جدلية المناهج والنتائج: قراءة نقدية في كتاب “السيرة مستمرة”

1٬541

تُمثل السيرة النبوية حقلًا معرفيًا ثريًا وواسعًا تعاهد على تشييده آلاف العلماء والباحثين منذ بواكير الوجود الإسلامي حتى يومنا هذا، وذلك لما حملته السيرة النبوية من دلالات دينية ووجدانية مثلت مكونًا أصيلا في كيان المسلمين وهويتهم عبر الأزمان. وما يزال هذا الحقل حافلًا بكل طارفٍ، مستجد، فلا يمر وقت إلا وتطالعنا المكتبات بكتاب جديدٍ عن سيرة سيد المرسلين. ولعل كتاب الأستاذ أحمد خيري العمري المعنون بـالسيرة مستمرةالصادر مطلع هذا العام (2018) من أحدث ما كُتب في هذا الموضوع، بحيث ينضاف إلى عموم المكتبة الكبيرة التي عُنيت بالسيرة وعلومها

ولعل أهمية هذا الكتاب نابعة بصورة أساسية، قبل أي شيء آخر من كون مؤلفه هو الأستاذ أحمد خيري العمري، ذو المقروئية العالية، والذي يُمثل امتدادًا لخطٍ ثقافيٍ مميز شاع في الثقافة العربية والإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين، حاول رُوّاده اجتراح نمطٍ كتابيّ تتجاور فيه الفكرة الدينيّة صحبةَ الخاطرة الأدبيّة، من غير عسفٍ أو تمخرقٍ بالعبارة. بل على العكس من ذلك، تخيّروا كل لفظ هيّنٍ، سهلٍ، طيّع، لا يُحتاج معه إلى حراثة المعاجم والمرور عليها بغية الوصول إلى المعنى! وآيُ ذلك يتعيّنُ برغبة جامحةٍ عندهم في الاقتراب من مشاعر الناس، وقلوبهم الرقيقة، ومخاطبتهم على نحوٍ لا تعافه نفوسهم. ويمكننا الحديث هَاهنا عن أسماءٍ عديدةٍ، لعلّ أبرزها (مصطفى محمود، أحمد بهجت، خالد محمد خالدإلخ).

ينتظم الكتاب في زُهاء 450 صفحة حوت مقدّمات عديدة حاول فيها الأستاذ العمري تجلية منهجه في الكتاب ومعالجته للموضوع، أتبعها بمفاتيح مساعدةٍ لفهم شبكة التحالفات وموازين القوى وطبيعة الخلفية الاجتماعية والسياسية لقريش. أما بقية الكتاب فقد جاء على شكل مقالات منفصلة، غير منتظمة في فصول أو أبواب، حاول فيها الكاتب، الوقوف على أبرز الوقائع والأحداث المتعلقة التي تُذكر عادةً في المرحلة المكّيّة من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ولأنّ قراءتنا للكتاب، هي قراءة نقديّة أساسًا، تُساءل الكتاب في العديد من المواضع التي وجدنا أنّ المؤلف لم يُوفق إليهاكما سنوضّح في السطور الآتيةلا تُنسينا الإشادة بعموم عمل الأستاذ العمري، وقراءته الحصيفة في عديدٍ من مواضعه، وملاحظاته الذكيّة التي لا تخرج إلّا من إنسانٍ تلاحم كيانيًا مع هذا النص وأحبّ مفرداته وائتسى بقيمه وما يدعو إليه.

تقديم العربة على الحصان:

أُولى الملاحظات التي نلفاها في الكتاب، هي عدم وضوح المنهج الذي بُني عليه الكتاب. إذ مع تأكيد المؤلف على بعض الملاحظات المنهجية في معالجته للموضوع في مقدماته الكثيرة التي كتبها (1)، إلا أنّ هذه الملاحظات لم تسطع رفع الملابسات والتشويش الحاصل في عديد من المعالجات. ولعلّ أبرز قضيتين لم يُوضح لنا المؤلف آلية تعاطيه معهما بشكلٍ واضح، لا لبس فيه:

1- آلية الترجيح والتغليب بين النصوص.

