الأمة القطب: في السيرة والمفهوم

282

نعيش اليوم ومنذ ما يزيد على عقد من الزمن عصر “العولمة” والذي يشهد تدشيناً لوعي حضاري متأجج ولحقبة من المراجعات الفكرية في أصول النظم والعمران والعقائد والثقافات، بـدءاً بمراجعة في أصول الشرعية الدولية بما تطرحه من مبادئ النظام العام وقواعد الإلزام، وطبيعة العلاقة بين مكوناته وأصوله وفروعه وفيما بين الخاص والعام والجزء والكل وما يثار من قضايا تأسيسية كالقضايا المستشكلة حول الوحدة والتنوع. ويأتي حديثنا في موضوع الأمــة في الإسلام ضمن هذا المناخ العام لنعود بالذاكرة إلى جذور ذات الحقبة من المراجعات الفكرية في بيئتنا الاجتماعية الحضارية كمسلمين يعيشون واقع عالمية زاحفة. وكان ذلك منذ ما يزيد على عقدين في أوج إرهاصات “الصحوة” التي عاشتها الأمــة وما واكبها آنذاك من أحداث وانفعالات، وكنا آنذاك نعيش كذلك لحظة متميزة في وعي الزمن مع مطلع القرن الهجري الجديد.

وجاءت يومها المبادرات الفكرية والتنظيرية في الأوساط الثقافية محاولة الاستجابة لواقع الأحداث والظواهر: منها ما كان على مستوى وعي المرحلة، ومنها ما دون ذلك، فكان من الطبيعي أن تطرح أزمة الفكر والثقافة واللغة في معاقلها الأولى والتي تتقدمها الجامعات وكليات التخصص المعنية بالنظر في التاريخ والاجتماع والمذاهب والنظم. والمعروف أن الدراسة فيها كانت تقوم على المناهج الحديثة، وهي في جلّها “مستوردة” أو في أحسن الأحوال مدجّنـة في ضوء القيم والمذاهب الحداثية التي ارتبطت بمؤسسات الدولة الحديثة في المنطقة التي تقوم عليها أوساط مهجنة كذلك، وهي ما أطلق عليه في بعض الدراسات السياسية الخاصة بالمنطقة “بالطبقات الوسطى الجديدة”، وهي العناصر التي أفرزتها المؤسسات الحداثية نفسها، والتي توخى فيها المراقب السياسي في حينها بأنها مثلت جيل القطيعة الحضارية في هذه الأمة جاءت محاولات التأصيل للأمـة ضمن النظر في إطار مرجعي بديل لقراءة التاريخ والواقع السياسي والحضاري الاجتماعي فيها: فالذي نتوخاه من استعادة ملف هذه الفترة هو الدلالات الإيجابية (وعلى غير المتوقع) لحقيقة هيمنة عناصر ثقافية لم تكن على تمام التواصل لا مع القاعدة الاجتماعية الحضارية التي تتوسطها – أو ما يسمى في اللغة الفنية الدارجة “بالشارع السياسي”، ولا هي على وثيق الصلة بأصول البيئة الاجتماعية الحضارية والتي يفترض أن يتم التداول المفاهيمي والقيمي والمعنوي في أوساطها. فقد نجم عن هذه الوضعية المفارقة توتر خلاّق في ذات الأوساط المثقفة التي أفرزتها المؤسسات الحداثية، وأخذت بعد أن تمكنت من كثير من الأدوات المنهجية الحديثة أن تتفاعل مع المشهد الحضاري لتبدأ مرحلة تنقيب واكتشاف وإعادة بناء.

ودون المزيد من الاستطراد، فإن موضوع التأصيل للأمـة في مجال العلوم السياسية قد طرح منذ أكثر من عقدين حيث واكب بدايات المد الإسلامي أو إرهاصات الصحوة، و من ثم جاء في حينها تعبير صادق وأصيل لا فقط ليسد ثغرة في حقل ومناهجه، بل ليدشـن وجهة جديدة فيه ومعه في تكوين جيل وعقلية وصفوة: ومن ثم فان استحضار ملف هذه الفترة يكتسب أهميــة مزدوجة ترجع لطبيعة فترة المنشأ والمحضن في ذاتها من جانب، ثم ترجع الى دواعي ومقتضيات المرحلة الراهنة من جانب آخر. فإني أرى أنه يكتسب أبعاداً تجعله أكثر حيوية وإلحاحاً في الظروف الراهنة، لنفتح صفحاته من جديد، إنه يمثل ملف حقبة وجيل بل ملف أمة.

وأود أن أبدأ بالتعريف بالظروف التي كانت تحيط بي يوم بدأت التفكير في هذا الموضوع، هذه الظروف التي تشكل خلفية الخطاب ومبررات طرحه اليوم. كنت أعيش مفارقة وتشتتاً بين وجهتين وعالمين، فمن ناحية نشـأت كفتاة مسلمة ارتبطت بالقرآن ارتباطاً وجدانياً تأكد بالمعايشة والممارسة، وكنت على حب شديد وإيمان عميق بحضارة إسلامية ووجود إسلامي أتلمس أصوله وأفتقده في الواقع. ومن ناحية أخرى وجدتني في مسار حياتي العلمية ضمن السلك الجامعي أقوم بتدريس مساقات في العلوم السياسية ومنها مادة النظم السياسية العربية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. ولا يخفى أن التدريس هناك شأنه شأن الدراسة في الجامعات الحديثة كان يتم من منطلق علم السياسة والفكر السياسي المعاصر الذي يدور في إطار المنظور الغربي التغريبي والذي لا علاقة له بالعلوم التي درج أن نسميها إسلامية أو الإسلاميات أو الشرعيات أو نظام التعليم التقليدي.

