الخيال السياسي للإسلاميين: الإشكالية

189

ظهرت في الفترة الأخيرة مجموعة طروحات تتناول موضوع الدولة الإسلامية، كنوع من المراجعات على هذا المفهوم من الناحية التاريخية والمنهجية، وكشكل من النقد للحركات الإسلامية التي تبنت هذا المفهوم من غير تمحيص.
ونحن هنا نتحدث عن مجموعة من الكتب والأطروحات مثل الدولة المستحيلة لوائل حلاق، وسقوط الدولة الإسلامية ونهوضوها لنوح فيلدمان وغيرها من الطروحات. وهي طروحات تدعو بشكل مبطن إلى عمل مراجعات في الداخل الإسلامي. وفي هذا المقال سنستعرض واحداً من أهم الكتب التي تناولت هذه الموضوعات، وهو كتاب الخيال الإسلامي للإسلاميين للدكتورة هبة رءوف عزت الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث في ٢٠١٥.

الفكرة الأساسية التي يدور حولها هذا الكتاب هي مسألة الدولة عند الحركة الإسلامية، وكيف أنها تفتقد لتنظير حقيقي عن الدولة، مستعيضةً عن ذلك بالعناوين والشعارات مثل “الدولة الإسلامية” و”تطبيق الشريعة” وغيرها، من دون التفكير في بنية هذه الدولة وكيف يمكن تحقيقها ومراجعة تصوراتها عنها، ومن دون مراجعة بنية الدولة الحديثة التي باتت أمراً واقعاً يفرض نفسه، ولكن لا يلقى الكثير من الاهتمام بالنسبة للحركة الإسلامية، مما أوقعها في مشاكل جسيمة.

فتشير د. هبة أنه قد “غلبت العموميات البلاغية والتصورات التاريخية على رؤيتها حيناً، وطغت الاعتبارات العملية (البراغماتية) على حركتها حيناً آخر”.
وهذا الالتباس الحاصل عند الحركة، وغياب المراجعات عندها، أدى إلى وجود تماهي تصور الدولة عند التيار الإسلامي بدرجة كبيرة مع تصورات الدولة القومية الحديثة على الرغم من كل الشعارات والعنواين. وهذا ما وجدته المؤلفة في أعداد مجلة المنار التي بدأ إصدارها عام ١٩٩٨، والذي ساهمت فيه أقلام كثيرة من مختلف التيارات الإسلامية.
والتحليل النقدي ﻷفكار تلك الحقبة – وهي الحقبة التي سبقت الربيع العربي وساهمت في تحريك المشهد – سيعين على “فهم أسباب الارتباك في الإدارة السياسية والعلل الكامنة في بنية الدولة الحديثة التي لم ينتبه إليها القطاع الأوسع من التيار الإسلامي وظن أنها حصن يمكن الإستيلاء عليها، في حين أن من درس الدولة القومية ونشأتها وعرف خرائطها التاريخية والمنطق الكامن فيها، يعلم أنها ثقب أسود يلتهم الأيديولوجيا والأخلاق لصالح الهيمنة والتحكم ومصالح رأس المال، وأنها كيان قام على العَلْمانية”.