2- موقفه من المعاجز والغيبيّات.

وهاتان آفتان تبرزان بوضوح في الكتاب، فنجد في بعض المواضع لا يخُضع نصوص التاريخ والحديث لنقدٍ علميّ من البداية، بل يسترسل في نقل المرويّات والتواريخ، وتكون النتيجة أنّه عندما يتمّ الإحراج بقصّة هنا أو هناك تبدأ التأويلات التي تريد أن ترفع المشكلة المزعومة، وهذا في الحقيقة كلّه منهجٌ غير علمي، فالتاريخ والحديث لا بدّ من التثبّت منهما قبل نقلهما. والتذرّع بفكرة تحريك رواكد التصورات وخلق وعيٍ دينيٍّ نقديٍّ عامٍّ، لا معنى له في حديثٍ أو واقعة لم تحدث.
 
إذ أنّ التثبّت والنفي لا بد أن يخضع لمنهج علمي مدروس، وليس لمنهج أيديولوجي يجعل من الرواية التاريخيّة المتهالكة مقطوعاً بها؛ لأنّها تناسب المزاج الشخصي والمعتقد، فيما رواية صحيحة قويّة متماسكة نُخضعها للتأويلات المدهشة عندما لا تنسجم مع المزاج الذي نحمله، وهو مزاجٌ  ينشأ بطريقة غير ممنهجة من البداية، ويراد بعد ذلك اختراع منهج لتبريره، بحيث نشعر بسلامة المنهج كلّما نجح في تثبيت الفكرة التي نؤمن بها مسبقاً.(2)

إنّ أخطر شيء في هذا المجال هو أن يتمّ اختراع المناهج العلميّة لتبرير معتقدات أو عواطف ولدت بطريقة غير منهجيّة في البدايةوهذا الأمر ينطبق عادةً على ما نحن فيه، حيث يقودنا الحماس أو العاطفة أو المزاج العام لتبني حدث تاريخي أو رواية منسوبة، فنتفاعل معها عاطفيّاً لأنّها تنسجم مع مزاجنا الفكري العام، ولا نشعر بالحاجة إلى إثبات صدقيّتها تاريخيّاً عندما يكون من نُلقي عليهم هذه الرواية أو القصّة التاريخيّة منسجمين أيضاً مع سياقها من الأصل، وعندما يطالبُنا الآخرون المختلفون معنا في المزاج الفكري العام بالدليل نقوم باختراع منهج متناسب معها كي نتمكّن من تبرير اختيارنا لها من قَبْل. فالمناهج هنا تغدو وليدة النتائج، والنتائج بنفسها وليدة المزاج العام والطمأنينة القلبية المتولّدة بدورها من العناصر التربويّة والعرفيّة والاجتماعيّة والمحلّية، مع أنّ المفترض أن تكون النتائج هي وليدة المناهج. وعندما تختلّ المعايير العامّة نصاب بكلّ هذا الإرباك الذي نعيشه اليوم في غير موقع. (3)

هذه الإشكالية، إشكالية تقديمالعربة على الحصانبلغة الأدب، أو تقديمالهيئة على المادةبلغة المناطقة، كما نجدها في كتاب المؤلف تُذكرنا بقول المستشرق الفرنسيّ المسلم المجاهد والرسّام العظيم إيتيان دينيه في كتابهمحمد رسول اللهعن مشكل المنجز الاستشراقي في حقل السيرة النبويّة:

” … أنه من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وأنهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغاً يغشي على صورتها الحقيقية من شدة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من اتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد فإنا نلمس من خلال كتاباتهم محمداً يتحدث بلهجة ألمانية إذا كان المؤلف ألمانيا، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا، وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب. وإذا بحثنا في هذه السير عن الصورة الصحيحة فإنا لا نكاد نجد لها من أثر. إن المستشرقين يقدمون لنا صوراً خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة! إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال ولتر سكوت وإسكندر ديماس“.(4)

وحتّى لا يكون كلامنا محض ادّعاءات فارغة، نقف هنا مع بعض الأمثلة في كتاب الأستاذ العُمري.