ومن خلال هذه المفارقة بين طموح وسطحية واقع معاش وشفافية حس نافـذ إلى عمق مكلوم، بدأت أتسـاءل عن جدوى مادة أدرسها قد تكون على درجة من التشويق في ذاتها ولكن أين الجدوى فيها والنفع إذا لم تخاطب الواقع الذي يفرض نفسه على المشاعر قبل الوعي دون أن نجد الأدوات والوسائل للتعامل معه على مستوى المنطق والفكر؟ هل يعقل أن نشغل حيز المخيال السياسي في عقول شباب جيل بمفاهيم تُعلك علكاً، وظواهر مصطنعـة هي أشباح قوى ومؤسسات ومذاهب معاصرة، ونغفل جوهر قوى وتيارات وعقائد وآليات حراك تاريخي تموج بها منطقتنا، بدعوى تلمس الحداثة والامتثال لمقولات “علمية”… هذه القوى التي أحست وجود الأمة، وفيها الروح التي تحرك الحياة العامة وتفرض نفسها على الواقع، والتي أضحت الشاهد الغائب أو الحاضر الغائب الذي لا تجد له انعكاساً في المؤسسات أو في “الدولة” ولكن نستشعره حولنا استشعاراً، بل نشهده شهوداً سواء في أحداث تلك الفترة من مثل الثورة في إيران، أو في مطلع الجهاد في بلاد الأفغان، وفيما أحدثته هذه وتلك من رجع الصدى على امتداد دوائر وفصائل “الشعوب” فيما بدى وكأنه وطن واحد لا تفصله الحدود السياسية والجغرافية أو النظم والمذاهب واللغات والأعراق، وكأن الدولة القومية كنموذج الحداثة السياسية في المنطقة بكل ما حملته من وعي مغاير عجزت عن أن تحجم الاستجابة التلقائية لأحداث أوقدت قابليات تلك الاستجابة لدى قواعد (جماهيرية) نشأت في رحاب الجامعة الشعبية الأولى، جامعة مسجد الحي والمصـّلى، حيث توحد الصلاة وتلاوة الذكر الحكيم، بين أجواء بيئة اجتماعية حضارية واحدة. فيومها ومنذ توالت أحداث مفصلية شـتى في أصقاع العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، بدت الأمة في واقعها وتجلياتها كظاهرة مؤثرة وكمفهوم معقول استطاع أن يتحدى نموذج العلمنة والخطاب السياسي السائد يومها، وليفرض على أصحاب التخصص في الدراسات السياسية الأكاديمية أن يراجعوا مسلماتهم ويعيدوا النظر في مناهج التفكير في موضوعات الفكر السياسي والنظم.

بدت “الأمّـة” إذن كظاهرة تؤطر للجماعة السياسية على مستوى الحدث والفعل السياسي جاءت تفرض نفسها على الساحة السياسية في الأصعدة كافة سواء محلية كانت أو إقليمية أو دولية-عالمية؛ بل أننا في نهاية التسعينات عندما عاودنا النظر في ملف حقبة استطعنا أن ندرك دلالة الأحداث على نحو أكثر وضوحاً، فما كادت السبعينات من القرن الماضي تنتصف وإذا بالأحداث المرتبطة بالإسلام سياسية كانت أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية واستراتيجية، تصطحب معها وعياً جديداً لدى مراقب الساحة والقائم على حقل الدراسات السياسية المقارنة وإنتاجاً ظاهره أدبيات “الإسلام السياسي” والأصوليـة السياسية، وباطنه ينبض بإيقاع جديد تمخضت عنه أطروحة “صراع الحضارات” في مطلع التسعينات. وإن كان مما يخفى على الكثيرين أن جذور هذه الأطروحـة انبثقت في منتصف السبعينات في مجال تقييم منحى الأحداث في المنطقة العربية الإسلامية على وجه التحديد وقد شارك فيها صمويل هانتنطجـُن نفسه، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد والذي عكف بعدها على دراسات في التنميـة السياسية تربط بين موقع الدين من الثقافة واتجاهات تطوير النظم.

