ما أحدثه من أثر ثقافي أنه أسس (لازدواجية التعليم) حيث ولد مصطلح (المدرسة) مقابل (الكتّاب) كدلالة على ذلك، وانتهى (التحديث) إلى (تغريب) ولا سيما على يد أولاده.

وإذا كان لابدّ من الحديث عن وجود نخبة تمثّل كل تيار منهما فإنه يمكن القول إن ما يمثل النخبة التراثية الإسلامية هم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا في مقابل النخبة الحديثة التي يمثلها أحمد لطفي السيد وطه حسين وعلي عبد الرازق([6]) مع مراعاة أسماء كثيرة تلتف حول النخبتين. وهكذا أمكن القول إن النخبة الأولى تعتبر استمراراً تاريخياً للاتجاه التراثي أو قل للثقافة العربية الإسلامية التراثية في حين أن النخبة الثانية تمثل الثقافة الأوربية الحديثة.

لم يتضح تمايز النخبتين إلا عندما أُنشِئت الجامعة المصرية لتمثل الثقافة الأوربية الحديثة في تكوين نخب تنتمي إليها مقابل الأزهر ذي النخب التقليدية. وكان من المفترض أن تقوم نخبة الثقافة الغربية بحركة ترجمة علمية لتراث الغرب الحديث الذي تدعونا إليه تجعله قابلاً للمعرفة والفهم بـلغتنا العربية أشبه ما يكون بحركة الترجمة العباسية، وذلك لكي يمكن قيام تثاقف حقيقي بين الثقافتين على أساس معرفي. وكان من المفترض بالمقابل من النخبة العربية الإسلامية التراثية القيام بحركة تحقيق تاريخي علمي نقدي لمصادر تراثنا لكي نكون أمام معرفة حقيقية أيضاً لهذا التراث وذلك تمهيداً لما أسميناه التثاقف بين الثقافتين على أساس معرفي.

لكن الذي حصل هو أن النخبة الأولى بدل أن تبدأ بهذه المهمة في وضع أصول الفكر الأوربي الحديث بلغتنا العربية أمامنا، تحولّت إلى تبني الرؤية الاستشراقية الغربية لتراث الإسلام فاستحقت أن تسمى (النخبة الاستشراقية). ونتيجة لهذا الموقف فقد أصبحت القضايا التي تمثل النقد الاستشراقي لتراثنا الثقافي والاجتماعي من جميع وجوهه هي قضايا هذه النخبة.

كذلك تحولت مهمة النخبة التراثية الإسلامية من تحقيق التراث وتكوين جهاز ثقافي علمي يقوم بهذه المهمة الصعبة والتي تحتاج إلى رؤية منهجية واستمرار يراكم إنتاجها ليدخل في سياق وحدة واستمرارية تاريخنا الثقافي. ولكن بدلاً من ذلك تحولت إلى سجال دفاعي مع ما تطرحه النخبة الأولى، فدخلت في لعبة الإلهاء عن مسألة النهضة.

وهكذا تحولت مسألة النهضة إلى سجال إيديولوجي بين هاتين النخبتين، الاستشراقية والتراثية. وبدلاً من أن يتمّ توطين العلم وتوطين الصناعة لدى النخبة السياسية الأولى التي تمثل التيار الأول تمّ (توطين الاستشراق) بدل (العلم) و(الفنون والآداب الأوربية) بدل (البحث العلمي والصناعة).  وبذلك نتج عملياً عن هذا التيار انصراف عن النهضة الحقيقية وقضاياها الأساسية إلى الإلهاء الذي أكل قرنين من حياتنا دون جدوى. فما زالت أسئلة النهضة حتى اليوم كما هي وما زال كلا الفريقين يتحدث عما يسميه ويدعيه من مشروع للنهضة التي تأتي ولا تأتي.

وبذلك أصبحت النخبة الاستشراقية ضرورة استشراقية للاختراق الثقافي للثقافة الإسلامية وأصبحت نخبها السياسية ضرورة استعمارية للإشراف على هذا التحوّل في بداياته. واختزلت هذه النخبة ما يسمى (الحداثة الغربية) بـ(العلمانية العربية) سياسية كانت أو مذهبية شاملة في طور ما أسمته (الليبرالية العربية) و(الاشتراكية العربية). وسنشير في دراسة خاصة إلى هذا التحول عن النهضة لدى كلا الطرفين فيما نطلق عليه (ما بعد الفكر العربي الحديث) إذ لم يبق لنا لكي تستعاد النهضة التي أضاعتها النخبة الاستشراقية واستعادة فلسطين التي أضاعتها نخبها السياسية إلا أن نعلن أن هذا الفكر قد انتهى وأصبح جديراً بالدفن.

أما التيار التراثي فبعد الدخول في سجال عبثي مع النخبة الاستشراقية([7]) قد أسهم هو أيضاً في التحوّل عن المهمة الأساسية إلى الاهتمام بما أسموه (السياسة) دون أن يكون لديه لا النظرية السياسية التي استخلص أصولها من التراث مباشرة ولا التجربة السياسية العميقة التي قام بتنظيرها كدليل إرشاد للعمل السياسي، خاصة وأنه ليس في فكرنا السياسي التراثي لا الفقه الدستوري بمفهومه الحديث ولا الفقه الإداري المناسب لمؤسسات الدولة في الحقبة المعاصرة، وذلك لأن الدول في الأزمنة السابقة وعند جميع الأقوام كانت لها طبيعة مختلفة عن الدولة الحديثة.  الدول القديمة لم تنفصل عن المجتمع ولم تحوّل العملية السياسية إلى بيروقراطية مبتورة عن الأخلاق ومنعزلة عن المجتمع.  فالمفارقة البارزة هي أن دولنا التاريخية لم تحتج إلى دستور لأن العقد الاجتماعي كان مختلفاً، والحقوق والواجبات كان لها استنادات مختلفة، في حين أن الدول الحديثة –التي هي شمولية بطبيعتها سواء أكانت ديمقراطية أم لا– تحتاج إلى الدستور والمؤسسات من أجل كبح جماح الدولة.

وبما أن العَلمانية العربية وليدة السلطة السياسية وحليفتها الدائمة التي تحميها فقد تضخّم البُعد السياسي في الإديولوجيات الشائعة ودفع الحركات الإسلامية إلى صراع مع السلطة القائمة بناءً على أن التغيير يبدأ من هنا، ولأنه من ناحية عملية بحتة كانت النظم الحاكمة مطية للاستعمار وأداة للتغريب. وبسبب فقدان أو عدم نضوج النظرية السياسية الإسلامية يومذاك جرت الاستعانة بالفكر السياسي الغربي تحت ضغط ما رأوه ضرورة عملية، كما قامت محاولات إجراء تأصيلٍ فقهيٍ للمفاهيم السياسية الغربية تمهيداً لتقبّلها تحت اسم الديموقراطية.

كل هذا تمّ والنخب الاستشراقية المتمثلة بالعلمانية بمعزل تام عن القوى الشعبية للمجتمع التي كانت ممثلة بالنخبة الإسلامية التراثية، وعليه أصبحت للنخبة الاستشراقية الصفات التالية:

  1. أنها نخبة السلطة لا نخبة الشعب
  2. نخبة الدولة لا نخبة المجتمع
  3. نخبة الأقلية لا نخبة الأكثرية
  4. نخبة فوقية قسرية لا نخبة شعبية حرة، نخبة إعلام لا نخبة علم. بل نخبة عسكرية لا مدنية

وهنا لابدّ من إيضاح:

يمكن اختصار كل ما يتصل بالأخذ بالعلم الأوروبي الحديث والصناعة الأوروبية الحديثة والإدارة الحديثة بوضعها تحت مصطلح (التحديث)، أما الرؤية الثقافية التي تكمن وراء ذلك والتي تشكل أطروحة النهضة فيمكن أن نضعها تحت مفهوم (التجديد) لدى النخبة الإسلامية ومفهوم (الحداثة) أو التغريب لدى النخبة الاستشراقية. ولا نعني هنا أن (التحديث) بالمعنى أعلاه أمر حيادي بشكل كامل، إذ إنه يستبطن ضرورة قيم ومسلّمات، ومن هنا جاء استنزاف البيئة مثلاً أو الإجحاف الهائل في توزيع الثروة. كل الذي نعنيه أن العلم بمفهومه الأول هو موضع استفادة إذ إنه قابل للتطويع والتوطين إذا توفر الوعي للفروق في الأهداف التي وُضعت للتحديث. وإلا كانت النتيجة ما نشاهده في البلاد المسلمة الغنية التي قادها (التحديث) إلى أن كادت أن تصبح الحياة الاجتماعية فيها فارغة من المعاني الإسلامية.

وعليه يمكن اعتبار تجربة النهضة في عصر محمد علي بأنها انصرفت إلى الجانب الأول دون الثاني فلم تكن لديها أية رؤية وراء التحديث. وظلت هذه الرؤية غائبة لدى أولاده حيث تآكل التحديث وحل محله التغريب حتى نهاية حكم الخديوي اسماعيل عام 1879م أي قبل الاحتلال البريطاني لمصر بثلاث سنوات. وبمجيء الاحتلال البريطاني بدأ التمايز بين نخبتين: النخبة الاستشراقية والنخبة التراثية الإسلامية في ظل انتقال مصر إلى الوصاية الغربية. وجاء الاحتلال البريطاني وأمامه هدفان أساسيان استخلصهما من تجربة محمد علي وهما:

      ألا تقوم في مصر نهضة حقيقية تستند إلى (العلم والصناعة والإدارة) تجعل من مصر قوة حقيقية في المجال الجيوبوليتيكي للمنطقة.

      الحيلولة دون قيام وحدة بين مصر وبلاد الشام تكون نواة لوحدة عربية، بما في ذلك تهيئة بلاد الشام ــ خاصة فلسطين لتكون موطناً لكيان غربي استعماري استيطاني يحول دون هذا التواصل، ولكي لا يتكرر السيناريو الأيوبي.

2- مفهوم الغرب والشرق

ولد مفهوم الغرب في الصراع مع عالم الإسلام من خلال الحروب الصليبية، إذ لم يكن لهذا المصطلح وجود قبل ذلك لأنه لم يكن هناك غرب مسيحي موحد، فالشعور بوحدة أوربة المسيحية إنما تمّ لأول مرة من خلال الحروب الصليبية. لذلك فإن تثبيت مفهوم الغربِ المتفوّق بطبيعته يحتاج بالضرورة إلى تثبيت المفهوم الذي أطلقوا عليه اسم (الشرق) المتخلّف بطبيعته.  وموطن الأنا الغربية هو أوربة بمفهوم قومي عنصري، يقابله موطن الأنا الإسلامية -العربية الذي هو بلاد الشام وجزيرة العرب وشمال إفريقية، ولكي نظل (هنا) لابدّ لها من التحكُّم بـ(هناك)، وهذا أساس (الجيوبوليتيك) الأوربي تجاه ما أسموه الشرق الأدنى والشرق الأوسط.

أما حينما نستخدم نحن مصطلح الغرب فإننا نعني به الحضارة الغربية، ولذلك شقٌّ فكري وآخر جيوسياسي.  ولا يقصد به الانتماء القومي أو العرقي ولا مجرّد الجهة الجغرافية.  فما هي مكونات هذه الحضارة؟

دعنا نسوق نصاً لــ”هامرتون” الذي يؤكد أنّ الحضارة الأوروبية في جوهرها نتائج ثلاث مؤثرات مكونة: أولها نظام الرومان وثانيها عبقرية اليونان الفنية والفكرية وثالثها الأفكار والمثل العليا التي جاءت بها قرائح اليهود في هذه الفترة، والتي خلّدت إما مباشرة نتيجة بقاء العنصر اليهودي وإما عن طريق التطور الخاص التي اجتازته هذه الأفكار والمثل في الكنيسة المسيحية([8]). ويتابع هامرتون متسائلاً: كيف بقيت هذه الحضارة واستمرت، فلقد شهد هذا القرن -السادس قبل الميلاد- في الشرق الأدنى السيادة تنتقل نهائياً من أيدي الإمبراطوريات المصرية السامية العريقة إلى أيدي الشعوب الآرية من فرس وإغريق ورومان، وفلسطين تصبح أثناء ذلك هي وحدها محور الاهتمام([9])، وبينما بادت ثقافة بابل وأصاب حضارة مصر تحوير شديد أصبح الاحتفاظ في فلسطين وحدها هو الإمكان الحقيقي لمعنى العالميين (القديم والجديد) وذلك بفضل بقاء الشعب اليهودي واحتفاظه بكيانه([10]).

ولنا أن نلاحظ في النصين السابقين أموراً ثلاثة تلفت النظر وهي:

      أن المسيحية جرى إغفالها.

      استعمال مصطلح السامية والآرية وهما مصطلحان حديثان تم إسقاطهما على الماضي الأوروبي.

      أن استمرار الحضارة الأوروبية مدينٌ للشعب اليهودي في فلسطين وحدها.