هلاك على الطريقة الحداثيّة:

يُرجّح الأستاذ العمريّ في كتابه أنّ هلاك أصحاب الفيل كان نتيجة وباءٍ شبيهٍ بالجدريّ(5)، خلافًا للمعهود من أنّ هلاك القوم كان بحجارة سحقتهم، كما يُخبرنا الله عز وجل في كتابه العزيز. وهنا عدة ملاحظاتٍ عجلى على هذا القول:

١–  يؤكد المؤلّف في المقدمة التاسعة للكتاب على ضرورة ربط السياق التاريخي للسيرة بالنص القرآني. (6) وهذا ما لم نجده في تحليله لقصة أصحاب الفيل. بل وجدنا اقتطاعًا مخاتلًا للنص القرآني. إذ الكاتب لم يقف على غير لفظة (طيرًا أبابيل) من سورة الفيل، وبعدها قفز مباشرة ليرسم سيناريوهات الوباء الذي ألمّ بالقوم، ليرفض الجدريّ لأنه لا ينتقل إلا عبر العدوى عن طريق البشر! مرجّحًامن غير مُرجّحوباءًا قريبًا من الجدريّ، مميت في الأغلب، ومن يتنصل منه، يصاب بالعمى! ودليله في ذلك رؤية السيّدة عائشة رضي الله عنها في صغرها، لقائد الفيل وسائسه وهو أعمى.(7) والحديث الذي استدل به الأستاذ العمري عليه عدة علامات استفهام، أبسطها عمُر سيدتنا عائشة؟! وكذا سند الرواية!

٢–  النص القرآني واضح، وصريح: {ألم ترَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول} وإيجازًا السورة تتحدث عن خمسة أشياء:

١قومٌ عُرفوا بأصحاب الفيل.

٢أضمروا كيدًا.

٣أرسل الله طيراً.

٤ترمِ بحجارةٍ.

٥يكون هلاكهم بها.

٣–  والحقيقة أنّ الفكرة الأساسية هنا هي إثبات الفعل الإلهي. فإذا لم تكن مشكلة الكاتب معه، فلمَ التمحّلُ والاعتساف. لا أقول الاعتساف في التأويل، لأنّ التأويل لا حضور له هنا عند المؤلف، إنما هو رأي رغائبيّ، لم يستند إلى أيّة تأويلٍ معتبرٍ أو غير معتبر. وذلك خلافًا لعبده ورشيد رضا والشيخ المراغي وعبد الكريم الخطيب ممن قالوا بمقالته، حيث حشدوا الآراء، ورصفوا النظير إلى النظير حتى يستقيم على الوجه التأويليّ الذي أرادوه.

٤–  للحديث عن هذه النقطة نُحيل على كتاب العلّامة الصادق العرجون في كتابه عن السيرة النبويّة. وبالتحديد كلامه عن عذاب أصحاب الفيل وإهلاكهم، ومناقشة القول الذي استند إليه العمري، من جهة عقائديّةٍ وفكريةٍ، وهو حديث محققٍ خبير وعالم وسيع. وكذا سيد قطب الذي استفاض في مناقشة هذا القول عند تفسيره لسورة الفيل، ولا ننسى كتاب العلامة مصطفى صبري في موقف العلم والعالم من رب العالمين. وعلى كل لا اللغة ولا التاريخ يتوافق مع هذا القول، كما أبان عن ذلك العرجون وقطب وصبري وغيرهم. (8)

٥–  وبالمناسبة، أشار الكاتبُ على صفحته الرئيسيّة على الفيسبوك بأنّ رأيه هذا مسبوقٌ به من قبل علماء من السلف. وأنّه لو ذكر هذا في الكتاب لكان الناس صدّقوه؛ لأننا قومٌ نقدّس التراث والسلف! وهذا الكلام لا عبرة فيه، فهو محض تشغيب. فالقاعدة الأصوليّة تقول: “أقوال العلماء يستدل لها ولا يستدل بها“! فلا عبرة بأن الطبريّ وعكرمة وغيرهم ذكروه، في حين أنّ القرآن يتحدث عن حجارة مهلكة!