المهم أن التطور المفصلي الذي بدى يلوح في أفق الفكر السياسي العالمي كان من الطبيعي له أن يجـد أصداءه الأولى في أوساط جامعية في قلب العالم العربي، وأن تثار الأسئلة هناك لا عن طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة وموقع الدين من الثقافة المعاصرة، بل على مستوى وعي منهاجي جديد يدعو إلى مراجعة الفصل التعسفي بين العلوم والمعارف، خاصة بين الدراسات الاجتماعية والدراسات “الشرعية”، ويدعو إلى بنية جديدة لمناهج التعليم تستوعب القيم المعرفية الإسلامية وتدمجها ضمن المناهج العلمية الحديثة، أو على نحو أدق، أن تتم مراجعة المنهجية الحديثة على ضوء مرجعية مصادر معرفية وقيمية إسلامية. [وطرحنا سؤالاً يومها مفاده، ألم يئن لنا أن نقوم برأب الصدع المفتعل بين “الإسلاميات” و”الإنسانيات” (العمرانيات)، وأليس الأجدر بنا أن نأخذ زمام المبادرة لتوحيد أسس وقواعد بنياننا الفكري والنفسي لنعيد دمج نوعي العلوم، فنربط علوم الفقه والشرع بعلوم الحياة والأحياء؟ …]. وجاء فتح ملف الأمـة في حقل العلوم السياسية في هذا السياق، على أن يتراوح النظر فيها ما بين الرصد والتحليل للظاهرة كواقع تاريخي مشهود، والتعامل معها كمفهوم قابل للتجريد النظري والتأصيل. وكانت هذه إيذاناً بنظرة تجديدية في بعض علوم التخصص، فضلاً عن فاتحة للوعي المنهاجي الحضاري.

إن المفكر يعيش واقعـه على مستويين: مستوى المعايشـة الكلية من خلال تفاعل مركب مع الحدث أو واقع الزمان والمكان، ثم على مستوى الوعي الانعكاسي النقـدي في النظر والتأمل في هذا الواقع، بعـد اختمار أو اختزان وجداني، وقد تتداخل مرحلة المعايشة مع مرحلة الاسترجاع وفي كل الحالات غالباً ما تتم هذه العمليات في ضوء مرجعية ذاتية تحكم مسارات القراءة تفسيراً وتأويلاً وتحليلاً أو تنظيراً وتقويماً، وتعود إلى مساحات قَبْلِية -أي ما قبل المنهج- سواء كانت واعية أو غير واعية. ولا يخفى أهميـة الإطار المرجعي الذي ينطلق منه النظر حيث أنه لا يتوقف عليه فقط تحديد الماهيات ولكن يتعـدى أثره إلى تكييف الآليات: آليات البحث العلمي في الظاهرة الاجتماعية وســؤال التكافؤ المنهاجي على نحو ما سوف نرى.

فالمرجعية القرآنية التي ينطلق منها الباحث عند اقترابه للواقع العمراني تتخذ من التوحيد والعمران والتزكية قيماً عليا في التعامل مع هذا الواقع، فهماً أو سلوكاً. فإذا ما تحدثنا عن العمارة والعبادة في ضوء هذا المنظور قلنا إنهما وجهان لعملة واحدة. ونظرنا إلى الأمـة يجب أن ينطلق من هذا الإطار. وعندها يثور السؤال، كيف نترجم مفهوم الأمة على مستوى المنهج وليس من مجرد المعايشة الوجدانية لمفاهيمه؟ فإذا كان المنهج العلمي الحديث يقتصر في دراسته على الظواهر أو الأوضاع التاريخية والمؤثرات المادية وهو ما يمكن أن نسميه “بالبرّانيات” فإنه لابد من أن نوجد النموذج والنسق التوحيدي الذي يمكننا من التعامل مع ما دون ذلك وما وراءه من كوامن ومطلقات تؤطر للدوافع والأوجه عند تقويم الوقائع والوشائج في مدار الحراك العمراني: بالتالي فإنه لابد من إعادة النظر في مفهوم الظاهرة الاجتماعية نفسها وفي تقويم الواقعـة التاريخية، بحيث نكون إزاء منهاج يستطيع أن يتعامل مع كل من القيم والمعنويات، و مجال “الجوانيات” إن صح التعبير، إضافة أبعاد الزمان-مكانية التي تؤسس للنسبية والسببية في توالي الظواهر وتعاقب الأحداث.

وقد رأيت من خلال الدراسة والمعايشة لواقع مستشكل من خلال رؤية متخصصة، أننا إزاء ظاهرة مركبة، متعددة الأبعاد متداخلة المستويات، وأن طبيعة الأمة في الإسلام إنما تفرض إعادة النظر في المنهج فلا يمكن دراسة خصوصيتها وفهمها إلا من خلال منظور يجمع في رؤيته ومقارباته بين أبعاد شتى لا تتيحها الأطر والمناهج التي تدور في رحى الوضعية الراهنة: فالمنظور الأكاديمي المطلوب (والمطروح) لا بد أن يكون قادراً على الاستجابة والتعامل المنهجي مع أبعاد شتى للظاهرة الاجتماعية العمرانية التي تنطوي على أبعاد وجودية إنسانية تاريخية حضارية يتداخل فيها الخارج والداخل والظاهر والباطن والبراني والجواني. وواضح أن التعامل من خلال المنظور البديل مع الظواهر الاجتماعية والعمرانية يكون أكثر واقعية لأنه على وعي بالطبيعة المعقـدة والمركبة لتلك الظواهر، ولكن يبقى السؤال المنهاجي حول أدوات التناول والاقتراب على النحو الذي يحقق التواؤم بين أداة البحث وموضوعه وهو ما درجنا على تسميته بالتكافؤ المنهاجي.

