دين الحياء

459

يتكون كتاب “دين الحياء” من ثلاثة مجلدات متسلسلة، تمهد كل منها للأخرى، لكي تؤسس لمركزية الحياء في الدين الإسلامي، وكيف يمكن لهذا الخُلق أن يحل الآفات والمشاكل الأخلاقية التي تواجه الإنسان المعاصر.

يعمل طه عبد الرحمن في المجلد الأول على التأسيس النظري للموضوع؛ مبيناً مبادئ الفقه الائتماني واختلافه عن الفقه الائتماري، ويؤصل فيه لمفهوم الحياء باعتباره خلقاً يستحق أن ينزل في منزلة الأساس الأخلاقي الإسلامي كمعبرٍ عن جوهر الفقه الائتماري.

بينما يقوم في المجلد الثاني بالدخول في التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال وكيف يمكن أن يواجهها خلق الحياء، وينتهي في المجلد الثالث لتخصيص الحديث حول مسألة الحجاب ونقاش الجدل الدائر حوله في العالم اليوم.

وستتناول هذه المراجعة الأفكار الأساسية للمجلد الأول، بينما ستتناول المراجعات القادمة الكتابين الآخرين.

*** *** ***

في الجزء الأول من “دين الحياء”، يعمل طه عبد الرحمن على التأسيس للمسائل التي سيناقشها، فيعرض طبيعة المشكلة القائمة اليوم، ويقدم مقاربة جديدة لمعالجة الإشكالات القائمة في الحضارة المعاصرة.

المشكلة التي يواجهها هذا الكتاب هي مشكلة الإنسان المعاصر، إنسان ثورة الإعلام والاتصال، الإنسان الذي انقطع عن المصادر الروحية وجدب قلبه مع انخراطه في الأسباب الدنيوية المقطوعة عن أصلها الروحي. والإنسان المعاصر ليس هو الإنسان الغربي فقط، بل هو كل إنسان تشبع بنمط الحياة المعاصر، أو يمارس في حياته مجموعة من مفردات الحياة المعاصرة.

ويرى طه عبد الرحمن أن الإنسان المعاصر، وبحكم قطيعته مع الفكرة الدينية، قد أصبح إنساناً ميتاً، لأن من كان بلا “فطرة الدين” كان بلا “قلب حي”.

وبحكم ذلك أصبح الإنسان المعاصر بعيداً عن موقع الأمانة التي عينه الله لأدائها، وبات خائناً لها؛ لذا يقوم طه عبد الرحمن في هذا الكتاب ببناء الأصول المناسبة لإرجاع الإنسان إلى حالة الأمانة. ولا يناقش ذلك من حيث وجود الخلل في الفكر الغربي فحسب، بل يدخل أيضاً إلى الفكر الإسلامي والتصورات السائدة عن الدين، وإلى الفكرة التي انتقدها كثيراً طه عبد الرحمن، وهي فكرة “تفقيه الممارسة الدينية”.

فالمدخل الأساس الذي ينبني عليه الكتاب هو التفريق بين الفقه الائتماري والفقه الائتماني. حيث اشتق مصطلح “الفقه الائتماري” من كلمة الأوامر؛ أي الفقه الذي يركز على الأوامر، بينما اشتق مصطلح “الفقه الائتماني” من كلمة الأمانة؛ أي الفقه الذي يقوم على الأمانة التي قبلها والإنسان وحملها في الأرض بموجب مبدأ الميثاق.

فما يريده طه عبد الرحمن هو “استخراج المفاهيم والأصول التي يقوم عليها النظر للإسلام بما يقدره على رفع التحديات التي تواجه الإنسان المعاصر”. حيث ينبغي أن يكون هذا النظر أخلاقياً، باعتبار أن الأخلاق هي الجانب الذي تتجلي فيه معقولية الأحكام الشرعية.

ويرى الكاتب أن الفقه الإئتماري ينظر في المبادئ والأصول العامة التي ينبني عليها ظاهر الأحكام الشرعية، بينما يقوم الفقه الائتماني على النظر في المبادئ والأصول العامة التي تنبني عليها القيم الأخلاقية المنطوية في الأحكام الشرعية.

يركز الفقه الائتماري على فكرة الأوامر، أي التعامل مع الشريعة باعتبارها مجموعة من الأوامر الشرعية الظاهرة التي ينبغي أن يتقيد بها الإنسان، من دون وعي منه لما تضمنه من معاني، أي أنه مجرد تطبيق آلي لها.

ولكن يسقط هذا الفقه الائتماري في آفتين أساسيتين، وقد أورثت هذه الآفتين في المسلم تصوراً جلالياً للألوهية انعكس عليه بالضيق وعلى سلوكه بالتشدد. هاتان الآفتان هما “آفة الإلقاء البعيد” و”آفة الإيجاب البعيد”.

تعني “آفة الإلقاء البعيد” أن الفقه الائتماري يصور الأوامر الإلهية كأوامر صادرة عن جهة بعيدة عن الإنسان وتقع خارجه، وتُفرض عليه فرضاً بغير إدراك لطبيعته الإنسانية، فهي مجرد أوامر تُلقى من بعيد.

أما “آفة الإيجاب البعيد” فتعني أن الفقه الائتماري يصور مبدأ التكليف باعتباره أمراً إجبارياً إكراهياً لا يخضع لمعيار الاختيار والقبول، وأنه مجرد التزام ظاهر بالأحكام وقبول بها بغير معنى، وكلها آتية من مصدر بعيد.