٦–  القصة تثير تساؤلات دقيقة وحرجة وأكثر سخونة وحرارة من محاولة إثبات شيء هو بحكم المعدوم. وهنا أشير إلى عدّة أسئلة مهمة من قبيل: لماذا أهلك الله جيش أبرهة وهم (مسيحيّون) في مقابل انتصار قريش وهم (مشركون)!؟ لماذا دافع الله عن بيته هنا، ولم يُدافع عنه حين غشيه السيل، وحين سرق القرامطة الحجر الأسود لسنين! وهل صحت الواقعة تاريخيًا، مع أنها لا تُذكر في كتب المؤرخين المسيحيين؟! وهل أصحاب الفيل هم قوم لوط كما يذهب أحمد صبحي منصورإلخ.

وأرى أنّ الاشتباك مع الأطاريح التي تُحاول تشفير النص القرآني وإبطال فاعليته عبر التوسّل بالمناهج الميثولوجيّة والأنثروبولوجيّة كما يفعل الساسي الضيفاوي وسيد القمني وغيرهما، في قراءتهم لهذه السورة وغيرها أكثر جدّة من محاولة أقل ما يقال عنها أنّها ولعٌ بالغريب والشاذ.. 

يشير الأستاذ العُمري في غير ما موضعٍ من كتابه إلى أنّالآية القرآنية، تحمل معانٍ متعددة، ولا يُمكن حصرها في معنىً واحد، حيث يمكن التعامل مع القرآن، مثل الضوء في المنشور، ثمّة معانٍ متعددة لكنها متدرجة مثل ألوان المنشور“.(9)

وهذه الفكرة قد تبدو مغرية، وجميلة من بعيد، وتشي بانفتاح فكريٍ ومعرفيّ. لكن التدقيق في بنيتها، يدفعنا لمساءلتها من ثلاثة أوجه:

1- من القواعد التفسيريّة التي تواضع عليها الإمام الرازي في تفسيره، ونصّ عليها، أثناء تعقيبه على المواضع التي يكثر فيها الخلاف، وتباين الآراء والأقوال، وبعد أن يعرض جميع الأقوال المحتملة يقول: “… والكل محتمل، ولا يمكن حمله على الكل“.(10) أي أنّ جميع الآراء محتملة، لكن في نفس الوقت لا يمكن حملها جميعًا. إذ أنّ هذا النص، في نهاية الأمر، له مُرادات ورسائل. أحيانًا قد تتعدد، لكن لا تتناقض على أيّة حال.

2- عطفًا على القضيّة الأولى، هذا المُشكل يدفعنا إلى ترجيح رأيٍ على غيره، والحاصل أنّ تعدد القراءات والفهوم لا يعود بالنفي على أنّ هناك فهمًا أقرب من فهم، وفهمًا أصح من فهم، وفهماً أقوم من فهم، من جهة اللغة، والتاريخ، والقرائن.(11).

3- الوجه الثالث، أنّ هذه الفكرة وما تحملها من سيولة عبثيّة مظهر جليّ في الاتجاهاتالمابعد حداثيّةعموماً، التي تُبشّر بانهيار سقف الحقيقة والمعنى والمطلق، بحيث أصبحنا غرقى في حياة سائلة كل شيء فيها قابل للتأويل والتأويل المضاد.