وعلى هذا المنوال كانت من أولى التحديات التي واجهت الباحث عند تناول الظاهرة الاجتماعية العمرانية من المنظور البديل الذي أخذت تتبلور معالمه منذ حين، هو مقتضيات النظر في العلاقة بين النسبي والمطلق فيها، وبين عناصر الاستمرارية ومكامن التغيير، أو كما أسماه البعض الثابت والمتحول. الأمة تجمع بين عناصر تشترك فيها مع غيرها من الأمم والجماعات السياسية وبين عناصر تميزها أو تتفرد بها، بحكم تمايز النشأة أو قاعدة التأسيس والتكوين أو بحكم ثوابت كامنة أو وظيفة حضارية مستبطنة. والمهم الإشارة إلى وجود مثل هذا التمييز وما يترتب عليها من آثار منهجية وغيرها. أما من حيث المشتركات التي تشاطر فيها الأمـة في الإسلام غيرها من الجماعات فهي تقع في محيط الأسباب الموضوعية أو التاريخية، والتي تنعكس أول ما تنعكس في مستويات الأداء والتمكن، وترتبط بمعطيات و مؤشرات مادية وتنظيمية، فتكون ضمن الشروط العامة والمقدمات في النهضة والنمو أو التقهقر والانهيار والاندثار. فالأمة تخضع في جملة مسارها لسنن الأطوار والآجال. وكل أمة تأتي ومعها مقدماتها وتخـلّف في أعقابها الآثار. وهذا ما نعنيه بـ”النسبية” في هذا المجال. ولكن أين الثوابت أو أبعـاد الإطلاق عند النظر في الجماعة التي ولدت مع اكتمال الدين في منشـأ الإسلام.

إن من خصوصيات الأمة في الإسلام، ضمن ما لها من خصوصيات، أن ارتبطت بالعقيدة الدعوة مما أضفى عليها بـُعداً غيبيـاً إضافة إلى أبعاد تكوينية ووظيفية وغـائية معلومة. فالأمة ارتبطت بالتوحيد وهي وعاء الرسالة الخاتمة، فالرسول  عندما مات لم يخلف إمامة أو دولة ولكنه ترك أمة انبثقت منها المؤسسات والمدارس والأئمة والدول. فليست الدولة في الإسلام مداراً للأمة قياماً وتطوراً وامتداداً وضموراً، ولكن الأمة تدور مع العقيدة، والعقيدة هي منطلق بقاء الأمـة. أما الدولة قد تكون أو لا تكون؛ فبتأسيسها تكتمل مقومات البنية العمرانية للأمـة، و تكون أداة الذود والمدافعـة عنها وتمثيلها وصيانة مصالحها ونظمها، فالدولة ليست بالمنشىء للأمة أو البديل عنها، ولكنها تدخل في عداد الهيئات المكملة أو المتممة، بقدر ما تؤّمن للكينونة الجماعية الأم شروط الحضور التاريخي الفاعل (ومن المنطلق نفسه فإن الدولة في حال تفريغها من مقاصدها العليا، وتمييع أصولها، قد تعيق هذا الحضور، وتـُشلـّه، ولكنها لا تـُبطله ولا تنفيـه). أما نشـأة وتواصل وحضانة ومناعة وخصائص هذه الأمـة فشـيء آخر في المناط والبقاء: وطالما أن هناك قرآناً فهناك أمـةً، وتبقى تلك الأمـة بخصائصها الأصيلة ودورات تنشئتها المنيعـة هي الوعاء البشــري المحكم للقرآن الكريم… ولو كما يقول المناطقـة، موجودة بالقوة، ولو بقت هذه الأمــة متمثلة في فرد – مثل إبراهيم عليه السلام.

إذن – ومع وقفة منهاجية أخرى للقراءة في الدلالات التي تربط بين المقدمات والنتائج وبين الماهيات والآليات – نرى كيف أن التمايز في مرجعية الأمـة تأويلاً وتأريخاً من حيث الأسس والأصول، من شأنه أن ينعكس على العلم موضع النظر، وأنه في حال ما يكون الأمر على غير ذلك، من المنطقي أن تكون المفارقـة التي أشرنا إليها في مطلع الحديث بين واقع حال تعيشه الأمــة في ضميرها الجمعي وبين مؤسسات ونظم تعليمية وفكرية وثقافية منبتة الجذور عن هذا الواقع!

لقد باتت العلاقة الجدلية بين الأمة والعقيدة هي الخصوصية التي شكلت المدخل لمراجعة مفهوم الأمة ولمعاودة النظر في بعض المفارقات التي وجدت في تراثنا نحن المسلمين. ففي التراث يوجد الفرد المسلم، موضع التكليف والالتزام، ويوجد الفعـل مناط الوجوب، والحلال، والحرام، كما يكثر البحث في الإمامة وشروط انعقادها، وفي الإمام ووجوب الطاعة له، وأمور السياسة الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من قضايا السياسة، والخراج والقضاء. ولكن يبقى السؤال الشاهد الغائب أبداً: أين الأمة؟ وكيف يغيب ذكر الأمة. ويكثر اللغط في الفرق والملل والنحل.