ومن ناحية الذاكرة التاريخية الممتزجة مع الواقع الجيوسياسي، يرى الطرح الاستشراقي أن انتصارات الغرب على الشرق تمثّلت في انتصارات اليونان على الفرس، وكان أبرزها معركة ماراتون ضد قورش، وسلاميس 480 قبل الميلاد ضد دارا الأول، فمعركتا ماراتون وسلاميس تعدّان من معارك العالم الحاسمة، ذلك أن مستقبل المدنية الغربية بأسره كان في خطر ولولاهما لمدّت آسية سلطانها إلى المحيط الأطلسي.  ويلاحظ هنا وضع آسية مقابل أوربة.

وضمن وجهة النظر هذه، هناك انتصارات أخرى للغرب على الشرق، وهي انتصارات الاسكندر على الفرس وإسقاط إمبراطورتيهم، حيث غزا الاسكندر  أرض فارس وانتصر على دارا الثالث في معركة أفسوس (332 ق.م) في آسية الوسطى، ثم معركة جواجاميلا أو آربيلا في نينوى، ثم احتل اصطخر عاصمة قورش مؤسس الامبراطورية الفارسية (331 إلى 330 ق.م).

هذه الانتصارات للاسكندر نُظر إليها على أنها انتصارات الغرب على الشرق في المخيلة الأوربية. ولكي ندرك مكانة هذا الشرق في المخيلة الأوربية نسوق النص التالي لنابليون والذي عبّر عنه خير تعبير، فقد كان مأخوذاً بما ناله الاسكندر من مجد حتى غزا مصر 1798 م حيث قال مخاطباً بورين (Bourienne): إن أوربة ــ هذه الرقعة الصغيرة من الأرض لميدان تافه جدّ التفاهة، أما المجد الباذخ فميدانه الشرق، والشرق وحده.

وهذا ما تختزنه الذاكرة التاريخية الثقافية والسياسية للأوربي خاصة والغربي عامة وخاصة فيما يتصل بمنطقتنا العربية بما في ذلك مكانة اليهود في الثقافة الغربية وصلتهم بفلسطين، وماذا تعني القدس خاصة، ومن وراء القدس وفلسطين بلاد الشام بأسرها كمركز أساس للعالم الإسلامي بأسره خاصة في عصرنا الحالي وذلك لخطورة موقعها في المعادلات الجيوبوليتيكية التي تعبر عن خطورة موقعها من ناحيتين:

      الأولى: علاقتها بمصر حيث تجب الحيلولة دون توحدها مع بلاد الشام لأن في ذلك كسراً للمعادلة الجيوبولوتيكية الغربية

      الثانية: دور إسرائيل فيما يتصل بمستقبلها الخاص ودورها الأساس كمركز جيواستراتيجي للغرب بأسره بحيث ندرك معنى حروب الفرنجة التي تمثل الغزو الصليبي الأول، ومعنى الاستعمار الحديث الذي ما نزال نعيش آثاره، والأهم من ذلك أيضاً معنى وجود إسرائيل.

ومن هنا جاء التشنيع بالمماليك لثلاثة أسباب:

  1. لأنهم قاوموا غزو نابليون مع الشعب المصري الذي أسر أجداده. ملك فرنسا لويس التاسع في الحملة الصليبية في دار بن لقمان.
  2. ولأن المماليك هم من طهّروا الساحل الشامي كله من الصليبيين الذين مكثوا فيه ما يقرب من 200 سنة.
  3. ولأن نابليون في رسائله للشعب المصري يزعم أنه جاء ليُخلّص المصريين منهم.

بالإضافة إلى أن عصر المماليك كان عصر ازدهار في مصر خاصة في الفن المعماري . ولكن علينا التذكير بأن حكم المماليك في أوله كان حكماً عسكرياً بشعاً وقف في وجهه العلماء، ومثل في تاريخنا أول ديكتاتورية قريبة من المعاني التي تخطر في بال الناس اليوم.  أما كيف استوعبت الأمة هذا وحوّلت المسار فيحتاج بحثاً منفصلاً.

وكان مفهوم الشرق عند اليونان يعني كل ما وراء أوروبا شرقاً، أي آسية حيث الفرس هناك وحيث نحن اليونانيون هنا، وجرى الصراع بينهما ضمن هذه المعادلة. ومع مجيء الاسكندر وإسقاط الامبراطورية الفارسية وتجاوزه لحدودها أصبح مفهوم الشرق يشمل كل الأرض التي سيطر عليها شرقاً باستثناء الصين واليابان والهند. واعتبر ذلك انتصار الغرب على الشرق.

وحينما جاء الإسلام وشملت فتوحاته كل ما سيطر عليه الاسكندر وزاد عليه كثيراً، أصبح مفهوم الشرق يعني عالم الإسلام مقابل الغرب الذي يعني العالم المسيحي، كما شمل المصطلح شمال القارة الإفريقية وجزءاً من القارة الأوروبية، وتغيّر مفهوم الشرق من كونه منحصراً في القارة الآسيوية إلى كونه أدخل القارة الإفريقية وجزءاً من القارة الأوروبية تحت هذا المفهوم؛ أي تحت مفهوم عالم الإسلام. أي أن مفهوم الشرق تحوّل من مفهوم جغرافي إلى مفهوم حضاري.

ونذكر هنا تفصيلاً لتلك الحوادث التاريخية لتتأكد الدلالة. شكّلت المساحات التي سيطر عليها الاسكندر المقدوني صورة الشرق في مخيلة الأوربيين قبل مجيء الإسلام، وهو “الشرق القديم” (الذي ضمّ مصر وبلاد فارس وما وراء بلاد فارس إلى الهند والصين، وهو أقصى ما وصل إليه امتداد سيطرة الإسكندر). وبدأت تتشكل هذه الصورة بصراع اليونان مع الفرس الذين كانوا هم العدو الأكبر لليونانيين، وانتهى الصراع بينهما في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد لصالح اليونان بعد معركتي ماراتون وسلامس 480 ق.م. وأسس قسطنطين الأكبر مدينته القسطنطينية عام 324 على بحر مرمرة، ثم أصدر مرسوماً امبراطورياً بهذه المناسبة أسماها (روما الجديدة) مقابل (روما القديمة) على نهر تايبر في ايطاليا ــ والتي كانت عاصمة الامبراطورية الرومانية. وحينما أسقط الغربيون مصطلح الغرب على التاريخ الروماني واليوناني كان لابدّ من تمييز هذا المصطلح بإضافة صفة (الحديث) له.

بعد هذا التاريخ أي 324 أصبح للامبراطورية الرومانية جناحان: الجناح الشرقي باسم (الامبراطورية الرومانية الشرقية) أو البيزنطية وعاصمتها (القسطنطينية) أو روما الجديدة أو روما الثانية، أما الجناح الغربي فهو (الامبراطورية الرومانية الغربية) وعاصمتها (روما القديمة) على نهر التيبر في إيطالية والتي كانت حتى هذا التاريخ العاصمة الوحيدة للامبراطورية الرومانية قبل الانقسام. امتدت الامبراطورية البيزنطية من عام 324 حتى عام 1453 عندما فتح العثمانيون عاصمتها القسطنطينية. وانتهت الامبراطورية الغربية بعد حوالي قرن ونصف من تأسيس الشقّ البيزنطي وذلك حين سقطت روما القديمة عام 476م على يد الجرمان. وبهذا التاريخ انتهت الامبراطورية الرومانية الغربية حيث أصدر الإمبراطور قسطنطين “مرسوم ميلان” الذي أصبحت بموجبه الكنيسة الكاثوليكية وريثة الامبراطورية الرومانية المنتهية. وكنتيجة لهذا المرسوم، وحيث إن السلطة الدينية كانت متجذّرة في المجتمع، نشأت البابوية لتقوم بتوحيد السلطتين الروحية والسياسية تحتها. هذا في مقابل الكنيسة الأرثوذكسية برئاسة بطرك الاسكندرية حيث حلّ بطرك الاسكندرية فيها محل بابا الكاثوليكية. 

وبسقوط القسطنطينية عام 1453 م/857 هـ أي سقوط الامبراطورية البيزنطية انتقلت وراثة بيزنطة إلى موسكو التي أصبحت روما الثالثة. وبذلك غدت روسيا وريثة بيزنطة وحامية الأرثوذكسية بالعالم. واللافت للنظر أنه عرّف المسلمون البيزنطيين باسم الروم، وعرّف البيزنطيون أنفسهم باسم الرومان وإمبراطورهم هو الإمبراطور الروماني، أي أنهم اعتبروا أنفسهم امتداداً لإمبراطورية روما القديمة وعاصمتها روما الأولى القديمة كما ذكر.

ونذكّر أنفسنا بأول حدث صادمٍ في تاريخ بيزنطة الذي شكّل مفصلاً تاريخياً فريداً، ألا وهو ظهور الإسلام عام 632م. وتلا ذلك انتصار المسلمين في معركة اليرموك 636 م بعد فتح دمشق عام 634 م وتسليم القدس عام 637م. وكان الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه قد أرسل إلى هرقل من قبل 627م كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام. أي أن ظهور الإسلام وضع خطاً فاصلاً بين مفهوم الشرق القديم الذي تناولنا الحديث عنه وما يمكن أن نسميه (بالشرق الجديد) وهو عالم الإسلام.

ولا بدّ هنا من التذكير بالتالي:

      لم يكن للعرب قبل الإسلام صدام لا مع اليونانيين ولا المكدونيين ولا البيزنطيين ولا مع الفرس باستثناء وقعة ذي قار التي لم تكن غير حدث رمزي. أما مع البيزنطيين الذين أسماهم العرب بمصطلح (عرب الروم) (أو متنصرة العرب) فقد كان نصارى العرب الغساسنة موالين للروم بحكم مذهبهم وكانوا بمثابة حاجز بين الروم وعرب الجزيرة. كذلك الأمر مع المناذرة فهم أيضاً حاجز بين العرب وفارس.

      شملت الفتوحات الإسلامية جميع سواحل المتوسط بما في ذلك بعض المراكز في ساحله الشمالي الأوربي وبذلك فقدت بيزنطة حوض المتوسط باعتباره كما يسمونه (بحرنا) ليصبح بحراً للمسلمين، خاصة بعد معركة ذات الصواري مع العلم أن البحر المتوسط كان أساس وحدة الامبراطورية الرومانية.

      لم تكن الفتوحات احتلالاً عسكرياً بل تحوّلاً اجتماعياً لسكان أراضي الفتوح بحيث أصبحت شعوب هذه البلدان مسلمة، وإن ممن أسلموا لم يسهموا في الفتوحات فحسب بل منهم من قاد هذه الفتوح كما حصل في الأندلس، ونتيجة لهذا التحول تمّ كل ما نسميه اليوم في القارة الإفريقية بالوطن العربي.

      شملت الفتوحات الإسلامية جميع فتوحات الشرق القديم التي بلغت أوجها مع الاسكندر وزادت عليها بلاد الهند وبلاد التتار والترك وقسماً من الصين. بحيث يمكن القول إن آسية في معظمها أصبحت إسلامية خالصة. كذلك قسم كبير من أفريقيا شمالاً وغرباً ووسطاً، أما شمالاً وغرباً فقد شملت جميع البلاد التي كانت تحت سيطرة بيزنطة، أي حوض المتوسط كله بما في ذلك مواقع ذات أهمية في الساحل الشمالي. وهكذا لم يعد الرومان البيزنطيون قادرين على الادعاء بأنه بحرهم بعد أن أصبح بحر العرب.

إن هذا يعني جغرافياً أن الإسلام ورث كل مناطق الشرق القديم وزاد عليها، ويمكن أن نلخّص الإنجاز بثلاثة أبعاد:

  1. أحدثت الفتوحات انقلاباً استراتيجياً هاماً ورسمت خريطة جديدة محورها بلاد الشام ومركزها القدس.
  2. شكلت الفتوحات تحدياً جيوسياسياً لأوربة بأكملها بما في ذلك الامتداد الآسيوي للفتوحات، بحيث يمكن اعتبار ما اصطلح عليه فيما بعد بالمسألة الشرقية والتي لم يكن اقتران هذا المصطلح بالدولة العثمانية إلا امتداداً لهذه المسألة الإسلامية كآخر مرحلة من مراحلها، إذ جاء بعدها الاستعمار والهيمنة السياسية الغربية.
  3. مثّل الإسلام كدين والثقافة العربية بعد التهذيب الإسلامي ثقافة مرتبطة به وأصبحت سائدة.

وكان أول رد فعل على التحدي الأول هو الحروب الصليبية التي جعلت من أوروبا وحدة ومن مجتمعها غرباً، إذ لم يكن لأوربة قبل ذلك من وحدة، ولم يكن هناك مفهوم للغرب كواقع سياسي وثقافي، فالغرب ولد مع الحروب الصليبية (كما أسموها هم، ونحن سميناها حروب الفرنجة)، أي أن الأوربية المسيحية هي التي وحّدت أوربة. وصحيح أن مختلف فئات المجتمع الأوربي شاركت في هذه الحروب من أجل مصالح خاصة، إلا أن الذي شكّل الدافع الروحي والتأطير الإيديولوجي كانت هي البابويّة وريثة الامبراطورية الرومانية الغربية. ولم تستفد بيزنطة من الحملات الصليبية في مواجهة الإسلام بل تضررت منها إذ لم تكن الحركة الصليبية تهدف استعادة نفوذ بيزنطة بل بناء نفوذٍ منافس لها.