وهنا نحب مناقشة الأستاذ العُمري في رأيين ذهب إليهما:

الرأي الأول: يرى الأستاذ العُمريّ أنّ حرف (ن) في مطلع سورة القلم، يشير إلى حوت سيدنا يونس، ومُستند الأستاذ أتٍ من أن العرب تُسمّي الحوت نونًا. وهذا ظاهر في كتاب الله كما في توصيف سيدنا يونس بـ (ذا النون).(12) لكنّ هذا الرأي مُشكل، وهو قديمٍ بالمناسبة، إذ ما من تفسير تعرّض لتفسير هذه السورة إلّا وذكر هذا الوجه من التفسير، وذكروا أنّه قد يُراد به حوت يونس، أو حوتٌ غير متعيّنٍ، يراد نون من النينان، والغالب كان يُشير لأنّ الحوت هَاهنا دلالة على علمٍ وهو البهموت الذي يزعمون.(13)

وهذه الوجوه كلها لا تجوز، ولا تستقيم لغة كما أبان عن ذلك الإمام الرازي في تفسيره. وعدا عن أنّ هذه التفاسير تفتح الباب أمامترّهات الباطنيةكما يقول الإمام الرازي أيضًا.(14) لذلك ضعّف العلماء أغلبهم، هذا الرأي على اعتبار

1- عدم وجاهة عطف القلم على الحوت رغم أن أصحاب هذا الرأي تأولوا تأويلات بعيدة.

2- ثم لو كان المقصود الحوت لذكره معرفاً، من باب ألف ولام العهد الذهني. وحينُ ذكر الحوت في صحبة سيدنا يونس، ذكره في موضعه بالإضافة. وفي المركب الإضافي تنصب الأهمية على المضاف ذا النون فالتركيز على صاحب الحوت لا على الحوت نفسه!(15)

3- سورة القلم، من أوائل ما نزل من سور القرآن، ومخاطبة النبي بهذا الترميز، لا يستقيم مع عدم معرفة النبي بأخبار الأنبياء في مطلع الوحي، والتي كانت أخبارهم شاهدًا من شواهد نبوته فيما بعد.(16) ويبدو أنّ الكاتب تنبّه لهذا المشكل، فاقترح أنّ ورقة بن نوفل، هو الذي حكى للنبي تفاصيل ذلك الأمر (17) وهكذا نخرج من تعارضٍ لندخل في كارثة، تُذكرنا بأطاريح (النبيّ الظلّي) التي انتشرت في الفكر العربي في القرن الماضي، والتي تحاول توضيح فكرة أنّ النبي كان خلفه، رجل عظيم أو امرأة خبيرة، ولم يكن ليستقيم أمر رسالته من غيرهم. وهذا ما نجده عنده أبو سليمان الحريري وحديثه عن ورقة، وسلوى العايب وحديثها عن السيّدة خديجة، وماسينون وحديثه عن سلمان الفارسيّ، وعموم المستشرقين وحديثهم عن بُحيرا الراهب!

وبرغم كُلّ ذلك، استرسل الكاتب في اعتبار حرف (ن) في مطلع السورة، دليلًا على حوت يونس، ليرى أنّ الله كان يجترح رمزيّاتٍ، يُخاطب الله بها سيدنا محمد. وهذا الأمر أشار إليه الأستاذ العمري، إذ بالإضافة لرمزيّة حوت يونس، نرى رمزيّة أخدود نصارى نجران الذي تحدثت عنه سورة البروج(18)، وأخيرًا بئر يوسف.(19) 

الرأي الثاني: ينفي الكاتب أنّ انشقاق القمر، قد حصل فعلًا، كما حكته سورة القمر. وما ذهب إليه، أنّ الخبر على سبيل الإنشاء والاستقبال. أي أنّه يحكي عن يوم القيامة.(20) ومستند الكاتب مداره على ستة أفكار:

1- أنّ هذه معجزة عظيمة، لم يسبق أن حدثت، ولو افترضنا حدوثها، لا بدّ أن الأرض اضطربت، ومادت، لتعلّق القمر، بمظاهر عديدة مؤثرة على الحياة في الأرض كالجاذبية والمد والجزرإلخ.