ولذلك لا بد من فهم شروط المرحلة حتى نفهم طريق التغيير، ووعي مدى إمكانية تغيير تلك الشروط، حتى لا تضيع البوصلة.
وواجب المرحلة هو العمل على مراجعة مسار الحركة الإسلامية ورؤيتها للتغيير والدولة، وفتح ملف الدولة الحديثة التي تأسست مع الاستعمار على أنقاض دولة ومجتمع لهما تاريخ وتصور مختلف للعالم.
وعندما نتحدث عن الدولة الحديثة فنحن نتحدث عن بروز نمط أو صيغة من أشكال الحكم، برزت في السياق الحديث وترجع في أصولها وشكلها ومنطقها وبنيتها إلى القرن السابع العشر. وبنت الدولة الحديثة نفسها كأدة سيطرة تعمل على تحويل الوظائف التي كان يقوم بها المجتمع إلى مؤسساتها، أي استدخال مؤسسات المجتمع المستقلة إلى داخل الدولة وبنيتها. ضمن اعتبار يقول بأن الدولة أكثر رشداً وكفاءة من الأفراد والكيانات الاجتماعية.
وتتصف الدولة الحديثة بصفات أساسية مميزة لها، فهي “قومية” نشأت على الفكر القومي، وهي “قطرية” قامت على ترسيم الحدود الجغرافية لنفسها، وهي “حديثة” ﻷنها تأسست على فكر الحداثة الذي يحيّد الدين والغيب وماوراء الطبيعة.
وقبل الدخول في مناقشة خيال الإسلاميين، تعلق د. هبة على خلفية النقاش الذي يدور دائماً حول الفكر والنظر وعلاقته بالواقع، أنه “لقد استخف البعض طويلاً بالفكر والنظرية… وربما يكون الواقع المعاصر لمن ينظر فيه أكثر قدرة على إقناعهم بأهمية النظر وعلى بيان ماذا خسرنا حين أهدرنا العلم لصالح الأيديولوجيات والتنظيمات… لأن الواقعية بلا فكر يحفظ بوصلتها السياسية والأخلاقية تنقلب إلى انتهازية… وإلى نازية أحيناً”.

~ ~ ~ ~ ~

في جدل العَلْمانية والدين
إن جدل العَلْمانية والدين من أكثر القضايا سخونةً وإلحاحاً بالنسبة للإسلاميين، ذلك ﻷنه يتعلق في مسألة الدولة وهويتها وعلاقتها مع الدين، وتبين د. هبة مجموعة الأفكار الحاكمة للجدل الراهن في تصور الإسلاميين للعَلْمانية نوجزها في هذه النقاط:
– أن العَلْمانية إنكار الوحي ودعوة لتحكيم العقل المحض والتخلي عن الحاكمية الإلهية، وهذه الفكرة تقصر العَلْمانية بصيغتها الأوروبية، والصيغة المتطرفة منها التي عبرت عنها التجربة الفرنسية. وتدعو د. هبة في المقابل إلى صياغة تصور مغاير عن العَلْمانية من خلال اعتبارها رديفاً للسياسة وليس للإلحاد، وهذا يحتاج إلى اجتهاد سياسي من قبل الإسلاميين.

– أن العَلْمانية مرادفة لإفقاد الدين قوته وإخضاعه للدولة وحصره في المجال الخاص، لكن هذا التصور يغفل إمكانية السعي لضبط علاقة الدولة بين الدولة والدين وإخراج الدولة من المجال العام وحصرها في المجال السياسي لصالح المجتمع المدني.

– أن هدف العَلْمانية هو تكريس الفردية وغايتها نسبية الأخلاق، ومشكلة هذه الرؤية أنها لا تدرك الفارق بين الأخلاق الفردية وبين تجلياتها على المستوى العام، وتكمن مشكلتها أيضاً في أنها تدافع عن ارتباط السياسة بالأخلاق، ليس بمعنى السياج الأخلاقي الشرعي في العلاقة بين السلطة والناس، بل في اعتبار الأخلاق من شأن الدولة، ويجب عليها السهر على الالتزام بها، وهذه رؤية خطيرة تغفل أهمية الضمير الفردي والجماعي.

~ ~ ~ ~ ~

بعد عرض الإشكال وتحديد المواضع اللازمة للمراجعة، تنتقل المؤلفة إلى قراءة النصوص التي أنتجها مجموعة من الإسلاميين ونشروها في مجلة المنار الجديد، فهي مساحة نموذجية للدراسة لتنوع الأطياف التي تكتب فيها، من إسلاميين حركيين، إلى وسط، وحتى السلفيين والأكاديميين الشرعيين.
والمجلة تعلن أنها ساحة “مقالات وأبحاث في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران”، ولكن بعد القراءة المسحية للمجلة، تقول المؤلفة أننا نجد “غياباً تاماً ﻷي مقالات في فلسفة الدين، أو شؤون الاجتماع الذي ولدت فيه المنار الجديد مع مطلع القرن الميلادي، بل ألفية جديدة تشهد رأسمالية ما بعد صناعية، وعولمة اتصالية، وحوارات دينية – ثقافية عبر قومية، أو أي مساهمة في تطوير “فلسفة عمرانية”.
ونجد في المقابل أن معظم المقالات تنتظم حول ثلاثة محاور هي:

  • هموم الداخل الحركي، ومراجعات الحركيين لمسيرة العمل السياسي وعلاقتها بالدولة.
  • بعض الأفكار حول ملامح المشروع السياسي الذي يقدمه الإٍسلاميون: تصور السياسة وضع الأقباط وضع المرأة.
  • العلاقة بالعالم بالمعنى الواسع وإدراك مستجداته.

وسنفصل الآن في كل محور وما يحتويه من أفكار:

أولاً: هموم الحركة والنقد الذاتي
صدرت عدة مقالات في مجلة المنار الجديد أخذت مراجعة واقع الحركة الإسلامية، ومن أبرز كتاب هذه المقالات كان كمال السعيد حبيب الذي كان ينتمي إلى جماعة الجهاد.
يرى كمال السعيد في مقالاته، بعد استعراض تاريخ تيار الإخوان منذ نشأته وحتى صدامه مع النظام، أنه على الحركة الإسلامية اليوم أن تنبذ العنف وأن تسعى إلى العمل السياسي من خلال النظام الحزبي، حتى لا تترك الساحة خالية من القوى الأخرى التي تكرس الفساد وتعمل ضد قيم الأمة، وضرورة عودتها إلى العمل الأخلاقي والدعوي.
ويدعو إلى ضرورة إعادة الإعتبار إلى أصول الفقه، واعادة التفكير في النظرية السياسية، باعتبارهما أمرين غائبين عن الحركة. وحل مشكلة الجماعة تكمن في العودة إلى التربية والدعوة، مع دخول السياسة حتى لا تصبح حكراً على الانتهازيين، والسعي لإقامة الدولة الإسلامية.
تعلق د. هبة بأن كمال السعيد يسكت عن موضوع فقه الدولة في تصور الإسلاميين، “وكأن العودة إلى التربية ستورث الإسلاميين نيل المراد وهو تأسيس الدولة الإسلامية.
وفي مقالة أخرى لعصام العريان، القيادي الإخواني، يبين فيه أن سبب تعثر الحركة وأزمتها وعلاجها يكمن في العودة إلى القواعد “التربوية الدعوية”، ذلك ﻷن الحركة انشغلت بالسياسة عن التربية. ولا يشير إلى وجود مشكلة في تصوراتها عن الحكم أو في ممارستها للسلطة المركزية، كما تعلق المؤلفة.
وفي مقالات أخرى لجمال سلطان، القريب من التيار السلفي المستنير، نرى تركيزاً على مراجعات منصبة على التعامل السياسي وخيارات نبذ العنف، لكنه لا يقدم أيضاً نقداً للدولة كمفهوم وتصور. فتشهد مقالاته غياباً لمراجعة فقه الدولة، بل كل الخلاف حول الوسائل والأدوات، على حد تعبير الكاتبة.

ثانياً: رؤية المشروع
يؤكد محمد عمارة دائماً في مقالاته المنشورة في مجلة المنار على تلازم الإصلاح الديني مع الإصلاح السياسي المدني، وأن هذا الإصلاح يستلزم تطوير علوم التمدن المدني مع الاحتفاظ بالتميز في العقائد والفلسفات والشرائع. تعلق د. هبة على هذا الأمر بالقول بأن مثل هذه الرؤى التي تفصل بين الأشياء هي رؤى مبسطة، لا تدخل في تفاصيل تحدد ما المقصود بعلوم التمدّن، وما هي آليات واستراتيجيات تفكيكها وفصل الفلسفي عن العلمي، وما هي العلوم التي يقوم عليها التمدن.
وتضيف إلى ذلك تعليقاً مهماً نلمحه عند غالب الكتابات الإسلامية، وهي التعميم. أي الحديث في العموميات من دون الغوص في التفاصيل.