ومع الحروب الصليبية بدءاً بسقوط طليطلة عام 1085م/478 ه وسقوط القدس عام 1099م/492 هـ بدأت ما سمي حروب (الاسترداد) في الغرب بقيادة الكاثوليكية في الأندلس، وفي الشرق بقيادة روسيا الأرثوذكسية. ولم يكن الاستعمار بعد هذا التاريخ وبأوجهه القومية والاقتصادية وعَلْمنته للدين، إلا (حملة صليبية) حديثة بلغت أوجها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بعد اكتشاف أمريكا والثورة العلمية الصناعية في أوروبا. وليس الاستعمار الحديث إلا استمراراً لمحاولات الاسترداد.

3- فكرة المتوسطية والفرانكفونية

تقوم فكرة المتوسطية على أربعة العناصر التالية: (1) أنّ بين شعوب البحر الأبيض المتوسط سِمات مشتركة منذ القديم؛ (2) وأن بين شعوبه تبادل وتفاعل ثقافي بدءاً مع الفراعنة واليونان القديم وحضارة كريت وحضارة فينيقية وأكادية؛ (3) وأن هناك وحدة سياسية قد تمّت بين هذه الشعوب في ظل الامبراطورية الرومانية التي كانت قائمة على وحدة البحر المتوسط؛ (4) وأن الفكر المتوسطي الآن هي دعوة لإحياء هذه العلاقات الثقافية منها خاصة تمهيداً لوحدة اقتصادية وربما يوماً ما سياسية.

أ) المضمون الجيوسياسي للفرانكفونية

الداعي الأول والمتحمس الأول لفكرة المتوسطية اليوم هو فرنسا اعتقاداً منها بأن الوحدة المتوسطية هي دعم لاستقلالية أوربة عن أمريكة، وبالتالي يمكن أن يقف مشروعها مقابل مشروع الشرق أوسطية الأمريكي.  وفي نظر فرنسا أن في ذلك إحياء على نحو ما لمجد الامبراطورية الرومانية القديمة. إضافة إلى ذلك، ترى فرنسا أن الأولوية القصوى هي للثقافة، وأن الثقافة الفرنسية هي التي يمكن أن تجمع بين هذه الشعوب بدءاً من المغرب إلى الجزائر إلى تونس إلى ليبية إلى مصر وإلى لبنان وسورية، معتقدة أن الاستعمار الفرنسي الذي نشر هذه الثقافة في شمال أفريقية والساحل الشرقي للمتوسط يشكّل خليفة مشجّعة لمثل هذه الدعوة وأن هذه حقيقة واقعة.

من أجل ذلك استحدثت فرنسا مصطلحاً تريد أن تجمع به هذه الأقطار هو (الفرنكفونية)، وأنشأت لها اتحاداً دولياً ومؤسسات ثقافية ومازالت تسعى بكل جهدها لنشر اللغة الفرنسية وتثبيتها ثقافياً خاصة في الأقطار العربية، ومن ذلك تشجيع جامعة سنجور في الاسكندرية وإحياء مكتبة الإسكندرية، إضافة إلى إحياء الآثار الرومانية واليونانية في جميع هذه الأقطار.

وإن أهم ما يجب أن نهتم به هو كتاب فرنان بروديل: (المتوسط والعالم المتوسطي) فهو كنز في المعلومات التفصيلية التي يمكن توظيفها للدعوة للمتوسطية، وقد تمّ تعريبه بإيجاز من قبل مروان أبي سمرا، بيروت دار المنتخب 1993م. إن هذا الكتاب البحثي في أصله يمكن أن يستخدم للتأسيس لفكرةٍ جيوستراتيجية استعمارية، أي لما هو جيوسياسي وجيواقتصادي والأهم جيوثقافي. إن الهدف الاستراتيجي البعيد للمشروع المتوسطي هو تنحية الثقافة العربية عن شعوب المتوسط العربية تمشّياً مع الفلسفة السياسية للغرب تجاه الإسلام، لأن الثقافة العربية الإسلامية هي التي تقف حائلاً من حيث الدين واللغة والتاريخ في وجه الثقافة الغربية.

فالمستهدف أولاً وأخيراً هو الهوية العربية الإسلامية للشعوب المتوسطية العربية (الوطن العربي)، والجهود هي نحو إلغاء انتماء هذه الشعوب إليها واستبدالها بهويات جديدة تعود لحضارات ما قبل الإسلام، ومن هنا الدعوة للمصرية الفرعونية واللبنانية الفينيقية ومعها سورية، والآشورية العراقية والأمازيغية.

ومن المعروف لدى المؤرخين الغربيين، أنه لا امبراطورية الاسكندرية ولا الامبراطورية البيزنطية (الامبراطورية الرومانية الشرقية) ولا الخلافة الأموية ولا الخلافة العباسية ولا الخلافة العثمانية استطاعت توحيد حوض البحر الأبيض المتوسط بأكمله. الامبراطورية الرومانية كانت هي الوحيدة التي نجحت في ذلك، ومن هنا يُتخذ حوض البحر الأبيض المتوسط اليوم الأساس الجغرافي الاستراتيجي لوحدة الامبراطورية وبالتالي وحدة أوربة. نعم لقد أصبح المتوسط إثر الفتوحات الإسلامية في بلاد الشام وشمال أفريقية والأندلس وجزر كثيرة في الساحل الشمالي ومواقع مختلفة في القارة الأوربية نفسها (بحراً عربياً) من ناحية جيوستراتيجية و(بحراً إسلامياً) من ناحية ثقافية، لكن ذلك لم يكن كاملاً. والسبب في ذلك كان في التحوّل من الخلافة الأموية إلى العبّاسية، حيث ضعف الاهتمام بمواجهة قوى البحر الأوربي وتحوّل إلى مواجهة قوى البرّ الآسيوي.

ومازال هدف عودة الموضع الاستراتيجي لروما والنظر نحو البحر المتوسط بأنه (بحرنا mere nostrum)) هدفاً استراتيجياً أساسياً لأوربة. وما الاتحاد الأوربي إلا في أحد تجلياته الجيوسياسية إلا محاولةً لتوحيد القارة شمالاً، وسيكون طبيعياً بعد ذلك السيطرة على الجنوب العربي المسلم، ومن هنا جاء مصطلح الشمال والجنوب. ولا شك أن مصطلح (الجنوب) مقابل (الشمال) أكثر إفصاحاً وتحديداً من مصطلح (الغرب) أو (الشرق الأوسط) في منظور الاستراتيجية ذات البعد العسكري، فالجنوب هنا لا يشمل المشرق العربي ومغربه وحسب بل كل أفريقية جنوب الصحراء أيضاً حتى ما بعد دول الساحل، مما يُمكّن أوربة الغربية غرباً مقابل كل ما هو شمال الحزام التركي التتري (جنوب روسية) إلى أوربة شرقاً في مواجهة كل عالم الإسلام.

المقصود إذاً من (الحلف المتوسطي) أو (وحدة حوض دول المتوسط) الهيمنة على الدول العربية شمال أفريقية كلها من المغرب العربي حتى مصر ثم سورية ولبنان وفلسطين من أجل تحقيق وحدة البحر المتوسط الرومانية.  والواقع القائم الآن أن الحوض الغربي قد عاد إلى أوربة –إلى روما– منذ سقوط الأندلس والحوض الشرقي عاد أيضاً لأوربة لمدة مائتي سنة ثم أرجعه المسلمون لسيادتهم وانتهت بذلك محاولات الصليبيات الأولى. ثم جاءت الصليبيات الحديثة بالاستعمار، فجعل الحوض الشرقي بعد سايكس بيكو ووعد بلفور جزئين (لبنان الكبيرة والكيان الصهيوني)، ولم يبق إلا الجزء الشمالي منه في سورية منه حيث يدور الصراع عليه الآن مع روسية.

أما الساحل الجنوبي حيث دول المغرب العربي ومصر فقد فشلت عودة أوربة إليه عبر فرنسا إلى الجزائر بعد 130 عاماً من المحاولات. كما فشلت العودة إلى تونس أيضاً، وانتهت عودة أوربة عبر إيطالية إلى ليبيا (برقة وطرابلس). وعاد نابليون من مصر بعد ثلاث سنوات فقط من غزوه لها، كما حاول احتلال فلسطين من قبل، لكن عكا هزمته. وجاءت بريطانية لاحتلالها 1882م لإجهاض تجربة محمد علي في النهضة، والأهم هو هدف عزل مصر عن بلاد الشام بموجب معاهدة 1840م والإعداد لمشروع إقامة دولة اليهود والصهاينة. وجَلَتْ بريطانية عن مصر عام 1954م. وسبق أن وجّهنا نقدنا لتجربة محمد عليّ من أنها كانت نزعة تحديث مستعجلة، وأتت على الشكل العسكري الاستبدادي.  فتجربة محمد علي هي نوع من التماهي مع التجربة الأوربية والتقليد الببغاوي لها، وكان فيها منافسة للسلطة العثمانية.  وبرغم أن ذلك مما ترحّب به أوربة ولكنها من ناحية أخرى شكلت تجربة محمد علي في مرحلتها الأولى تهديداً في احتمال ظهور دولة قوية تربك الحسابات الاستعمارية، إلى أن تمّ تفريغها عبر الجهود الثقافية الاستشراقية.

والتركيز الأوربي على بلدان المغرب العربي الآن خاصة من فرنسا هو لاعتقاد أوربة أن دول المغرب العربي غير مستقرّة وبالتالي يمكن اختراقها. ولم تأتِ هذه الدعوة صدفةً وإنما تمّ التمهيد لها مسبقاً بالاستعمار الثقافي، وبما أن هذه الدول كان أكثرها مستعمراً من فرنسا، فإن فرنسا حين غادرتها تركت في مجتمعها أسساً ثقافية مهمة أبرزها اللغة الفرنسية. وكما هو معروف اللغة الفرنسية هي اللغة الغالبة لدى ما يسمّى النخبة المثقفة خاصة السياسية، وأيضاً لدى النخب في المغرب والجزائر وتونس، وإذ دعا إلى ذلك الرئيس الحبيب بورقيبة وأرسى سياساتها فعلاً، فلا عجب أن أقيم له تمثال في باريس، وتعود هذه الجهود اليوم في تونس بعد عودة نفوذ الثورة المضادة. ومما يراد به أن يكون التواصل الثقافي بين فرنسا والأقطار الأوربية أمراً واقعاً يفوق التواصل مع المشرق العربي، خاصة وأن هناك جاليات مغاربية كبيرة في فرنسا. وإضافة إلى ذلك، اقتصادات هذه الدول مرتبطة بدرجة ملحوظة بالاقتصاد الفرنسي.  ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنه كان هناك رغبة جادة في التعريب بعد استقلال الأقطار المغاربية، لكن حركة التعريب واجهت صعوبات تنفيذية إدارية.

ونعود لنؤكد أن فكرة (الفرنكوفونية) ما هي إلا محاولة لإنشاء ثقافة مشتركة بين الناطقين بالفرنسية خارج فرنسا. والفرنكوفونية ليست ثقافة فرنسية بل ثقافة لأبناء المستعمرات الفرنسية السابقة خاصة أو مناطق نفوذها الثقافي كدول المغرب العربي أو أفريقية أو لبنان، وضمت -وهو أمر مذهل- حتى مصر. ولا يفوتنا أن نذكر أن للدعوة الفرنكوفونية مؤسسات وجامعات ومعاهد متنوعة ومؤتمرات وأدباء لهم أعمال وألقاب إلخ… ومعاهدات دولية.

ب) خلط الأوراق بين العروبة المسلمة والقومية العربية

لقد أرست الفرنكوفونية عنصرين أساسيين للكراهية: كراهية العرب كشعب وكراهية العربية كلغة، وسعت لاستقطاب فئات ملّية ونفخت في مظالمها وتبنّت الدفاع عن (قضاياها المحقّة).

فمثلاً الأمازيغ في دول المغرب العربي يرفضون بشكل طبيعي الدعاوى القومية العربية التي تقمّصتها حكومات ديكتاتورية. فقامت فرنسا باستغلال هذا الرفض وتطويره إلى ما يذهب بتماسك المجتمع والدولة في آن معاً.  وكعادة فرنسا ومثلما رعت نخبةً تركيةً منقطعة عن المجتمع وكارهة للرباط الإسلامي العثماني، ومثلما رعت نخباً من أقليات المشرق العربي، فقد رعت نخباً من الأمازيغ.  ولا تخفى المفارقة هنا أنه من ناحية الانتماء القبلي القومي كان الأبطال الأمازيغ قادة الفتح الإسلامي في الأندلس وقادة المجاهدين ضد المستعمر الفرنسي.

