الأحكام الكلية و الأحكام الجزئية

2٬658

كثيراً ما تحدثنا فيما مضى عن علم المقاصد وأَعلامِهِ من باب رؤية الدور الخطير لهذا العلم في تصحيح فهمنا المعاصر للشريعة الغراء وأحكامها السمحة . إلا أن متابعة الدراسة المتأنية لكنوزه كثيراً ما تتكشَّف عن وجود قواعد تأصيلية رائعة ، تتجلَّى عبقريتُها الفذة في قدرتها على رسم كثيرٍ من الخطوط الأساسية الفاصلة في منهجية تفكير الإنسان المسلم المعاصر وطريقة فهمه لكثيرٍ من الأمور في هذا العالم .

وفي هذه المقالة ، نعرض لتحليل واحدةٍ من هذه القواعد الأصولية ، وقد وردت في كتاب “الموافقات” للإمام الشاطبي رحمه الله ، ونحاول أن نستقرأ منها منهجيةً لفهمٍ متوازن لقيمة العلم والسنن الكونية والاجتماعية ، من حيث درجة نسبيتها وعلاقتها بطلاقة المشيئة الإلهية ، بشكلٍ تتحدد معه الطريقة المُثلى لتعامل أهل الفكر مع تلك الأمور تعاملاً يضمن التفاهم والتعاون والتكامل ، و يُبعد سوء الفهم والخلاف .

فقد ذكر الإمام الشاطبي في الموافقات القاعدة الأصولية التالية:

“إن العلم بالأحكام الكلية قطعيٌ لا يَقدح به و لا يعارضه تخلف الأمور الجزئية… و هكذا سائر مسائل الاصول . ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي ، و العمل بخبر الواحد قطعي ، و العمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي ، إلى أشباه ذلك . فإذا جئت إلى قياسٍ معين لتعمل به كان العمل ظنياً ، أو أخذت بخبر واحد معين وجدته ظنياً لا قطعياً ، و كذلك سائر المسائل ، و لم يكن ذلك قادحاً في أصل المسألة الكلية” .

نظرتُ في هذه القاعدة الأصولية فوجدت أن فهمها و معرفة أبعاد تطبيقاتها تُوفر علينا الكثير من الوقت و الجهد الذي نصرفه في رفع بعض أشكال سوء التفاهم بين العاملين في ساحة الفكر و الثقافة . فلا يصعب على المتتبع لما يدور من الحوار و المناقشة حول القضايا المتعلقة بأزمة التخلف و الجمود ، أن يجد مقداراً كبيراً من سوء التفاهم الذي يحمل على سوء الظن ، و الذي تنقطع معه القدرة على التواصل و التفاهم و التعاون .

يؤمن فريقٌ من المهتمين بقضايا الفكر وبقضايا الأمة بأن العلم هو الأساس و المنطلق لأي عملٍ باتجاه بدء عملية النهضة و رفع التخلف ، ولذلك تراهم يبدؤون و يعيدون في فضل العلم و الإقبال على القراءة و البحث و الإطلاع ، حتى إذا وقعوا على كلامٍ يتحدث عن نسبية العلم و أنه ينفي اليوم ما أثبته بالأمس . . . إلى أشباه ذلك ، ضاقوا بهذا الكلام و اعتبروه انتكاساً عن العلم و رجوعاً إلى الخرافة و الظن و التخمين ، و اعتبروا أن الإشادة بالعلم و الاستشهاد بالآيات و الأحاديث على ذلك لا يعدو أن يكون كلاماً و ادعاءً يكذبه التردد في القبول و التسليم بالعلم و نتائجه .