والأمــة هي التي شهد التاريخ مولدها مع شـهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله!… فالمسلم الفرد حين يتوجه ويأخذ العهد فرداً ويقول أشهد أن لا إله إلا الله ينتقل بعدها ليكون جمعاً في “إياك نعبد وإياك نستعين” – مع ملاحظة نون الجماعة – فالفرد يدخل عقد الإسلام بشهادة يدخل فيها بوثاق يشده إلى خالقه وبوشائج تربطه بجماعة ثابته الأصول معلومة الوجهة: وكأنه قد اكتسب بموجب الشهادة عقيدة وهداية، مع هوية وانتماء وغاية: وهذا المقصود بالجمع بين الشهادتين أو بالأحرى بين شقي الشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله رباط رأسي مع الخالق ومع الغيب ومع المصدر وفي الوقت نفسه بهذه الشهادة يدخل في علاقة أفقية تجمعه مع الجماعة ومع الأمة ومع الجماعة الأولى. فالعقيدة تلقي بخصائصها على خصائص الجماعة وفي الوقت نفسه تصوغ نفسية الفرد المسلم، ومن خلال هذه النفسية تصاغ أيضاً الجماعة ونفسية الجماعة وخصوصيتها.

فإذا كان المدخل إلى الأمة في الإسلام يرتبط بالعقيدة أكثر مما يرتبط بالدولة ومسارها التاريخي فكيف يمكن أن ننظر إلى عمليات التنشئة سواء جاءت في مستوى (الفرد الجماعة) أو (الفرد الأمة) في جماعة نوعية يتواصل كيانها عبر وجود المسلم سواء وجدت الظروف المواتية لتأمين النشأة والهوية أم لم توجد، سواء وجدت الأطر الخارجية التي تدعم من هذا الوعي أم لم توجد؟ وهذا ما يفتح لنا المجال لإمعان النظر في طبيعة ما نطلق عليه دورة التنشئة الذاتية والتجدد الدوري على نحو ما أمنته العقيـدة بخصائصها وخصوصياتها.

وإن كانت هذه الدورة تبدأ من الفرد، فهي تمتـد لتشمل الجماعة، ولذلك نجد أنفسنا إزاء نسق فريد من التنشئة تكون العقيدة فيها هي المؤسـِسة، ويبقى القرآن هو المدرســة والرسول  مصدر الأسوة، وتكون جامعة القيم وتفعيلها هي المعيار والحكم في حضور الأمـة. ولا يغيب عنا معنى أن خليل الله وأبا الأنبياء بما يمثله من نهج حنيف (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، وصف في القرآن الكريم “بالأمة”… وأن تاريخ الأمــة في الإسلام – أمـة النبي عليه السلام منذ أسسها ليجعل منها وعاء الرسالة وحصن الأمانة ومحضنها – لم تخل قط من نماذج الفرد-الأمــة: ومن يكون؟ إنه الفرد الذي تمثل قلباً وعقلاً ووجدانا قيم الأمـة ومثلها وهمومها وآمالها، بحيث جاء فعله من موقعـه في لحظة تاريخية معينة وكأنه استجابة لحاجة جامحة تعيشها الأمة في هذه اللحظة، وكأن إرادته إرادة جامعة وليست إرادة مفردة، بها تبعث قيمة عليا من قيم الحق وتحدث أثـرها في واقع مشهود. والفرد الأمـة ليس بالضرورة أن يكون عمر بن عبد العزيز ليقيم مسار دولة، ولو لفترة، ولا صلاح الدين لينشل أمة من مذلة وهوان، ولا أبو حامد الغزالي وهو يعيش ملحمة إحياء علوم الدين، ولا ابن تيمية وهو يراوح ما بين السيف والقلم حاملاً قلب هذه الأمـة وعرضها في جوفه، ولكن يعيش هذا الفرد في كل عصر وكل مصر دون اشتراط الشهرة والألقاب، ولكن يكفي أن تهب رياح الخطر على هذا الدين ومستضعفيه، فإذا الأمـة تجده على ثغرة وقد خرج فرداً أو معه نفر من أولى العزم وقد جاءوا رجالاً يسعون في الله وقد تنادوا من كل فج عميق. والسؤال الذي يطرحه مراقب الساحة لم يعد متى ينضب هذا المعين؟ ولكن السؤال هو كيف؟ وما هي آليات الإنضاج التي تكفل ظهور الفرد الأمة في كل جيل وكل حين؟ أما نحن في حقل التخصص وقد استقام على أصول معرفية بديلة، فلنا أن نؤصل لدورة التنشــئة الذاتية التي تحفظ للأمة قوامها، الأمـة فرداً وجماعـة، ضمن مسارات التجدد الدوري الذي أمنته الرسالة الخاتمة لمن أعدّ كي يحمل أمانة الرسالة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في يوم الدين. ومن هنا كان وصف القرآن الكريم بـ”إن إبراهيم كان أمة”، ومن هنا كذلك جاء قوله تعالى: {كنتم خير أمـة أخرجت للناس…} لا كقول يخاطب لحظة فارقناها، ولكن كقول فصل ماض وملازم لكل اللحظات المفصلية الفارقة التي لا تغيب عنا في أي زمان.