وفي سياق استلال الغرب لنخبٍ أقلوية (وغير أقلوية) وتبنّي قضاياها، جرت الدعوة إلى لغات أمازيغية.  وكما هو معروف، هناك فروقات مهمة بين النسخ المتعددة للأمازيغية، وجرى الإصرار على كتابتها بأحرف غير عربية، فاحتاج الأمر إلى اختراع أبجدية ادُعي بأنها أمازيغية أصيلة، مع أن الكتابة بالأحرف العربية تسهم في التواصل الثقافي والتلاحم المجتمعي في الدولة الواحدة.  وجرى تشجيع كل ذلك في سياق انتقامي تغذّيه فرنسا وجامعاتها ووزاراتها وليس في سياق تعددي تفاهمي، وجرى استغلال الكره تجاه أنظمة الحكم العربي وتعميمه ليضم كره وازدراء للعرب عامة. ثم جرى تعميم هذا الكره حتى أصبح الإسلام نفسه هو المتّهم. وبرغم تدثّر هذه الجهود بالدعاوى الديمقراطية وحقوق الأقليات، إلا أن المفارقة تظهر في دعم الغرب للحكومات العربية الاستبدادية التي هي أصلاً مصدر التهميش وهي التي رفعت راية قومية متعصبة وهي مصدر الظلم. ولا يخفى أن الشعوب العربية برمّته مهمّشة ومظلومة، غير أن وقع الظلم على من له انتماء خاص هو وقع مختلف. وإن ملاحظة الوعاء الفكري لهذه الدعوات يوضح الأمر، حيث تتبنّى ما يوصف بالأقليات إيديولوجيات متعددة ومتنافرة من الليبرالية المفرطة في أقصى اليمين إلى الشيوعية الصلبة في أقصى الشِمال، وليس واحداً منها له موئل إسلامي مع أن الحضارة الإسلامية وإنجازاتها لا يمكن أن تنحصر في العرب، وفي هذه الحالة المغربية والسياق الأندلسي كان الأمازيع من أبرز دعائمها. وليس ثمة مبالغة في القول إن الدعوة إلى الأمازيغية هي محاولة انتقام من تاريخ الأمازيغ في نشر الإسلام أيام الفتوحات وفي جهودهم في فتح أوربة، وتصديهم للاستعمار الفرنسي في الجزائر خاصة.

والدعوة إلى الزنوجة مثال آخر، وخاصة تبنّي زنوجة سنجور الرقيقة والذي أنشأت له مصر في عهد مبارك جامعةً باسمه في الاسكندرية. ويجري من خلال ذلك محاولة إثارة حقد الإخوة الأفارقة ضد العرب والعروبة بتحويل المتّهم باستعمارهم وتجارة العبيد من الرجل الأبيض الأوربي إلى الشقيق العربي في محاولةٍ وقحةٍ لتزوير التاريخ. ولقد قتلت فرنسا مئات الألوف من الأفارقة المسلمين في جبهات قتالها ضد ألمانية في حربين عالميتين، وكافأتهم بمزيدٍ من الاحتقار والاستغلال. كذلك فعلت روسية بمسلمي شعوب آسية وحروبها المقابلة. 

ونحن هنا لسنا في معرض رفض التعدّدية، وكما هو مسلّم به بين المؤرخين، الحضارة الإسلامية هي التي حفظت هذا التعدّد فبقي إلى يومنا هذا.  كما لا ننكر أن حكومات البلدان العربية في الفترة القومية اعتدت على خصوصيات الأمازيغ وأمثالهم.  كل الذي نرفضه هو الاستغلال الاستعماري لدعاوى هذه المجموعات، وسكب مطالبها بشكل يتصادم مع المصالح الكبرى للبلد أو مصالح عامة السكان وبشكل يرسّخ التبعية لأوربة.  ولا بدّ هنا أيضاً من التنبيه إلى أن التمازج الأمازيغي العربي في التاريخ كان على أشده، وأن ادعاء الصفاء العرقي أمر لا تدعمه الحجج ويكذبه الواقع.

إن كلتا الدعوتين هي نتائج جهود الاستشراق الفرنسي والكنيسة الكاثوليكية تحت مظلة القوة الاستعمارية المباشرة.

ومن غرائب وعجائب بعض العرب المعاصرين وغياب وعيهم التاريخي بل والسياسي هو أن منهم من رحّب بهذه الدعوة إلى(المتوسطية) ومنهم من عارض أو عرقل أية جهود لوحدة دول المغرب العربي. فهل نسي هؤلاء أن الشمال الأفريقي كان مستعمراً من الرومان قبل الاستعمار الحديث، وكان الاستعمار الروماني من أبشع أنواع الاستعمار. ويكفي إطلاقهم مصطلح البرابرة على الأمازيغ دليلاً، والروماني لا يعتبر البربري إنساناً homo فهذا للروماني أما البربري فهو إما عبد أو رقيق (قِنّ) Vena). وقد نشر الرومان المسيحية شمال إفريقية بعد أن تبنّاها قسطنطين، ولا يمكن نغفل عن الحقيقة التاريخية من أن الإسلام هو الذي حرر الشمال الإفريقي من حكم الرومان، وما عودة الصليبيات الأولى إلى حوض المتوسط إلا عودة روما للإمبراطورية الأولى إليه وما العودة الثانية للصليبيات الحديثة تحت مسمى الاستعمار إلا محاولة ثانية لعودتها إلى حوض المتوسط.

أما ما يتصل بمصر فإن غزوها من قِبل فرنسا بقيادة نابليون عام 1798م مثّل المحاولة الرابعة للاستعمار الصليبي منذ عهد لويس الرابع عشر. وكان حلم نابليون السيطرة على الاسكندرية لكي يعود الصليبيون إلى الساحل الشامي، ومن ثم لتنطلق فتوحاته في مغامراته الآسيوية. غير أن عكا قضت على هذا الحلم، فعاد نابليون إلى فرنسا وانتهى الاحتلال الفرنسي عام 1801م.

وعندما نهضت مصر في عهد محمد عليّ بعد ذلك وأصبحت قوة سياسية حقيقية وسيطرت على بلاد الشام، خاف الغرب من ذلك، وخاصة بريطانية التي ساعدت على إخراج محمد علي من بلاد الشام. ونكتفي هنا بالإشارة السريعة لنهضة مصر في هذا العهد، وسوف نقيّمها بشكل نقدي فيما بعد، غير أنه قد لا يكون هناك خلاف في ، وما كان لتلك النهضة أن تحمل مشروعاً للأمة بسبب اختراقاتها الثقافية كما سنبيّن فيما بعد.

وبدأ عزل مصر عن العروبة والإسلام منذ التعامل مع محمد علي ومعاهدة 1840م، ومحاولته  في النهضة أقلقت بعض الجهات الأوربية فسارعت إلى اختراقها ثقافياً كما فصّلنا سابقاً، واستنتج الغرب من هذه التجربة نتيجتين:

      الأولى: الحيلولة بكل الوسائل دون وحدة استراتيجية بين مصر وبلاد الشام لأن ذلك سيعيد السناريو الأيوبي في وجه الصليبيات الأولى ويكون سبباً في إخراجها. والمخطط له إقامة كيان يحول دون ذلك بقطع التواصل المصري الشامي. وجاء الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م لا من أجل حماية قناة السويس الهدف السياسي المعلن، بل من أجل الهدف الاستراتيجي الأبعد وهو قطع لتواصل مصر بفلسطين خاصة مع علمهم أن أمن مصر يبدأ بفلسطين كما أكدت ذلك الصليبيات والمغوليات إضافة إلى تاريخ مصر القديم.

      الثانية: إضعاف مصر ما أمكن والحيلولة دون نهضتها التي يمكن أن تشكّل قوة معتبرة بحكم حجم البلد وموقعه المركزي ومركزه الثقافي، فتؤسس لوحدة عربية، ولا يمكن أن تقوم وحدٌة عربيةٌ إلا بمصر عزيزة ومع مصر، وهذا ما يُفسّر خطّة إضعاف الجيش المصري بدءاً من ثورة عرابي.

ج) تبنّي النخب لفكرة المتوسطية

فيما يتعلّق بالعوامل التي مهّدت لتقبل مصر فكرة (المتوسطية). ها نحن نجيب: ويمكن أن نسجّل أربع ملاحظات:

أولاً: كان نابليون في فترة احتلاله لمصر يبحث عن (وسيط) من ثقافة فرنسا وثقافة الشعب المصري، أي عن فئة مثقفة أطلق عليها فيما بعد مصطلح (النخبة) وهذا ظاهر على نحو سافر في رسائله إلى نائبه كليبر ولم تكن مدة الاحتلال الفرنسي كافية لنشوء هذه النخبة.

ثانياً: حين جاء محمد علي بعد ذلك أحاط نفسه بمجموعة من الارستقراطيين الأجانب من الألبان، والشركس، والأتراك، والأكراد، والأرمن وبعض الأوربيين فيما يمكن اعتباره أول نواة لفكرة النخبة، وهي في كل الأحوال لم تكن نخبة مصرية. لكن المهم هُنا أن ولادة مفهوم النخبة اقترن بالسلطة لا بالشعب أي بالدولة لا بالمجتمع، وأنها نخبة فوقية ووصائية وقسرية ومن الخارج التاريخي لا من الداخل التاريخي.  هذه الخصائص الخمس ستلازم مفهوم النخبة الاستشراقية فيما بعد والمستمرة حتى اليوم والتي تجمعها صفة واحدة، العزلة والانفصال عن المجتمع بل زادت فيما بعد أنها أصبحت بديلة عن المجتمع وبشكل سافر نلمس آثاره اليوم فيما يسمى بـ: العلمانيون والليبراليون والاشتراكيون. وإذا كانت المجموعة الأولى من النخبة ولدت بإرادة محمد علي فإن النخبة الاستشراقية ولدت بإرادة سلطة الاستعمار البريطاني (كانت نواتها “صالون نازلي” بمشاركة وإشراف كرومر.

ثالثاً: أول أطروحات النخبة الاستشراقية هي ادعاء أنّ تاريخ مصر هو جزء من تاريخ أوربة عبر المتوسط، وكأن أربعة عشر قرناً من التاريخ العربي الإسلامي للشعب المصري هو خروج عن هذا الارتباط. وزيادة على الدعوة إلى العودة إلى أوربة، لا بدّ من العودة إليها من خلال (فرعونية حضارية) تحت إشراف فرعونية سياسية.

رابعاً: وإذا كان عهد محمد علي قد اقترن بنهضة في الواقع في صعيد الإنتاج المادي، فإن النخبة الاستشراقية بدأت عهدها بجعل النهضة مستحيلة، وبذلك بدأ تآكل تجربة محمد علي على في أواخر عهد إسماعيل بسبب أطروحتها حول النهضة حتى اختفت معالمها ، وذلك بتحويل قبولنا –أو لنقل حاجاتنا– للتثاقف مع الثقافة الغربية لأوربة الحديثة في ضوء ما أحدثته من إنجازات الثورة العلمية الصناعية (في هذا الجانب من الثقافة حصراً لأنه الجانب القابل للتداول العالمي)… بتحويل ذلك من الاستفادة والانتقاء والأقلمة إلى الارتهان والتبعيّة. وبذلك غدا التثاقف ربطاً لمستقبل الثقافة كله بالثقافة الغربية. هذه هي النخبة الوسيطة التي كان يبحث عنها نابليون، فأوجدها كرومر بناء على توجيهات (مجلس خبراء الاستشراق) بتكوين استشراقيين محليين يصبحون بمثابة مجلس وسطاء له.

ولا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ مصطلح النخبة لا وجود له في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، لأن هذه الثقافة ضدّ المعاني التي يجمعها مفهوم (النخبة) ومفهوم (الطبقة) كضرب من التمييز الاجتماعي على أساس ثقافي أو اقتصادي. ولقد سبق نقاش مصطلح النخبة وأنه وافد وليس من تجربتنا التاريخية، ونشير هنا إلى أن المصطلح ترجمة لكلمة elite الذي أشهر استعمالها توينبي في عمله (دراسة التاريخ)، ولعب المفهوم دوراً في الثقافة الماركسية حتى جاء جرامشي وأدخل عليه تحويلاً مهماً.   

كما تمّ إدخال المصطلحات المتعلقة بفكرة المتوسطية مجال التداول الإعلاني كخطوة أولى للترويج له، ومن هنا بدأت صحافتنا ووسائل إعلامنا تتحدث عن /دول متوسطية /تعاون متوسطي/ منتدى متوسطي/ حلف متوسطي/ثقافة متوسطية / مؤتمرات متوسطية (مؤتمر برشلونة خاصة) إلخ.

إن دخول هذه المصطلحات مجالنا الثقافي والسياسي التداولي، هو محاولة خروجٍ وتخلٍّ عن الهوية الإسلامية، والدخول في وتركيب هوية جديدة بديلة، مجهولة الأصول ظاهرياً، رومانية الجذور فعلياً، عنوان وأدوات هذا التحول هو الدعوة إلى البربرية في المغرب العربي والفرعونية في مصر  ووادي النيل والفينيقية في سورية ولبنان. ويضم الثلاثة مصطلح الفرانكفونية كمقدمة للخروج من الهوية الإسلامية الجامعة في بلادنا.