ثالثاً: رؤية العالم والعولمة
نجد في المجلة احتفاء بالنقد الغربي الحاد للعولمة والرأسمالية والأمركة، لكن الخطاب الإسلامي لا يتواصل مع الأسس الماركسية لهذا النقد، فهناك قطيعة مع الكتابات الماركسية باعتبار وجود ترادف بين الماركسية والإلحاد. وهذه القطيعة حرمت الفكر الإسلامي من مصدر غني لنقد الرأسمالية كما تعلق المؤلفة.
ومن جهة أخرى، تتركز الكتابات على تبيين متناقضات الآخر الغربي أو الصهيوني، وبيان مواضع الصراع داخله، تحت اعتبار ضمني أن آليات سقوط هذا الآخر كامنة فيه، أما التفكير بتصورات لتمكين المسلمين ودخولهم في التنافس العالمي، والحضور المدني والريادة في مجال الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان فهي أمور غائبة.

ملاحظات تحليلية حول ما تعكسه مقالات مجلة المنار الجديد:
– مركزية “أسطورة “الدولة الإسلامية”: فأخطر ما يواجه الخيال السيساسي للإسلاميين هو الدولة العَلْمانية، لكن ما يحجم أفقهم هو سعيهم نحو إعادة تأسيس الرابطة السياسية الإسلامية على قاعدة الدولة الحديثة التي تقوم على مصادرة وتقويض مفهوم الجماعة والأمة.

ومن دون وعي منه، قبل الخطاب الإسلامي تصورات الدولة الحديثة التي تهيمن عليها المرجعية الليبرالية، فصاغ رؤيته بتبني تصنيفاتها وأسلمة أبنيتها. وبسبب هذا الالتباس حصل خلط بين نمط الاجتماع الإسلامي التقليدي وبين النمط الاجتماع الحديث، واختلطت الاقتباسات الفقهية بالقياس القانوني القائم على المبادئ الدستورية الغربية، مما أدى إلى غياب نظرية خاصة في الدولة والمجتمع.

– عمومية النظرة إلى الآخر (الغرب) واختزاله في أبعاد معينة، فالآخر هو الاستعماري، ولا توجد تنويعات على هذه النظرة. وهذا الغرب مليء بالتناقضات، فالإعلام متحيز، والديمقراطية ألعوبة.

– غياب النظرة والاطلاع على الفكر الغربي في أدبياته الأصلية، أو التعرف على خطابات المراجعة داخل الليبرالية والرأسمالية، فقد أدى الحكم العام على سياسة الغرب الخارجية بالهيمنة، وبفساده من الداخل، أدى ذلك إلى حجب الخيال الإسلامي عن فهم بنية أفكار الغرب من ديمقرطية وليبرالية وغيرها.

– الحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الشريعة والدولة، وكذلك العلاقة بين الأمة والشريعة.

– غياب التخصصية في مجال العلوم الشرعية ومجالات العلوم الاجتماعية والسياسية، فقد أهملت الحركات الفقه الشرعي وتجاهلت العلماء، واجتهدت بزاد قليل من المعرفة وزخم كثير من الولع بالسياسة.

– توجهت أنظار الحركة حين مراجعة أفكارها إلى موضوعات التربية والدعوة باعتبارها هي أصل الأزمة، بينما تم إهمال أن السبب العميق للإخفاقات المتوالية هو غيبا نظرية اجتماع سياسي إسلامي”.

~ ~ ~ ~ ~

هذا أهم ما قدمته د. هبة رءوف عزت في الكتاب من ناحية نقد واقع الطروحات الإسلامية الشائعة في شأن السياسة والحكم والدولة الحديثة. وهي محاولة منها لطرق باب مهم، وهو باب المراجعات وبيان مواضع الخلل عند الحركات الإسلامية، باعتبار هذه الحركات أهم معلم في الساحة السياسية العربية.
في القسم الثاني من هذه المراجعة نعرض ما تقترحه الكاتبة من أجل تجديد وجهة الحركات وتمكين مشروعها.

 

06-06-2016 / 01-09-1437