إنه لابد من فهم العقيدة بأبعادها ودلالاتها التي تجعل من التوحيد المنظومة القيمية والعقلية والفكرية بل والمنظومة الحياتية التي تجمع وتصل بين عناصر كيان الأمة، وهي أمـة تعيش اليوم حالة فصام لا يدرك أبعاده مثل المتخصص في العلوم الاجتماعية والباحث في أنساق القيم والسلوكيات في الأفراد والجماعات. ومن إدراك لأهمية التجانس والتوافق الداخلي للأنماط السلوكية والعقـدية في حياة الأمة، بدأ التفكير في الإطار المرجعي الذي ينبغي أن يؤسس لإعادة بناء المدركات والمفاهيم والقيم بشكل واع منطقي وممنهج، عسى أن تردم الفجوة القائمة بين وجدانيات هذه الأمــة وبين أصولها ومساحاتها المعرفيـة والعقــلية المُغّيبة.

وعليه فقـد بدأ التجوال في تاريخ هذا الكيان الذي انتفت مظاهره التنظيمية من التاريخ السياسي في العقود الأولى من القرن العشرين (وإن كانت شهادة الوفاة الرسمية قد خطت بقرار إلغاء الخلافة العثمانية في 1924 إلا أن مخاض الصدمة بات يداهم الضمير السياسي خلال متفرقات العقود التالية) – ولكن إذا كان الشيء يعرف بأثره، فأثر وجود الأمة واضح- إيجاباً وسلباً – وهذا ما فرض علينا وقفة مراجعة وإعادة تفكير، لاستبطان ظواهر الأمور والتشكيك في بعض مسلمات العصر ومقولات أصحابه من أدعياء و خبراء، ومن ثم تيسرت لنا آفاق بكر جاءت بفتوحات في مجالات معرفية جديدة ظن أنها مغلقة دوننا. وبدأ الترحال… على نحو ما سبق، وهو ما يمكن أن ننعته بالمستوى الأول من ابتعاث الوعي المنهاجي. ففي هذا المستوى بدأنا بالنظر من موقع التجريد بالتأمل في طبيعة العلاقة بين العقيدة والجماعة، وبين امتدادات العقيــدة في الممارسة وأثرها في آليات تشكل الجماعة وتواصلها، ومستويات هذا التواصل ومراتبه، وقنوات الاستبطان والاستظهار، وغير ذلك.

وبالرجوع إلى نشأة الجماعة المسلمة الأولى وجدنا أنها إضافة إلى سمات النسبية والمطلق، تجمع بين سمات المثالية والواقعية على نحو متفرد، حتى أننا يمكن أن نؤصل لنسق “المثالية الواقعية” ضمن خصائصها التكوينية. فالجماعة السياسية الأولى التي عرفها الكيان الاجتماعي الحضاري في الإسلام كانت معلومة المنشأ ومثلها الأعلى ملموس في مقارباتها للواقع المعاش. فلم يكن الفكر السياسي الإسلامي في حاجة لنسج الأساطير أو بث الخيالات حول “المدينة الفاضلة” دأب الفكر السياسي الغربي قديمه وحديثه سواء وهو يؤصل للالتزام السياسي وشرعية الدولة / السلطة. فإذا كان مفكرو العقد الاجتماعي من أمثال هوبز ولوك وروسو لجأوا إلى أسطورة تأسيسية في هذا المجال؛ فقـد شهدت الأمـة فعلاً وقائع تأسيسية ومدونات سجلها التاريخ ووثقها شهود عيان، سواء كان ذلك في صحيفة المدينة أو وقائع المبايعة أو عهود الأمان، فجاءت الروابط العاقدة والملزمة في الجماعة الأمـة خير نموذج لنسق من المثالية الواقعية. ولم تكن محكومة بما يمكن أن يسمى بالعقد الاجتماعي ولم تكن محكومة بالثنائيات بل بمنطق الوسطية التي تجمع المتناثرات وتجمع المشترك وتجمع الأبعاد المختلفة للحياة، هذه الوسطية التي لا تعني مكاناً وسطاً بين أطراف متباعدة ولا تعني وسطاً حسابياً تطرح من قيمة وتضيف إلى أخرى لاستخلاص فضيلة بين متفاضلات، ولكنها الوسطية التي تعرّف من منطلق التوحيد حيث يتكامل المثال والقيم والفكر والواقع المعاش الذي تتنزل القيم والفكر والمثال. وبعد النظر والتفاعل مع العناصر التكوينية الحيوية والتركيبية لهذه الأمة الخاصة، وجدت أن أقرب صفة أستطيع أن أسندها لهذه الأمة هي صفة القطبية وهي الصفة التي مكنت الأمة من الاستقطاب ومن القابلية والقدرة على التجميع حولها لشتى القبائل والشعوب؛ هذه الأمة صاحبة رسالة لا تقوم على عرف أو لون أو إقليم ولكن تقوم على دعوة ورسالة تحمل طاقة إشعاعية تمد من خلال التاريخ وتجمع القبائل والشعوب والألسنة المختلفة المتنوعة. إنها الأمة القطب التي تستوعب وتدمج دون أن تزيل خصوصيات الأمم وتضيع ملامحها، وتجمع وتوحد وفي الوقت نفسه تعمل على الإثراء والمحافظة على التعدد.