لقد أضحى البحر المتوسط اليوم لا يمثل لنا ولا لمستقبلنا رباط اتصال بين المنطقة العربية والشمال الأوربي، بل حدود فصل ومواجهة بين الشمال والجنوب، بين الشمال (المتقدّم) والجنوب (المتخلّف)، بين مجتمع الرفاهية ومجتمع البطالة والفقر. وما جعل الجنوب هكذا هو استنزاف ثرواته من موارد طبيعية واستغلال اليد العاملة رخيصة، وهجرة عقوله فراراً من دكتاتوريات محمية من الشمال. وهذا الأمر أوضح في أفريقيا، فبعد قرون من الاستعمار خلّفها قارة الجهل والفقر والأمراض والحروب.  وفي حين أن ألوفاً مؤلّفة من أبناء هذا الجنوب ذهبوا وقوداً لحربين أوربيتين بين دول الشمال نفسها مجنّدين مكرهين للدفاع عن فرنسا في حربين عالميتين، وها هم اليوم يحيلون مجتمعاتنا إلى مجتمعات الفقر والبطالة بحيث يضطر شبابنا إلى اللجوء إلى بلادهم بحثاً عن لقمة البقاء، فيقتلهم قراصنتهم غرقاً في البحر الذي يريدون أن يجمعنا معهم؛ ها هم قد عقدوا مؤتمراً لحرب هؤلاء الذين قتلوهم مرتين من قبل.

الغاية إذاً من تزوير التاريخ ومنع تصحيحه وارتهان المستقبل لنفس ارتهان الماضي والمتاجرة بمصطلحات التقدّم والتأخّر والنموذج الأوربي المتفّوق والعقلانية. إنه استلاب وعي الشعوب كيلا تستفيق على واقعها الذي لاحت في أفقه إرادة التحرر واستعادة الهوية في حركة الربيع العربي أو الأصح الثورة العربية.

ومن هنا ندرك خطورة ما سميته (الأسر المصطلحي) و(الأسر المفاهيمي)… نحن أسرى قاموسهم المصطلحي الثقافي والسياسي وحتى قاموس الأفكار والقيم. ولا فكاك لنا إلا بالخروج منه من خلال (حرب مصطلحاتٍ)… لا بدّ أن نحرّر أنفسنا من عبودية الأفكار والمواقف ونبدع نحن مفاهيمنا ومصطلحاتنا التي تمثل هويتنا ومصالحنا وآفاقنا المعرفية والعلمية والتقنية، وخاصة نحن في مرحلة تهويد المصطلحات لا تغريبها فحسب، بهدف إعطاء ما يُسبغ على الكيان الصهيوني شرعيةً سياسيةً – والأهم شرعية تاريخية– لوجوده، فتستقر مجموعاتٌ يهودية في أرض مسلوبة من أصحابها من موقع يُدّعى أن لا تاريخ له فيه على حساب تراث (الأرض المباركة) ومستقبل شعوب المنطقة وتاريخها وجراحها وذلك بإدماج هذا الكيان كـ(دولة متوسطية) مع أخواته (المتوسطيات العربية) –وفق رؤية أوربية فرنسية بخاصة– ممسوخة من ثقافتها الإسلامية بعمقها العربي.

فلا غرابة إذاً أن يؤرخ مثقفو النخبة الاستشراقية الحملة الفرنسية بدايةً لتاريخ مصر الحديث، ويعتبرون غزو نابليون لمصر 1798م بداية عصر التنوير في مصر، وأنه قبل ذلك كانت مصر في عصر الظلام، ولذلك أعلنوا عن إقامة احتفال بهذه الذكرى، وتبنّى هذه الدعوة فاروق حسني وزير الثقافة بمناسبة زيارة شيراك هذه، وتحمّس له مثقفو اليسار خاصة فضلاً عن عناصر الفرانكفونية المصرية الجديدة. واعتبر معارضو هذا الاحتفال بأنهم نوع من (الانكشارية الثقافية). وتقرّر أن يستمر الاحتفال خلال عام 1998م في مصر بعد باريس (7/4/1997م)، ولا عجب فقد طالب بعض هؤلاء بإعادة تمثال فرديناد دولسبس إلى القناة. ومن الجدير بالذكر أن القمة الخامسة للفرنكوفونية التي عقدت في جزيرة موريسوس بحضور فرانسوا ميتران ناقشت موضوع انضمام إسرائيل إليها.

ما تجدر الإشارة إليه بشكل خاص أن مؤتمر الفرانكفونية التأسيسي في 17 شباط 1986م حضرته 38 دولة، ومثّل مصر بطرس غالي، ونصّ في تقريره على بندين مهمين: (1) خلق إطار جديد للحوار بين دول الشمال والجنوب؛ (2) وترسيخ عرى التضامن والتفاهم بين الدول الصناعية (دول الشمال) والنامية (دول الجنوب). وبالمناسبة، وُصفت زنوجة سنجور بالرقيقة لأنها متصالحة مع أوربة بخلاف زنوجة إيمي سيزار الخشنة، وبناء على أن سنجور يدعو للتعاون مع إسرائيل.

الفصل الرابع: النهضة الزائفة

نغطي في هذا الفصل قصة محاولة النهضة وكيف تمّ تسميم النهضة الحقيقية من خلال حرب ثقافية توجهّت نحو اللغة العربية الحاملة لتراث الأمة. وعلى الصعيد العملي السياسي والاقتصادي نناقش تجربة محمد علي التي تعتبر نموذجاً ناطقاً في النهضة وكيف أن نجاحه الإجرائي في البداية تبدّد عندما دخل التغريب إلى توجهاته الثقافية.

1-             في شروط النهضة

الشرطان الضروريان لقيام النهضة وتجاوز أزمة التحدي الغربي هما: تعيين (موضوع التحدي)، هو التمكن التقني من خلال العلوم الحديثة والصناعة الحديثة والإدارة الحديثة؛ وطرح هذه المشكلة في (سياق تاريخ ثقافتنا)، وبالتالي العودة إلى أصول هذه الثقافة بحيث يعاد تأسيسها من جديد.

لكن النخبة الاستشراقية اختارت طريقاً آخر يتمثل في:

  1. القطع مع تراث هذه الثقافة أي إقصاء تراثنا الحضاري.
  2. الأخذ بالمرجعية الثقافية الغربية كبديل لذلك القطع وبالتالي إقصاء للهوية الإسلامية تمهيداً لإلغائها.

والذي جرى أن النخبة في بلادنا استمدت أوجهاً علمانية من الاستشراق الأوربي الغربي، وهو ما أسموه (الليبرالية العربية)، وأوجهاً أخرى من الاستشراق الأوربي الشرقي (الماركسية) أي ما أسموه (الاشتراكية العربية).

وربما للمرة الأولى في التاريخ تشترط نخبة ثقافةٍ ما إلغاء ثقافتها وإحلال ثقافةٍ بديلةٍ كشرطٍ لنهضتها الموهومة. فالطبيعي والجاري في التجارب التاريخية أن تدافع النخبة الملتزمة بقضية أمتها عن ثقافتها وأن تحافظ على (أمنِها الثقافي)، وليس أن تتخلى عنها وتستبدلها بثقافة أخرى.  والاستبدال غير ممكن أصلاً إلا إذا سلّمنا بثلاث فرضيات خاطئة:

  1. أن هناك ثقافة واحدة صالحة كبديل.
  2. أن هذه الثقافة عالمية ويمكن استعارتها.
  3. وأنه لا يمكن إحلالها إلا بإقصاء الثقافة الأصلية.

من هنا كان جرى تحوير تحدّي إتقان العلم والصناعة والإدارة إلى تحدٍ ثقافي، مع أن الأول خاضع للأوجه التقنية الفنية الإجرائية في العلوم، وهو أحد الجوانب القابلة للنقل والتداول بين التجارب البشرية (ولا نقول إنه ليس هناك حاجة للأقلمة والتوطين)، بعكس الجوانب المعرفية والقيمية التي تشكّل هوية وثقافة والتي لا يمكن نقلها ولو أرادت النخبة ذلك.  ثم ألا نقول بـ(تعدد الثقافات)؟ وهل يمكن اختزال تاريخ الثقافات المتنوعة بثقافة ولونٍ واحدة.

وبما أن الإحلال الثقافي لدى النخبة الاستشراقية قد تحدّد بمشروع العَلْمنة، أصبحت العَلْمانية بصفتين أساسيتين:

  1. ضرورة استشراقية للاختراق الثقافي لثقافة المجتمع القائم وهي الثقافة الإسلامية.
  2. وضرورة استعمارية للإشراف على تحقيق هذا الاختراق حتى تكتمل عملية الإحلال الثقافي في ظل الاحتلال أو الاستبداد من بعده.

ولا شك أن هذه النخبة الوليدة ستكون (نخبة أقلية) تتعارض مع نخبة المجتمع القائم والمطلوب نهضته، وأنها لن تتمكن من ذلك إلا بالتحالف مع سلطة مستبدة هي الاحتلال البريطاني التي هي مدينة بولادتها، أو حكم سياسي مستبد يعقب رحيل الاحتلال أي في ظل ما سمّي بـ(الاستقلال) بحيث تكون له الوصاية في استمرار دور الاحتلال.

ويدعونا الحديث عن مفهوم العلمانية العربية إلى فكرة وجوب القطع مع التراث.  إن هذا المطلب يدل على الجهل بمفهوم التراث، فإذا كان المقصود هو التراث المكتوب لما قبل النهضة فإن هذا أمر مستحيل، فالمفهوم العميق للتراث هو أنه جزء من (تاريخية الإنسان)، وليس التراث بمعنى كتاب هنا ونص هناك.  ولكي لا ندخل في نقدنا نحن لتصورهم للتراث، نحيلهم إلى الفيلسوف هانس جورج غادامر لكي يدركوا ما معنى التراث.

وإذا افترضنا جدلاً أن القطع مع التراث المكتوب ممكنٌ فكيف العمل مع التراث الحيّ في المجتمع المطلوب نهضته والذي يتمثل في الدّين واللغة والانتماء التاريخي والذي يشكّل الهوية أي الذات التراثية. ولقد أثبت تاريخ الفكر العلماني العربي أنه يشترك في خصائص ما ينتقده.  فهو يفكر بمطلقات وبديهيات إيديولوجية تفكيراً غير مفاهيمي وغير واقعي وغير نقدي، وكلّ ما يريدونه هو استبدل مطلقاتٍ إيديولوجية بمطلقات أخرى وبدائه ببداءة أخرى. ولهذا السبب لم يصل الطرفان بعد مئتي سنة إلى الإجابة عن أسئلة النهضة وشروط تطبيقها، ولذلك انتهى الطرفان إلى نقطة واحدة وهي: لماذا لم ننهض؟

2- العبث باللغة العربية وتهميشها

حرص الاستشراق على الإقصاء اللغوي باعتبار اللغة العربية مع الدين هما ركنا الهوية الحضارية للمسلمين. وبحسب الرؤية الاستشراقية قامت النخب العَلْمانية والنظم الحاكمة بالعبث باللغة العربية ومحاصرتها كي تذوب مع مر الأيام وتصبح لغة تراثية فحسب.  ويمكننا تلخيص هذه الجهود بالتالي:

  1. قامت الدراسات اللغوية والأدبية بإبعاد دراسات اللغة العربية عن الجامعاتالإسلامية العريقة مثل الأزهر والقرويين والزيتونة وإلحاقها بالجامعات الحديثة تحت قسم اللغات السامية وذلك لكي تنفصم الصلة بين القرآن الكريم وبين اللغة العربية.
  2. العبث بمناهج تعليم اللغة العربية في البلدان التي وقعت تحت سيطرةالاستعمار المباشر وتوجيهها نحو الأهداف التالية:

أ‌.       محاربة البلاغة العربية لصلتها المباشرة بإعجاز القرآن.

ب‌.    تشجيع الحركة المعجمية التي تستغني عن الشاهد القرآني والحديثي تحقيقاً لهدف علمنة اللغة العربية.

ت‌.    تشجيع النزعات التي تطالب بما يسمى إصلاح النحو بحجة تسهيل النحو العربي، وذلك بإحداث تعديلات على الجانب النحوي والصرفي.

ث‌.    محاولة تغيير الأدوات النحوية التي تحفظ معاني العربية، ومنها محاولة تغيير نظام التنوين من خلال تعديل حركات الإملاء بحجة تسهيل الإملاء لطلبة المدارس.

ج‌.     تشجيع الدعوات إلى اللغة العامية تحت مصطلح أنها لغة شعبية، كما أُدخل مصطلح (اللغة المحكية) مقابل اللغة الفصحى، ثم أُدخل مصطلح (اللغة القرآنية) مقابل الفصحى أيضاً، وكما أُدخل مصطلح ملتبس سموه (اللغة الفصحى التراثية).

  1. تقليص مساحة اللغة العربية وحسر انتشارها:

أ‌.       عمل بكل ما في وسعه على نشر التعليم باللغات الأجنبية الفرنسية والإنكليزية تحت سلطة الاستعمار الفرنسي أو الإنكليزي على البلد الذي يهيمن عليه.

ب‌.    محاربة ومحو وجود اللغة العربية في البلدان غير العربية كبلدان إفريقية وحتى آسيا حيث تمّ إحلال اللغة الفرنسية أو الإنكليزية إحلالاً تاماً محل اللغة العربية.

ت‌.    محاربة محاولات التعريب التي قامت بعد الاستقلال في البلدان التي كان يحكمها، كما حصل في الجزائر وتونس.

ث‌.    محاربة استعمال الحرف العربي ومحاولة إحلال الخط اللاتيني محلّه خاصة في البلدان الإسلامية الإفريقية وفي تركيا لقطع هذه الشعوب عن تراثها وتاريخها وانتمائها، وأخفق هذا الجهد في إيران.