2- أنّ هذه الآية العظيمة لم يُشاهدها أحدٌ من أهل الأمصار المجاورة، مع أنّ القمر في مكة هو نفسه في العراق والمدينة واليمنإلخ.

3-  هذه المعجزة تُنافي طبيعة المعجزة المحمديةغيرالماديّةالتي كانت للأنبياء السابقين.

4- لم يستفِض القرآن في ذكرها، سوى في مكان واحد، خلافًا لعصا موسى وناقة صالحإلخ مع كون انشقاق القمر أعظم من هاتين المعجزتين.

5-  أنّ القرآن يتحدث عن أحوال وأهوال يوم القيامة بصيغٍ ماضيةٍ.

6-  أنّ هذا القول يُنسب إلى بعض العُلماء كالعز بن عبد السلام والحسن البصري.(21) 

ومع أنّ القول بوقوع انشقاقٍ للقمر، لا مشكلة فيه إلّا أن الكاتب ذهب للتأويل القائل بأنّ الأمر حكايةٌ عن يوم القيامة. والحقيقة أنّ مُستنده في ذلك ضعيف، إذ أنّ مدار المعجزة هُنا هي الرؤية، أي رؤية القمر، كفلقتين، وليس ضروريًا أن ينشق القمر مادةً، أو حقيقةً؟(22)

وهنا قد يأتي السؤال ما المُعجز إذن إذا كانت المسألة كلها محض رؤية على شكل خسوف!؟ والجواب هو: موافقة الأمر، وفقًا على طلبهم  أي المشركين ، فتكون المعجزة هَاهنا، جريان الخسوف الذي جعل القمر مُنشقًا إجابةً لطلب المشركين، إذ العبرة في المعجز أنّها فعلٌ إلهيّ، قدّره الله {… على أمرٍ قد قُدر}. وعلى كل فلا مشكلة أصلًا في اعتبار الأمر قد حدث على حقيقته.(23) ومستند الكاتب في غالبه ضعيف، فلا معنى لاضطراب الأرض إذا كنّا نتحدث عن معجز، فالمعجز، لن يسير على قانونٍ جاء خلافًا لعادته أصلًا! وعدم رؤية الأقوام الأخرى للحدث لا معنى له، لأنّ الصحابة رأوا الحدث وروَوْهُ، ولا يصح أنّ معاجز النبيّ كلّها غيرماديّة.(24) والتعليل بأنّ الخبر إنشائيٌ، يتحدث عن يوم القيامة، لا يستقيم مع التعقيب الإلهي الذي يحكي عن ردّ فعل المشركين بعد آية من ذكر الحدث {… وإن يروا آية يُعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر}.

ويحسن بنا نقل كلام الإمام ابن حجر العسقلاني، الذي ساق فيه كلام بعض العُلماء في ردّههم على القائلين بمقالة الكاتب: “… قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه. وأما قول بعضهم لو وقع لجاء متواترًا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة فجوابه أن ذلك وقع ليلاً وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم.

وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة فلذلك صار البرهان به أظهر وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره. والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاصّة من الناس فوقع ليلاً لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياماً ومستكنين بالأبنية والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولاً بما يلهيه من سمر وغيره ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه) (25).