أي أننا في غمرة هذه الوقفة التسجيلية تعاودنا أصداء جدليات الحوارات الدائرة في إطار التأسيس للشرعية الدولية الجديدة في نظام دولي أحادي القطب، وأحادي البعد تتملكه هواجس الهيمنة في ظل فرعنة العولمة. فنلتفت إلى جانب من الملامح التكوينية التي رصدناها أعلاه لنرى معنى ودلالة أن الأمة القطب تعلم وتُعلّم أن التعدد على أشكاله سنة وآية، وأن العبرة في أي نظام هي بانفتاحه على الاختلافات النوعية، وليس بظاهر التكاثر الشكلي والكمي، وأن التعدد الحقيقي بالنظر إنما هو أصل من سمات الخلق وقاعدة للدافعية والتكامل في منطق قوامه السبق والتعارف، ولا يكون التنوع والاختلاف موجباً في ذاته وبالضرورة للخلاف والنفور والتناقض والعداوة. ليس عندنا نحن معشر حملة القرآن أسطورة بابل التي ترجع الاختلاف بين الناس إلى نقمـة الرب وغضبه، والتي تؤصل بذلك لناموس التضاد والتنافر المؤدي إلى شرعة الاصطراع والغلبة والتهلكة. وكأننا بهذه الملاحظة أردنا أن نردف بهامش تعقيب على ما يدور من سـجالات العصر في هذا المقام.

إن العالم اليوم هو أحوج ما يكون إلى نموذج الأمة القطب – ولكن كيف يمكن لهذا النموذج أن يقدم وأهله غائبون، يعيشون أفراداً وشتاتاً جماعات في غيبة وعي وغفلة مقام، ولا يدرون أهم جزء من أمة ذات تمايز وتفرد، أم هم أشلاء عصب متفرقة… (وإن كان هناك من ينعق بشيء من ذلك فإنه من قبيل التنطع والمفاخرة والمواربة دون ما تعقل أو توسل) – ولهذا فإن بناء الوعي والتأصيل له إن هو إلا جزء أساس من جملة التدارك والاستدراك لتقديم الأمـة نموذجاً لأنفسنا أولاً قبل أن نقدمه للعالم.

إننا يمكن أن نتمثل الأمة القطب في عالم الموجبات على أنها الأمة الوسط – وسط المعمورة المأهولة بقيم الحق التي هي قوام العمارة، وبقدر فعاليتها يكون الترجيح لكفة الصلاح على الفساد في لون العمارة، فعلى الأمة القطب يعتمد المجال الاجتماعي العمراني في تحقيق التوازن فيما بين الأمم والحضارات، ولكن كيف يتأتى لها ذلك ما لم تكن على مستوى من التمكن في فنون العصر ووسائله ومسائله، بحيث تجمع ما بين القيم العليا التي تمثلتها والتي منها منشـؤها وبها مناطها، وبين الوسائط المادية التي تهيء لها من سنن السببية: فيكون لها الحضور التاريخي الذي من خلاله تحقق مقتضيات الشهادة بين الأمم على نحو ما ذكرنا. والمسألة لا تقف عند مستوى قراءة خصائص أمة وتقرير وظائف، وإنما تمتد دلالاتها لتكييف نظم تعمل في البيئة الاجتماعية الحضارية التي هي مجال لحيويات الأمـة.

فالخصائص التكوينية والوظيفية للأمـة الوسط من شأنها أن تنعكس على طبيعـة حضورها التاريخي في كل مرحلة أو حقبة من هذا الحضور، ليجمع بين الفاعلية والمعيارية، أو بين شروط التمكين ومعايير التقويم، وذلك في كافة أبعاد هذا الحضور ومجالاته. ولنأخذ مثالاً مجال المعارف والعلوم التي تستوي عليها المدنية فلا بد من التعرف على معايير الاختيار والترجيح بين تلك العلوم، وعلى طبيعــة الأسس المعرفية التي يقوم عليها التفاضل في هذا المجال. فيكون من البديهات أن تنشأ وتنشط في أروقتها المعارف بنوعيها، “الكونية” و”العمرانية”، فلا تغفل واحدة على حساب أخرى، في موقع تؤصل علومها جميعاً على قاعدة معرفية قيمية تؤطر لمساحات يكون إعمال العقل فيها على اختلاف مستويات التفعيل، في مواضع النظر في حيز العمارة البشرية وأواصر العلائق الاجتماعية والمدنية والدولية، أو في مواضع التنقيب في طبائع الأشياء والتعرف على سنن الخلق والتطور في الآفاق والأنفس (العلوم الطبيعية والحيوية) فتكون جميعها علوماً نافعة ومطلوبة، بل ومفروضة، تقتضيها شرعة التمكن لتخـّرج أمـة الخيرية للناس، لتقيم الميزان بين الأمم، من خلال ما تقـدمـه من “نموذج” لمثل عليا قابلة للتنزيل وللتفعيل؛ فتشحذ آليات الجاذبية في مســار العمران البشــري، ليكون مجالاً حيوياً يعمل على تلطيف المتناهيات بين طرفي الإفراط والتفريط، وتهذيب الانحرافات في موازين البشر من خلال استقامة أرضيتها الوسطية وقوامها روحاً ومنهاجاً، المنظومة العقـدية التي مدارها التوحيد والتي تبقى نبراساً للإشعاع.