  1. في حقل الدراسات الأدبية طرح نظريات تشكك بتاريخ الشعر العربيفتنكر وجود الشعر الجاهلي وتدّعي أنه منتحلٌ بعد الإسلام لاستخدامه حجةً للنيل من الإعجاز القرآني فيما بعد، وقد سخّرلذلك من يمثّله في تبنّى هذه الدعوى _كما هو معروف _ وهو الدكتور طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي).
  2. إقصاء اللغة العربية في تدريس العلوم في الجامعات التي أنشئت في عهد الاستعمار وما بعده فيما سمّي بالاستقلال بحجة أن اللغة العربية لا تستوعب المصطلح العلمي. ودعوى عدم مناسبة العربية تنقضها الاعتبارات التالية:

أ‌.       ما من بلدٍ في العالم يعزم على النهضة يمكنه أ، يدرّس العلوم بغير لغته، إذ التفكير والإبداع مرتهن للغة. والفصام اللغوي يشلّ القدرة الابدّاعية، ودعوى إمكان النهضة بغير لغة القوم تخالف الحقائق العلمية وتتعارض مع تدريس العلوم كافة في معظم الدول.

ب‌.    وخير صفعة لادعاء وجوب رفض العربية هو بعث اليهود اللغة العبرية الميتة والتدريس بها في فروع العلم كافة والتأليف بها والإبداع العلمي بها حتى غدت المؤلفات بها مراجع علمية معتمدة في بعض الجامعات. إن الدعوة إلى عدم استعمال العربية هي دعوة سياسية وليست علمية.

ت‌.    إن نتائج حركة ترجمة المصطلحات العلمية إلى العربية تكذّب هذه الدعوة، فما أنجزته مجامع اللغة العربية من مصطلحات حديثة في فروع العلم كافة يتجاوز ثلاثين مجلداً وما زالت تعمل. لكنها حوربت بطريقتين: الأولى، أنه جرى تجفيف هذه المحاولات من خلال عدم طرح مصطلحاتها للاستعمال في الحقل التداولي العربي. وتمّ استبعادها بغرض إماتتها فالاستعمال هو الذي يحيي المصطلح ويطوره، ومانعت ذلك بكل الوسائل حتى في حقل المعاجم اللغوية كما حدث في المعجم الوسيط. الثانية، هو أنه حالت النخبة الاستشراقية العَلْمانية من خلال السلطة السياسية دون إدخال هذه المصطلحات في مناهج التدريس الإعدادي والثانوي والجامعي.  وتعتبر التجربة السورية استثناء يؤكد القاعدة، فقد أثبت تدريس مادة الطب خاصة والعلوم عامة باللغة العربية في جامعة دمشق تفوّق الأطباء الذين تخرّجوا منها خاصة وحتى بعد خروجهم للتخصص في أوربة أو أمريكة، وفي ذلك دراسة علمية ميدانية متوفرة. ولا ننسى أن تيار تعريب العلوم كان في بداية إنشاء جامعة القصر العيني، ويتم التعمية على هذه التجربة وتجاهلها في الإعلام.

  1. لم تكتفِ السلطات السياسية من النخبة الاستشراقية بذلك بل شجّعت على انتشار المدارس الأجنبية التي لا تدرّس العلوم بالعربية. ومنها ما يدرس المواد كافة بغير العربية ويترك للعربية حصة مهملة. وقد تأثرت بعض المدارس الخاصة الوطنية بهذا الاتجاه فبدأت هي أيضاً بإقصاء العربية شيئاً فشيئاً، وهكذا مضت سياسة التعليم ضد هوية الأمة وضدّ تقدمها.
  2. لم تكتفِ هذه السياسة بذلك، بل روّج الإعلام والإعلان لاستبعاد العربية استبعاداً كاملاً. فلم يعد هناك في برامج الإعلام تتصل بتعليم العربية أو نشر مصطلحاتها العلمية أو الأبحاث الجديدة بهذا الحقل. وجرى الاعتماد على برامج في حقل الفنون خاصة باللغة العامية. أما الإعلان فيكفي أن نلقي نظرة على أسماء الشركات والمؤسسات والمحلات التجارية لندرك غربة اللغة العربية عن أكثرها، وبلغ الأمر حدّ السفه في استبعاد اللغة العربية نهائياً عن أسماء المحلات التجارية.
  3. إنّ المدارس التي لا تدرّس بالعربية تنتشر اليوم انتشار السرطان بالجسم اللغوي العربي ومثلها قطاعات الشركات ورجال الأعمال، وفي إحدى الدول العربية تُرسل فواتير الكهرباء للمستهلكين من مواطنيها باللغة الإنجليزية.

يجب علينا أن نعي وعياً تاماً أننا في حرب مصطلحات مع الغرب، وليس مع الإنجليزية أو الفرنسية فحسب، وإنما أيضاً مع العبرية وخاصة في حقل الفكر الذي تنتقل فيه الأفكار التلمودية إلى ساحة الفكر العالمي.  إننا اليوم في حالة أسر مصطلحي لفكرنا وثقافتنا.

3- النظم العَلمانية القمعية

كنموذج نقوم باستعراض نظم الحكم في مصر منذ ما يسمى بداية عصر النهضة بدءاً من تولي محمد علي الحكم عام 1805 إلى اليوم.

لم يكن حكم محمد علي حكماً متصالحاً مع الدين وثقافة الشعب المصري، فعلماء الدين الذين كانوا يمثلون النخبة الأزهرية للشعب المصري والذين نصبوه حاكماً على مصر بزعامة عمر مكرم استبعدهم محمد علي واستبعد معهم نفوذ الأزهر. وبعد أربع سنوات من حكمه قام بنفي عمر مكرم لمدة عشر سنوات بدأ من عام 1809 إلى دمياط ثم أعاده إلى القاهرة 1819 لينفيه مرة ثانية إلى طنطا 1822 ليموت هناك بعد ثلاث سنوات.

ولم تكن النخبة البديلة المتوافرة لمحمد علي إلا نخبة أجنبية وأقلية كانت بمثابة بطانة مكرٍ لحكمه الاستبدادي المطلق. وفي ظل حكمه وُلدت ازدواجية التعليم التي انشق فيها التعليم الحكومي عن التعليم الأزهري. إن حكم محمد علي لم يستصحب الأولويات الإسلامية بأي معنى من المعاني (أي لم يكن حكماً إسلامياً بالعبارات الشائعة اليوم)، برغم أنه لم يعارض أحكام الشريعة. ونشير إلى أن محمد علي لم يدّعي الخلافة وكان موالياً (في الظاهر) للخلافة العثمانية، وحتى حينما حاول منازعتها السلطة في حروبه في بلاد الشام لم يكن يدّعي أنه صاحب حقٍّ في الخلافة.

بعد وفاة محمد علي 1839م وحتى الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م حكم أبناؤه وأسرته سائرين على نفس الخط الاستبدادي السياسي، وزاد الأمر سوءاً في أن حكمهم بدأ يبتعد عن مرجعية الدين شيئاً فشيئاً.  ثم جاء الحكم البريطاني المباشر والذي امتد حتى ثورة 1919 التي مهدت لمعاهدة الاستقلال عام 1936م حيث بدأت مرحلة ما سُمِّي (الليبرالية المصرية) بإعلان سعد زغلول العَلْمانية الوطنية وتأسيسه (الحزب العَلْماني) الذي تحوّل اسمه إلى (حزب الوفد)، وبه يبدأ التأريخ للعَلمانية السياسية لمصر.

ومثلت هذه الفترة واقع الصراع ما بين سلطة الملك المستبدة وبين حزب الوفد تجاه السلطة البريطانية التي كانت تتحكم عملياً بالتوجه السياسي نحو علمانية أكثر وضوحاً، إذ ظهرت في حزب الوفد نفسه انشقاقاتٌ أكثر علمانية وأشد استبداداً مثل (الأحرار الدستوريين) ووزارة إسماعيل صدقي 1930 ومن قبل محمد محمود 1929،

وأخيراً تمّ الاتفاق بين الوفد والملك والذي أعقبته حركة يوليو 1952م. وبقيام هذه الحركة انتهت مرحلة الليبرالية المصرية بحل الأحزاب السياسية وإلغاء الدستور وبداية الحكم العسكري الاستبدادي. غير أن الخط العَلماني استمر، ولكن بدلاً من العلمانية الليبرالية حلّت العلمانية العسكرية دون أن يتغير الاتجاه، ومن المؤشرات الظاهرة لذلك أن حركة يوليو 1952م عرضت رئاسة الدولة على أحمد لطفي السيّد المؤسس الحقيقي للفكر العلماني في مصر.

كانت الليبرالية المصرية قد تبنت المذهب الحرّ في الاقتصاد وبدأ معه نشوء الرأسمالية المصرية التي تحالفت مع المؤسسات الاقتصادية اليهودية لاستبعاد القوى الشعبية المتمثلة في العمال والفلاحين وصغار الكسبة.  وفي ظل هذه الليبرالية ازداد نفوذ الإقطاع إلى حدٍ كبير بحيث لم يعد للفلاح المصري أية حقوق تقريباً، وازداد نفوذ الرأسماليين وطغيانهم قوة وسطوة لم يعد فيها مكان يرتفع فيه صوت العمال، مما هيأ فرصة لميلاد الحزب الشيوعي المصري بزعامات يهودية، وبدأ الحديث عن الاشتراكية.

وبعد أن فرغ العسكر من تصفية الديموقراطية الشكلية التي ميزت الليبرالية المصرية، بدأوا بمرحلة جديدة تحت شعار (الاشتراكية) فرفعوا شعار (الإصلاح الزراعي) و(التأميم)، وبهذا يبدأ التأريخ لمرحلة الاشتراكية المصرية والتي تتحوّل فيها إلى حكم عَلْماني شمولي. وبدأ فيما بعد ما سمّوه (قانون إصلاح الأزهر) ثم الفتك بالقوى الإسلامية المتمثلة بالإخوان المسلمين على نحو لم يشهد تاريخ مصر من قبلُ هدراً لحقوق الإنسان بهذا الشكل. وكان أبرز ملامح العلمانية الشمولية تأسيس الحزب الطليعي السري من قبل (جمال عبد الناصر) وإعلان ما سُمّي (الميثاق).

لقد استهدف حكم العَلمانية الشمولية العسكرية ثلاثة أهداف رئيسة:

  1. علمنة الجيش والشرطة.
  2. علمنة القضاء.
  3. علمنة مناهج التربية والتعليم وسائر أوجه الثقافة إلى جانب تحجيم الأزهر.

ونحن لا نشك في أن الأزهر كان فعلاً بحاجة إلى إصلاح، ولكن تحجيم الأزهر برمزيته هو جزء من إقصاء القوى الشعبية التي تحترم هذه الرمزية.

واستمر هذا الاتجاه بعد موت جمال عبد الناصر واستلام أنور السادات السلطة، والتي يمثل فيها السادات نمط الاستبداد السياسي السابق مع لبرلة اقتصادية وتبعية صريحة للولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ومن الشعارات التي أطلقها السادات عبارة (إن للديموقراطية أسنان) كغطاء لديكتاتوريته، وهو “الرئيس المؤمن” لكن “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين” كما سعى لترويجه. وقد حاول التعمية على ذلك كله بما سُمِّي (الانفتاح الاقتصادي) واستغلال السذاجة السياسية للإخوان المسلمين.

وبمجيء حسني مبارك استمر نفس الخط، إذ كانت جميع سلطات الدولة بيد (السيد الرئيس)، أما على المستوى العسكري فقد شهدت مصر مزيداً من (علمنة) القوات المسلحة وقوات الأمن وعسكرة الدولة المصرية في جميع مراكز الإدارة. والأبرز في حكم مبارك هو عسكرة الاقتصاد المصري.

الموقف من القضية الفلسطينية

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى موقف نظم حكم الليبرالية المصرية والاشتراكية المصرية من القضية الفلسطينية والذي يمكن إيجازه أشد الإيجاز بالنقاط التالية:

      كان نفوذ اليهود في مصر قد بدأ في عهد محمد علي حينما فتح أبواب الهجرة اليهودية، فقد كان عدد اليهود في أوائل عهده سبعة آلاف وأصبح عندما جاء الاحتلال البريطاني خمسة وعشرين ألفاً.

      مع مجيء أولاده من بعده ازداد النفوذ اليهودي في مجال الاقتصاد والتعليم، وحتى في السياسة أيضاً.

      أما في ظل الحكم البريطاني ونشوء الليبرالية المصرية فقد بلغ الموقف من اليهود وتأثيرهم في الاقتصاد والسياسة المصرية حداً بعيداً خاصة وأن الأحزاب الشيوعية كانت قياداتها يهودية وسياساتها مع سياسات الزعماء السياسيين الليبراليين ليست دعماً للنفوذ اليهودي فقط بل للحركة الصهيونية أيضاً.