هذا المثال وغيره، يجعلنا نتساءل عن منهج الكاتب في التعامل مع الغيبيّات، خصوصًا أنّه يردّ أيضًا حديث شقّ الصدر الذي حدث للنبيّ صلى الله عليه وسلم في مضارب بني سعد وهو دون الخامسة، والذي يا للمفارقة يردّه لعكس السبب الذي ردّ به انشقاق القمر على حقيقته، إذ يرى أنّ بقاء علامة شقّ الصدر على جسد النبي بعد قيام الملائكة بتطهير قلبه، لا يستقيم!(26) مع أنّ سبب ردّه لانشقاق القمر أنّ حدوث مثل ذلك لا بُدّ أن يصاحبه فيضانات وأعاصير وهذا لم يحدث، لأنّ القانون الطبيعيّ يقول هذا. والحاصل أنّ القانون الطبيعي يقضي ببقاء علامة شقّ الصدر من الملائكة لا زوالها! وكذلك ردّه لحديث الراهب المعروف بحيرا، لتعلّقه بمعاجز، وخوارقّ، وقبوله بغيره لانتفاء المعاجز في نصّه!(27) 

يقول الأستاذ العمريّ أنّه يُقربوجود بُعد غير خاضع للعقل “.(28) إذ يؤمن بالخوارق والغيبيات، وإلّا انتفى معنى النبوءات والأديان الوحيانيّة من أصلها. لكنّنا نقع على عديدٍ من الاضطرابات في التعامل مع الأخبار والحوادث والآيات الغيبيّة عنده. وذلك آتٍ كما نرى من محاولة عقلنة مُتوهمة، لا يملّ الكاتب من تذكيرنا بها، إذ يقول عن نفسه: “كثيرًا ما نُحاول أننعقلنالإسلام، وليس هذا خطأً في رأيي لأنّ الإسلام ونصوصه الثابتة فيها ما يُساعد في ذلك، وأنا من المهتمّين بذلك في أوساطٍ تعتبر الأمرتهمةً’ ”. (29)

لكن المشكلة هي أنّ أصحاب خطابالعقلنةوإعادة تفسير الدين من خلال تهذيب المعجزات وتقليص مساحة الغيبيات والتدخّلات الإلهيّة لا يقومون بعملٍ عقلانيٍّ كما يدّعون، وإنّما يقومون بعملٍ ماديّ. وآية ذلك أنّ التعارض لا يكون بين العقل والغيب. لأنّ نقيض العقل هو الجهل، ونقيض الغيب هو الشهادة.

آخر هذه الملاحظات التي نقف عندها في هذا الكتاب، هي فكرة يمكن أن نصطلح عليهاثانوية الدين في الاعتبار النبويّ “. تردّ العديد من (الثيمات) أو الأفكار المركزيّة التي يُؤكد عليها المؤلّف في كتابه هذا. من قبيل: (العقل الجمعي، أفكار القطيع، الآبائيّةإلخ) ومن بين هذه الثيمات والأفكار المركزية التي لا يألو الكاتب في تذكرينا بها، فكرةثانويّة الدين في الاعتبار النبويّ“. وحاصل الفكرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم في تصاريف أمره في المرحلة المكيّة، كان كثيرًا ما يُقدّم عُنصرًا غير الدين وسوى الإسلام حين قيامه بأمرٍ ما.

فمع موقف الهجرة الحبشة نجد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدّم عدل النجاشيّ على دينه. وفي موقف حماية عمّه أبي طالب له قدّم نصرته على دينه. وفي موقف مطعم بن عدي من فكّ حصار الشعب قدّم فزعته على دينه. وفي موقف استئجار النبيّ صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن أرَيْقط كي يكون دليله إلى المدينة قدّم خبرته على دينهإلخ.