ومجمل المقال أن التأصيل للأمة كواقع حيّ اقتضى بنا الانتقال في النظر والتنظير ما بين الظاهرة تاريخاً ومفهوماً، لنعيد قراءة الواقع في ضوء الهدي القرآني، ونستخلص من الأمــة الوسـط ملامح “الأمــة القطب” ثم نعود بهذا المفهوم التحليلي إلى حقل دراسي لنكتشف إمكانيات بل ضرورة بناء نظرة كلية في كليات الاجتماع الحضاري، ولنتبين المثالب وجوانب القصور في المنظومة أحادية المنطلق التي تقوم عليها الجامعة الحديثة بشجرة معارفها المشطّرة والمجزئة. وحتى نعيد بناء مدركاتنا وجدنا أننا في حاجة لإعادة بناء جامعاتنا، وأن العلاقة بين الأمـة الجماعة والأمـة الجامعـة علاقة الناظم بالنظم (لو جاز التعبير) – فتكون عملية المراجعات الفكرية بمثابة النظم التي على عقول الأمـة أن نجتمع حولها من منطلق الربط بين أصول عقدية ومعرفية مستقاة من مصادرنا وبين السقف المعرفي للعصر، مع السعي لتوظيف نتاج هذه العملية الاجتهادية التجديدية توظيفاً جذرياً، عاقداً جامعاً، استجابة لحاجيات العصر.

وحيث أن المقام كما أسلفنا في بداية المقال أنما هو عصر “العولمة”، والمسلمون قد صاروا فيه جماعة وشتاتاً وقد أخرجوا للناس في كل مكان؛ فمن الأولى بنا أن نسهم في تقويم مسارات العولمة ولو من خلال تدارك بعض ما نحن فيه من التباس حول من نحن وماهية خصائص كينونتنا الاجتماعية الحضارية، ومن خلال النظر في وسائل توصيل خطابنا في المحافل المختلفة ليكون لنا الحضور الفاعل في طرح الخطاب البديل حول قضايا الساعة: وهي ساعة مراجعات عالمية، اهتزت فيها الكثير من المسلمات واختلطت المعايير: وخاصة أننا نملك من المقومات التي تمكننا تقديم المجدي والمفيد: في القضايا التي تهم الإنسانية المعاصرة التي هي موضع محاولات إعادة رسم خرائط ومضامين الشرعية الدولية الجديدة.

نحن إذن إزاء مجال غني في دراسة العمرانيات ودراسة الكونيات – وهو مجال يتيحه لنا الوعي المنهاجي بطبيعة مفهوم الأمـة وقابلياته وإسقاطاته ودلالاته، وهي دراسة يجب أن تبدأ بمراجعة من نحن؟ وما تاريخنا؟ فالأمة كظاهرة ومفهوم تفتح لنا مجالاً لإعادة بناء مدركاتنا ونظمنا وبناء جامعاتنا وعلومنا على نهج جديد يؤمن لنا حاضرنا وحضورنا التاريخي وتوثبنا لغد واعد في غمرة رياح عاتية تهب من مغرب عولمة جامحة. وأنا أدعو في هذا المقام لمزيد من البحث عن “مفاعل الاستقطاب” الذي هو من خصائص التكوين والتفعيل لهذه الأمة، والذي من شأنه أن يحفظ لنا وللعالمية الراهنة عوداً نافعاً: فما هو وكيف يعمل، وماذا عن دورة التنشئة الذاتية التي من شأنها أن تحفظ عزة ومنعة ومناعة أجيال الأمة، ما هي شروطها وكيف تتم وهل يمكن لنا دعمها من خلال برامجنا ومؤسساتنا التعليمية والتربوية والمدنية؟ ثم ماذا عن خصائص التماثل والتمايز في الأمة القطب مع غيرها من الأمم؟ هل يمكن لنا أن نؤصل للدراسات السياسية المقارنة من خلال تقديم المفاهيم والأطر البديلة التي تثري حقل الدراسة وعقل الباحث؟ وأين دور المؤثرات الوضعية والتاريخية وأبعاد الزمان والمكان؟ وأين هذه المؤثرات من حيوية هذا الكيان وقابلياته اليوم؟ هل يمكن لنا معرفة هذه وتلك حتى يمكن أن نسهم في ترشيد وعي وتقويم بيئة سياسية بمؤسساتها ومن يقوم بتمثيلها. وهذا قليل من كثير من جملة التساؤلات التي تسعى لربط فكرنا بواقعنا.

المهم أننا ما لم نعد أنفسنا لمواجهة واقعنا السياسي المعاصر كجزء من واقع حضاري أشمل، على مستوى التحدي الفكري للعصر، وعلى مستوى التحدي المعرفي لمصادرنا التأسيسية نفسها، فلن يتسنى لنا استرداد فاعليتنا وحضورنا التاريخي، وما لم نستحضر النموذج في قلوبنا وعقولنا أولاً، فلن يتم تفعيله في الواقع. وبداية المجتهد في هذا السبيل هو التأهيل النفسي لإعادة صياغة عقولنا وبناء مدركاتنا من خلال إعادة قراءة لأصولنا وتمحيص مصادرنا وربطها بواقعنا على نحو ما قدمنا، حتى نكون في موقع التمكن، القادر على العطاء والأداء، وإلا فلن يكون لنا الدور المنشود، ففاقد الشيء لا يعطيه.

05-1422 هـ / 08-2001 م