وتكفي الإشارة إلى موقف وزارة محمد محمود في 1929م والتي ارتبطت مع مصالح كبار ملاك الأرض المصريين بفكرة (المصرية المنعزلة عن العرب) في خارج الدولة والمنعزلة عن الشعب المصري في داخلها. ووقفت حكومتهم سنة 1929 حكومة محمد محمود ضد ثورة شعب فلسطين وكتبت جريدتهم “السياسة” تهدّد الوطنيين الفلسطينيين في مصر بالطرد لتهييجهم الرأي العام، وذلك خوفاً من غضب بريطانيا ومن أي عامل يثير الشعب المصري الكاره لحكمهم. وامتدحت جريدة (إسرائيل) الصهيونية -التي كانت تصدر في مصر- حسين هيكل لمقال كتبه عن مشكلة فلسطين في (السياسة الأسبوعية) في يونيو 1930 باعتباره “خير ما كتب إلى الآن باللغة العربية”.

وكان قسم من كبار الرأسماليين في مصر ترتبط مصالحهم بالمؤسسات التي يسيطر عليها اليهود، وبالجاليات الأجنبية والسياسية البريطانية. وتولى اسماعيل صدقي -ممثل هؤلاء- رئاسة الوزارة المصرية سنة 1930 وصادر وأغلق كثيراً من الصحف الوطنية، وأقام حكمه على البطش بالحركة الوطنية وعلى الإرهاب، كما أغلق جريدة “الشورى” الفلسطينية التي تصدر في مصر والتي كان صاحبها محمد علي الطاهر من مؤيدي حزب الوفد، ولكنه أبقت حكومة صدقي جريدة إسرائيل”([11]) التي أنشأها (ألبرت موصيري) في سنة 1920م، وهي الصحيفة التي استحثت في مقال لها في نوفمبر 1933 يهود مصر على المشاركة في تمويل الصحيفة بعد أن توفي صاحبها في أوائل ذلك العام وحلّت محله زوجته.

وكان صدقي من قبلُ وهو وزير للداخلية سنة 1925 قد اعتقل الوطنيين الفلسطينيين الذين هتفوا ضد بلفور صاحب الوعد أثناء مروره على القاهرة لافتتاح الجامعة اليهودية بفلسطين. وكان للأوساط اليهودية ضغوط قوية على الصحف بواسطة الإعلانات والنفوذ المالي([12]).

أما من الناحية المقابلة، فقد استفزّ (حادث البراق) ومحنة فلسطين عامة الشعب المصري والمشاعر الوطنية والإسلامية والمشاعر العربية الغامضة الوليدة. وكان حزب الوفد على رأس الحركة الوطنية المصرية، ووقوفه ضد الاستعمار يزيده مع الوقت قرباً من حركات التحرر في البلاد المختلفة وفي العالم العربي خاصة، وكان بشعبيته سريع الاستجابة لمشاعر الجماهير العاطفة على قضية فلسطين والمستفزة من حادث البراق. وحضر الوفد المؤتمر الإسلامي العام الذي انعقد بالقدس 1931 كما اشترك في المؤتمر العربي الذي اجتمع بعد المؤتمر الأول، وتبنى الوفد في المؤتمر الأول وجهة النظر الدينية الإسلامية، ولكن غيّر موقفه وتبنى في المؤتمر الثاني وجهة النظر العربية القومية([13]). وألقى عبد الرحمن عزام ممثل الوفد رسالة مصطفى النحاس إلى المؤتمر باسم مصر والوفد، كما انتخب ممثل الوفد في عضوية اللجنة التنفيذية والسكرتارية العامة للمؤتمر. وكان من أهم القرارات التي اتخذت الدعوة إلى توحيد البلاد العربية واستنكار تجزئة فلسطين وتأسيس مصرف عربي لمنع بيع الأراضي إلى اليهود وإنشاء جامعة عربية بالقدس([14]).

أما الأحزاب الشيوعية فَصِلَتُها بالحركة الصهيونية منذ النشأة وحتى قيام الدولة الصهيونية وما بعد قيامها فأمر تؤكده الدراسات الغربية وخاصة الصهيونية.  وبالموازاة مع الليبرالية المصرية ثم العسكرية العلمانية في كل من سورية والعراق يتأكد لنا أمران ساطعان:

      أن الأنظمة السياسية التي قامت في ظل الاستعمار البريطاني أو الفرنسي أو الاستقلال الذي أعقبه والذي كان عَلمانياً صرفاً منذ بداية ما سُمِّي عصر النهضة وحكم محمد علي 1805م، ويتحمل مسؤولية سياساته.

      كان إقصاء التيار الإسلامي -الذي يتمتع بساحة واسعة من القوى الشعبية- هدفاً مشتركاً لجميع هذه الأنظمة.

ولقد حدثت أخطر الأحداث في تاريخ القضية الفلسطينية في ظل حكم الليبرالية العَلمانية المصرية والتي تُوِّجَت بنكبة 1948م إثر صدور قرار التقسيم 1947م والتي ثبت فيها خذلان القضية الفلسطينية.

وحدثت الكارثة الكبرى في ظل الاشتراكية العَلمانية في هزيمة 1967م والتي مهّدت لأول توسّع إسرائيلي خارج حدود فلسطين باحتلال سيناء والضفة الغربية والجولان والتي لم يكن سببها إهمالاً عسكرياً فحسب، بل توجهاً سياسياً واضحاً. ولقد تحول شعار (تحرير فلسطين) إلى شعار (إزالة آثار العدوان)، هكذا شعاراً عارياً من أي إيحاء للقضية الفلسطينية، وإلى شعار (السلام هدف استراتيجي) عنواناً للسياسات العربية. وتمخض عن هذه الهزيمة معاهدة (كامب ديفيد) في عهد السادات التي تُعتبر تحقيقاً لأهم هدف استراتيجي للدولة اليهودية وهو عزل مصر عن القضية الفلسطينية والذي كان حلماً إسرائيلياً لدى المفكرين الاستراتيجيين الصهيونيين حتى ما قبل قيام الدولة الفعلي.

ثم جاءت زيارة السادات للأرض المحتلة لتعلن -بما لا يقبل اللبس- التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقيام ما هو أكثر من ذلك مما ستُرى آثاره بعد السادات. ولقد كانت حرب 1973 نصراً مؤزراً للشعب المصري والجيش المصري ودليلاً ساطعاً على قدرة العرب على تحرير أرضهم مما كان يشكل مرحلة لتحقيق هذا الهدف، لكن معاهدة كامب ديفيد وإن أعادت سيناء للإدارة المصرية إعادة مشروطة فإنها أبقت على الضفة الغربية والجولان تحت استمرار الاحتلال.

وأخيرا جاء نظام حسني مبارك ليصبح النظام المصري (الكنز الاستراتيجي لإسرائيل)، وهكذا ضاعت فلسطين في ظل الحكم العَلْماني الليبرالي والاشتراكي على حدّ سواء ليس في مصر وحدها بل في سورية أيضاً. لقد ضُيِّعَتُ النهضة وفلسطين منا في ظل الليبرالية المصرية (ممثلةً لليبرالية العربية) ثم الاشتراكية المصرية (ممثلةً للاشتراكيات العربية)، وفي غضون ذلك كانت القوى الشعبية مستبَدَّة ومقهورة، والقوى الإسلامية محاربة حرباً لا هوادة فيها.

خلاصة:

ذكرنا فيما سبق أن النهضة تتطلب تحقّق أمرين:

  1. إحياء حضاري كشرط نفسي اجتماعي من جهة وكرؤية لتوجيه النهضة.
  2.   التحديث الملائم الذي يستفيد من التجربة الأوربية وغيرها من التجارب العالمية، ويؤقلم ما يقتبسه بعيداً عن التقليد والنسخ طبق الأصل.

لكن النخبة الاستشراقية ألغت الأمر الأول حين قطعت مع الثقافة العربية الإسلامية أو ما سمّتْه القطع مع التراث، وأخلّت بالثاني عندما اعتمدت التقليد الأعمى.

ففيما يتصل بالتحديث الذي لم تعد له رؤية فإنه بدلاً من توطين البحث العلمي وحفزه بلغتنا ومخاطبة طرق تفكير أبنائنا تمّ توطين الاستشراق، وبدلاً من توطين التصنيع توليداً وتوجهاً تمّ توطين مشاريع ليس لها أولوية وطنية أو هي غير مجدية يُقصد بها دعم الشرعية السياسية المهترئة، وبدلاً من حفز الآداب والفنون على نحو متسق مع المخيال العربي وذوقه الثقافي تمّ توطين سطحي للفنون والآداب والعادات الاجتماعية الغربية، وبدلاً من توطين الإدارة الحديثة مستفيدة من حيوية المجتمع الأهلي في الثقافة المسلمة تمّ بناء بيروقراطية مركزية ضخمة عاجزة.

وبذلك فقدنا القدرة أيضاً على بناء اقتصادٍ قوي يستند إلى العلم والصناعة والإدارة يكون قادراً على بناء نظام تعليمي حديث ونظام صحي حديث ونظام توزيع عادل لمعادلتي الإنتاج والتوزيع بحيث تنخفض معدلات البطالة إلى الحد الأدنى وينخفض التفاوت بين الفقراء والأغنياء (نقص معدلات الفقر). وتراجع نظام التعليم في نوعيّته، وتخلّف نظام الصحة فزادت نسبة انتشار أمراض معينة، وزادت نسبة البطالة والفقر ونجم عن ذلك كله ضعف الدولة وقدرتها داخلياً وخارجياً مما أدى إلى الاستبداد في الشؤون الداخلية والتبعية في الشؤون الخارجية.

كل ذلك كان بسبب عملية الإحلال الثقافي والاستيلاء الثقافي الذي دعت إليه النخب الاستشراقية ومارسته من خلال تحالفها مع السلطة. والعجيب أنّ مثقفي هذه النخب مازالوا يتحدثون عن النهضة والتقدّم والحداثة، وما زالوا يتناقشون حول مشاريعها في حين أننا مازلنا أمام الأسئلة الأولى للنهضة.  وبذلك تحقق ما أراده الاستعمار من ألا تقوم نهضة حقيقة تواجه التحدي الصهيوني الذي تستند قوته إلى نفس العناصر التي ذكرناها.

ملحق/وثائق

خطاب افتتاح جامعة سنجور

خطاب حسني مبارك والاحتفال بافتتاح جامعة سنجور في الاسكندرية 15/11/1990م واسمها الرسمي (الجامعة الدولية الفرنسية للتنمية الأفريقية – جامعة سنجور) خطاب له دلالات واضحة.  ويهمّنا من كتب الخطاب لا من قرأه، فليس لحسني مبارك من مضمونه شيء، ولا يهمنا شخص الكاتب وإنما الهوية الثقافية للنخبة الاستشراقية التي تكمن وراءه.

يقول حسني مبارك عن هذه الجامعة إنها (تصل الماضي بالحاضر)، فعن أي ماضٍ يتحدّث؟ ويقول عنها (منارة فكرية تشكّل إضافة مرموقة لدور العلم والمعرفة في هذا الجزء من العالم تقتدي بقباب الأزهر الشريف.  فعن أي جزء وعن أي عالم، هل أصبحت مصر جزءاً من هذا العالم؟  ما الذي يربط بين جامعة سنجور وزعيم الزنوجة ضد العروبة بقباب الأزهر، وهل استوى الأزهر مع جامعة سنجور؟ وهل استقبال مصر لعمرو بن العاص رضي الله عنه مساوياً لاستقبال نابليون؟  هذا ليس حديث عن تثاقف بل عن نسخٍ لانتماء مصر.

ثم يتابع الخطاب: “الأخوة الأصدقاء الأعزاء: إن اللغات تكتسب مكانتها مما تحمله من فكر أصيل وأدب رفيع وعلم ينفع الناس، وليس هناك من ينكر أن اللغة الفرنسية هي لسان عصر التنوير وشعلة الثورة الفرنسية، ومُثُلها العليا في الحرية والإخاء والمساواة، ووسيلة الخطاب الأدبي الرفيع لموليير ومولياك، والإنتاج العلمي الغزير من لافوازييه إلى كوري، وقد جاءت تلك اللغة مع نابليون وسرعان ما انتهت الحملة العسكرية (كما كانت تنتهي حروب ذلك الزمان) بعد أن تركت وراءها أعمالاً خالدة يحتلّ قمتها عن جدارة واستحقاق كتاب وصف مصر”.

لا أتصور أن فرنسياً يثني على بلده مثل ما فعل مبارك. لأن هناك من المفكرين الفرنسيين من له رأي في الثورة والتنوير ونابليون غير هذا. ما يهمنا هو:

      تمجيد اللغة الفرنسية

      تمجيد القيم الفرنسية

      تمجيد الغزو الفرنسي والأثر الخالد الذي تركه

أي انفصالٍ يُمثّله رئيس مصر عن تاريخ مصر، وأي عداءٍ إن لم نقُل أية خيانة لتاريخها.  أين دماء المصريين في معركة الأهرام ودمنهور والقرى التي أُبيد أهلها عن آخرهم؟  وأين مقاومة الشعب المصري؟  أين دخول الخيول الفرنسية الأزهر وما فعلت فيه؟ أين إعدام ستة من الأزهريين كل يوم والطواف بهم في القاهرة؟

لقد اعتبرت النخبةُ الاستشراقية غزو نابليون لمصر بمثابة بداية التاريخ المصري الحديث والنهضة المزعومة، وليس في التاريخ أن مجّدت أمة محتلّيها.