هذه الفكرة كثيرًا ما تواردت في كتاب الأستاذ العمري، وبصورة متضخمة، وكأنّ مشكل المسلمين اليوم هو في عدم تفاعلهم بشكلٍ جيّد مع غير المسلمين، أو استنجادهم بـالكافرينبصورة هزيلة. لن نتحدث كثيرًا عن هذه الفكرة، وما تستبطنه من نزعة إنسانويّة Humanism، لكن أحب أن أهمس في أذن الكاتبوهو عراقيٌّ، يحمل في كيانه كل ما عُرف عن العراقيّين من أنفةٍ وكبرياءٍ وشممأنّ جحافل الغزاة، حين دخلوا العراق في حرب الخليج، لم يكن العُلماء غُفلًا عن مسألة جوازالاستعانة بـالكافرينلقضاء حوائجنا، فبارك الشيخ الشعراوي الجحافل الأمريكيّة(30) وليس بعيدًا عنه الشيخ ابن باز الذي رأى أنّ الغزاة “… ما جاءوا ليستحلوا البلاد، ولا ليأخذوها، بل جاءوا لصد العدوان وإزالة الظلم ثم يرجعون إلى بلادهم، وهم الآن يتحرّون المواضع التي يستعين بها العدو، وما يتعمّدون قتل الأبرياء، ولا قتل المدنيين، وإنما يريدون قتل الظالمين المعتدين وإفساد مخططهم والقضاء على سبل إمدادهم وقوتهم في الحرب“.(31)

المراجع

1- أحمد خيري العمري، السيرة مستمرة، دار عصير الكتب، ص 11-21.

2- إضاءات في الفكر والدين والاجتماع ج 4، مركز البحوث المعاصرة، بيروت، لبنان، ص520-525.

3- المصدر نفسه.

4- إيتيان دينيه، محمد رسول الله، دار الشركة العربيةالقاهرة، ص27-28.

5- العمري، مصدر سابق، ص 35-36.

6- العمري، مصدر سابق، ص 16.

7- العمري، مصدر سابق، ص 35-36.

8- انظر على سبيل المثال:

مصطفى صبري، موقف العلم والعالم من رب العالمين، دار إحياء التراث، ج4، ص103-106.

محمد العرجون، السيرة النبوية، دار القلم، ج1، ص 90-98.

سيد قطب، في ظلال القرآن، تفسير سورة الفيل، ج 6.

9- العمري، مصدر سابق، ص 159.

10- تفسير مفاتح الغيب، الإمام الرازي، تفسير سورة التوبة آية 14.

11- انظر على سبيل المثال:

–  مولود السريري، القانون في تفسير النصوص، دار الكتب العلمية.

أحمد الدغشي، من يمثل الإسلام؛ قراءة حضارية في إشكالات فكرية معاصرة، مركز الناقد.

12- العمري، مصدر سابق، ص159.

13- التفسير الكبير، الإمام الطبري، تفسير سورة القلم.

14- تفسير مفاتح الغيب، الإمام الرازي، تفسير سورة القلم.

15- وهنا نحيل على مصدرٍ حيّ، وهو الدكتور غزال محفوظ، أستاذ اللسانيات وعلوم القرآن، إذ كانت هذه إجابته، بعد توجيه سؤالٍ له عن وجاهة هذا التفسير.

16- رشيد كهوس، مقاصد القصص القرآني، مقالة.

17- العمري، مصدر سابق، ص159.

18- العمري، مصدر سابق، ص 225-233.

19- العمري، مصدر سابق، ص 356.

20- العمري، مصدر سابق، ص 243.

21- العمري، مصدر سابق، ص 240-248.

22- تفسير سورة القمر، الأستاذ المغربي د.مصطفى بنحمزة ، ج1، ج2 (مقطع صوتي). 

23- تفسير سورة القمر، الأستاذ المغربي د.مصطفى بنحمزة ، ج1، ج2 (مقطع صوتي).

24- محمد أحمد المسير، النبوة المحمدية دلائلها وخصائصها، دار الاعتصام، ص 141 وما بعدها.

25- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ت: شيبة الحمد، ج7، ص 224-225.

26- العمري، مصدر سابق، ص 344.

27- العمري، مصدر سابق، ص 81-86.

28- العمري، مصدر سابق، ص 348.

29- العمري، مصدر سابق، ص 348.

30- فيصل دراج، شيخ غير الشعراوي، مجلة كنعان عدد 18، سنة 1992. 

31- الموقع الرسمي للشيخ ابن باز: https://www.binbaz.org.sa/fatawa/252