و يؤمن فريقٌ آخر بأن السنن الكونية و القوانين الطبيعية هي أمرٌ ثابتٌ مستقرٌ في الوجود ، و أنه لا يمكن التغيير الحقيقي في الأمة بأي اتجاه إلا بعد فهم سنن التغيير و إدراك قوانين التدافع . وإذا بفريقٍ آخر يرى في هذا التقرير تطاولاً على الله و جراءةً على طلاقة المشيئة الإلهية ، و أن هذا الكلام يقترب من القول بالحتميات التاريخية التي يقول بها الماديون و الماركسيون . فكم من أمرٍ اكتملت أسبابه التي نعلمها و مقدماته التي نحصيها ولم يرد الله سبحانه أن يكون ، ليبقى الناس مع سننهم و قوانينهم و مع دعاوي حتميتها في حيرةٍ و اضطراب .

إن القول بضرورة العلم و القول بوجوب اتباع الدليل و المطالبة بالبرهان في دراسة الظواهر الكونية و الاجتماعية من الأمور القطعية التي لا يجب أن يختلف عليها عاقلان . ولكن إذا جئنا – بعد ذلك – إلى نظريةٍ بعينها لتفسير ظاهرةٍ كونية أو اجتماعية ، أو لبيان كيفية التعامل معها وجدنا الكلام ظنياً غير قطعي – بمعنى أن بعض التفاصيل تفتقر إلى البرهان اليقيني الذي لا يُختلف فيه – فالناس في محاولةٍ دائبة لتصحيح تصوراتهم و نظراتهم إذ لا سبيل إلى التطوير و الارتقاء إلا بالإيمان بنسبية ما نصل إليه اليوم لتصحيحه غداً على طريق البناء الصاعد للمعرفة ، و هذا لا يتناقض أبداً مع تسليمنا المطلق بأن الإيمان بالمنهج العلمي لازمٌ و واجب . فإذا أشار من يشتغل في أي فرع من فروع المعرفة إلى نسبية و محدودية ما تم التوصل إليه ، كان ذلك إيماناً منه – ولا شك – بالمنهج العلمي و إرادةً لاستمرار المحاولة و الارتقاء بالفهم ليقترب من الكمال المقدر للإنسان في هذا المجال .

و كذلك فإن ثبات السنن و القوانين الطبيعية و الاجتماعية أمرٌ لا شك فيه ، فإذا قال المرء بنسبية صواب فهمٍ معين لما تجري عليه الأمور ، و أدرك تَعقُّدَ الظواهر الاجتماعية و الإنسانية فأمسك عن القول بالحتمية ، لم يكن ذلك قادحاً في الإيمان بثبات السنن ، و إنما كان هو الفهم الحقيقي الأصيل لظنية آحاد المسائل التي نتناولها بالبحث و الدراسة ، و لضرورة المحاولة الدائبة لتصحيح الرؤية و إحكام العلم .

إن القول بقطعية العلم و القول بقطعية السنن و القوانين هو منهجٌ في البحث و النظر و طريقةٌ في التعامل مع الكون و الحياة ، وليس جموداً على قضايا و مسائل كانت تمثل أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني في يوم من الأيام.

وإن المنهج العلمي المتمثل في البحث الدائب و النظر المستمر و التفكير المتواصل و طلب الدليل و البرهان هو أصلٌ كليٌ و طريقةٌ قطعيةٌ مستقرة . أما آحاد المسائل و القضايا فيما نبحثه و نتأمل و نفكر فيه فكلها من الأمور الظنية القابلة للتصحيح و الزيادة و التطوير .

و مما يزيد الأمر وضوحاً ما ورد في الأثر : من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ . و قد شرح العلماء هذه العبارة بقولهم : من قال في القرآن برأيه فأصاب في مسألة ما فقد أخطأ في المنهج و ابتعد عن الطريق ، فلا ضمان ألا يتكرر الخطأ و يستمر الضلال إلا بتأصيل منهج النظر و الاستنباط ، و لا عبرة بصواب رأيٍ أو فكرة شاردة عن المنهج . وكذلك لا ضرر من الخطأ إذا اجتهد المرء و بحث ونظر و شاور و طلب الدليل ، بل إن نتيجة ذلك هي الأجر و القبول من الله تعالى جزاءً على الجهد في تأصيل منهج النظر و لو أدى ذلك أحياناً إلى مجانبة الصواب .

 

محرم 1420هـ / 05-1999