“جريدة إسرائيل”

تولى إسماعيل صدقي رئاسة الوزارة في مصر سنة 1930 وصادر وأغلق كثيراً من الصحف الوطنية بما في ذلك جريدة “الشورى” الفلسطينية، ولكنه أبقى “جريدة إسرائيل” التي أنشأها (ألبرت موصيري) في سنة 1920م.

وتحوي دار الكتب بعض أعداد من هذه الصحيفة تبدأ بالعدد الصادر في 11 ابريل 1930 إلى العدد الصادر في 25 يوليو من ذات السنة، ثم تحتوي أعداداً متناثرة عن السنوات الثلاث اللاحقة إلى ديسمبر 1933 حيث تنقطع. ويمكن من مطالعة هذه الأعداد توضيح الملاحظات الآتية:

كانت الصحيفة تصور الوضع في فلسطين على أن الاستعمار البريطاني لم يأتي بالصهيونية إذ كانت موجودة من الأصل هناك إنما بالصراع بين الصهيونيين والمسلمين وعمل على التفرقة بين اليهود والمسلمين، وأن الصراع القائم في فلسطين هو صراع طائفتين دينيتين عمل الاستعمار على تفجيره، واستجاب المسلمون له في غفلة منهم!! وأن الاستعمار يعتمد في مؤامرته هذه على المسيحيين في سورية وفلسطين. وكانت الصحيفة تهاجم المسيحيين هجوماً عنيفاً متهمة إياهم بأنهم تربوا في مدارس بعثات التبشير الديني الغربية ويستهدفون في نشاطهم أن تستولي بريطانيا – الدولة المسيحية – على فلسطين لذلك يعملون على تنفيذ المخطط الاستعماري في الإيقاع بين المسلمين واليهود (20، 27 يونيو 1930).  وتعقبت الصحيفة ما كانت تكتبه صحيفة الأهرام المصرية تأييداً لحقوق عرب فلسطين ودفاعاً عنهم ضد الصهيونية، واتهمت الأهرام بأنها (كالحرباء) ترتشي بالأموال التي جمعت لترميم المسجد الأقصى (2 مايو 1930 ) كما هاجمتها بشدة عندما نشرت خطاباً مرسلاً من جبرائيل بحري إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين يطالبه فيه بالعفو عن العرب الذين حكم عليهم بالإعدام في الانتفاضة التي حدثت سنة 1929 (20 يونيو 1930 ) ثم عادت إلى شن هجوم شديد على الأهرام متهمة إياها بالتضليل لأنها تبدي غيرة على مصالح العرب ومصالح عرب فلسطين بالذات وتحرضهم على الثورة وتطعن على اليهود وتقول إن المشكلة في أحداث 1929 ليست حائط المبكى ولكن أطماع الصهيونية في فلسطين (4 يوليو 1930 ). وكتبت صحيفة (إسرائيل) العديد من المقالات عن حوادث التبشير المسيحي (كيف حاولوا تنصيري)… ” (17 يوليو 1931 ) وعن حوادث تنصير اليهود في المدارس الكاثوليكية (31 يوليو 1931 ) وحوادث استدراج الشباب المسلم وحمله على اعتناق المسيحية (5 فبراير، 12 فبراير، 19 فبراير 1932 ).

وكانت الصحيفة في ذلك تحاول أن تخاطب العقلية المصرية وحساسية الشعب المصري الشديدة تجاه محاولات الاستعمار إثارة النزعات الطائفية داخل الحركة الوطنية وتحطيم الوحدة الوطنية للقوى الشعبية المتكتلة ضده، كما كانت تخاطب الحساسية المصرية والإسلامية التي استثارها نشاط البعثات التبشيرية الغربية

وفي الوقت ذاته كانت الصحيفة تحاول أن ترد الظواهر السياسية في فلسطين إلى ظواهر دينية محضة، وتصوير شعب فلسطين كطوائف من اليهود والمسلمين ومن المسيحيين المرتبطين برباط الدين بالاستعمار البريطاني، ومن شأن هذا التصوير أن يعزل المسلمين عن المسيحيين وأن يطمس الوجود القومي للعرب هناك ويطمس المغزى السياسي للتحرك الشعبي في فلسطين ليصير تحركا دينياً محضاً، وبهذا يمكن تكتيل يهود فلسطين وراء الصهيونية وعزل المسلمين عن المسيحيين، مع إظهار الصهيونية على أنها من يقف ضد هذه السياسة وضد محاولات الاستعمار الاستفادة منها، وذلك على عكس المسلمين الذين ضُللوا بهذه المحاولات وتورطوا فيها..         

بالنسبة للحركة الوطنية المصرية كانت الصحيفة تسلك سبيلاً من المناورة إزاء أطرافها المختلفة متلونة مع الحكومات المتعاقبة. فعندما كان الوفد في الحكم في أوائل 1930، وقطع مفاوضاته مع الانجليز امتدحت موقف النحاس وجهاده ثم علقت على قطع المفاوضات بأنها ستعود بالخير على كل من مصر وبريطانيا، وبهذا ظهرت بمظهر من يسالم الحركة الوطنية ويتعاطف معها دون أن تتورط في الهجوم على الاستعمار البريطاني (مقال ” شؤون مصر ” 16 مايو، 23 مايو 1930) فلما أقيل النحاس وجيئ بإسماعيل صدقي رئيساً للوزارة ليلغي الدستور بدأت الصحيفة في 30 يوليو تهاجم الوفد وتدافع عن صدقي وتكذب كل ما أثير وقتها من عزم صدقي إلغاء الدستور وتهاجم سياسة الوفد وتقريره عدم التعاون مع حكومة صدقي، واتخذت موقف الانحياز الكامل لحكومة صدقي الاستبدادية.

وكانت الصحيفة تتعرض للقادة وللمفكرين المصريين الذين يتخذون موقفاً صريحاً ضد الصهيونية وتهاجمهم بعنف وبغير هوادة، وقد هاجمت أحمد زكي باشا الملقب بشيخ العروبة عندما سافر إلى فلسطين للدفاع أمام لجنة عصبة الأمم عن امتلاك المسلمين لحائط البراق ولخطبته هناك التي حض فيها الشعب العربي على الثورة وعلى الدفاع عن الحائط بالأرواح (25 يوليو 1930 ) كما هاجمت عبد الله عنان عندما كتب ينكر وجود قومية يهودية (20 سبتمبر 1933 ) كما عابت على القادة المسلمين المصريين عدم تأييدهم للصهيونية (قلما سمعنا أحداً من كبار المسلمين شاركنا الرأي) (27 يونيو 1930).

وأرادت الصحيفة أن تستغل معاداة قيادة الحركة الوطنية المصرية للشيوعية وقتها، فأخذت تشيع الأخبار عن اتصال زعماء الحركة الوطنية في فلسطين بموسكو للوقيعة بينهم وبين مصر، ونشرت مقالاً عن أن ثمة اتفاقاً وثيقاً بين موسكو وبين اللجنة التنفيذية العربية (قيادة الحركة الوطنية في فلسطين) وأن جمال الحسيني عضو اللجنة متصل ببلاشفة موسكو و(عضو الانترنسيونال الثالث) (11 ابريل 1930) وفي 4 يوليو عادت ونشرت مقالاً عن صلة اللجنة العربية التنفيذية بموسكو وبالشيوعية.

وكانت الصحيفة تظهر أحياناً بمظهر العداء للانجليز في مصر، وتصور الصهيونية بأنها تصارع الإنجليز في فلسطين، وكان يرجع هذا الموقف منها إلى هجومها على سياسة التذبذب التي اتخذها الإنجليز تجاه الحركة الصهيونية بوقف الهجرة إليها في 1930 تهدئة للفوران العربي وقتها. ونشرت في 30 مايو 1931 مقالاً نددت فيه بعبث بريطانية بشؤون الشرق الأوسط وسياسة الخداع التي تتبعها في الهند ومصر والبلاد العربية، كما دعت في 31 يوليو 1931 إلى اتفاق العرب واليهود في فلسطين حتى يتخلصوا من شباك الدولة المحتلة ويكسبوا عطف (كبار اليهود) في أوروبا.

كانت الصحيفة تحاول أن توثق الروابط بين اليهود في مصر وأن تمنع اندماجهم في البيئة المصرية أو في الجاليات الأجنبية الموجودة بمصر. وهاجمت بشدة حوادث تنصير بعض اليهود في المدارس الكاثوليكية، كما انتقدت نظم التعليم في مدارس اليهود في مصر لأنها لا تصدر عن مبادئ تدل على يهودية هذه المدارس (أصبح كثير من شبابنا بالأمس ورجال اليوم بعيدين بروحهم عن اليهودية وقد تقمصوا بدلاً منها روحاً فرنسية خالصة) (9 مايو 1930)، ونشرت بياناً عن الطائفة الإسرائيلية بالقاهرة إلى أبنائها بأن مجلس الطائفة اجتمع في 16 إبريل 1930 فلم يحضر الاجتماع إلا 39 عضواً من مجموع أعضائه البالغ 818  (25 ابريل 1930)، وانتقدت الصحيفة في هذا الصدد سلبية اليهود وعدم اهتمامهم بشؤون الطائفة وجهلهم لدينهم وتقاليدهم رغم أن الدين هو (الرابطة الطائفية الوحيدة التي تربطهم ببعضهم) (2 مايو 1930) كما كتبت الكثير من المقالات والمسلسلات عن (لماذا أنا يهودي) (1931) وعن تاريخ اليهود وثقافتهم وتاريخ الإسرائيليين في مصر من الفراعنة حتى الآن (كتب سلسلة مقالات عن الموضوع الأخير الدكتور هلال فارحي). ومنذ يوليو 1931 بدأت الصحيفة تكتب عن وضع اليهود في أوروبا وألمانيا وتبدي خوفاً شديداً من النازية واضطهادها لليهود وتشير إلى موجة التعصب ضد السامية التي كانت تنمو في شرق أوروبا، وفيما يختص بمدى نفوذ اليهود في الاقتصاد المصري ومدى نشاط الحركة الصهيونية في مصر يكتفى بمراجعة كتاب (اليهود والحركة الصهيونية في مصر 1897 – 1947) تأليف الأستاذين أحمد محمد غنيم وأحمد أبو كف.. (كتاب الهلال يونيو 1969).

هوامش



[1] كارل بوبر في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه) وفي (الأنبياء الكذبة: أفلاطون، هيغل، وماركس)

[2] راجع في هذا نص المحاضرة التي ألقاها أرنست رينان في السوربون بعنوان (الإسلام والعلم)، والتي رد عليها الأفغاني في حواره معه.

[3] يقول الباحث التونسي عثمان الكعّاك (إنه عثر على ترجمة لكتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي في مكتبة ديكارت الخاصة في متحفه في باريس، وفي أحد صفحاتها إشارة بالخط الأحمر وضعها ديكارت بنفسه تحت عبارة الغزالي الشهيرة [الشك أولى مراتب اليقين] وحشّى عليها [تنقل إلى منهجنا] ولم يُشِر ديكارت إلى الغزالي ولم يذكره)   

[4] وقد توقف معجم Lane عند حرف القاف، ثم استُكمِل الحرف عام 1987، ونحن بانتظار إتمام العمل كاملاً، ولعله تمّ.

[5] أفتى بعض العلماء المسلمين أنه إذا اعتدي على كنيسة فعلى المسلمين أن يهبوا لحمايتها وإذا قتل مسلم للدفاع عنها فهو شهيد.

[6] وأدرجناه مع هؤلاء لاتفاقه مع سياسة الاحتلال البريطاني في إبعاد الدين عن الدولة

[7] نحن لا ننكر في هذا الأعمال التي قام بها علماؤنا الأجلاء من المحققين في مجال علوم الدين واللغة وغيرها، ولكننا نفتقد الخطة الكاملة وفق منهاج محدد لوضع الأعمال الكاملة لأعمدة تراثنا أمامنا وتصنيفها حسب تقسيم العلوم المتبع لديهم، نلحق به معاجم اصطلاحية لكل منهم تمكننا من الدخول إلى أي حقل معرفي في تراثنا، والأصول كلها محققة علمياً ونقدياً أمامنا.

[8] هامرتون، ج 3، صفحة 736

[9] وهذا ما فعله العرب المسلمون لاحقاً مجلد 3 ص 31، وكرر نابليون هذا المعنى بعد هزيمته أمام عكا قائلاً: (لو سقطت عكا لغيّرت وجه العالم فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة).

[10] هامرتون، ج3، ص 738.

[11] انظر الملحق للتفصيل في شأن “جريدة إسرائيل”.

*الهامش نقلاً عن (السياسة تهدد الوطنية الفلسطينية) (ضد ثورة شعب فلسطين وكتب جريدة حزبهم) ص 238- 241.

[12] يراجع في هذا كتابي محمد علي الطاهر ” ظلام السجن “، “معتقل الهاكستب ” وهو مذكرات شخصية للمؤلف.

[13] الوحدة العربية بين 1916 – 1945. أحمد طربين ص 192.

[14] Palestine. A study of Jewish, Arab, and British Policies , p. 761-763