بينما يؤسس طه عبد الرحمن إلى مفهوم القرب الإلهي، أي أن الله قريبٌ من الإنسان، وأوامره تنسجم مع فطرته وتنبع من القيم الأخلاقية التي تستجيب لها فطرته، وأوامره لا تصدر عن بعيد ضمن صبغة جلالية جامدة، بل هي أوامر قريبة ذات طبيعة جمالية تقترب من روح الإنسان وتجذبه نحوه، لذا فإن طبيعة الأحكام الظاهرة تستبطن في داخلها قيماً روحيةً وأخلاقية تجعل هذه الأوامر قريبة من الإنسان.

كما أن قبول الإنسان لهذه الأحكام يقوم على مبدأ الاختيار؛ فالإنسان هو من اختار الأمانة ورضي بحملها. ولذلك يتبين أن الفقه الائتماني وإن اشترك مع الفقه الائتماري في طلب معرفة الأوامر الإلهية، فإنه لا يقع في تلك الآفتين، بل يستحضر معها معاني القرب والرحمة، ويمزجها بمبدأ الأوامر، وهو ما يعبر عنه بمفهوم “الشاهدية” باعتبارها جامعاً لهذه المعاني.

ويؤكد طه عبد الرحمن دائماً على استناد المعاني الأخلاقي الموجودة في الشريعة من الأسماء والصفات الإلهية، فبينما ينحصر الفقه الائتماري بصفتي الآمر والناهي الإلهيتين، واللتين تفضيان إلى اسم الله الجليل، يتوسع الفقه الائتماني لكافة الأسماء، ليقوم على صفتي الرحمة والشهود، اللتان تؤسسان لمبدأ القرب الإلهي.

ومن الأمور الجوهرية في الفقه الائتماني هي فكرة تقديم معرفة الآمر الإلهي على معرفة الأوامر الإلهية، فبما أن الأوامر الإلهية تنطوي على قيم أخلاقية، فإن هذه القيم الأخلاقية مستمدة في حقيقتها من الأسماء الحسنى، لذا وجب أن يعرف المرء الآمر الإلهي كي يدرك القيم الأخلاقية التي تتضمنها الأوامر الإلهية، وهو ما يقصر عنه الفقه الائتماري.

لذا لا تنفصل مساعي طه عبد الرحمن في التأسيس لمفهوم الفقه الائتماني عن مبدأ التزكية، لأن التزكية هي الطريق الذي يتخذه الإنسان للارتقاء ومعرفة الله.

إن لزوم هذا الكلام هو الوصول إلى فكرة المشاهدة، وهي مستوحاة من الحديث الذي عندما سُئل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن “الإحسان” أجاب: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك. ومدار فكرة الفقه الائتماني هو تحقيق كلا المقامين، أي مقام المراقبة الذي يتجلى في قول الرسول “فهو يراك”، ومقام المشاهدة الذي يتجلى في “أن تعبد الله كأنك تراه”.

وبناءً على ما سبق، يتساءل طه عبد الرحمن عن ماهية القيمة الخلقية التي يمكن أن تتأسس عليها الشاهدية، وأن يسير على هديه الفقه الائتماني في تزكية الإنسان، ويجيب بأنه خلق الحياء، وذلك لأنه خلق يستوفي مجموعة من الشروط التي تجعله أساساً للأخلاق الإسلامية، وهذه الشروط هي:

        لارتباطه الوثيق بالإيمان كما ورد في العديد من الأحاديث النبوية.

        لوجود أصل له في فطرة الإنسان، بحكم ارتباطه بالأمانة التي فُطر الإنسان عليها، وهي التي قضت نهوضه بأداء الأمانة، واستحياءه من مخالفة الحدود والأحكام.

        أن الإنسان يتميز عن غيره من الكائنات بهذا الخلق.

        أنه يرفع الإنسان إلى المقامات العليا (عالم الملكوت)، فهو خلق يرتبط بالملائكة، وهو سلوك تجلى في سيدنا آدم عندما غطى عورته.

        أنه امتداد للأسماء الحسنى، فكما ورد في الحديث النبوي أن الله حيي ستير يحب الحياء والستر.

        اعتباره خلقاً تتأسس عليه باقي الأخلاق، كما في الحديث النبوي: “إن لكل دين خُلقاً، وخلق الإسلام الحياء”، و”الحياء لا يأتي إلا بخير”.

ويختم طه عبد الرحمن الجزء الأول من الكتاب بتمهيد للجزئين القادمين، ليؤكد حاجة الإنسان المعاصر لخلق الحياة في عصر ثورة الإعلام والاتصال، التي أفضت إلى تغيير باطني في ذات الإنسان جعلته يميل لآفات عديدة لا يمكن تداركها إلى بخلق الحياء القائم على الفقه الائتماني، وهو ما سيتم تفصيله في المراجعات القادمة لهذه السلسلة.

إن القضية التي يعالجها طه عبد الرحمن في هذه السلسلة مهمةً جداً، تشمل خطوات عملية يمكن تطبيقها واقعياً وتناقش مسائل واقعية معاشة نشعر بها أو يمكن رؤيتها لدى الأبناء والأجيال التي نشأت وكبرت مع ثورة الإعلام والتقنية المعاصرة.

وبالرغم من صعوبة مصطلحات طه عبد الرحمن، إلا أنه يطرح مسألة ينبغي أن يتم تبسيطها وطرحها بشكل يمكن إيصالها لفئات أوسع، خاصة مع وجود تقصير في الفكر الإسلامي والعربي في التعامل مع هذه القضايا بهذا العمق والاتزان.